تأويلات أهل السنّة - ج ٢

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة - ج ٢

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٧٣

وقيل : الإضلال : الإهلاك.

وقيل : الإضلال : هو التحير ، وكل ضال طريقا فهو متحير تائه ، (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أي : ما يهلكون إلا أنفسهم وما يخملون إلّا ذكر أنفسهم.

(وَما يَشْعُرُونَ)

أي : وما يشعرون أنهم يهلكون أنفسهم ، أو يحيرون ، وما يشعرون ما ذا عليهم فيما ودّوا من أليم العقاب (١) ، والله أعلم.

ويقال : نزلت في عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه.

وقوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ).

قوله : (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) : يحتمل وجوها :

يحتمل : وأنتم تشهدون تلك الآيات ، وتعاينونها ، وتعلمون أنها آيات ، لكن تكابرون وتعاندون ، ولا تؤمنون بها.

ويحتمل : (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) ، أي : وأنتم تعلمون ما في التوراة والإنجيل : من بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته ـ أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل [المخلوقات](٢) ، وأنه حق ، ولكن لا تتبعونه.

وقيل : (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) ، أي : تعلمون أنها آيات ؛ والآيات تحتمل : القرآن ، وتحتمل : رسول الله محمدا. وتحتمل غيرها من الآيات التي جاء بها.

وقال بعضهم : لم تكفرون بدين الله ، وأنتم تعلمون بدلالة الخلقة ، وشهادة كتبكم أن دين الله وتوحيده حق (٣)؟!.

وقوله (٤) : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) :

في الآية دلالة جواز هتك الستر ، وإفشاء المكنون والمكتوم من الأمر ؛ إذا (٥) كان في ذلك تحذير لغيرهم عن مثله ، وترغيب لهم في المحمود من الفعل.

ثم فيه دلالة إثبات رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه يخبرهم عما كانوا يكتمون ويسرّون فيما بينهم ، وذلك من اطلاع الله إياه على ذلك. (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) : ذلك ؛ ألا ترى أنهم لم يتعرضوا له بشيء من ذلك ، فيقولوا : متى كتمنا الحق ، ومتى لبسنا الحق بالباطل؟! فدل

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي (٨ / ٨٠) ، واللباب في علوم الكتاب (٥ / ٣١١).

(٢) سقط من ب.

(٣) ينظر : تفسير الرازي (٨ / ٨١) ، واللباب (٥ / ٣١٢).

(٤) في ب : قوله.

(٥) في ب : إذ.

٤٠١

أنهم علموا أنه حق ، وأنه رسول الله ، وأن ذلك إنما علم بإله ـ عزوجل ـ وذلك قوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ، ثم علم ذلك يكون بأن كان ذلك في كتابهم ، أو علموا بالآيات المعجزة.

ويحتمل قوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ـ ما جزاء من لبس الحق بالباطل وكتمه ، والله أعلم.

ويحتمل : وأنتم تعلمون أنكم تلبسون الحق بالباطل (١).

قوله تعالى : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٧٤)

وقوله : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ)

قيل فيه بوجوه ، قيل : قوله : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) ، يعنى : بأول أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا النهار نفسه ، وذلك ما روي في القصّة أن بعضهم كان يقول لبعض : إن محمدا كان على قبلتنا وقبلته بيت المقدس ، ويصلي إليها ، فآمنوا أنتم به ، (وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) ، يعني : آخر أمره ، يعنون قبلة : البيت الحرام الكعبة ، أي : اكفروا بقبلته التي يصلى إليها الآن ، وهي (٢) الكعبة (٣).

وقيل : إن بعضهم يقول لبعض : آمنوا بمحمد في أول أمره ؛ حتى يؤمن به جميع العرب ، ثمّ اكفروا به في آخر أمره ؛ فيقولون لنا : لم كفرتم به ورجعتم عن دينه؟ فنقول لهم : إنا وجدنا في التوراة نعت نبي وصفته ، فحسبنا أنه هذا ؛ فآمنا به ، ثم نظرنا فإذا ذلك لم يكن نعته ولا صفته ؛ فرجعنا عن دينه وكفرنا به ؛ حتى يرجعوا جميعا عن دينه ؛ فذلك قوله : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ)(٤).

وقيل ـ أيضا ـ : إن رءوس اليهود قالوا للسّفلة : صدقوا بالقرآن وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجه النهار ، يعنى : أول النهار ، يعنى : صلاة الغداة ، فإذا كان صلاة العصر اكفروا به ، فقولوا لهم : إن قبلة بيت المقدس كانت حقّا ؛ فما ذا بعد الحق إلا الضلال؟! ليرجعوا عن

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي (٨ / ٨٢) ، واللباب (٥ / ٣١٣).

(٢) في ب : وهو.

(٣) ذكره الرازي (٨ / ٨٤) عن ابن عباس ، وينظر تفسير اللباب (٥ / ٣١٨).

(٤) ذكره ابن عادل في «اللباب في علوم الكتاب» (٥ / ٣١٨) عن الحسن والسدي ، وأخرجه الطبري (٧٢٣٣) عن السدي بنحوه.

٤٠٢

دينهم (١).

فلا ندرى كيف كانت القصة؟ ولكن فيه دلالة رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لما ذكرنا أنه كان يخبرهم بما يضمرون في أنفسهم ويسرون ، فذلك من اطلاع الله إياه.

ويحتمل قوله : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ) ، أي : أظهروا لهم الإسلام والموافقة ، ولا تؤمنوا به [في](٢) الحقيقة (٣) ؛ يدل على ذلك قوله : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) في الحقيقة ، أي : آمنوا به ظاهرا ، وأمّا في الحقيقة فلا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم.

وقال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في قوله : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) الآية ـ : يحتمل وجهين :

أحدهما : حقيقة النهار ، ثم يتوجه وجهين :

أحدهما : أمر القبلة خاصّة ، فيريدون بذلك المحاجة بالموافقة في أحد الوقتين عليهم فيما خالفوا في ذلك ، وإن علموا أن ذلك حق ؛ ليشبهوا على الضعفة أنه لا تزال تنتقل من دين إلى دين ، ومذهب إلى مذهب ، وأن من لزم الدين الأول والمذهب الأول أحق للموافقة فيه مرة ، ولما لا يؤمن البقاء على الثاني ، وهو كقوله : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) [البقرة : ١٤٢] ؛ وعلى ذلك أنكروا جواز نسخ الشرائع سفها منهم (٤) ؛ إذ ليس معنى التناسخ إلا اختلاف العبادات ، لا اختلاف الأوقات ، وذلك المعنى قائم ، وما التناسخ إلا ما عليه تناسخ الأحوال في كل ، على أن العبادات فيها المصلحة ، ومن تعبّدهم عالم بالذي به الأصلح في كل وقت ، فله ذلك.

__________________

(١) ينظر : اللباب في علوم الكتاب (٥ / ٣١٨).

(٢) سقط من ب.

(٣) هو قول الحسن والسدي وأبي مسلم الأصبهاني وينظر : اللباب في علوم الكتاب (٥ / ٣١٨).

