تأويلات أهل السنّة - ج ٢

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة - ج ٢

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٧٣

الله فى كتابه فى قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ ..). (١) الآية [النساء : ١١].

وكذلك كان للنساء الحول فى تركة الأزواج وصية لهن ؛ فعلى ذلك كان الأمر بالوصية ، فقال الله عزوجل : (يُوصِيكُمُ اللهُ) [النساء : ١١] كالمبين بما كان قد أوجب التبيين على الميت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى قد أعطى كل ذى حق حقه ، فلا وصية لوارث» (٢) ، ومما يبين ذلك أنه معلوم أن تكون الوصية للوارث ليست تثبت فيما هى له ؛ لأنه اليوم فيكون حصول الوصية بنصيب بعض الورثة على ذلك الوجه لا يجوز وصية الميت لأحد ، فكذلك للورثة. وهذا يبين أنها كانت فى وقت لم يبين الميراث ، فلا يكون الوصية لمن تثبت له وصية بنصيب غيره فى التحقيق ، فكان يجوز ، ثم بطل ببيان السنة ، إذ ليس فى متلو القرآن حقيقة ذلك ، وإنما يكون بحق الانتزاع منه والنسخ ، ومعناه بالانتزاع أبعد عن الاحتمال منه بالسنة. ولا قوة إلا بالله.

ثم حق التواتر عندنا يقع بظهور العمل بالشىء على غير ظهور المنع منهم ، والتكثير

__________________

(١) أخرجه أحمد (٣ / ٣٥٢) ، وأبو داود (٣ / ٣١٦) كتاب : الفرائض ، باب : ميراث الصلب ، حديث (٢٨٩٢) ، والترمذى (٤ / ٤١٤) كتاب : الفرائض ، باب : ميراث البنات ، حديث (٢٠٩٢) ، وابن ماجه (٢ / ٩٠٨) كتاب : الفرائض ، باب : فرائض الصلب ، حديث (٢٧٢٠) ، وابن سعد (٣ / ٢ / ٧٨) ، والحاكم (٤ / ٣٣٣ ـ ٣٣٤) كتاب : الفرائض ، باب : إذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض ، والبيهقى (٦ / ٢١٦) كتاب : الفرائض ، باب : توريث ذوى الأرحام.

قال الحاكم : صحيح الإسناد. ووافقه الذهبى.

وقال الترمذى : حسن صحيح.

(٢) أخرجه أبو داود (٣ / ٢٩٠) كتاب : الوصايا ، باب : الوصية للوارث ، حديث (٢٨٧٠) ، والترمذى (٤ / ٤٣٣) كتاب : الوصايا ، باب : ولا وصية لوارث ، حديث (٢١٢٠) ، وابن ماجه (٢ / ٩٠٥) كتاب : الوصايا ، باب : لا وصية لوارث ، حديث (٢٧١٣) ، وأحمد (٥ / ٢٦٧) ، والطيالسى (٢ / ١١٧ ـ منحة) رقم (٢٤٠٧) ، وسعيد بن منصور (٤٢٧) ، والدولابى فى الكنى (١ / ٦٤) ، وأبو نعيم فى «تاريخ أصبهان» (١ / ٢٢٧) ، والبيهقى (٦ / ٢٦٤) كتاب : الوصايا ، باب : نسخ الوصية للوالدين ، كلهم من طريق إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم عن أبى أمامة الباهلى ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول فى خطبته عام حجة الوداع : «إن الله تبارك وتعالى قد أعطى كل ذى حق حقه ، فلا وصية لوارث».

وقال الترمذى : حديث حسن صحيح.

وفى الباب عن جماعة من الصحابة وهم عمرو بن خارجة ، وأنس بن مالك ، وابن عباس ، وجابر ، وعلى ، وعبد الله بن عمرو ، ومعقل بن يسار ، وزيد بن أرقم ، والبراء ، ومجاهد مرسلا.

وللحديث طريق آخر :

أخرجه الدارقطنى (٤ / ١٥٢) كتاب : الوصايا ، حديث (١٠) ، والبيهقى (٦ / ٢٦٤) كتاب : الوصايا ، باب : نسخ الوصية للوالدين والأقربين ، من طريق زياد بن عبد الله عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن عمرو بن خارجة مرفوعا بلفظ : «لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة». وضعف البيهقى سنده.

٢١

عليهم فى الفعل (١) ، وفى هذا وجود ذلك من طريق الفعل (٢).

ثم القول أيضا من الأئمة بالفتوى به بلا تنازع ظهر فيهم مع ما قد ذكر الله فى المواريث : (فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) [النساء : ١٢] ، وتخصيص الورثة قصد مضارة بغيره ، واستعمال الرأى فيما قد تولى قسمه على غير الذى قسم. والله أعلم.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(١٨٥)

هؤلاء الآيات فيهن فرضية بقوله : (كُتِبَ) ، وأيد ذلك الإبدال فيها الإفطار لعذر والأمر بالقضاء ، وذلك ليس بشرط الآداب مع الامتنان علينا بقوله عزوجل : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) ، أى يريد بكم الإذن لكم فى الفطر للعذر ، ولو كان غير فرض بدؤه لم يكن الفطر للعذر بموضع الرخصة مع شرطه إكمال العدة فى القضاء معنى ، وفى ذلك لزوم حفظ المتروك لئلا يدخل التقصير فى القضاء. وعلى ذلك إجماع الأمة.

ثم بين عزوجل أن لم تكن هذه الأمة بمخصوصة فى الصيام (٣) ، بل هى أحق من فيهم

__________________

(١) فى أ : العقل.

(٢) فى أ : العقل.

(٣) الصوم فى اللغة : الإمساك مطلقا عن الطعام والشراب والكلام والنكاح والسير. قال تعالى ـ حكاية عن مريم عليها‌السلام ـ : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) والصوم مصدر : صام يصوم صوما وصياما. وفى الاصطلاح : هو الإمساك عن المفطر على وجه مخصوص.

وقد وردت فى فضل الصوم أحاديث كثيرة ، نذكر منها ما يلى :

عن أبى هريرة ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من صام رمضان إيمانا واحتسابا ، غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه».

وعن أبى هريرة ـ رضى الله تعالى عنه ـ قال : كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبشر أصحابه بقدوم رمضان ، يقول : «قد جاءكم شهر رمضان ، شهر مبارك ، كتب الله عليكم صيامه ، تفتح فيه أبواب الجنة ، وتغلق فيه أبواب الجحيم ، وتغل فيه الشياطين ، فيه ليلة خير من ألف شهر».

وعن سهل بن سعد ـ رضى الله عنه ـ عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن فى الجنة بابا ، يقال له : الريان ، يدخل منه الصائمون يوم القيامة ، لا يدخل منه أحد غيرهم ، يقال : أين الصائمون؟ فيقومون ، لا ـ

٢٢

استعمل العفو أو الصفح بما خصهم بأن جعلهم (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١١٠] ، وأخبر أنه لم يجعل عليهم (فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨] ، ولا ألزمهم العبادات الشاقة فضلا منه عليهم وتخصيصا لهم ؛ إذ جعلهم (شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [الحج : ٧٨] ، فقال عزوجل : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ). لكن «كما» يحتمل وجهين :

يحتمل : العذر الذى كتب عليهم.

ويحتمل : الفرضية (١) فى الجملة لا عين ما فرض عليهم من حيث الإشارة إلى ذلك ؛ ولذلك اختلف فى (الكاف) فى قوله : (كما) ـ أنها زائدة ، أو حقيقية.

ثم اختلف فيما يأتيه ذلك الصيام : فمن الصحابة ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، من جعله صوم عاشوراء (٢) وأيام البيض (٣). ثم استعملوا نسخ ذلك بصيام الشهر.

__________________

 ـ يدخل منه أحد غيرهم ، فإذا دخلوا أغلق ، فلم يدخل منه أحد».

وعن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له».

ينظر : مغنى المحتاج (١ / ٤٢٠).

(١) فى أ : الوصية.

(٢) اتفق الفقهاء على سنية صوم عاشوراء وتاسوعاء ـ وهما : اليوم العاشر ، والتاسع من المحرم ـ لقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى صوم عاشوراء : «أحتسب على الله أن يكفر السنة التى قبله» ، ولحديث معاوية ـ رضى الله عنه ـ قال : سمعت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «هذا يوم عاشوراء ، ولم يكتب الله عليكم صيامه ، وأنا صائم ، فمن شاء فليصم ، ومن شاء فليفطر» ، وقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع».

وقد كان صوم يوم عاشوراء فرضا فى الإسلام ، ثم نسخت فرضيته بصوم رمضان ، فخير النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين فى صومه ، وهو اختيار كثيرين واختيار الشيخ تقى الدين من الحنابلة ، وهو الذى قاله الأصوليون. وصوم يوم عاشوراء ـ كما سبق فى الحديث الشريف ـ يكفر ذنوب سنة ماضية. والمراد بالذنوب : الصغائر ، قال الدسوقى : فإن لم يكن صغائر ، حتت من كبائر سنة ، وذلك التحتيت موكول لفضل الله ، فإن لم يكن كبائر رفع له درجات. وقال البهوتى : قال النووى فى شرح مسلم عن العلماء : المراد كفارة الصغائر ، فإن لم تكن له صغائر رجى التخفيف من الكبائر ، فإن لم تكن له كبائر رفع له درجات. وصرح الحنفية : بكراهة صوم يوم عاشوراء منفردا عن التاسع ، أو عن الحادى عشر. كما صرح الحنابلة : بأنه لا يكره إفراد عاشوراء بالصوم ، وهذا ما يفهم من مذهب المالكية. قال الحطاب : قال الشيخ زروق فى (شرح القرطبية) : واستحب بعض العلماء صوم يوم قبله ويوم بعده ، وهذا الذى ذكره عن بعض العلماء غريب لم أقف عليه. وذكر العلماء فى حكمة استحباب صوم تاسوعاء أوجها :

أحدها : أن المراد منه مخالفة اليهود فى اقتصارهم على العاشر ، وهو مروى عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ فقد روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «صوموا يوم عاشوراء ، وخالفوا فيه اليهود وصوموا قبله يوما أو بعده يوما». ـ

٢٣

وقد روى مرفوعا : «أن صوم شهر رمضان نسخ كل صيام كان» (١).

