تأويلات أهل السنّة - ج ٢

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة - ج ٢

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٧٣

وقوله : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ).

قيل فيه بوجوه :

قيل : (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ) ، أى يقتل النساء ، وهن حرث ، كقوله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢٢٣] ، وفى إهلاك النساء إهلاك [النسل](١).

وقيل (٢) : أراد بالحرث : الحرث نفسه ـ وهو الزرع ، والنسل والدواب ـ يحرق الحرث ، ويعقر الدواب وكل حيوان.

وقيل (٣) : إنهم كانوا يسعون بالفساد ويعملون بالمعاصى ، فيمسك الله تعالى عنهم المطر ، فيهلك كل شىء من الناس وغيرهم.

ويحتمل (٤) : (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ) ، قتل ولد آدم ، وفى إهلاكهم إهلاك كل حرث ؛ لأنهم هم الذين يحرثون ويتناسلون. والله أعلم.

وقوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) ، ظاهر.

وقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ).

(قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ). عن صنيعك ، وهو السعى فى الأرض بالفساد ، حملته الحمية على الإثم تكبرا منه. قال الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) ، يقول ـ والله أعلم ـ : أعرض عنه ، واتركه وصنيعه ، فإن جهنم مصيره ومأواه.

وروى عن عبد الله بن مسعود ، رضى الله تعالى عنه ، أنه قال : «إن أبغض الناس من يقال له : اتق الله ، فيقول : عليك نفسك» (٥).

وقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ).

يحتمل : (يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ) أى يهلك نفسه ، أى يبيع نفسه فى عبادة الله تعالى وطاعته. فذلك شراؤه إياها.

ويحتمل : (يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ) أى يبذل نفسه للجهاد فى سبيل الله ، وهو كقوله :

__________________

 ـ (١ / ٤٢٨).

(١) سقط فى ط.

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه وكيع والفريابى وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم كما فى الدر المنثور (١ / ٤٢٩).

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٣٩٨٥) ، وابن أبى حاتم كما فى الدر المنثور (١ / ٤٢٩).

(٤) قاله ابن جريج ، أخرجه ابن جرير عنه (٣٩٨٦).

(٥) أخرجه وكيع وابن المنذر والطبرانى والبيهقى فى الشعب كما فى الدر المنثور (١ / ٤٣٠).

١٠١

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) [التوبة : ١١١] ، فهؤلاء بذلوا أنفسهم لذلك بتفضيل الله عزوجل ببذل الجنة لهم ، فهو الشراء. والله أعلم. وهو ما روى أن أبا بكر الصديق ، رضى الله تعالى عنه ، ألقى نفسه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما هم المشركون بقتله.

وفيه دلالة أن أبا بكر الصديق ، رضى الله تعالى عنه ، كان أشجع الصحابة وأصلبهم ، وإن كان ضعيفا فى نفسه ، لما لم يتجاسر أحد من الصحابة على مثله. وما روى أيضا أنه خرج لمقاتلة أهل الردة وحده. فدل هذا كله أنه كان أشجعهم وأصلبهم فى الدين.

وقيل (١) : إن هذه الآية نزلت فى صهيب (٢) ، ابتاع دينه بأهله وماله على ذلك والله أعلم.

وقوله : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)

يحتمل : أن أراد كل العباد ، وهو أن الكافر إذا أسلم وأخلص دينه لله تعالى يتغمده فى رحمته ويقبل منه ذلك ، ويتجاوز عنه عما كان منه فى الشرك والكفر. والله أعلم.

ويحتمل : أن أراد بالعباد : المؤمنين خاصة ، رحيم بهم.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٢١٢)

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً).

(السِّلْمِ) ، فيه لغتان : بالكسر والنصب. فمن قرأ (٣) ذلك بالكسر فهو الإسلام.

__________________

(١) قاله سعيد بن المسيب ، أخرجه ابن سعد والحارث بن أبى أسامة فى مسنده وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو نعيم فى الحلية وابن عساكر عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٤٣٠).