(٤) قال سيف الدين الآمدي : منع أبو مسلم وقوع النسخ شرعا ، وجوزه عقلا ، ولم ينكر وقوعه من الملل إلا اليهود ، وانقسموا ثلاث فرق :

قال الشمعونية : يمتنع عقلا ، وسمعا.

وقال العنانية : يمتنع سمعا ، لا عقلا.

وقالت العيسوية : يجوز عقلا ووقع سمعا ، واعترفوا بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى العرب خاصة.

قال الإمام الجويني في البرهان : وافقت غلاة الروافض اليهود في إنكار النسخ.

قال الآمدي : وأول من وضع لليهود أن موسى ـ عليه‌السلام ـ نص على تأبيد شريعته ابن الراوندى.

ينظر : الإحكام للآمدي (٣ / ٩٥) ، والمستصفي للغزالي (١ / ١٠٧ ـ ١٠٩) ، والمنخول له (٢٨٨) ، والبرهان لإمام الحرمين (٢ / ١٢٩٣) ، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (٤ / ٤٦٣).

٤٠٣

والثاني : أن يكون الذي أوّل النهار لعله أنزل بما فيه وصف رسلهم وكتبهم من الهدى والبيان ، أو وصف أوائلهم في رعاية الحق ، وتعاهد الدين ؛ فأمروا بالإيمان بذلك ؛ ليروا قومهم أن قد ثبت وصف من تقدم بما ذكر ، وأنهم على ذلك ، ومنه جاء فيما أخبر من تبديل من بدّل من أوائلهم وتحريفهم ، إلا إن كانوا كذلك ؛ ليلزموهم التقليد في الأمرين ، والله أعلم.

وحقه أنه إذا عرف حال الأوائل لا يهم ؛ فعلى ذلك أمر الآخر ومن به كانت المعرفة ألزمهم التصديق في الأمرين جميعا ، ومع ما أن في القرآن وصفا بتصديق كتبهم ، فحقهم فيما هووا مقابلة كتب أنبيائهم ؛ لتكون هي القاضية والمثبتة للحق أنه على ما ادعوا أو ادّعى عليهم. وقد ظهر تعنتهم بمظاهرتهم للمنكرين لكتبهم ، المكذبين برسلهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد تصديقه إياهم وشهادة كتابه بذلك ؛ ليعلم المتأمل عنادهم بغيا وحسدا ، كما أخبر الله ـ تعالى ـ عنهم.

والوجه الآخر من تأويل الآية : أن يراد بما أخبر عنهم أول أمره وآخره ، لا حقيقة بياض النهار.

ثم ذلك يخرج على وجهين :

أحدهما : أن يكون دعاه في أول الأمر إلى التوحيد ، والإيمان بالكتب المتقدمة ، وهم يدعون إلى ذلك ؛ وعلى ذلك كانوا قبل ظهور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وآخر ذلك بما تبين من تحريفهم وتعنتهم ، لما أخذهم البغى وغلبهم الحسد ، وخافوا على رياستهم ، وأشفقوا على ملكهم ، وجزاء الشح ، وإظهار كثير مما قد كتم أوائلهم ؛ فكذبوه في هذا ، والله أعلم.

ويحتمل أن يكون ذلك من أئمتهم اصطلاح على الإيمان بذلك ؛ حتى يعلم محلهم وحرصهم على قبول الحق ، ثم يكفرون به ؛ ليكون الأوّل ذريعة لهم في الثاني ؛ أنهم إذ ظنوا أنه على الحق أذعنوا له ؛ فلما تبين لهم باطله رجعوا عن ذلك ، فأطلع الله نبيه ـ عليه‌السلام ـ على ما أسرّوا ؛ ليصير ما ظنّوا أنه حجة لهم حجة عليهم ، وجملة ذلك : أنا لا ندري ما السبب الذي كان منهم القول وفيما كان ، ولكنه قد بان أن ذلك كان منهم إسرارا أطلع الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم [عليه] ؛ ليكون حجة له ، وزجرا لهم عن كل أنواع التبديل في شأن رسوله ـ عليه أفضل الصلوات ـ بما يهتك عليهم ؛ فيفتضحون (١) عند من راموا ستر

__________________

(١) في ب : فيفضحون.

٤٠٤

أمرهم ، وتسقط رياستهم ، والله الموفق.

وقوله : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) :

اختلف فيه ، قيل : هو على التقديم والتأخير ؛ قوله : (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) ـ كان على أثر قوله : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) : يقول بعضهم لبعض : ما أنزل الله كتابا مثل كتابكم ، ولا بعث نبيّا مثل نبيّكم ؛ قالوا ذلك حسدا منهم (١).

وقيل : إن هذا قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمسلمين : لما نزل قوله : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) ـ قال لهم : (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) ، يقول : دين الله الإسلام هو الدّين (أَنْ يُؤْتى) ، يقول : لن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من دين الإسلام ، والكتاب الذي فيه الحلال والحرام ، والله أعلم.

ويحتمل أن يكون قال : لن يؤتى أحد من الأنبياء قبلى من الآيات مثل ما أوتيت أنا ؛ لأن آياتهم كانت كلها حسّية يفهمها كل أحد ، وآيات رسول الله كانت حسّية وعقلية لا يفهمها إلا الخواصّ من الناس وخيرتهم (٢).

وقوله : (أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) :

راجع إلى قوله : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) فـ (يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أنهم قد آمنوا به مرة وأقروا له ؛ وهو كقوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) [البقرة : ٧٦] : أنهم كانوا يظهرون لهم الإسلام والإيمان ، ثم إذا خلوا قالوا : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : ١٤] ؛ فقال بعضهم لبعض : لا تظهروا لهم الإسلام ؛ فيحاجوكم عند ربكم في الآخرة؟!.

وقوله : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ)

هذه الآية (٣) على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : إن الفضل ليس بيد الله ؛ وكذلك الاختصاص ؛ إنما ذلك بيد الخلق ؛ لأن من قولهم : إنه ليس على الله أن يفعل بالخلق إلا ما هو أصلح لهم في الدين (٤) ، ليس له أن يؤتى أحدا فضلا ، ولا له أن يختص أحدا برسالة ، إلا من هو مستحق لذلك مستوجب له ؛ فذلك الفضل والاختصاص إنما استوجبوا بأنفسهم لا بالله ، على قولهم ، ففي الحقيقة الفضل عندهم كان بيدهم لا بيد الله ، فأكذبهم

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي (٨ / ٨٥ ـ ٨٧) ، واللباب في علوم الكتاب (٥ / ٣٢١ ـ ٣٢٤).

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) في ب : الآيات.

(٤) تقدم ذكر هذه المسألة وبيان بطلان مذاهبهم في ذلك.

٤٠٥

الله بذلك ؛ إذ الفضل عند الخلق هو فعل ما ليس عليه لا ما عليه ؛ فنعوذ بالله من السرف في القول ، والزيغ عن الرشد.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في قوله : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) ـ : يحتمل أن يكون في السرّ ، وإن أعطيتم لهم الظاهر.

ويحتمل : أن يكون بعد ما أظهرتم اكفروا آخره.