وروى عن جماعة فى أمر صوم عاشوراء : أنا كنا نصومه حتى نزل صوم الشهر ، فلم

__________________

 ـ الثانى : أن المراد به وصل يوم عاشوراء بصوم ، كما نهى أن يصوم يوم الجمعة وحده.

الثالث : الاحتياط فى صوم العاشر خشية نقص الهلال ووقوع الغلط ، فيكون التاسع فى العدد هو العاشر فى نفس الأمر.

واستحب الحنفية والشافعية صوم الحادى عشر ، إن لم يصم التاسع. قال الشربينى الخطيب : بل نص الشافعى فى (الأم) و (الإملاء) على استحباب صوم الثلاثة.

ينظر : كشاف القناع (٢ / ٣٣٩) ، والإنصاف (٣ / ٣٤٦) ، حاشية الطحاوى (٣٥٠) ، حاشية الدسوقى (١ / ٥١٦).

(٣) اتفق الفقهاء على أنه يسن صوم ثلاثة أيام من كل شهر ، وذهب الجمهور منهم ـ الحنفية والشافعية والحنابلة ـ إلى استحباب كونها أيام البيض ـ وهى الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر عربى ـ سميت بذلك ؛ لتكامل ضوء الهلال وشدة البياض فيها ؛ لما روى أبو ذر ـ رضى الله عنه ـ أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «يا أبا ذر ، إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام ، فصم ثلاث عشرة ، وأربع عشرة ، وخمس عشرة». قال الشافعية : والأحوط صوم الثانى عشر معها ـ أيضا ـ للخروج من خلاف من قال : إنه أول الثلاثة ، ويستثنى ثالث عشر ذى الحجة فلا يجوز صومه لكونه من أيام التشريق. فيبدل بالسادس عشر منه كما قال القليوبى. وذهب المالكية إلى كراهة صوم أيام البيض ؛ فرارا من التحديد ، ومخافة اعتقاد وجوبها. ومحل الكراهة : إذا قصد صومها بعينها ، واعتقد أن الثواب لا يحصل إلا بصومها خاصة. وأما إذا قصد صيامها من حيث إنها ثلاثة أيام من الشهر فلا كراهة. قال المواق نقلا عن ابن رشد : إنما كره مالك صومها لسرعة أخذ الناس بقوله ، فيظن الجاهل وجوبها. وقد روى أن مالكا كان يصومها ، وحض مالك ـ أيضا ـ الرشيد على صيامها. وصوم ثلاثة أيام من كل شهر كصوم الدهر ، بمعنى : أنه يحصل بصيامها أجر صيام الدهر بتضعيف الأجر : الحسنة بعشرة أمثالها ، لحديث قتادة بن ملحان ـ رضى الله عنه ـ : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرنا أن نصوم البيض : ثلاث عشرة ، وأربع عشرة ، وخمس عشرة. قال : قال : وهن كهيئة الدهر» أى : كصيام الدهر.

ينظر : حاشية القليوبى على شرح المنهاج للمحلى (٢ / ٧٣) ، حاشية ابن عابدين (٢ / ٨٣).

(١) فى الباب عن عائشة وابن عمر وابن مسعود بنحوه.

حديث عائشة :

أخرجه البخارى (٤ / ٧٧٠) كتاب الصوم ، باب صوم يوم عاشوراء (٢٠٠١ ، ٢٠٠٢) ، ومسلم (٢ / ٧٩٢) ، كتاب الصيام ، باب صوم يوم عاشوراء (١١٣ / ١١٢٥) ، من طرق عنها قالت : كان يوم عاشوراء تصومه قريش فى الجاهلية ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصومه ، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه ، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه.

حديث ابن عمر :

أخرجه البخارى (٢٠٠٠) ، ومسلم (١١٧ / ١١٢٦) ، من طرق عنه بنحو اللفظ السابق.

حديث ابن مسعود :

أخرجه البخارى (٩ / ٣١) كتاب التفسير باب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) (٤٥٠٣) ، ومسلم (١٢٢ / ١١٢٧) ، من طرق عنه بنحو لفظ حديث عائشة ، وأخرجه ابن جرير (٢٧٣٥) ، عن ابن عباس قال فى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ..). الآية : وكان ثلاثة أيام من كل شهر ثم نسخ ذلك بالذى أنزل من صيام رمضان.

٢٤

يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرنا به ولا ينهانا (١).

وأصل هذا أنه كان يصام ، لو كان ابتداء الآية عليه بحق الفرض فأبدل ذلك بصوم الشهر ، فارتفعت عنه الفرضية على ما إذا كان يخرج منه بالفداء لم يكن معه فرضية القضاء ، وبقى الفصل فيه ؛ النسخ لم يكن من حيث نفس الصوم ، إذ مثله من النسخ يكون بغير الصوم ولا يصوم. فثبت أنه فى نسخ الفرضية. فبقى فيه حق الأدب والفضل ، وتبين النسخ الصوم إذ مثله ، وإن ذلك غير صوم الشهر الذكر فى صوم الشهر بقوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً ..). الآية إذ ذلك كان غير موضع الشهر ، ولو كان الكل واحدا لكان الذكر فى موضع منه كافيا عن الإعادة ؛ فثبت أنه على تناسخ الصيام. وقد روى [عن] معاذ (٢) ، رضى الله تعالى عنه ، أنه قال : «أحيل الصيام ثلاثة أحوال» (٣). وبين الخبر على وجهه فى ذلك.

ويحتمل : أن يكون المراد منه صوم الشهر ، ويكون تكرار الذكر فى الرخصة لمكان رفع الفداء ، أو لمكان ذكر حق الامتنان بالتيسير ، أو التحريض على حفظ العدد. والله الموفق.

وأى ذلك كان؟ فليس بنا حاجة إلى معرفة حقيقة ذلك ؛ لأن كيفية الابتداء لم تكلف ،

__________________

(١) أخرجه مسلم (٢ / ٧٩٤ ـ ٧٩٥) كتاب الصيام ، باب صوم يوم عاشوراء (١٢٥ / ١١٢٨) ، وأحمد (٥ / ٩٦ ، ١٠٥) ، وابن خزيمة (٢٠٨٣) عن جابر بن سمرة قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرنا بصيام يوم عاشوراء ويحثنا عليه ويتعاهدنا عنده فلما فرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهانا ولم يتعاهدنا عنده.

(٢) معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عائذ ـ بمعجمة آخره ـ ابن عدى بن كعب بن عمرو بن آدى بن سعد بن على بن أسد بن ساردة بن تريد ـ بمثناة ـ ابن جشم بن الخزرج الأنصارى الخزرجى أبو عبد الرحمن المدنى ، أسلم وهو ابن ثمانى عشرة سنة ، وشهد بدرا والمشاهد له مائة وسبعة وخمسون حديثا ، اتفقا على حديثين ، وانفرد «البخارى» بثلاثة ، و «مسلم» بحديث ، وعنه ابن عباس وابن عمر ومن التابعين عمرو بن ميمون وأبو مسلم الخولانى ومسروق وخلق ، وكان ممن جمع القرآن. قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يأتى معاذ يوم القيامة أمام العلماء». وقال ابن مسعود : كنا نشبهه بإبراهيم عليه‌السلام وكان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ، توفى فى طاعون عمواس سنة ثمانى عشرة وقبر ببيسان فى شرقيه. قال ابن المسيب : عن ثلاث وثلاثين سنة ، وبها رفع عيسىعليه‌السلام.

ينظر : تهذيب الكمال (٣ / ١٣٣٨) ، وتهذيب التهذيب (١٠ / ١٨٦) (٣٤٧) ، وتاريخ البخارى الكبير (٧ / ٣٥٩) ، والثقات (٣ / ٣٦٨) ، وأسد الغابة (٣ / ١٠٥) ، وطبقات الحفاظ (٦ / ٢٤) ، وتجريد أسماء الصحابة (٢ / ٨٠) ، والاستيعاب (٣ / ١٤٠٢).

(٣) أخرجه أبو داود (١ / ١٩٤) ، كتاب الصلاة ، باب كيف الأذان (٥٠٧) ، وأحمد (٥ / ٢٣٣ ، ٢٤٦) ، وابن خزيمة (٣٨١) ، وابن جرير (٢٧٤٠) ، وابن المنذر ، وابن أبى حاتم والحاكم وصححه البيهقى فى سننه كما فى الدر المنثور للسيوطى (١ / ٣٢٢).

٢٥

وإنما كلفنا ما أبقى فرضه ، وهو صيام الشهر الذى لم يختلف فى ذلك.

ثم قد خاطب جل ثناؤه بالصيام من قد آمن بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فكان فيما خاطب وجهان :

أحدهما : أنه خاطب المؤمنين فعرف المخاطبون أن الاسم يذكرهم ؛ إذ لم يذكر عن أحد أنه ظن خروجه من حكم الآية ، من حيث لم يكن وفاء بما به يستحق الاسم ، وكذلك سائر عبادات الأفعال.

وهذا من أوضح ما يجب به العلم أن الإيمان ليس باسم لجميع القرب ، بل تحقيقه يصير أفعال القرب قربا.

وفيه إذ لم يقل : يا أيها الذين ، قلتم : نحن مؤمنون به صلى الله تعالى عليه وسلم ، دلالة ظاهرة على هجر هذا القول ، وأنه من تلقين الشيطان ليبطل عليهم عقدهم ، كما يبطل كل عقد يستعمله فيه صاحبه مما أراد إلزامه العقد (١). والله أعلم.