(٢) هو : صهيب بن سنان الرومى أبو يحيى النمرى ، سبته الروم فابتاعته كلب ، فقدمت به مكة ، فابتاعه ابن جدعان فأعتقه ، صحابى مشهور. شهد بدرا. له أحاديث. انفرد له البخارى بحديث ومسلم بثلاثة. وعنه ابن عمر ، وابن أبى ليلى ، وابن المسيب. قال ابن سعد : مات بالمدينة سنة ثمان وثلاثين. وقال يعقوب بن سفيان : سنة أربع ، وصلى عليه سعد. ينظر : الخلاصة (١ / ٤٧٢) (٣١١٦).

(٣) ينظر : اللباب (٣ / ٤٧٣ ، ٤٧٤) ، والدر المصون (١ / ٥١٠) ، والبحر المحيط (٢ / ١١٨) ، والسبعة ـ

١٠٢

ومن قرأ ذلك بالنصب فهو الصلح ؛ كقوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ..). [الحجرات : ٩] إلى آخر الآية.

فإن قيل : كيف أمر بالدخول ، وهم فيه ؛ لأنه خاطب المؤمنين بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)؟

قيل : بوجوه :

أحدها : أنه يحتمل قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بألسنتهم ، آمنوا بقلوبكم.

ويحتمل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ببعض الرسل من نحو عيسى ، وموسى ، وغيرهم من الأنبياء ، آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : أمره إياهم بالدخول أمر بالثبات عليه.

وقيل : إنه تعالى إنما أمرهم [بالدخول](١) فيه ؛ لأن للإيمان حكم التجدد والحدوث فى كل وقت ، لأنه فعل ، والأفعال تنقضى ولا تبقى ، كأنه قال : يا أيها الذين آمنوا فيما مضى من الأوقات ، آمنوا فى حادث الأوقات. وعلى هذا يخرج تأويل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) [النساء : ١٣٦].

وقوله : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)

قد ذكرنا تأويله فيما تقدم.

وقوله : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ).

أى : ملتم وتركتم من بعد ما ظهر لكم الحق.

وقوله : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)

قيل : (عَزِيزٌ) أى منتقم بميلكم وترككم الحق بعد الظهور.

ويحتمل : (عَزِيزٌ) ، أى غنى عن طاعتكم له وعبادتكم إياه.

وقيل : (عَزِيزٌ) ، من أن يقهر أو يذل أو يغلب ؛ لأن العزيز نقيض الذليل.

وقيل : (عَزِيزٌ) ، لا يقدر أحد أن يصل إليه ، أو يقهره إلا ذل (٢) بنفسه ، كما يقال : عزيز لا يرام.

وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ

__________________

 ـ ص (١٨١) ، والعنوان ص (٧٣) ، وشرح الطيبة (٤ / ٩٥ ، ٩٦).

(١) سقط فى أ.

(٢) فى ط : الإذلال.

١٠٣

تُرْجَعُ الْأُمُورُ).

قيل فيه بوجوه :

قيل : (أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) بأمره. وهو قول الحسن.

وقيل : (يَأْتِيَهُمُ اللهُ) ، أى أمر الله ؛ وهو كقوله : (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) [النحل : ٣٣] ، وكقوله : (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) [الأنعام : ١٥٨] على إضمار الأمر فيه.

وقيل : قوله : (فِي ظُلَلٍ) ، فى بمعنى (الباء) ، وكأنه قال : يأتيهم الله بظلل من الغمام ، وذلك جائز ـ استعمال (فى) مكان (الباء) ؛ لأنهما جميعا من حروف الخفض ، والعرب تفعل ذلك ولا تأبى.

والأصل فى هذا ونحوه : أن إضافة هذه الأشياء إلى الله ـ عزوجل ـ لا توجب حقيقة وجود تلك الأشياء منه على ما يوجد من الأجسام ، لما يجوز إضافته إلى ما لا يوجد منه تحقيق ذلك ، نحو ما يقال : جاءنى أمر فظيع ، و (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) [الإسراء : ٨١] ، وجاء فلان بأمر كذا ، وجاءكم رسول. فذكر المجىء والإتيان لا على تحقيق وجود ذلك منه ، فعلى ذلك يخرج ما أضاف الله ـ عزوجل ـ إلى نفسه من المجىء والإتيان والاستواء ، [ليس على تحقيق المجىء والإتيان والاستواء](١) منه على ما يكون من الأجسام.