ويحتمل : لا تؤمنوا بما جاء به ، إلا لأجل من تبع دينكم ؛ فيكون عندهم قدوة ، يتقرر عندهم ـ بالذي فعلتم ـ أنكم أهل الحق ؛ فيتبعكم كيفما تصيرون إليه.

ويحتمل : (لا تُؤْمِنُوا) : لا تصدّقوا فيما يخبركم عن أوائلكم ، (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) على المنع عن تصديق الرسول فيما (١) يخبرهم من التحريف والتبديل ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) : يحتمل وجهين :

أحدهما : البيان هو ما بين الله ؛ إذ هو الحق ، وكل ما فيه الصرف عنه فهو تلبيس وتمويه.

ويحتمل : أن يكون الدين هو الذي دعا إليه بما أوضحه وأنار برهانه ، لا الدين الذي دعا إليه أولئك المنحرفون (٢).

(أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) ، أي : لن يؤتى ـ والله أعلم ـ من الكتاب والحجج.

ويحتمل أن يكون صلة قوله : (إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) ، وهو دينه ، أو ما دعا إليه ، ثم يقول : (أَنْ يُؤْتى) بمعنى : لن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أهل الإسلام من الحجج والبينات ، التي توضح أن الحق في أيديكم.

وقوله : (أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) : فإن كان هو صلة الأوّل ، ف «أو» بمعنى : «ليحاجوكم» ، أو : «حتى يحاجوكم» إذا آمنتم بما دعوا إليه ؛ فيحاجوكم بذلك عند ربكم ، أي : إنما آمنتم بالذي جاء لكم من عند ربكم ؛ فيصير ذلك لهم حجة عليكم.

وإن كان صلة الثاني ، فهو على أنهم لا يؤتون مثل ما أوتيتم من الحجج ؛ ليحاجوكم بها عند ربّكم في أن الذي هو عليه حق ؛ لما قد ظهر تعنتهم وتحريفهم ـ والله أعلم ـ ثم بين السبب الذي هو نيل كل خير وفضل ، والله أعلم (٣).

__________________

(١) في ب : بما.

(٢) وهو بمعنى قول ابن عباس : الدين دين الله ، ذكره الرازي في تفسيره (٨ / ٨٥) ، وينظر اللباب في علوم الكتاب (٥ / ٣٢١).

(٣) قال الطبري : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يكون قوله : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) معترضا به ، وسائر الكلام متسق على سياق واحد ، فيكون تأويله حينئذ : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، ولا ـ

٤٠٦

وقوله : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ، وقوله : (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) : ينقض على المعتزلة قولهم بوجهين :

أحدهما : أنهم لا يرون لله أن يختص أحدا ـ بشيء فيه صلاح ـ غيره صرفه عن ذلك الغير ، بل إن فعل ذلك كان محابيا عندهم بخيلا ، بل في الابتداء لم يكن له ذلك ؛ وإنما يعطى بالاستحقاق ، وذلك حق يلزمه ، وقد ذكر بحرف الامتنان.

وعندهم ـ أيضا ـ : ليس له ألا يشاء أو لا يعطى ؛ فلا معنى لذكره الذي ذكر مع ما صار ذلك ، بيد غيره إذ يلزم ذلك ، والله أعلم.

والثاني : أن الذي يحق عليه ـ أن يبذل كلا الأصلح في الدين ، وأنه إن قصر أحدا عن ذلك كان جائزا ، ثم الأفضل للعبد شيء مما أعطى حتى يعطيه فيما أمره ؛ فيكون الفضل في الحقيقة في يد العبد : يؤتى نفسه إن شاء ويمنع إن شاء ، والله الموفق.

قوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)(٧٦)

وقوله : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) :

والقنطار ما تقدم ذكره ، (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) :

وصف ـ جلّ وعزّ ـ أهل الكتاب بعضهم بأداء الأمانة ، وبعضهم بالخيانة ، وليس المراد من الآية ـ والله أعلم ـ القنطار نفسه أو الدينار ، ولكن وصفهم بأن فيهم أمانة وخيانة ، قلّت الخيانة أو عظمت ، وكذلك الأمانة ؛ ألا ترى أنه يستحق الذم بدون القنطار والدينار إذا خان ، وكذلك يستحق الحمد إذا أدى بدون ذلك؟! دلّ أنه لم يرد به التقدير ، ولكن على التمثيل ، وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً

__________________

 ـ تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. بمعنى : لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، (أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) بمعنى : أو أن يحاجوكم عند ربكم ... أحد بإيمانكم ؛ لأنكم أكرم على الله بما فضلكم به عليهم ؛ فيكون الكلام كله خبرا عن قول الطائفة التي قال الله ـ عزوجل ـ : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ) سوى قوله (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) لم يكون الكلام مبتدأ بتكذيبهم في قولهم. (قُلْ) يا محمد للقائلين ما قالوا من الطائفة التي وصفت لك قولها لتباعها من اليهود : (إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) ، إن التوفيق توفيق الله ، والبيان بيانه ، إن الفضل بيده يؤتيه من يشاء لا ما تمنيتموه أنتم يا معشر اليهود.

وإنما اخترنا ذلك من سائر الأقوال التي ذكرناها ؛ لأنه أصحها معنى وأحسنها استقامة على معنى كلام العرب ، وأشدها اتساقا على نظم الكلام وسياقه ، وما عدا ذلك من القول فانتزاع من الصحة على استكراه شديد للكلام. ينظر : جامع البيان (٦ / ٥١٥ ـ ٥١٦).

٤٠٧

يَرَهُ) [الزلزلة : ٧] ليس على إرادة الذرّة ؛ ولكن على التمثيل أن لعمل الخير والشر جزاء وإن قل ؛ فكذلك الأول.

وفيه دلالة جواز العمل بالاجتهاد (١) ، ولما ذكرنا أنه لم يرد القدر الذي ذكره ؛ ولكن لمعنى فيه : بالاجتهاد يعرف لا بالنصوص ، وعن الشافعي ـ رضي الله عنه ـ : أن الدينار عنده مستكثر يحلف [عليه](٢) مدّعيه عند المنبر (٣) ، والله ـ تعالى ـ جعله مستقلّا.

وفيه دلالة ـ أيضا ـ جواز شهادة (٤) بعضهم لبعض وعلى بعض ، إن كانت فيهم

__________________

(١) الاجتهاد في اللغة : مصدر مأخوذ من الجهد ـ بضم الجيم ـ : الوسع والطاقة ، تقول : اجهد جهدك ، أي : ابذل وسعك وطاقتك. وقيل : الجهد ـ بفتح الجيم ـ : المشقة ، وقال الليث : الجهد ـ بفتح الجيم ـ : ما جهد الإنسان من مرض ، أو أمر شاق ، فهو مجهود ، والجهد لغة بهذا المعنى ، وفي حديث أم معبد : شاة خلفها الجهد ـ بفتح الجيم ـ عن الغنم.

قال ابن الأثير : وهو بالفتح : المشقة ، وقيل : المبالغة والغاية ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ)[الأنعام : ١٠٩] ، وبالضم : الوسع والطاقة. وقيل : هما لغتان في الوسع والطاقة ، فأما في المشقة فالفتح لا غير.