والثانى : أن الله تعالى خص بالعبادات المؤمنين ، وأنهن لا يلزمن غيرهم وإنما يلزم غيرهم فيها الاعتقاد ، لا الأفعال التى هى تقوم بالاعتقاد ، وليس الاعتقاد بواجب لمكان تلك الأفعال حتى تكون كالأسباب التى توجب بإيجاب أفعال بها تقوم ، بل له أوجب غيره.

ألا ترى أنه لا يجوز أن يرتفع ذلك عن الخلائق بحال من الأحوال فى الدنيا والآخرة مع ارتفاع غير ذلك من العبادات ؛ ثبت أن الأمر بذلك بحيث نفسه ، لا لغيره.

ثم لا قيام لغيره مع عدمه ؛ ثبت أن المعنى الذى به يصير المرء أهلا لاحتمال فعل العبادات ، لذلك لا يجوز الأمر بشيء منها دون ذلك. وله وجهان يحيلان الأمر أيضا :

أحدهما : العقل ، أنه من البعيد أن يكون من لم يقبل العبودية ، ولا أقر بالرسالة تؤمر بالعبادة وباتباع الرسول بحق الرسالة ، بل يقول : ألزمونا الأول ، حتى يكون الثانى ، وهو كما أحال الناس المناظرة فى الرسل مع منكرى الصانع والمرسل ، فمثله الأول ، بل يجب كل قربة به ؛ إذ لا يكون إلا به. والله أعلم.

والثانى : القول بأن من أسلم بعد أوقات العبادات لا يلزمه القضاء. ثم لذلك وجهان من المعتبر :

أحدهما : بأنهم إذا لم يدخلوا فى خطاب القضاء ، بما ليس معهم فى الحال ما يحتمل معه القضاء ، فكذلك خطاب الابتداء ؛ إذ هو الذى به لزم القضاء فى الإسلام. والله

__________________

(١) فى ب : العقوبة.

٢٦

أعلم.

والثانى : أنه لا يلزم القضاء بعد الإسلام ، ولا يجوز الابتداء فى حاله. فكان ذا تكليف لم يجعل الله للمكلف وجه القيام ، وقد تبرأ الله عن هذا الوجه من التكليف بقوله عزوجل : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] ، مع ما بين الله تعالى بقوله : (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) [البقرة : ١٢٦] أن ما للكافر التمتع فى الدنيا ، لا العبادات فى ذلك. والله الموفق.

فثبت بالآية التى ذكرنا جميع المؤمنين فى الخطاب ؛ إذ بين الرخصة لذى (١) العذر فى الإفطار على وجوب القضاء فإذ لم يحتمل خروج من له العذر فى الفطر عن أن يتضمنه الخطاب وجه ألزم القضاء ، ثبت أن من لا عذر له داخل فيه ولا يسعه الفطر ، وعلى هذا جاء ممن ابتلى بالجماع نهارا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكد عليه الأمر وألزم الكفارة (٢) على غير سؤال عن أحوال سوى ما علم من حاله أنه ليس بمريض ولا مسافر ، فكان فى ذلك دليل تأكيد الفرض ، وفى ذلك إيجاب الكفارة لتعديه على الصيام على حال لا يحتمل الإرخاص ، إذ قد كان تلك البلية فى الليالى ، فلم يؤمروا بها من حيث كانوا يملكون إبقاء الرخصة لأنفسهم لو لا النوم ، وفى ذلك أن فرض الصيام يعم المؤمنين.

ثم قال الله عزوجل : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

والشهر اسم للكل ، ولو كان المراد راجعا إليه لكان الصيام فى غيره ؛ لأنه عند هجوم غيره يتم شهوده ، ثم يتناقض ؛ لأنه قال : (فَلْيَصُمْهُ) ، ومحال أن يصوم فى غيره ابتداء ؛ فرجع التأويل إلى أن من شهد منكم شيئا من الشهر (فَلْيَصُمْهُ). فمن اعترضه الجنون (٣)

__________________

(١) فى ط : الذى له.

(٢) هذا ثابت من حديث أبى هريرة :

أخرجه البخارى (٤ / ١٦٣) كتاب : الصوم ، باب : إذا جامع فى رمضان ولم يكن له شىء فتصدق عليه فليكفر ، حديث (١٩٣٦) ، ومسلم (٢ / ٧٨١ ، ٧٨٢) كتاب : الصيام ، باب : تغليظ تحريم الجماع فى نهار رمضان على الصائم ووجوب الكفارة الكبرى فيه وبيانها ... إلخ ، حديث (٨١ / ١١١١) ، ومالك (١ / ٢٩٦) كتاب : الصيام ، باب : كفارة من أفطر فى رمضان ، حديث (٢٨) ، وأبو داود (١ / ٧٢٧) كتاب : الصيام ، باب : كفارة من أتى أهله فى شهر رمضان ، حديث (٢٣٩٠) ، والترمذى (٣ / ١٠٢) كتاب : الصوم ، باب : ما جاء فى كفارة الفطر فى رمضان ، حديث (٧٢٤) ، وابن ماجه (١ / ٥٣٤) كتاب : الصيام ، باب : ما جاء فى كفارة من أفطر يوما من رمضان (١٦٧١) ، والدارمى (١ / ٣٤٣ ـ ٣٤٤) ، وأحمد (٢ / ٢٠٨ ، ٢٤١ ، ٢٨١).

(٣) اختلف الفقهاء فيما إذا نوى الصيام من الليل ، ثم طرأ عليه إغماء أو جنون أو سكر : فإن لم يفق إلا بعد غروب الشمس ، فذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى عدم صحة صومه ؛ لأن الصوم هو الإمساك مع النية ، لقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال الله : «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم ، فإنه لى وأنا أجزى ـ

٢٧

فيه فهو ممن قد تضمنه الخطاب ، ويجوز فى حالة الفرض أيضا ؛ إذ لو شهد ليلة الصيام فعزم على الصيام يجوز له فرضه ، فدخل فى حق الخطاب ، ثم اعترضه فى سائر الليالى عذر منع النية ، لا عذر منع الصيام ، فيقتضيه إذ هو أهل الحكم للآية التى ذكرنا ، والقيام (١) بذلك الفرض على ما وصفنا ، ففاته بفوت النية كمن كان فوت لعذر المرض (٢)

__________________

 ـ به ، يدع شهوته وطعامه من أجلى» فأضاف ترك الطعام والشراب إليه ، فإذا كان مغمى عليه فلا يضاف الإمساك إليه ، فلم يجزئه. وذهب الحنفية إلى صحة صومه ؛ لأن نيته قد صحت ، وزوال الاستشعار بعد ذلك لا يمنع صحة الصوم ، كالنوم. أما إذا أفاق أثناء النهار ، فذهب الحنفية إلى تجديد النية إذا أفاق قبل الزوال ، وذهب المالكية إلى عدم صحة صومه ، وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه إذا أفاق فى أى جزء من النهار صح صومه ، سواء أكان فى أوله أم فى آخره. وفرق الشافعية بين الجنون والإغماء ، فالمذهب : أنه لو جن فى أثناء النهار بطل صومه ، وقيل : هو كالإغماء. وأما الردة بعد نية الصوم فتبطل الصوم بلا خلاف.

ينظر : جواهر الإكليل (١ / ١٤٨) ، والشرح الكبير للدردير (١ / ٥٢٠) ، والمغنى (٣ / ٩٨).

(١) فى أ : للقيام.

(٢) المرض هو : كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة. قال ابن قدامة : أجمع أهل العلم على إباحة الفطر للمريض فى الجملة ، والأصل فيه قول الله تعالى : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ، وعن سلمة بن الأكوع ـ رضى الله تعالى عنه ـ قال : لما نزلت هذه الآية : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ) مِسْكِينٍ كان من أراد أن يفطر ، يفطر ويفتدى ، حتى أنزلت الآية التى بعدها يعنى قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة : ١٨٤] فنسختها. فالمريض الذى يخاف زيادة مرضه بالصوم أو إبطاء البرء أو فساد عضو ، له أن يفطر ، بل يسن فطره ، ويكره إتمامه ؛ لأنه قد يفضى إلى الهلاك ، فيجب الاحتراز عنه. ثم إن شدة المرض تجيز الفطر للمريض. أما الصحيح إذا خاف الشدة أو التعب ، فإنه لا يجوز له الفطر ، إذا حصل له بالصوم مجرد شدة تعب ، هذا هو المشهور عند المالكية ، وإن قيل بجواز فطره. وقال الحنفية : إذا خاف الصحيح المرض بغلبة الظن فله الفطر ، فإن خافه بمجرد الوهم ، فليس له الفطر. وقال المالكية : إذا خاف حصول أصل المرض بصومه ، فإنه لا يجوز له الفطر ـ على المشهور ـ إذ لعله لا ينزل به المرض إذا صام. وقيل : يجوز له الفطر. فإن خاف كل من المريض والصحيح الهلاك على نفسه بصومه ، وجب الفطر. وكذا لو خاف أذى شديدا ، كتعطيل منفعة ، من سمع أو بصر أو غيرهما ؛ لأن حفظ النفس والمنافع واجب ، وهذا بخلاف الجهد الشديد ، فإنه يبيح الفطر للمريض ، قيل : والصحيح أيضا.

وقال الشافعية : إن المريض ـ وإن تعدى بفعل ما أمرضه ـ يباح له ترك الصوم ، إذا وجد به ضررا شديدا ، لكنهم شرطوا لجواز فطره نية الترخص ـ كما قال الرملى واعتمده ـ وفرقوا بين المرض المطبق ، وبين المرض المتقطع : فإن كان المرض مطبقا ، فله ترك النية فى الليل. وإن كان يحمّ وينقطع ، نظر : فإن كان محموما وقت الشروع فى الصوم ، فله ترك النية ، وإلا فعليه أن ينوى من الليل ، فإن احتاج إلى الإفطار أفطر. ومثل ذلك الحصاد والبناء والحارس ـ ولو متبرعا ـ فتجب عليهم النية ليلا ، ثم إن لحقتهم مشقة أفطروا. قال النووى : ولا يشترط أن ينتهى إلى حالة لا يمكنه فيها الصوم ، بل قال أصحابنا : شرط إباحة الفطر أن يلحقه بالصوم مشقة يشق احتمالها ، وأما المرض اليسير الذى لا يلحق به مشقة ظاهرة فلم يجز له الفطر ، بلا ـ

٢٨

والسفر (١) والحيض ونحو ذلك بعد أن علم أنه ممن تضمنه الآية ، فعليه قضاؤه.