وفى الشاهد أن ملوك الأرض يضيفون إلى أنفسهم ما عمل بأمرهم من غير أن يتولوها بأنفسهم. وكذلك أضاف جل ذكره أمر القيامة إلى نفسه لفضل ذلك الأمر.

ثم الأصل : أن الإتيان والانتقال والزوال فى الشاهد إنما يكون لخلتين : إما لحاجة بدت ، فيحتاج إلى الانتقال من حال إلى حال ، والزوال من مكان إلى مكان ليقضيها. أو لسآمة ووحشة تأخذه ، فينتقل من مكان إلى مكان لينفى عن نفسه ذلك. وهذان الوجهان فى ذى المكان ، والله ـ تعالى ـ يتعالى عن المكان ، كان ولا مكان فهو على ما كان. فالله ـ تعالى ـ يتعالى عن أن تمسه حاجة أو تأخذه سآمة. فبطل الوصف بالإتيان والمجىء والانتقال من حال إلى حال أو من مكان إلى مكان. وبالله التوفيق.

وقيل : إن النص قد ورد بالاستواء والمجىء ، و [ورد](٢) الخبر بالنزول ، والرؤية. ثم قد ورد السمع بأن (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ، لزم نفى التشبيه فيما ورد عن ذاته ، ولزم الإقرار بما جاء من عنده من غير طلب الكيفية له والتفسير. فالسبيل فيه الإيمان

__________________

(١) سقط فى ط.

(٢) سقط فى ط.

١٠٤

بالتنزيل ، والكف عن التفسير. والله أعلم.

وفى الشاهد الإتيان فى العرض : ظهوره ، وفى الجسم : نقله من مكان إلى مكان ، وهو ـ جل ذكره ـ جل أن يوصف بجسم أو عرض. كذلك إتيانه لا يشبه إتيان الأجسام والأعراض ، ويكون إتيان لا يعرف كيفيته ، وكما جاز أن يكون هو مثبتا بدليل لا يشبهه عرض ولا جسم. والله أعلم.

وقوله : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ).

يحتمل وجوها :

يحتمل : أن يكون أمر الله عزوجل نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بسؤاله إياهم عما آتاهم من الآيات ، على إثر سؤال كان منهم ، بطلب الآيات ، فقال : سلهم يا محمد كم آتيناهم (١) وأجدادهم من الآيات على يدى موسى ، فكفروا به ، ولم يؤمنوا. فأنتم ـ وإن آتيناكم آيات ـ لا تؤمنون أيضا. يخبر نبيه عليه‌السلام أن سؤالهم أن كان سؤال تعنت ، لا سؤال قبول وتصديق. والله أعلم.

ويحتمل : أن يكون لا على إثر سؤال كان منهم ، ولكن على الابتداء أن سل علماء بنى إسرائيل [وأئمتهم كم آتيناهم من آية منه فجحدوها وكتموها وهو كقوله : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ١٩٧]](٢) الآية.

ويحتمل : (سل) ، لا على الأمر به فى التحقيق ، [لكن على التحقيق](٣) والتبيين أنك لو سألتهم لأخبروك.

أو يكون المراد من ذلك فى الذين تضيق صدورهم عند الإخبار أنهم لو جاءتهم الآيات التى سألوا عنها لا يؤمنون ، ليخبروا بذلك فتطمئن لذلك قلوبهم ، فتزول عنها الخطرات وأنواع الوساوس. والله أعلم.

وقوله : (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ).

قيل (٤) : (نِعْمَةَ اللهِ) ، دين الله ، من بدله بعد ظهوره وبيانه.

وقيل (٥) : (نِعْمَةَ اللهِ) ، يعنى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أى : من كفر به بعد ما علم أنه رسول الله.

ويحتمل : (نِعْمَةَ اللهِ) ، النعم المعروفة التى كان آتاهم من المن ، والسلوى ، والغمام

__________________

(١) فى أ : آتينا آباءهم.

(٢) سقط فى ط.

(٣) سقط فى ب.

(٤) قاله ابن جرير بنحوه (٢ / ٣٤٥).

(٥) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ١٨٤).

١٠٥

وغيره مما لم يؤت أحدا من العالمين مثله.

وقوله : (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)

خوفهم عزوجل وحذرهم على تبديل ذلك وتركه والكفر بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد معرفتهم أنه حق. والله أعلم.