وفي الاصطلاح : عرفه الآمدي بأنه : «استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد فيه».

وعرفه الغزالي بأنه : «بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشرع بحيث يحس من نفسه بالعجز عن مزيد طلب».

وعرفه الكمال بن الهمام بأنه : «بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي ظنى».

وعرفه ابن الحاجب بأنه : «استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي».

وعرفه الشيخ زكريا الأنصاري بأنه : «استفراغ الفقيه الوسع بأن يبذل تمام طاقته في نظره في الأدلة لتحصيل الظن بالحكم».

ينظر : لسان العرب (١ / ٧٠٩) (جهد) ، وترتيب القاموس (١ / ٥٤٥) (جهد) ، والإحكام للآمدي (٤ / ٢١٨) ، والمستصفى (٢ / ٣٥٠) ، والتقرير والتحبير (٣ / ٢٩١) ، ومختصر ابن الحاجب مع شرح العضد (٢ / ٢٨٦) ، وغاية الوصول شرح لب الأصول للشيخ زكريا (١٤٧).

(٢) سقط من ب.

(٣) مذهب الإمام الشافعي في هذا : «وإذا كان الحق عشرين دينارا أو قيمتها ، أو دما أو جراحة عمد فيها قود ما كانت ، أو حدا أو طلاقا ، حلف الحالف بمكة بين البيت والمقام فإن كان بالمدينة فعلى منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كان في بيت المقدس ، ففي مسجدها ، أو ببلد ففي مسجد ، وأحب لو حلف بعد العصر ...» راجع : الأم (١٣ / ٢٠٠)

وقال الإمام مالك بن أنس في المدونة (٤ / ٥): «وعندنا بالمدينة لا يستحلف عند المنبر إلا في ربع دينار فصاعدا» كتاب الأقضية باب موضع اليمين.

(٤) الشهادات : جمع شهادة ، وتجمع باعتبار أنواعها وإن كانت في الأصل مصدرا. ولها في اللغة عدة معان.

منها : الإخبار بالشيء خبرا قاطعا. تقول : شهد فلان على كذا ، أي : أخبر خبرا قاطعا.

ومنها : الحضور ، تقول : شهد المجلس ، أي : حضره ، قال تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)[البقرة : ١٨٥].

ومنها : الاطلاع على الشيء ومعاينته ، تقول : شهدت كذا ، أي : اطلعت عليه ، وعاينته. ـ

٤٠٨

نزلت ، على ما قاله بعض أهل التأويل ؛ لأنه وصف ـ عزوجل ـ بعضهم بالأمانة في المال ، وإن كانت الأمانة لهم في الدّين والشهادة أمانة ، والله أعلم.

ويحتمل : أن تكون الآية فيمن أسلم منهم وصف بالأمانة ، ومن لم يسلم وصفهم بالخيانة ؛ على ما ذكر ـ عزوجل ـ مثله في آية أخرى : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف : ١٥٩] : وصف ـ عزوجل ـ من آمن منهم بالعدالة والهدى ، ووصف الكفار بالخيانة في غير آي من القرآن (١).

ويحتمل أن تكون الآية فيما ائتمنوا ، أو فيما جرى بينهم وبين المسلمين من المداينة من غير رهن (٢) ولا كفالة (٣) ؛ وهو كقوله : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ)

__________________

 ـ ومنها : إدراك الشيء : تقول : شهدت الجمعة ، أي : أدركتها.

ومنها : الحلف ، تقول : أشهد بالله لقد كان كذا ، أي : أحلف.

ومنها : العلم ، قال تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[المجادلة : ٦] أي : عليم ، والفعل من باب علم ، وقد تسكن هاؤه ، فتقول : شهد فلان شهادة ، وجمع الشاهد : شهد ، وشهود ، وأشهاد ، والمشاهدة : المعاينة.

وفي الاصطلاح :

عرفها الحنفية بأنها : إخبار بحق للغير على آخر.

وعرفها المالكية بأنها : إخبار حاكم عن علم ليقضي بمقتضاه.

وعرفها الشافعية بأنها : إخبار صادق بلفظ الشهادة لإثبات حق لغيره على غيره ، في مجلس القضاء ولو بلا دعوى.

وعرفها الحنابلة بأنها : الإخبار بما علمه بلفظ خاص.

ينظر : لسان العرب (٤ / ٢٣٤٨) (شهد) ، النظم المستعذب (٢ / ٣٦٢) ، والفتاوى الهندية (٣ / ٤٥٠) ، وحاشية الدسوقي (٤ / ١٦٤) ، ومغني المحتاج (٤ / ٤٢٦) ، ونهاية المحتاج (٨ / ٢٧٧) ، والإقناع (٤ / ٤٩٣).

(١) قال القرطبي : ليس في هذه الآية تعديل لأهل الكتاب ولا لبعضهم ، خلافا لمن ذهب إلى ذلك ؛ لأن فساق المسلمين يوجد فيهم من يؤدي الأمانة ويؤمن على المال الكثير ، ولا يكونون بذلك عدولا. فطريق العدالة والشهادة ليس يجزئ فيه أداء الأمانة في المال من جهة المعاملة والوديعة ؛ ألا ترى قولهم : (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)[آل عمران : ٧٥] ؛ فكيف يعدل من يعتقد استباحة أموالنا وحريمنا بغير حرج عليه؟! ولو كان ذلك كافيا في تعديلهم لسمعت شهادتهم على المسلمين.

ينظر : تفسير القرطبي (٤ / ٧٦).

(٢) الرهن ـ لغة ـ : يطلق على العين المرهونة. قال ابن سيده : الرهن ما وضع عند الإنسان مما ينوب مناب ما أخذ منه ، يقال : رهنت فلانا رهنا ، وارتهنه : إذا أخذه رهنا.

واصطلاحا : عرفه الحنفية بأنه : جعل الشيء محبوسا بحق يمكن استيفاؤه من الرهن كالديون.

وعرفه المالكية بأنه : مال قبضه موثقا به في دين.

وعرفه الشافعية بأنه : جعل عين مال متموّله وثيقة بدين ليستوفي منها عند تعذر وفائه.

وعرفه الحنابلة بأنه : المال الذي يجعل وثيقة بالدين ليستوفي من ثمنه إن تعذر استيفاؤه من ذمة الغريم.

ينظر : المحكم لابن سيده (رهن) ، والصحاح (٥ / ٢١٢٨) (رهن) ، ولسان العرب (٣ / ١٧٥٧) ـ

٤٠٩

[البقرة : ٢٨٣] : أمرهم بأداء الأمانة فيما ائتمنوا.

وقوله : (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) :

قيل : ملازما ، مواظبا (١) ، ملحا ، دائما ، متقاضيا. ومن عامل من المسلمين الناس هذه المعاملة يخاف دخوله في هذا النهي والوعيد (٢).

وقوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)

قالوا ذلك ؛ لأنهم كانوا يستحلون أموال المسلمين ظلما ، يقولون : لم يجعل علينا في كتابنا لأموالهم حرمة أموالنا علينا ؛ يقولون : نحن أبناء الله وأحبّاؤه ، وأرادوا بالأمّيين : العرب ؛ إذ ليس لهم كتاب.