__________________

 ـ خلاف عندنا ، خلافا لأهل الظاهر. وخوف الضرر هو المعتبر عند الحنابلة ، أما خوف التلف بسبب الصوم فإنه يجعل الصوم مكروها ، وجزم جماعة بحرمته ، ولا خلاف فى الإجزاء ؛ لصدوره من أهله فى محله ، كما لو أتم المسافر. قالوا : ولو تحمل المريض الضرر ، وصام معه ، فقد فعل مكروها ؛ لما يتضمنه من الإضرار بنفسه ، وتركه تخفيفا من الله وقبول رخصته ، لكن يصح صومه ويجزئه ؛ لأنه عزيمة أبيح تركها رخصة ، فإذا تحمله أجزأه ؛ لصدوره من أهله فى محله ، كما أتم المسافر ، وكالمريض الذى يباح له ترك الجمعة ، إذا حضرها. قال فى (المبدع) : فلو خاف تلفا بصومه ، كره ، وجزم جماعة بأنه يحرم. ولم يذكروا خلافا فى الإجزاء. ولخص ابن جزى من المالكية أحوال المريض بالنسبة إلى الصوم ، وقال : للمريض أحوال :

الأولى : ألا يقدر على الصوم أو يخاف الهلاك من المرض أو الضعف إن صام ، فالفطر عليه واجب.

الثانية : أن يقدر على الصوم بمشقة ، فالفطر له جائز ، وقال ابن العربى : مستحب.

الثالثة : أن يقدر بمشقة ، ويخاف زيادة المرض ، ففى وجوب فطره قولان.

الرابعة : ألا يشق عليه ، ولا يخاف زيادة المرض ، فلا يفطر عند الجمهور ، خلافا لابن سيرين.

ونص الشافعية على أنه إذا أصبح الصحيح صائما ، ثم مرض ، جاز له الفطر بلا خلاف لأنه أبيح له الفطر للضرورة ، والضرورة موجودة ، فجاز له الفطر.

ينظر : المجموع (٦ / ٢٥٨) ، كشاف القناع (٢ / ٣١٠) ، الإنصاف (٣ / ٢٨٦).

(١) يشترط فى السفر المرخص فى الفطر ما يلى :

أ ـ أن يكون السفر طويلا مما تقصر فيه الصلاة ، قال ابن رشد : وأما المعنى المعقول من إجازة الفطر فى السفر فهو المشقة ، ولما كانت لا توجد فى كل سفر ، وجب أن يجوز الفطر فى السفر الذى فيه المشقة ، ولما كان الصحابة كأنهم مجمعون على الحد فى ذلك ، وجب أن يقاس ذلك على الحد فى تقصير الصلاة.

ب ـ ألا يعزم المسافر الإقامة خلال سفره مدة أربعة أيام بلياليها عند المالكية والشافعية ، وأكثر من أربعة أيام عند الحنابلة ، وهى نصف شهر أو خمسة عشر يوما عند الحنفية.

ج ـ ألا يكون سفره فى معصية ، بل فى غرض صحيح عند الجمهور ؛ وذلك : لأن الفطر رخصة وتخفيف ، فلا يستحقها عاص بسفره ؛ بأن كان مبنى سفره على المعصية ، كما لو سافر لقطع طريق مثلا. والحنفية يجيزون الفطر للمسافر ، ولو كان عاصيا بسفره ، عملا بإطلاق النصوص المرخصة ، ولأن نفس السفر ليس بمعصية ، وإنما المعصية ما يكون بعده أو يجاوره ، والرخصة تتعلق بالسفر لا بالمعصية.

د ـ أن يجاوز المدينة وما يتصل بها ، والبناءات والأفنية والأخبية.

وذهب عامة الصحابة والفقهاء ، إلى أن من أدرك هلال رمضان وهو مقيم ، ثم سافر ، جاز له الفطر ؛ لأن الله تعالى جعل مطلق السفر سبب الرخصة ، بقوله : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ، ولما ثبت من «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج فى غزوة الفتح فى رمضان مسافرا ، وأفطر». ولأن السفر إنما كان سبب الرخصة لمكان المشقة. وحكى النووى عن أبى مخلد التابعى أنه لا يسافر ، فإن سافر لزمه الصوم وحرم الفطر. وعن سويد بن غفلة التابعى : أنه يلزمه الصوم بقية الشهر ، ولا يمتنع السفر ، واستدل لهما بقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ). وحكى الكاسانى عن على وابن عباس ـ رضى الله تعالى عنهم ـ أنه إذا أهل فى المصر ، ثم سافر ، لا يجوز له أن يفطر. واستدل لهم بقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ

٢٩

__________________

 ـ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ، ولأنه لما استهل فى الحضر لزمه صوم الإقامة ، وهو صوم الشهر حتما ، فهو بالسفر يريد إسقاطه عن نفسه فلا يملك ذلك ، كاليوم الذى سافر فيه ، فإنه لا يجوز له أن يفطر فيه.

وفى وقت جواز الفطر للمسافر ثلاث أحوال :

الأولى : أن يبدأ السفر قبل الفجر ، أو يطلع الفجر وهو مسافر ، وينوى الفطر ، فيجوز له الفطر إجماعا ـ كما قال ابن جزى ـ لأنه متصف بالسفر ، عند وجود سبب الوجوب.

الثانية : أن يبدأ السفر بعد الفجر ، بأن يطلع الفجر وهو مقيم ببلده ، ثم يسافر بعد طلوع الفجر ، أو خلال النهار ، فإنه لا يحل له الفطر بإنشاء السفر بعد ما أصبح صائما ، ويجب عليه إتمام ذلك اليوم ، وهذا مذهب الحنفية والمالكية ، وهو الصحيح من مذهب الشافعية ، ورواية عن أحمد ، وذلك تغليبا لحكم الحضر. ومع ذلك لا كفارة عليه فى إفطاره عند الحنفية ، وفى المشهور من مذهب المالكية ، خلافا لابن كنانة ، وذلك للشبهة فى آخر الوقت. ولأنه لما سافر بعد الفجر صار من أهل الفطر ؛ فسقطت عنه الكفارة. والصحيح عند الشافعية : أنه يحرم عليه الفطر حتى لو أفطر بالجماع لزمته الكفارة. والمذهب عند الحنابلة وهو أصح الروايتين عن أحمد ، وهو ما ذهب إليه المزنى وغيره من الشافعية : أن من نوى الصوم فى الحضر ، ثم سافر فى أثناء اليوم ، طوعا أو كرها ، فله الفطر بعد خروجه ومفارقته بيوت قريته العامرة ، وخروجه من بين بنيانها ، واستدلوا بما يلى : ظاهر قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ، وحديث جابر ـ رضى الله تعالى عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى مكة عام الفتح فصام حتى بلغ كراع الغميم ، وصام الناس معه ، فقيل له : إن الناس قد شق عليهم الصيام ، وإن الناس ينظرون فيما فعلت ، فدعا بقدح من ماء بعد العصر ، فشرب ـ والناس ينظرون إليه ـ فأفطر بعضهم ، وصام بعضهم ، فبلغه أن ناسا صاموا ، فقال : «أولئك العصاة». وحديث ابن عباس ـ رضى الله تعالى عنهما ـ قال : «خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفتح إلى مكة ، فى شهر رمضان ، فصام حتى مر بغدير فى الطريق ، وذلك فى نحر الظهيرة. قال : فعطش الناس ، جعلوا يمدون أعناقهم ، وتتوق أنفسهم إليه. قال : فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقدح فيه ماء ، فأمسكه على يده ، حتى رآه الناس ، ثم شرب ؛ فشرب الناس». وقالوا : إن السفر مبيح للفطر ، فإباحته فى أثناء النهار كالمرض الطارئ ولو كان بفعله. وقال الذين أباحوه من الشافعية : إنه تغليب لحكم السفر. وقد نص الحنابلة المؤيدون لهذا الرأى على أن الأفضل لمن سافر فى أثناء يوم نوى صومه إتمام صوم ذلك اليوم ، خروجا من خلاف من لم يبح له الفطر ، وهو قول أكثر العلماء ؛ تغليبا لحكم الحضر ، كالصلاة.

الثالثة : أن يفطر قبل مغادرة بلده. وقد منع من ذلك الجمهور ، وقالوا : إن رخصة السفر لا تتحقق بدونه ، كما لا تبقى بدونه ، ولما يتحقق السفر بعد ، بل هو مقيم وشاهد ، وقد قال تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)، ولا يوصف بكونه مسافرا حتى يخرج من البلد ، ومهما كان فى البلد فله أحكام الحاضرين ؛ ولذلك لا يقصر الصلاة. والجمهور الذين قالوا بعدم جواز الإفطار فى هذه الصورة ، اختلفوا فيما إذا أكل ، هل عليه كفارة؟ فقال مالك : لا. وقال أشهب : هو متأول. وقال غيرهما : يكفر. وقال ابن جزى : فإن أفطر قبل الخروج ، ففى وجوب الكفارة عليه ثلاثة أقوال ، يفرق فى الثالث بين أن يسافر فتسقط ، أو لا فتجب.