ويكون تبديل نعمة الله بتوجيه الشكر إلى غيره ، وهو أن يعبد غيره. والله أعلم.

وقوله : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا)

قال الحسن : زين لهم الشيطان ذلك ، وكذلك قوله تعالى : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) [النمل : ٢٤]. ولكن معناه ـ والله أعلم ـ أى زين لهم [التزيين ثم](١) التزين يكون بوجهين :

يزينه الطبع لقرب الشهوات ، والعقل لقيام الأدلة ، فيكون التزين بالثواب.

وأما ما زين للذين كفروا الحياة الدنيا لما ركب فيهم من الشهوات وميل الطبع إليه.

وأما الوجهان الآخران منهما للمؤمنين.

وقوله : (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ)

يحتمل وجهين :

يحتمل : (فَوْقَهُمْ) ، فى الحجة ، يقول الله تعالى : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) [النساء : ١٤١].

ويحتمل : (فَوْقَهُمْ) ، فى الجزاء والثواب.

وقوله : (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).

يحتمل وجوها :

يحتمل : (بِغَيْرِ حِسابٍ) ، بغير تبعة.

ويحتمل : (بِغَيْرِ حِسابٍ) ، لا على قدر الأعمال ، ولكن على قدر الشهوة وزيادة عليها ؛ لأن رزق الجنة على ما تنتهى إليه الشهوات ، ورزق الدنيا مقدر على قدر الحاجة والقوت ؛ إذ لا أحد يبلغ مناه فى الدنيا وحاجته ، وفى الآخرة كل ينال فوق مناه.

ولأن أكل (٢) الشهوة فى الدنيا هو المؤذى.

ويحتمل : (بِغَيْرِ حِسابٍ) ، أى من غير أن ينقص ذلك عن ملكه وخزائنه ، وإن عظم عطاياه وكثر مناله ، ليس كخزائن المخلوقين تنتقص بالدفع وتنفد. والله أعلم.

__________________

(١) سقط فى ط.

(٢) فى أ : كل.

١٠٦

قوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (٢١٤) يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)(٢١٥)

وقوله : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) قال أبو موسى الأشعرى (١) ، رضى الله تعالى عنه ، وآخر معه من الصحابة ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، قالا : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) كلهم كفار إلى أن بعث الله عزوجل فيهم النبيين.

وقال عبد الله بن مسعود (٢) ـ رضى الله تعالى عنه ـ : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) مؤمنين كلهم زمن نوح ، عليه‌السلام ، الذين كانوا فى السفينة إلى أن اختلفوا من بعد ، فبعث الله فيهم النبيين.

وقال بعضهم : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) مؤمنين كلهم زمن آدم ، عليه الصلاة والسلام ، إلى أن أنزل الله الكتاب عليهم وبعث فيهم الرسل.

ولو قيل بغير هذا كان أقرب.

قوله : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) يعنى صنفا واحدا.

ومعنى الأمة معنى الصنف ، كقوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ

__________________

(١) عبد الله بن قيس بن سليمان بن حضّار بفتح المهملة وتشديد المعجمة الأشعرى أبو موسى ، هاجر إلى الحبشة وعمل على زبيد وعدن ، وولى الكوفة لعمر والبصرة ، وفتح على يده تستر وعدة أمصار. له ثلاثمائة وستون حديثا ، اتفقا على خمسين ، وانفرد البخارى بأربعة ، ومسلم بخمسة وعشرين. وعنه ابن المسيب وأبو وائل وأبو عثمان النهدى وخلق. قال الهيثمى : توفى سنة اثنتين وأربعين. وقيل غير ذلك.

وعمل للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على زبيد ، وعدن ، وساحل اليمن. واستعمله عمر بن الخطاب على الكوفة والبصرة. وشهد وفاة أبى عبيدة بن الجراح بالأردن. وشهد خطبة الجابية. وقدم دمشق على معاوية.

ينظر : تهذيب الكمال (١٥ / ٤٤٦ ـ ٤٥٣) ، والخلاصة (٢ / ٨٩) (٣٧٣٩) ، والثقات (٣ / ٢٢١) ، وتهذيب التهذيب (٥ / ٣٦٢ ، ٣٦٣) ، والإصابة ت (٤٨٩٨) ، وسير أعلام النبلاء (٢ / ٣٨٠) ، وشذرات الذهب (١ / ٢٩ ، ٣٠).