وقيل : ذلك الاستحلال بأن قالوا : ليس علينا لله فيهم سبيل ، وأرادوا بالأميين : المسلمين ؛ على ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نحن أمّة أمّيّة ؛ لا نحسب ولا نكتب» (٣).

وقيل : قالوا : لا حرج علينا في حبس أموالهم في التوراة ؛ فأكذبهم الله ـ عزوجل ـ بقوله :

__________________

 ـ (رهن) ، والمصباح المنير (١ / ٣٣٠) (رهن) ، فتح القدير (١٠ / ١٣٥) ، ومجمع الأنهر (٢ / ٥٨٤) ، وحاشية الدسوقي (٣ / ٢٣١) ، وأسهل المدارك (٢ / ٢٦٦) ، ومغني المحتاج (٢ / ١٢١) ، والمغني لابن قدامة (٤ / ٣٦١).

(٣) الكفالة لغة : الضم ، قال ـ تعالى ـ : (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) [آل عمران : ٣٧] ، أي : ضمها إلى نفسه.

واصطلاحا : ضم ذمة إلى ذمة في حق المطالبة ، ويقال للمرأة : كفيل أيضا.

ينظر : الصحاح (٤ / ١٨١١) (كفل) ، وطلبة الطلبة لنجم الدين النسفي ص (١٣٩) ، والمغرب (٢ / ٢٢٧) ، والمطلع للبعلي الحنبلي ص (٢٤٨).

(١) قاله مجاهد أخرجه الطبري (٧٢٦٣ ، ٧٢٦٤) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٣٤٧) (٨٠٤) ، وعبد بن حميد وابن المنذر كما في الدر المنثور (٢ / ٧٧).

(٢) في ب : الوعد ، وقال القرطبي : استدل أبو حنيفة على مذهبه في ملازمة الغريم بقوله : (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) وأباه سائر العلماء. وقد استدل بعض البغداديين من علمائنا على حبس المديان بقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ ...)[آل عمران : ٧٥] الآية ، فإذا كان له ملازمته ومنعه من التصرف جاز حبسه.

ينظر : تفسير القرطبي (٤ / ٧٥) ..

(٣) أخرجه أحمد (٢ / ٤٣ ، ٥٢ ، ١٢٩) ، والبخاري (٤ / ٦٢٣) : كتاب الصوم : باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا نكتب ولا نحسب» (١٩١٣) ، ومسلم (٢ / ٧٦١) : كتاب الصيام باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال ، وأبو داود (١ / ٧٠٩) ، كتاب الصيام : باب الشهر يكون تسعا وعشرين ، (٢٣١٩) ، والنسائي (٤ / ١٣٩) : كتاب الصيام : باب ذكر الاختلاف على يحيى بن أبي كثير في خبر أبي سلمة فيه ، من حديث ابن عمر مرفوعا «إنا أمة أمية ، لا نكتب ولا نحسب ، الشهر هكذا وهكذا وهكذا ، وعقد الإبهام في الثالثة. والشهر هكذا وهكذا وهكذا يعني تمام الثلاثين».

٤١٠

(وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ).

بأن ليس في كتابهم حرمة أموالهم ، ولا لهم عليهم سبيل ، وهم يعلمون أنهم يكذبون على الله ، عزوجل (١).

وقوله : (بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ) :

يحتمل قوله : «بلى» ؛ ردّا على قولهم : (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) بل عليكم سبيل فيهم ، ثم ابتدأ الكلام فقال : (مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) ، أي : هؤلاء الّذين يحبّهم الله لا أنتم.

ويحتمل قوله : (بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ) : الذي عليه في التوراة أمر بأداء الأمانة ، وإظهار نعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته التي فيها ، واتقاء محارمه وظلم الناس في ترك الوفاء ، وفي نقض العهد ، وصدق الله ورسوله ، ولم يكتم نعته وصفته ـ فإن الله يحبّهم ، والله أعلم.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(٨٠)

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ) :

قيل : عهد الله : أمره ونهيه.

يحتمل هذا العهد فيما عهدوا في التوراة ألا يكتموا نعته وصفته ؛ ولكن يظهرون ذلك للناس ويقرون به.

(وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) :

أيمانهم التي حلفوا كذبا أن ليس نعته وصفته فيه ؛ مخافة ذهاب منافعهم.

ويحتمل : أن حلفوا كذبا ، فأخذوا أموال الناس بالباطل والظلم ؛ وعلى ذلك روي عن

__________________

(١) قاله بنحوه ابن جريج أخرجه عنه الطبري (٧٢٧٢) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٣٥٠) (٨١٥) ، وابن المنذر كما في الدر المنثور (٢ / ٧٨).

وقال بنحوه أيضا السّدي : أخرجه عنه الطبري (٧٢٦٨) ، وقاله كذلك قتادة أخرجه عنه الطبري (٧٢٦٦) ، وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (٢ / ٧٧).

٤١١

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حلف على يمين ؛ ليقطع بها مال امرئ مسلم لقى الله ـ تعالى ـ وهو عليه غضبان» (١) وتلا هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ..). الآية.

والعهد والأيمان سواء (٢) ؛ ألا ترى [إلى قوله ـ عزوجل ـ : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ ..). [النحل : ٩١] الآية.

ويحتمل عهد الله : ما قبلوا عن الله](٣) ، وما ألزمهم الله ، والأيمان : ما حلفوا ، والله أعلم.

وقوله : (أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) :

أي : لا نصيب لهم في الآخرة مما ذكروا أن لهم عند الله من الخيرات والحسنات ؛ كقوله : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [البقرة : ٢١٧].

وقوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) :

يحتمل وجهين :

يحتمل : أنه أراد بذلك كلام الملائكة الذين يأتون المؤمنين بالتحية والسلام من ربهم ؛ كقوله : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد : ٢٣ ، ٢٤].

وقوله : (لا تكلمهم) الملائكة ؛ على ما تكلم المؤمنين ، أضاف ذلك إلى نفسه ، على ما ذكرنا فيما تقدم من إضافة النصر إليه على إرادة أوليائه ؛ فكذلك هذا ، أو أن يكون الله ـ عزوجل ـ كان قد كلمهم بتكليم الملائكة إياهم ؛ لأنهم رسله ؛ فكان كقوله : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) [الشورى : ٥١] : صيّره ببعث الرسل كأن قد كلمهم هو ؛ فكذلك الأوّل.

ويحتمل : أن يكون الله ـ عزوجل ـ يكرم المؤمنين في الجنة بكلامه على ما كلم موسى في الدنيا ؛ فلا يكلمهم كما يكلم المؤمنين.