ويتصل بهذه المسائل فى إفطار المسافر : ما لو نوى فى سفره الصوم ليلا ، وأصبح صائما ، من غير أن ينقض عزيمته قبل الفجر ، لا يحل فطره فى ذلك اليوم عند الحنفية والمالكية ، وهو وجه محتمل عند الشافعية ، ولو أفطر لا كفارة عليه ؛ للشبهة. قال ابن عابدين : وكذا لا كفارة عليه ـ

٣٠

__________________

 ـ بالأولى ، لو نوى نهارا. وقال ابن جزى : من كان فى سفر ، فأصبح على نية الصوم ، لم يجز له الفطر إلا بعذر ، كالتغذى للقاء العدو ، وأجازه مطرف من غير عذر ، وعلى المشهور : إن أفطر ، ففى وجوب الكفارة ثلاثة أقوال : يفرق فى الثالث بين أن يفطر بجماع فتجب ، أو بغيره فلا تجب. لكن الذى فى (شرح خليل) ، وفى (حاشية الدسوقى) : أنه إذا بيت نية الصوم فى السفر وأصبح صائما فيه ثم أفطر ، لزمته الكفارة سواء أفطر متأولا أم لا. فسأل سحنون ابن القاسم ، عن الفرق بين من بيت الصوم فى الحضر ثم أفطر بعد أن سافر بعد الفجر من غير أن ينويه فلا كفارة عليه ، وبين من نوى الصوم فى السفر ثم أفطر فعليه الكفارة؟ فقال : لأن الحاضر من أهل الصوم ، فسافر فصار من أهل الفطر ؛ فسقطت عنه الكفارة ، والمسافر مخير فيهما ، فاختار الصوم وترك الرخصة ، فصار من أهل الصيام ، فعليه ما عليهم من الكفارة. والشافعية فى المذهب ، والحنابلة قالوا : لو أصبح صائما فى السفر ، ثم أراد الفطر ، جاز من غير عذر ؛ لأن العذر قائم ـ وهو السفر ـ أو لدوام العذر ـ كما يقول المحلى. ومما استدلوا به حديث ابن عباس ـ رضى الله تعالى عنهما ـ : «... فصام حتى مر بغدير فى الطريق» ، وحديث جابر ـ رضى الله تعالى عنه ـ : «... فصام حتى بلغ كراع الغميم» قال ابن قدامة : وهذا نص صريح ، لا يعرج على ما خالفه. قال النووى : وفيه احتمال لإمام الحرمين ، وصاحب (المهذب) : أنه لا يجوز ؛ لأنه دخل فى فرض المقيم ، فلا يجوز له الترخص برخصة المسافر ، كما لو دخل فى الصلاة بنية الإتمام ، ثم أراد أن يقصر ، وإذا قلنا بالمذهب ، ففى كراهة الفطر وجهان ، وأصحهما : أنه لا يلزمه ذلك ، للحديث الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعل ذلك. وزاد الحنابلة : أن له الفطر بما شاء ، من جماع وغيره ، كأكل وشرب ؛ لأن من أبيح له الأكل أبيح له الجماع ، كمن لم ينو ، ولا كفارة عليه بالوطء ؛ لحصول الفطر بالنية قبل الجماع ، فيقع الجماع بعده.

هذا وتسقط رخصة السفر بأمرين اتفاقا :

الأول : إذا عاد المسافر إلى بلده ، ودخل وطنه ، وهو محل إقامته ، ولو كان دخوله بشيء نسيه ، يجب عليه الصوم ، كما لو قدم ليلا ، أو قدم قبل نصف النهار عند الحنفية. أما لو قدم نهارا ، ولم ينو الصوم ليلا ، أو قدم بعد نصف النهار ـ عند الحنفية ، ولم يكن نوى الصوم قبلا ـ فإنه يمسك بقية النهار ، على خلاف وتفصيل فى وجوب إمساكه.

الثانى : إذا نوى المسافر الإقامة مطلقا ، أو مدة الإقامة التى تقدمت فى شروط جواز فطر المسافر فى مكان واحد ، وكان المكان صالحا للإقامة ، لا كالسفينة والمفازة ودار الحرب فإنه يصير مقيما بذلك ، فيتم الصلاة ، ويصوم ولا يفطر فى رمضان ؛ لانقطاع حكم السفر. وصرحوا بأنه يحرم عليه الفطر ـ على الصحيح ـ لزوال العذر ، وفى قول يجوز له الفطر ؛ اعتبارا بأول اليوم. قال ابن جزى : إن السفر لا يبيح قصرا ولا فطرا إلا بالنية والفعل ، بخلاف الإقامة ؛ فإنها توجب الصوم والإتمام بالنية دون الفعل. وإذا لم ينو الإقامة لكنه أقام لقضاء حاجة له ، بلا نية إقامة ، ولا يدرى متى تنقضى ، أو كان يتوقع انقضاءها فى كل وقت ـ فإنه يجوز له أن يفطر ، كما يقصر الصلاة. قال الحنفية : ولو بقى على ذلك سنين. فإن ظن أنها لا تنقضى إلا فوق أربعة أيام عند الجمهور ، أو خمسة عشر يوما عند الحنفية ، فإنه يعتبر مقيما ؛ فلا يفطر ولا يقصر ، إلا إذا كان الفرض قتالا ـ كما قال الغزالى ـ فإنه يترخص على أظهر القولين ، أو دخل المسلمون أرض الحرب أو حاصروا حصنا فيها ، أو كانت المحاصرة للمصر على سطح البحر ، فإن لسطح البحر حكم دار الحرب. ودليل هذا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقام بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة ، ويلاحظ أن الفطر كالقصر الذى نصوا عليه فى صلاة المسافر ، من حيث الترخص ، فإن المسافر له سائر رخص السفر. ـ

٣١

وعلى ذلك فى الصبى والكافر لم يدخلا فى معنى الآية ، ولا كانا يحتملان فى حال قضاء فرض الصيام ، فالقضاء فى غيره عن ذلك لا يعمل فى حق الفرض. لذلك لم يلزم.

وقد روى عن محمد (١) ، رحمه‌الله ، على هذا : أن من أدرك مجنونا ثم أفاق فى بعض الشهر ، أنه لا يقضى ما مضى ، على ما ذكرت.

وعن أبى حنيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ : أنه يقضى ، إن كان فى أول الشهر بالغا ، لما أخبرت أن صيامه لم يجز لعدم النية ، والصبى والكافر بنفسه ، ومن فوته لعدم النية ، فهو داخل فى حكم فرضه ، فعليه القضاء. والله الموفق.

ومن جن الشهر كله لا يقضى لشرط الشهود ، وهو لم يشهد شيئا منه مع إمكان الإسقاط بدليل آخر ، وإن كان حق الخطاب فى الظاهر قد اقتضاه على مثل المريض الذى لا يصح ، والمسافر الذى لا يقيم. والله الموفق.

وفى قوله : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ)، دلالة أن ابتداء الآية فى غير صوم الشهر ؛ إذ صوم الشهر يحفظ بالأهلة لا بالأيام ، لكن الله تعالى إذ علم الأمر الظاهر فى الخلق أنهم يعدونه بالأيام وإن كان لهم عن ذلك غنى.

وقد روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الشهر هكذا وهكذا وهكذا بأصابع يديه كلتيهما ، وعقد إصبعا منها فى آخر المرات» (٢).

وجاء عن غير واحد أنهم قالوا : «ما كنا نصوم على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسعة وعشرين أكثر مما نصوم ثلاثين» (٣). فجائز ذكر قوله : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ)، يعنى يعدها الخلق. والله الموفق.

__________________

 ـ ينظر : المجموع (٦ / ٢٥٨) ، تبيين الحقائق (١ / ٢١٦) ، الدر المختار ورد المحتار (١ / ٥٢٧).

(١) هو محمد بن الحسن بن فرقد. نسبته إلى بنى شيبان بالولاء. أصله من (حرستا) من قرى دمشق ، منها قدم أبوه العراق ، فولد له محمد بواسط سنة ١٣١ ه‍ ، ونشأ بالكوفة. إمام فى الفقه والأصول ، ثانى أصحاب أبى حنيفة بعد أبى يوسف. من المجتهدين المنتسبين. هو الذى نشر علم أبى حنيفة بتصانيفه الكثيرة ، مات محمد بالرى سنة ١٨٩ ه‍.

من تصانيفه : الجامع الكبير ، والجامع الصغير ، والمبسوط ، والسير الكبير ، والسير الصغير ، والزيادات. وهذه كلها التى تسمى عند الحنفية كتب ظاهر الرواية وله كتاب الآثار.

ينظر : الفوائد البهية ص (١٦٣) ، والبداية والنهاية (١٠ / ٢٠٢).

(٢) أخرجه البخارى (٤ / ٦١٤) كتاب الصوم ، باب الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة (١٩٠٨) ، ومسلم (١٢ ، ١٥ ، ١٦ / ١٠٨٠) من طرق كثيرة عن عبد الله بن عمر.

(٣) أخرجه أحمد (١ / ٩٧ ، ٤٠٥ ، ٤٠٨) ، وأبو داود (١ / ٧١٠) كتاب الصيام ، باب الشهر يكون تسعا وعشرين (٢٣٢٢) ، والترمذى (٢ / ٦٨) كتاب الصوم ، باب ما جاء أن الشهر يكون تسعا وعشرين (٦٨٩). وابن خزيمة (١٩٢٢) ، والبيهقى (٤ / ٢٥٠).

٣٢

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، أى : ما حرم عليكم من أنواع اللذات بكف الأنفس عن الذى به يدعو إليها من الأغذية.

أو (تَتَّقُونَ) نقمة الله فى الآخرة ، ومخالفته فى الفعل فى الدنيا. وقد جعل الله جل ثناؤه عباداته أعوانا للمعتادين بها على الكف عن المعاصى ، والخلاف لله فى الشهوات ، فقال : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة : ٤٥] ، وقال : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت : ٤٥] ، وغير ذلك. والله الموفق.

والأصل : أن العبادات تذكر أصحابها عظم أحوالهم فى أوقات فيها من المقام بين يدى الجبار ، وتطلعهم على الموعود لهم فى الميعاد. وهما أمران عظيمان :

أحدهما : فى الزجر بما يعلم من عظم المقام واطلاع الواحد القهار عليه.

والثانى : فى الترغيب بما يشعر قلبه من لذيذ الموعد ما يضمحل لديه كل لذة دونه ، وتنقطع شهواته التى بينه وبين ما وعد. والله أعلم.

ثم قال : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ..). الآية ، من غير أن ذكر فطرا ، فلا أشار إلى ما ذكر من السفر والمرض اللذين جعلا له تأخير الصيام إلى أيام أخر ، ولا أشار إلى أعين تلك الأيام.

وكذلك قال مثله فيما كان عرف الوقت لابتداء الصيام بقوله عزوجل : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) على أثر المعرف له بقوله عزوجل : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ، لكن الفطر يعرف أنه مضمر فيه بالعقل والسمع :

فأما السمع : فما جاء من الآثار فى الإذن بالإفطار للسفر والمرض ؛ دل أن فى ذكر العدة (مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) إضمار فطر. والله أعلم.

والعقل : أن الله تعالى جعل المرض والسفر سببى الرخص ، فلا يجوز أن يصيرا سببى زيادة فرض على ما كان قبل اعتراضهما ، على أن قوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) دليل أنه لو كان يلزم القضاء مع فرض فعل الصوم لكان ذلك عسرا وحرجا فى الدين ، وقد أخبر الله تعالى أنه ما يجعل علينا الحرج فى الدين.

وعلى ذلك قال بعض الناس : يلزمهما القضاء إن أفطرا أو لا ، محتجّا بما لم يذكر فى القرآن الإفطار ، وذكر (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) كأنه جعل الوقت لهما غير الذى هو لغيرهما.

يؤيد ذلك المروى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الصائم فى السفر كالمفطر» (١) ،

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه (٣ / ١٦٤) كتاب الصيام ، باب ما جاء فى الإفطار فى السفر (١٦٦٦) من طريق ـ

٣٣

ومعلوم أن على المفطر فى الحضر القضاء. فكذلك الصائم فى السفر.

ولكن الآية عندنا على الإضمار ، وعلى ذلك يجرى ذكر الرخص على إثر ذكر الحضر (١) ، كقوله عزوجل : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة : ١٧٣] من غير ذكر الأكل أنه على إباحته.

وقال الله عزوجل : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ، ثم قال عزوجل : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) [البقرة : ١٩٦] ولم يذكر منه الإحلال ، لكنه معلوم أنه على الشك ما لم يوجد ؛ إذ لا يكون العذر سبب الزيادة فى الفرض. وكذلك قوله عزوجل : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) [البقرة : ١٩٦] ، ثم قال عزوجل : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ ..). الآية [البقرة : ١٩٦] ، وذلك على إطلاق الحلق ، ثم يلزمه الفداء ؛ لأن الأذى والمرض يلزمانه. فمثله الأول.

ثم الأصل : أنه لا أحد يلزم فرض صيام الشهر فى غيره إذا لم يدرك الشهر ، وقد أمر من نحن فى ذكره ؛ فبان أنه لزمه بإدراك الشهر لإدراك وقت الإمكان بلا عذر. وقال : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ، وقال : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) ليعلم أن الذى يلزمه بالشهر فى أوقات الإمكان. وذلك على ما يلزم الإحداث الطهارة لأوقات عبادة لا تقوم دونها ، وفعل الجنابات لأوقات الحلول وإن تأخرت فمثله أمر الشهر.

دليله ما بينا ، وما ثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن صحابته : فعل الصيام فى ذلك الوقت والفطر جميعا ؛ ثبت أن الصوم يجوز على المرض والسفر ؛ إذ هما لأنفسهما لا يناقضان الصيام بما جاز معهما ، وقد أمر به المتمتع وهو المسافر ، أن ليس ذلك على حاضرى المسجد الحرام ، وذابح الصيد والمبادئ (٢) بهما لا يضادان الصيام ، ثم كان القضاء عن الشهر بظاهر التلاوة ؛ فبان أنه يجوز فيهما.

__________________

 ـ أسامة بن زيد عن ابن شهاب عن أبى سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن بن عوف قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صائم رمضان فى السفر كالمفطر فى الحضر».

قال البوصيرى : هذا إسناد ضعيف ومنقطع ، أسامة بن زيد هو ابن أسلم ضعيف ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه شيئا قاله ابن معين والبخارى.

قلت : وللحديث طريق أخرى ، أخرجه النسائى (٤ / ١٨٣) ، كتاب الصيام ، باب قوله : «الصائم فى السفر كالمفطر فى الحضر» ، من طريق ابن أبى ذئب عن الزهرى عن أبى سلمة عن عبد الرحمن ابن عوف موقوفا.

(١) فى أ : الخطر.

(٢) فى أ : والمنادى.

٣٤

وإذا جاز ثبت أن التأخير رخصة والفضل فى الفعل. والله أعلم.

والخبر على من يجهده الصيام حتى خيف عليه ، وكذلك ما جاء من الآثار : «أن ليس من البر الصيام فى السفر» (١). والله أعلم.

وعلى هذا يخرج قول أصحابنا فى المكره على الفطر (٢) : أنه إن كان مريضا أو مسافرا

__________________

(١) أخرجه البخارى (٤ / ١٨٣) كتاب : الصوم ، باب : قول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن ظلل عليه واشتدّ الحر : «ليس من البر الصوم فى السفر» ، حديث (١٩٤٦) ، ومسلم (٢ / ٧٨٦) كتاب : الصيام ، باب : جواز الصوم والفطر فى شهر رمضان للمسافر فى غير معصية ... ، حديث (٩٢ / ١١١٥) ، وأبو داود (٧٩٦٢) كتاب : الصوم ، باب : اختيار الفطر ، حديث (٢٤٠٧) ، والنسائى (٤ / ١٧٥) كتاب : الصيام ، باب : العلة التى من أجلها قيل ذلك ، وذكر الاختلاف على محمد بن عبد الرحمن فى حديث جابر بن عبد الله فى ذلك ، والطيالسى (١ / ١٨٩) كتاب : الصيام ، باب : الرخصة فى الفطر للمسافر فى رمضان حديث (٩١٠) ، وأحمد (٣ / ٢٩٩) ، والدّارمى (٢ / ٩) كتاب : الصوم ، باب : فى السفر ، والطحاوى فى شرح معانى الآثار (٢ / ٦٢) كتاب : الصيام فى السفر ، وأبو نعيم فى الحلية (٧ / ١٥٩) ، والبيهقى (٤ / ٢٤٢) كتاب : الصيام ، باب : تأكيد الفطر فى السفر إذا كان يجهده الصوم ، والخطيب (١٢ / ١١٨) ، وابن خزيمة (٣ / ٢٥٤) ، وأبو يعلى (٣ / ٤٠٣) ، وابن الجارود فى المنتقى رقم (٣٩٩) من حديث جابر.

(٢) الإكراه : هو حمل الإنسان غيره ، على فعل أو ترك ما لا يرضاه بالوعيد. ومذهب الحنفية والمالكية أن من أكره على الفطر فأفطر قضى. قالوا : إذا أكره الصائم بالقتل على الفطر ، بتناول الطعام فى شهر رمضان ، وهو صحيح مقيم فمرخص له به ، والصوم أفضل ، حتى لو امتنع من الإفطار حتى قتل ، يثاب عليه ؛ لأن الوجوب ثابت حالة الإكراه ، وأثر الرخصة فى الإكراه هو سقوط المأثم بالترك ، لا فى سقوط الوجوب ، بل بقى الوجوب ثابتا ، والترك حراما ، وإذا كان الوجوب ثابتا ، والترك حراما ، كان حق الله تعالى قائما ، فهو بالامتناع بذل نفسه لإقامة حق الله تعالى ؛ طلبا لمرضاته ، فكان مجاهدا فى دينه ، فيثاب عليه. وأما إذا كان المكره مريضا أو مسافرا ، فالإكراه ـ كما يقول الكاسانى ـ حينئذ مبيح مطلق ، فى حق كل منهما ، بل موجب ، والأفضل هو الإفطار ، بل يجب عليه ذلك ، ولا يسعه ألا يفطر ، حتى لو امتنع من ذلك ، فقتل ، يأثم. ووجه الفرق : أن فى الصحيح المقيم كان الوجوب ثابتا قبل الإكراه من غير رخصة الترك أصلا ، فإذا جاء الإكراه ـ وهو سبب من أسباب الرخصة ـ كان أثره فى إثبات رخصة الترك ، لا فى إسقاط الوجوب. وأما فى المريض والمسافر ، فالوجوب مع رخصة الترك ، كان ثابتا قبل الإكراه ؛ فلا بد أن يكون للإكراه أثر آخر لم يكن ثابتا قبله ، وليس ذلك إلا إسقاط الوجوب رأسا ، وإثبات الإباحة المطلقة ؛ فنزل منزلة الإكراه على أكل الميتة ، وهناك يباح له الأكل ، بل يجب عليه ؛ فكذا هنا. وفرق الشافعية بين الإكراه على الأكل أو الشرب ، وبين الإكراه على الوطء : فقالوا فى الإكراه على الأكل : لو أكره حتى أكل أو شرب لم يفطر ، كما لو أوجر فى حلقه مكرها ؛ لأن الحكم الذى يبنى على اختياره ساقط لعدم وجود الاختيار. أما لو أكره على الوطء زنّى ، فإنه لا يباح بالإكراه ، فيفطر به ، بخلاف وطء زوجته. واعتمد العزيزى الإطلاق ، ووجّهه بأن عدم الإفطار لشبهة الإكراه على الوطء ، والحرمة من جهة الوطء ، فعلى هذا يكون الإكراه على الإفطار مطلقا بالوطء والأكل والشرب ، إذا فعله المكره لا يفطر به ، ولا يجب عليه القضاء إلا فى الإكراه على الإفطار بالزنى ؛ فإن فيه وجها بالإفطار والقضاء عندهم. وهذا الإطلاق عند الشافعية ، هو مذهب الحنابلة أيضا : فلو أكره على الفعل ، أو فعل به ما أكره عليه ، بأن صب فى حلقه مكرها أو نائما ، كما لو أوجر المغمى عليه معالجة لا ـ

٣٥

لا يسعه ألا يفطر لما جاء فى ذلك من الوعيد فى الفعل فى السفر فى حال الضرورة ، ويسعه لو كان صحيحا مقيما لما لم يذكر له الرخصة ، ويلزمه فيه القضاء ، مع ما فيه ؛ إذ لم يكن ظهر الإذن فى تلك الحال كان كفه عنه تعظيما لأمر دينه ، من غير أن ذكر له فى الدين النهى عنه ، فهو فى سعة ، وليس كالمكره على أكل الميتة ، ما ليس ذلك بذى بدل. وقد فرق بين ذى بدل وما لا بدل له ، نحو إتلاف مال آخر ، وأكل الميتة ، ولأن علته الاضطرار وليست علة الفطر فى السفر تلك ، إذ قد يجوز ، لا له ، فهو عذر النفس ، لا ضرورة النفس ؛ فكأنه غير معقول العلة ، وفيه تعظيم الدين. وليس فى أكل الميتة وما ذكر. ولا قوة إلا بالله.