__________________

(١) أخرجه البخاري في (٥ / ٣٠٦ ، ٣٠٧) كتاب المساقاة ، باب : الخصومة في البئر والقضاء فيها برقم (٢٣٥٦ ، ٢٣٥٧) ، ومسلم في صحيحه (١ / ١٢٣) في كتاب الإيمان : باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار برقم (٢٢٢) ، وأحمد في مسنده (١ / ٣٧٧ ، ٤١٦ ، ٤٤٢) ، والترمذي في سننه (٥ / ١١٢) رقم (٣٠١٢) ، وقال : هذا حديث حسن صحيح ، وابن ماجه (٤ / ١٥ ، ١٦) كتاب الأحكام ، باب من حلف على يمين فاجرة ليقتطع بها مالا ، رقم (٢٣٢٣) ، وعبد الرزاق في مصنفه برقم (٩٥٥٥) ، والحميدي في مسنده (١٢١) ، والطبراني في الكبير (٩٠٢٥).

(٢) فى ب : يكون سواء.

(٣) ما بين المعقوفين سقط من ب.

٤١٢

ويحتمل : لا يكلمهم بالرحمة سوى أن يقول لهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨] ؛ وكقوله (١) : (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

وقوله : (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) :

نظر رحمة ، كما ينظر إلى المؤمنين بالرحمة.

وقوله : (وَلا يُزَكِّيهِمْ) :

أي : لا يجعل لخيراتهم ثوابا.

ويحتمل : أن يكون هذا في قوم علم الله منهم أنهم لا يؤمنون أبدا ؛ فقال : لا يزكيهم ، أي : لا تزكو أعمالهم.

وقوله : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) :

أي : كانوا يحرفون ألسنتهم بالكتاب على التعظيم والتبجيل :

(لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ)

أي : كانوا يحرفون نعته ـ عليه أفضل الصلوات ـ وصفته ، ثم يتلونه على التعظيم والتبجيل ؛ ليحسبوه من الكتاب المنزل من السماء ، وما هو من الكتاب الذي أنزل من السماء.

(وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) [البقرة : ٧٩].

(وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)

أنهم يكذبون على الله ، وأن ذلك ليس هو من عند الله.

وقوله : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) :

أي : ما كان لبشر اختاره الله للذي قال ؛ وتبين أنهم إنما أضافوا دينهم الذي فيه عبادة غير الله إلى أنبيائهم كذبة ، وأن الله يجعل رسالته عند من يعصمه عن مثله بقوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] ، لا يجعلها حيث يخان ويكتم ، والله الموفق.

وهذه الآية تنقض على الباطنية (٢) قولهم ؛ لأنهم يقولون : إن الله لا يؤتى النفس

__________________

(١) في ب : وقوله ـ عزوجل.

(٢) الباطنية : فرقة خارجة عن فرق الأهواء ، وداخلة في فرق الكفر الصريح ؛ لأنها لم تتمسك بشيء من أحكام الإسلام لا في أصوله ولا في فروعه.

ولقد قالوا في النبوات برفع المعجزات الناقضات للعادات ، وأنكروا نزول الملائكة من السماء وغير ذلك. ينظر : أصول الدين لأبي منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي ص (٣٢٩ ـ ٣٣١).

٤١٣

البشرية الكتاب ولا النبوة ؛ إنما يؤتى النفس البسيطة ، وهي الروحانية ، ليأتى تخيل في قلوب الأنبياء ، ويؤيدهم حتى يؤلفوا ؛ كقوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٥]

فإذا ثبت ذلك في قلوب الرسل ألفوا هم الكتب والصحف ، لا يقدر غير الرسل على ذلك ، ثم الناس يأخذون ذلك منهم ؛ فالآية تكذبهم وترد عليهم قولهم ؛ حيث أخبر أنه يؤتي البشر الكتاب والحكم والنبوة بقوله : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) وكذلك قال عيسى ـ عليه‌السلام ـ في المهد : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا).

وفي الآية دليل عصمة الرسل والأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ عن الكفر بقوله : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) ، وخاصّة في عصمة رسولنا ـ محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [الأحزاب : ٥٧] ، وقال : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) [الأحزاب : ٥٨] : شرط في المؤمنين اكتساب ما يستوجبون به الأذى ، ولم يشترط في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ دل أنه لا يكون منه اكتساب ما يستوجب به الأذى ، ويكون من المؤمنين بشرطه فيهم ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (وَلكِنْ كُونُوا) :

معناه ، أي : ولكن يقول لهم : كونوا ربّانيين ؛ وكأنه على الابتداء والاستئناف ويقول لهم :

(وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ).

ثم اختلف في (رَبَّانِيِّينَ) قيل : متعبدين لله بالذي يعلّمون الكتاب ، وبالذي يدرسونه.

وقيل : الربانيون (١) : العلماء الحكماء (٢). وقيل : حكماء علماء. وقيل : علماء فقهاء. وهو واحد (٣).

__________________

(١) قال سيبويه : الرباني : المنسوب إلى الرب بمعنى كونه عالما به ومواظبا على طاعته ، ينظر : تفسير الرازي (٨ / ٩٨).

(٢) قاله ابن مسعود ، أخرجه عنه ابن المنذر كما في الدر المنثور (٢ / ٨٣).

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه عنه ابن جرير الطبري (٦ / ٥٤٢) برقم (٧٣١٣) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٣٦٦) (٨٥٩) ، وقال الطبري : وأولى الأقوال عندي بالصواب في الربانيين أنهم جمع رباني ، وأن الرباني المنسوب إلى «الربان» الذي يربّ الناس ، وهو الذي يصلح أمورهم ويربها ، ويقوم بها ... فالربانيون إذن هم عماد الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا ؛ ولذلك قال مجاهد : «وهم فوق الأحبار» ؛ لأن الأخبار هم العلماء ، والرباني : الجامع إلى العلم والفقه البصر بالسياسة والتدبير ـ

٤١٤

ثم فيه دلالة أن الرجل قد يدرس ويعلّم آخر بما لا يفقه ولا يعلم ، معناه : إلا كل من يدرس شيئا أو يعلّم آخر يكون فقيها فيه ، ويعرف ما أودع فيه من المعنى.

وفيه دلالة جواز الاجتهاد ؛ لأنه إنما يوصل إلى ما فيه من المعنى والفقه بالاجتهاد ، والله أعلم.

وقوله : (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً)

اختلف فيه ؛ قيل : ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة أربابا ؛ لأنهم يقولون : إن الله أمرهم بذلك ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف : ٢٨].

وقيل : إن عيسى وعزيرا ومن ذكر لا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا من دون الله ، وقد عصمهم الله بالنبوة.

وقوله : (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ :)

يحتمل وجوها :

يحتمل : أيأمركم الله بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون له بالخلقة ؛ لما يشهد خلقة كل أحد على وحدانيته ؛ كقوله : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [آل عمران : ٨٣].

ويحتمل : (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ، أي : أسلموا له ، وأقروا به مرة ، ثم كفروا بعد ما كانوا مخلصين له بالتوحيد.

ويحتمل قوله : (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) : بعد إذ دعاكم إلى الإسلام فأجاب بعضكم (١).

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)(٨٣)

__________________

 ـ والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دنياهم ودينهم. ينظر : جامع البيان (٦ / ٥٤٣ ـ ٥٤٤) ..