ثم السفر الذى له الرخص (١) : أجمع أنه لم يرد به المكان ، لما جاء الفطر فى الأمصار ، ثبت أنه لنفس السفر.

ثم كان السفر ـ حقيقته الظهور [و] الخروج عن الأوطان ، وقد يكون مثله فى الخروج عن الأوطان إلى الضياع ونحوه ، ولم يؤذن فى الفطر ؛ ثبت أنه راجع إلى الحد ، وعلى ذلك متفق القول.

ثم كان الحد المرخص عندنا : الخروج على قصد سفر ثلاثة أيام لخصال ثلاث :

أحدها : الإجماع على أن هذا الحد مرخص ودونه تنازع. والتنازع يوجب النظر ؛ لا الفتوى (٢) بالرخص ، وفى ذلك أمر بفعل الصيام.

والثانى : مجىء الخبر من وجهين :

أحدهما : فى تقدير مسح السفر بثلاثة أيام ، ومعلوم أنه جعل للسفر حدّا ووقتا لفعل رخصة المسح وأوقات الأفعال على اختلافها. يتفق على أنها لا تقصر عن احتمال الأفعال على الوفاء ، وليس بما لم يدخل الليالى فى حق السفر عبرة ؛ لأن الأسفار وإن كانت مؤسسة على قطع الطرق والسير فيها ، فإن دوام السير يجحف صاحبه ويهلكه ، وفى ذلك منع السفر ؛ ثبت أن أوقات السعى والسير مشترطة داخلة فى حق السفر.

لذلك صارت الليالى كالمعفوة ، فتكون محيطة بما فيها من فعل المسح.

والثانى : ما جاء من الأثر فى النهى عن سفر ثلاثة أيام إلا لمحرم (٣). وهو المنهى لما

__________________

 ـ يفطر ، ولا يجب عليه القضاء ؛ لحديث : «وما استكرهوا عليه».

ينظر : البدائع (٢ / ٩٦ ، ٩٧) ، والإقناع وحاشية البيجرمى (٢ / ٣٢٩) ، وكشاف القناع (٢ / ٢٢٠)

(١) فى أ : المرخص.

(٢) فى ط : للفتوى.

(٣) ورد من حديث ابن عمر ، وأبى هريرة ، وأبى سعيد الخدرى ، وابن عباس. ـ

٣٦

جاء به النهى ، وفيما دونه تنازع ، لم يوجب الرخصة للإشكال فى حق التمام لما له الرخصة على ما كان لما له النهى. والله أعلم.

والوجه الثالث : أن السفر عذر ، والنهايات فى الأعذار الثلاث ، فكذلك بالأيام ؛ إذ بها يسافر. وقال موسى عليه‌السلام : (قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) [الكهف : ٧٦].

وأما المرض فلم يجز أن يكون اسمه سببا للرخصة ؛ إذ ربما كان المرض يخفف الصيام ويسهل عليه سبيل فعله.

ومن البعيد الترخيص بما يسهل فيه الفعل ، والتضييق (١) لما يشتد ؛ فثبت أنه ليس لاسم المرض. وعلى ذلك الإجماع فهو ـ والله أعلم ـ لما يخاف أن يزداد له بترك الأكل الداء ، ويقبح على المرء اكتساب الداء وتعاطى الضارية ، فرخص له الفطر بذلك ، وذلك معنى البشرية ، إذ به تخفيف ما به أو منع ، أو ما يعتريه من الضرر ، ولهذا ما رخص أصحابنا لمن به رمد يخاف الزيادة فيه.

وقد روى عن أنس بن مالك ، رضى الله تعالى عنه ، أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يفطر المريض

__________________

 ـ حديث ابن عباس :

أخرجه البخارى (٦ / ١٤٢ ـ ١٤٣) كتاب : الجهاد ، باب : من اكتتب فى جيش ، فخرجت امرأته حاجة أو كان له عذر هل يؤذن له؟ حديث (٣٠٠٦) ، ومسلم (٢ / ٩٧٨) كتاب : الحج ، باب : سفر المرأة مع محرم إلى حج أو غيره حديث (٤٢٤ / ١٣٤١) ، وأحمد (١ / ٢٢٢) ، والطيالسى (١ / ١٢٤ ـ منحة) رقم (٥٨٣) ، وأبو يعلى (٤ / ٢٧٩) رقم (٢٣٩١) ، وابن خزيمة (٢٥٢٩) ، والطحاوى فى شرح معانى الآثار (٢ / ١١٢) ، وابن حبان (٣٧٦٣ ، ٣٧٦٤ ـ الإحسان) من طريق عمرو عن أبى معبد عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يخلون رجل بامرأة ولا تسافر امرأة ، إلا ومعها ذو محرم».

حديث أبى سعيد الخدرى :

أخرجه البخارى (٤ / ٧٣) كتاب : جزاء الصيد ، باب : حج النساء ، حديث (١٨٦٤) ، ومسلم (٢ / ٩٧٥ ، ٩٧٦) كتاب : الحج ، باب : سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره ، حديث (٤١٥ ، ٤١٦ / ٨٢٧). وأحمد (٣ / ٣٤ ، ٧١) ، والحميدى (٧٥٠) ، وأبو يعلى (٢ / ٣٨٨ ـ ٣٨٩) رقم (١١٦٠) من طريق قزعة عن أبى سعيد الخدرى مرفوعا بلفظ : «لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها زوجها أو ذو محرم منها».

وأخرجه أبو داود (١ / ٥٣٩) كتاب : المناسك ، باب : فى المرأة تحج بغير محرم ، حديث (١٧٢٦) ، والترمذى (٣ / ٤٧٢) كتاب : الرضاع ، باب : كراهية أن تسافر المرأة وحدها حديث (١١٦٩) من طريق الأعمش عن أبى صالح عن أبى سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها أبوها أو أخوها أو زوجها أو ابنها أو ذو محرم منها».

وقال الترمذى : حسن صحيح.

(١) فى ب : والنفيس.

٣٧

والحبلى إذا خافت أن تضع ولدها ، والمرضع إذا خافت الفساد على ولدها» (١) ثبت أن الرخصة لما يخاف من فساد ينزل (٢). ولا قوة إلا بالله.

__________________

(١) أخرجه أحمد (٥ / ٢٩) ، وأبو داود (٢ / ٧٩٦ ، ٧٩٧) كتاب : الصوم ، باب : اختيار الفطر ، الحديث (٢٤٠٨) ، والترمذى (٢ / ١٠٩) كتاب : الصوم ، باب : الرخصة فى الإفطار للحبلى والمرضع الحديث (٧١١) ، وابن ماجه (١ / ٥٣٣) كتاب : الصيام ، باب : الإفطار للحامل والمرضع ، الحديث (١٦٦٧) ، والطحاوى فى «شرح معانى الآثار» (١ / ٤٢٣) كتاب : الصلاة ، باب : صلاة المسافر ، والبيهقى (٣ / ١٥٤) كتاب : الصلاة ، باب : السفر فى البحر كالسفر فى البر ، كلهم من طريق عبد الله بن سوادة عن أنس بن مالك رجل من بنى عبد الله بن كعب ، قال : «أغارت علينا خيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوجدته يتغدى ، فقال : ادن فكل ، فقلت : إنى صائم ، فقال : ادن أحدثك عن الصّوم ؛ أو الصيام ، إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة ، وعن الحامل أو المرضع الصوم ؛ أو الصيام ، والله لقد قالهما النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلتيهما أو أحدهما ، فيا لهف نفسى ألا أكون طعمت من طعام النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال الترمذى : (حديث حسن ، ولا نعرف لأنس بن مالك هذا عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير هذا الحديث الواحد).

(٢) الفقهاء متفقون على أن الحامل والمرضع لهما أن تفطرا فى رمضان ، بشرط أن تخافا على أنفسهما أو على ولدهما المرض أو زيادته ، أو الضرر أو الهلاك ، فالولد من الحامل بمنزلة عضو منها ؛ فالإشفاق عليه من ذلك كالإشفاق منه على بعض أعضائها. قال الدردير : ويجب ـ يعنى الفطر ـ إن خافتا هلاكا أو شديد أذى ، ويجوز إن خافتا عليه المرض أو زيادته. ونص الحنابلة على كراهة صومهما ، كالمريض. ودليل ترخيص الفطر لهما قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وليس المراد من المرض صورته ، أو عين المرض ، فإن المريض الذى لا يضره الصوم ليس له أن يفطر ، فكان ذكر المرض كناية عن أمر يضر الصوم معه ، وهو معنى المرض ، وقد وجد هاهنا ، فيدخلان تحت رخصة الإفطار. وصرح المالكية بأن الحمل مرض حقيقة ، والرضاع فى حكم المرض ، وليس مرضا حقيقة. وكذلك ـ من أدلة ترخيص الفطر لهما ـ حديث أنس بن مالك الكعبى ـ رضى الله تعالى عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ، وعن الحامل أو المرضع الصوم أو الصيام» ، وفى لفظ بعضهم : «عن الحبلى والمرضع». وإطلاق لفظ الحامل يتناول ـ كما نص القليوبى ـ كل حمل ، ولو من زنّى ، وسواء أكانت المرضع أما للرضيع أم كانت مستأجرة لإرضاع غير ولدها ، فى رمضان أو قبله ، فإن فطرها جائز ، على الظاهر عند الحنفية ، وعلى المعتمد عند الشافعية ، بل لو كانت متبرعة ولو مع وجود غيرها ، أو من زنى ، جاز لها الفطر مع الفدية. وقال بعض الحنفية ، كابن الكمال والبهنسى : تقيد المرضع بما إذا تعينت للإرضاع ، كالظئر بالعقد ، والأم بأن لم يأخذ ثدى غيرها ، أو كان الأب معسرا ؛ لأنه حينئذ واجب عليها ، لكن ظاهر الرواية خلافه ، وأن الإرضاع واجب على الأم ديانة مطلقا وإن لم تتعين ، وقضاء إذا كان الأب معسرا ، أو كان الولد لا يرضع من غيرها. وأما الظئر فلأنه واجب عليها بالعقد ، ولو كان العقد فى رمضان ، خلافا لمن قيد الحل بالإجارة قبل رمضان ، كما قال بعض الشافعية ـ كالغزالى ـ : يقيد فطر المرضع ، بما إذا لم تكن مستأجرة لإرضاع غير ولدها ، أو لم تكن متبرعة ، لكن المعتمد المصحح عندهم خلافه ، قياسا على السفر فإنه يستوى فى جواز الإفطار به من سافر لغرض نفسه ، وغرض غيره ، بأجرة وغيرها.

ينظر : الشرح الكبير (١ / ٥٣٦) ، جواهر الإكليل (١ / ١٥٣) ، البدائع (٢ / ٩٧) ، كشاف القناع (٢ / ٣١٣).

٣٨

وعن عبد الله بن عمر ، رضى الله تعالى عنهما ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من مات من طعام أو شراب وهو يقدر فله النار» وبالله المعونة.

وقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ).

قال قائلون : يطيقون الفداء. وذلك فى الأمر الأول فى المسافر والمريض أن له أن يقضى فى أيام أخر ، وأن يفدى. وفيه : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) ، أى : أن تقضوا الصيام ـ والله أعلم ـ إذ قد يحتمل أيضا أن كانت الرخصة من قبل فيمن عليه بالخيار بين أن يصوم وبين أن يفدى ، والصوم خير على ما ذكر فى الآية ، ثم نسخ ذلك ، إن كان على التأويل الأول بقوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ..). الآية ، أنه ألزم القضاء على كل حال ، وان كان الثانى فقوله : (فَلْيَصُمْهُ) ، أنه ألزم الفعل على حال ، وبمثل ذلك خبر معاذ فى إحالة الصيام (١) : أنه كان للمرء خيار بين الفطر والفداء وبين الصيام ، ثم نسخ.

فى قوله : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) على أثر ذكر السفر والمرض دلالة جعل الصيام فى السفر (٢) خيرا من الفطر والفداء فى غيره ، وإن احتمل الذى ذكرت. والله أعلم.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ذهب الأئمة الأربعة ، وجماهير الصحابة والتابعين إلى أن الصوم فى السفر جائز صحيح منعقد ، وإذا صام وقع صيامه وأجزأه. وروى عن ابن عباس وابن عمر وأبى هريرة ـ رضى الله عنهم ـ أنه غير صحيح ، ويجب القضاء على المسافر إن صام فى سفر. وروى القول بكراهته. والجمهور من الصحابة والسلف ، والأئمة الأربعة ، الذين ذهبوا إلى صحة الصوم فى السفر ، اختلفوا بعد ذلك فى أيهما أفضل : الصوم أم الفطر ، أو هما متساويان؟

فمذهب الحنفية والمالكية والشافعية ، وهو وجه عند الحنابلة : أن الصوم أفضل ، إذا لم يجهده الصوم ولم يضعفه ، وصرح الحنفية والشافعية بأنه مندوب. قال الغزالى : والصوم أحب من الفطر فى السفر ؛ لتبرئة الذمة ، إلا إذا كان يتضرر به. وقيد القليوبى الضرر بضرر لا يوجب الفطر. واستدلوا لذلك بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) إلى قوله : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ)؛ فقد دلت الآيات على أن الصوم عزيمة والإفطار رخصة ، ولا شك فى أن العزيمة أفضل ، كما تقرر فى الأصول ، قال ابن رشد : ما كان رخصة ، فالأفضل ترك الرخصة. وبحديث أبى الدرداء المتقدم قال : «خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى شهر رمضان ، فى حر شديد ... ما فينا صائم إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعبد الله بن رواحة». وقيد الحدادى ـ صاحب الجوهرة من الحنفية ـ أفضلية الصوم ـ أيضا ـ بما إذا لم تكن عامة رفقته مفطرين ، ولا مشتركين فى النفقة ، فإن كانوا كذلك ، فالأفضل فطره موافقة للجماعة.

ومذهب الحنابلة : أن الفطر فى السفر أفضل ، بل قال الخرقى : والمسافر يستحب له الفطر ، قال المرداوى : وهذا هو المذهب. وفى (الإقناع) : والمسافر سفر قصر يسن له الفطر ، ويكره صومه ولو لم يجد مشقة ، وعليه الأصحاب ، ونص عليه ، سواء وجد مشقة أو لا ، وهذا مذهب ابن عمر وابن عباس ـ رضى الله عنهم ـ وسعيد والشعبى والأوزاعى. واستدل هؤلاء بحديث جابر ـ رضى الله تعالى عنه ـ : «ليس من البر الصوم فى السفر» ، وزاد فى رواية : «عليكم برخصة الله التى رخص لكم ـ

٣٩

ثم الدلالة على النسخ فى الوجه الذى ذكرت. ومتفق القول على أن المطلق لم يكن له الخروج من ذلك بالفداء. فبذلك (١) عرف النسخ مع ما ثبت من قطع الآية على القضاء فى أحد الوجهين ، وفعل الصيام فى الآخر.

وعلى ذلك معتبر القول (٢) فى الشيخ الفانى الذى لا يقوم للقضاء أن له الفطر والفداء ؛ لأن الصوم قد ثبت أنه يحتمل الوفاء بالفداء لكن نسخ بالصيام ، فإذا ارتفع الصيام بالعجز عمن يحتمل الخطاب بعبادات الأموال وهم المشايخ ، جاز أن يخاطبوا بالصيام ليخرجوا عنه بالفداء. وعلى ذلك ما جاء فى الأثر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأمر بالصيام عن الميت (٣) ، أنه الصيام الذى هو صيام من لا يحتمل فعله وهو الفداء. والله أعلم.

وقد قرئ (٤) (يطوّقونه) بمعنى يكلّفونه ، ولا يطيقونه ، لكن فى الآية (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) ولو كان «لا يطيقونه» : لا يرغبون فيه ، إلا أن يشترط فيه طاقة الجهد. والله أعلم.

وقوله عزوجل : (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً).

من زيادة فداء ، وما يستزيد من الخيرات التى لم يفترض ليعوّد به الخير. أو (تَطَوَّعَ) فيما أذن له فى الفداء بالصوم. والله أعلم.

__________________

 ـ فاقبلوها». قال المجد : وعندى لا يكره لمن قوى ، واختاره الآجرى.

قال النووى والكمال بن الهمام : إن الأحاديث التى تدل على أفضلية الفطر ، محمولة على من يتضرر بالصوم ، وفى بعضها التصريح بذلك ، ولا بد من هذا التأويل ؛ ليجمع بين الأحاديث ، وذلك أولى من إهمال بعضها ، أو ادعاء النسخ ، من غير دليل قاطع. والذين سووا بين الصوم وبين الفطر ، استدلوا بحديث عائشة ـ رضى الله عنها ـ أن حمزة بن عمرو الأسلمى ـ رضى الله تعالى عنه ـ قال للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أأصوم فى السفر؟ ـ وكان كثير الصيام ـ فقال : «إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر».

ينظر : الدر المختار (٢ / ١١٧) ، حاشية القليوبى (٢ / ٦٤) ، الوجيز (١ / ١٠٣) ، الهداية وفتح القدير (٢ / ٢٧٣).

(١) فى أ : فذلك.

(٢) فى ب : القوم.

(٣) أخرجه البخارى (٤ / ١٩٢) كتاب : الصيام ، باب : من مات وعليه صوم ، حديث (١٩٥٢) ، ومسلم (٢ / ٨٠٣) كتاب : الصيام ، باب : قضاء الصيام عن الميت ، حديث (١٥٣ / ١١٤٧) ، وأبو داود (٢ / ٧٩١ ـ ٧٩٢) كتاب : الصوم ، باب : فيمن مات وعليه صيام ، حديث (٢٤٠٠) ، والنسائى فى الكبرى (٢ / ١٧٥) رقم (٢٩١٩) ، وأحمد (٦ / ٩٦) ، وابن الجارود فى المنتقى رقم (٩٤٣) ، والطحاوى فى «مشكل الآثار» (٣ / ١٤٠ ـ ١٤١) ، وأبو يعلى (٧ / ٣٩١) رقم (٤٤١٧) ، وابن خزيمة (٢٠٥٢) وابن حبان (٣٥٧٤ ـ الإحسان) ، والدارقطنى (٢ / ١٩٤ ـ ١٩٥) ، والبيهقى (٤ / ٢٥٥) كتاب : الصيام ، باب : من قال : يصوم عنه وليه ، والبغوى فى شرح السنة (٣ / ٥٠٩) ، وابن حزم فى المحلى (٧ / ٢) من حديث عائشة.

(٤) ينظر : الدر المصون (١ / ٤٦٢) ، والمحرر الوجيز (١ / ٢٥٢) ، والبحر المحيط (٢ / ٤١).

٤٠