(١) في هذه الآية أعظم باعث لمن علم على أن يعمل ، وأن من أعظم العمل بالعلم تعليمه والإخلاص لله ، سبحانه. والدراسة : مذاكرة العلم والفقه ؛ فدلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانيّا ؛ فمن اشتغل بها ، لا لهذا المقصود ، فقد ضاع سعيه وخاب علمه ، وكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها ولا منفعة بثمرها ؛ ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع. ينظر : الرازي (٨ / ٩٩).

ينظر : محاسن التأويل (٤ / ١٢٠).

والحديث أخرجه مسلم (٧٣ ـ ٢٧٢٢) من حديث زيد بن أرقم مطولا ، وفيه : «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع».

٤١٥

وقوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) الآية.

قال مجاهد (١) : هذا خطأ من الكاتب ، وهي في قراءة ابن مسعود (٢) ـ رضي الله عنه ـ «ميثاق الذين أوتوا الكتاب» ؛ على ما ذكر في آية أخرى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [آل عمران : ١٨٧] لأن الميثاق لا يؤخذ على النبيين أن يصدّقوا ، لكنه يجوز هذا.

ثم اختلف فيه ، قيل : ميثاق الأوّل من الأنبياء ـ ليصدّقنّ بما جاء به الآخر منهم ، لو أدرك (٣).

وقيل : أخذ الله ميثاقا على النبيين أن يصدق بعضهم بعضا ، وأن يبلغوا كتاب الله ورسالاته إلى قومهم ؛ ففعلوا ، ثم أخذوا مواثيق قومهم أن يؤمنوا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويصدقوه وينصروه (٤).

وقيل (٥) : أخذ الله على النبيين ميثاقا على أن يبلغوا الرسالة إلى قومهم ، ويدعوا الناس إلى دين الله.

قال الكسائى فيه بوجهين :

أحدهما : يقول : ميثاق الذين منهم النبيّون وهم بنو إسرائيل ، وكل ميثاق ذكره الله ـ

__________________

(١) هو مجاهد بن جبر مولى السائب بن أبي السائب أبو الحجاج المكي المقرئ الإمام المفسر ، روى عن ابن عباس ، وقرأ عليه ، وعن أبي هريرة ، وجابر وعائشة وروى عنه عكرمة وعطاء وقتادة وغيرهم. توفي بمكة سنة ٢٠٢ ، وقيل ٢٠٣ ه‍.

انظر ترجمته في : خلاصة الخزرجي (٣ / ١٠ ، ١١) ، سير أعلام النبلاء (٤ / ٤٤٩) ، رقم (١٧٥).

(٢) وقرأ بها أبىّ كذلك.

وينظر : البحر المحيط (٢ / ٥٣٢) ، الدر المصون (٢ / ١٥١) ، اللباب (٥ / ٣٥٤) ، المحرر الوجيز (١ / ٤٦٤).

(٣) أخرجه بنحوه عن طاوس ، وابن جرير في تفسيره (٦ / ٥٥٥) برقم (٧٣٢٨) ، وأخرجه أيضا ابن المنذر ، عبد بن حميد كما ذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٨٤).

(٤) أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (٦ / ٥٥٥) برقم (٧٣٢٨) من طريق ابن جريج عن ابن طاوس ، و (٦ / ٥٥٨) برقم (٧٣٣٥) من طريق معمر عن ابن طاوس كلاهما عن طاوس ، وابن أبي حاتم (٢ / ٣٧١) ، برقم (٨٧٧). وروي بنحوه عن قتادة أخرجه ابن جرير (٦ / ٥٥٥) برقم (٧٣٣٠) ، و (٦ / ٥٥٨) برقم (٧٣٣٦) ، وعن علي بن أبي طالب أخرجه عنه ابن جرير برقم (٦ / ٥٥٥) (٧٣٢٩) ، وعن السدي أخرجه عنه ابن جرير برقم (٦ / ٥٥٦) ، (٧٣٣١) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٣٧٣) برقم (٨٨٠) وذكرت هذه الروايات جميعا في الدر المنثور للحافظ السيوطي (٢ / ٨٤) ، وهو أولى الأقوال بالصواب ، قاله الطبري.

(٥) أخرجه ابن جرير في تفسيره برقم (٦ / ٥٥٥) (٧٣٢٦) ، وابن أبي حاتم برقم (٢ / ٣٧٠) (٨٧٦) ، وذكره الحافظ السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٨٤) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

٤١٦

تعالى ـ في القرآن في أهل الكتاب ، فإنما يراد به بنو إسرائيل.

والثاني : ذكره كما ذكرنا من تصديق بعضهم بعضا ، وتبليغ كتب الله إلى قومهم.

وقوله : (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ).

أخذ عليهم الميثاق ؛ ليأخذوا على قومهم المواثيق أن يؤمنوا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خرج وينصروه.

وقوله : (قالَ أَأَقْرَرْتُمْ) :

قال الله ـ تعالى ـ للأنبياء : (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) قيل : هو عهدي (١).

والإصر : قيل : هو العهد (٢).

(قالُوا أَقْرَرْنا)

بالعهد لنؤمنن به ولننصرنه ، وأخذنا على قومنا ليؤمنن به ولينصرنه ، وقال الله ـ تعالى ـ : (فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)

يقول الله ـ تعالى ـ : وأنا على إقراركم بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الشاهدين.

وقيل : قال الله : فاشهدوا أني قد أخذت عليكم بالعهد ، وأنا معكم من الشاهدين أنكم قد أقررتم بالعهد (٣).

يقول الله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ)

العهد والإقرار بنقض العهد ، والرجوع عن الإقرار

(فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

وقوله : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) :

الدين كأنه يتوجه إلى وجوه يرجع إلى اعتقاد المذهب في الأصل ، ويرجع إلى الحكم والخضوع ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) [المائدة : ٥٠] ، ويرجع إلى الجزاء.

ثم قوله : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) : كأن كلا منهم يبغى دينا هو دين الله ، ويدعي أن

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٦ / ١٣٧) ، برقم (٦٥٢٠) عن ابن عباس ، وبرقم (٦٥١٩) عن الربيع بن أنس ، وابن أبي حاتم في تفسيره (٢ / ٣٧٣) ، برقم (٨٨٤) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٨٥) من طريق العوفي عن ابن عباس ، وأخرج نحوه ابن أبي حاتم برقم (٨٨٥) عن محمد بن إسحاق.

(٢) أخرجه ابن جرير الطبري عن مجاهد (٦ / ١٣٦) ، برقم (٦٥١٣) ، (٦٥١٤) بلفظ : عهدا ، وعن ابن عباس برقم (٦٥١٥) ، وعن السدي برقم (٦٥١٦) ، وعن ابن جريج برقم (٦٥١٧) ، وعن الربيع بن أنس برقم (٦٥١٩) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٣٧٣ ، ٣٧٤) برقم (٨٨٦) ، (٨٨٩).

(٣) قاله بنحوه علي بن أبي طالب ، أخرجه ابن جرير الطبري (٦ / ٥٦١) برقم (٧٣٣٨) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٨٥).

٤١٧

الدين الذي هو عليه دين الله ، لكن هذا ـ والله أعلم ـ كل منهم في الابتداء يبغي دين الله في نفسه ، لكن بان له من بعد وظهر بالآيات والحجج أنه ليس على دين الله ، وأن دين الله هو الإسلام ، فلم يرجع إليه ولا اعتقده ، ولزم غيره بالاعتناد والمكابرة ؛ فهو باغ غير دين الله ، والله أعلم.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في قوله : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) ، أي : أفغير ما في دين الله من الأحكام والتوحيد.

ويحتمل : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ) : يدينون ، وليس على الاستفهام ؛ ولكن على الإيجاب أنهم في صنيعهم يبغون غير الذي هو دين الله ، كقوله : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة : ٣٠] ؛ وكقوله : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ ..). [النور : ٥٠] الآية.

وقوله : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) :

يحتمل وجوها :

يحتمل : أسلم ، أي : استسلم ، وخضع له بالخلقة ؛ إذ في خلقة كلّ دلالات وحدانيته.

ويحتمل : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ) ، يعني : الملائكة ، (وَالْأَرْضِ)(١) المؤمنين الذين أسلموا طوعا وكرها ، يعني : أهل الأديان يقرون أن الله ربهم وهو خلقهم ؛ كقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف : ٨٧] فذلك إسلامهم ، وهم في ذلك مشركون.

عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال] : «من فى السّماوات أسلموا طوعا ، وأمّا أهل الأرض : فمنهم من أسلم طوعا ، ومنهم من أسلم كرها ؛ مخافة السّيف» (٢).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه أيضا ـ قال : «طوعا من ولد فى الإسلام ، وكلّ من أسلم ولم يولد فى الإسلام فهو كره» (٣).

وقيل : منهم من أسلم طوعا ، ومنهم من جبروا عليه (٤) ، والإسلام : هو تسليم النفس

__________________

(١) في الأصول : ومن في الأرض ، وهو خطأ ، والآية صوابها كما أثبتنا.

(٢) أخرجه ابن جرير الطبري (٦ / ٥٦٧) برقم (٧٣٥١) من طريق عباد بن منصور ، وابن أبي حاتم (٢ / ٣٧٦) (٨٩٤) من طريق عبد الرحمن العصري كلاهما عن الحسن ، وأخرجه أيضا ابن جرير برقم (٧٣٥٢) عن مطر الوراق ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٨٥) وعزاه للديلمي عن أنس بن مالك.

(٣) ذكره الحافظ السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٨٥) وعزاه للطبراني عن ابن عباس بسند ضعيف.

(٤) أخرجه ابن جرير (٦ / ٥٦٦) برقم (٧٣٤٧) ، (٧٣٤٩) عن مجاهد بن جبر و (٦ / ٥٦٧) ، برقم (٧٣٥٣) ، (٧٣٥٤) عن قتادة بألفاظ متقاربة. وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٨٦) وعزاه لعبد ابن حميد.

٤١٨

لله خالصا لا يشرك فيها غيره ؛ كقوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ) الآية [الزمر : ٢٩].

دلّت الآية أنه ما ذكرنا ، والله أعلم.

والإسلام : هو اسم الخضوع ، وكل منهم قد خضعوا ، ولم يجترئ أحد أن يخرج عليه.

قوله تعالى : (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٨٥)

وقوله : (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ) الآية.

هذا ـ والله أعلم ـ وذلك أن اليهود والنصارى لما آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض ، كقوله (١) : (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) [النساء : ١٥٠] ـ أمر الله ـ تعالى ـ المؤمنين أن يؤمنوا بالرسل جميعا ؛ فآمنوا بهم جميعا ، وقالوا : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) : والإسلام ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) :

اختلف فيه : [يحتمل](فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) : حسنات من بغى غير دين الإسلام في الدنيا ؛ وهو كقوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) ، أي : بالمؤمن به (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) [المائدة : ٥].

ويحتمل : من أتى بدين سوى دين الإسلام فلن يقبل منه ، (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ).

وقيل : إنها نزلت في نفر ارتدوا عن الإسلام بعد ما أسلموا ، ثم تاب بعضهم (٢) ؛ فنزل قوله : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ)

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في قوله : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) : يحتمل : «يبتغى» : يطلب ، (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) ؛ كأنه نهى عن ذلك أن يقصد بالتدين التقرب إلى الله ـ تعالى ـ فأخبر أن ذلك لا يقبله ؛ ليصرف الطلب إلى غير ذلك ، وذلك كما دانوا من عبادة الأوثان وغيرها ؛ لتقربهم إلى الله زلفى ، فأخبر أنه لا يقرب ؛ ليصرف الطلب إلى حقيقة ذلك الدين على الأديان [التي] كانت معروفة ، تأبى أنفس الكفرة عن [قبول](٣) اسم

__________________

(١) في ب : كقوله ـ عزوجل.

(٢) ذكره القرطبي في تفسيره (٣ / ٨٣) وعزاه للسدي ، ومجاهد.

(٣) سقط من ب.

٤١٩

الإسلام لدينهم ، وادعوا أن دينهم هو دين الله ؛ فأخبر الله ـ تعالى ـ أن دينه هو الإسلام ، وأن من يبتغي الدين ؛ ليدين الله به ، غيره ـ ، فالله لا يقبل منه ، والله أعلم.

ويحتمل الابتغاء : الإرادة ؛ فيكون فيه تحقيق الدين ؛ إذ هي تجامع الفعل ؛ فكأنه قال : من دان غير دين الإسلام ، فلن يقبل منه ، وإن قصد به الله بالدين ، والله الموفق.

أيد ذلك قوله : (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) : أنه فيمن أتى بغيره ، والله أعلم.

قوله تعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٨٩)

وقوله : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ..). الآية.

فالآية تحتمل وجوها :

تحتمل : ألا يهدى الله قوما هم معاندون مكابرون فيه ، غير خاضعين له ولا متواضعين ؛ إنما يهدي من خضع له وتواضع ، فأما من عاند وكابر : فلا يهديه.

ويحتمل أن هذا في قوم مخصوصين ، علم الله منهم أنهم لا يؤمنون أبدا ؛ فأخبر الله ـ تعالى ـ أنه لا يهديهم ، وأما من علم الله أنه يؤمن وتاب : فإنه يهديهم بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) الآية : أطمع من تاب وأصلح أن يهديه ويغفر له.

ويحتمل : ألا يهديهم طريق الجنة ، إذا ماتوا على كفرهم ؛ كقوله : (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً* إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) [النساء : ١٨٧ ، ١٨٨].

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : ويحتمل : لا يهديهم في وقت اختيارهم الضلالة.

وقيل : بما اختاروا من الضلالة لا يهديهم ، أي : لا يعينهم : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : ودل قوله : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) ـ أن دين الإسلام هو الإيمان ، وأن الكفر مقابله من الأضداد ، وكيف يهدى قبل كفرهم؟!.

وقيل : في وقت اختيارهم.

وقيل : ذلك في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون ، وكانت همتهم التعنت والمخالفة (١) ،

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٦ / ٥٧٤) برقم (٧٣٦٨) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٣٨٣) برقم (٩١٥) بنحوه عن ابن عباس ، وبرقم (٧٣٦٩) ، (٧٣٧١) عن الحسن البصري بألفاظ متقاربة.

٤٢٠