(٢) أخرجه ابن جرير عن ابن عباس (٤٠٥١) ، وقتادة (٤٠٥٢) بنحوه ، وانظر الدر المنثور (١ / ٤٣٥).

١٠٧

إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) [الأنعام : ٣٨] ، يعنى : أصنافا.

ثم خص الله تعالى صنفا ببعث الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم من بين غيرها من الأصناف تفضيلا (١) لهم وإكراما ، وبعث كل رسول إلى قومه فيهم كفار وفيهم مؤمنون ؛ لأن الأرض لا تخلو من ولى أو نبى ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) [الإسراء : ٧٠] ، ليعلموا أن سائر أصناف الخلق خلقوا لهم ولحاجاتهم. وهو قول الحسن.

وكذلك قول أبى حنيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ : أن الأرض لا تخلو عن نبى أو ولى. والله أعلم.

وقوله : (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ) ، لمن أطاعه ، (وَمُنْذِرِينَ) ، لمن عصاه.

وجائز أن تكون البشارة والنذارة جملة (٢) عن الوقوع بما به يقعان مختلف ؛ كقوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) [يس : ١١] ، وقوله : (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان : ١].

وقوله : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ)

يحتمل قوله : (لِيَحْكُمَ) ، وجهين :

يحتمل : (لِيَحْكُمَ) ، الكتاب المنزل عليهم بالحق فيما بينهم ، وهو كقوله تعالى : (وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) [الأحقاف : ١٢].

وقرأ بعضهم (٣) : (لِيَحْكُمَ) ، بالياء ، وقرأ آخرون : «لتحكم» ، بالتاء.

فمن قرأ بالياء جعل الكتاب هو المنذر.

ومن قرأ بالتاء صير الرسول هو المنذر ؛ فكذلك فى هذا : ليحكم الكتاب بينهم بالحق ، وليحكم الرسول بالكتاب فيما بينهم بالحق.

وقوله : (فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)

يحتمل قوله : (فِيهِ) وجوها :

يحتمل : (فِيهِ) ، فى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويحتمل : (فِيهِ) ، فى دينه.

ويحتمل : (فِيهِ) ، فى كتابه.

وقوله : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)

__________________

(١) فى أ : تفضلا.

(٢) زاد فى ب : له

(٣) ينظر : اللباب (٣ / ٥٠٥ ، ٥٠٦) ، والدر المصون (١ / ٥١٩) ، والمحرر الوجيز (١ / ٢٨٦).

١٠٨

أى : ما اختلفوا فيه إلا من بعد ما جاءتهم البينات والعلم ، إما من جهة العقل ، وإما من جهة السمع والكتب والخبر ، وإما من جهة المعاينة والمشاهدة لكنهم تعاندوا وكابروا وكفروا به بغيا.

وقوله : (بَغْياً بَيْنَهُمْ).

قيل (١) : (بَغْياً بَيْنَهُمْ) ، أى : حسدا بينهم.

وقيل (٢) : (بَغْياً بَيْنَهُمْ) ، ظلما منهم ، ظلموا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ).

تأويله ـ والله أعلم ـ أى هدى الله الذين آمنوا ، ولم يختلفوا من بين الذين اختلفوا.

ويحتمل : هدى الله من أنصف ولم يعاند ، ولم يهد الذين عاندوا ولم ينصفوا.

وقوله : (بِإِذْنِهِ)(٣) ، قيل : بأمره ، وقيل : بفضله.

لكن قوله : (بِإِذْنِهِ) ، بأمره ، لا يحتمل ، ولكن (بِإِذْنِهِ) ، أى : بمشيئته وإرادته.

وقوله : (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

فيه دلالة أنه من شاء أن يهتدى فاهتدى ، ومن لم يشأ أن يهتدى لم يهتد ؛ لأنه لو كان شاء أن يهتدوا جميعا [أنه من شاء أن يهتدوا جميعا](٤) ، على ما يقوله المعتزلة ، لكان يقول : والله يهدى إلى صراط مستقيم ، ولم يقل : (مَنْ يَشاءُ) ، [فدل قوله : (مَنْ يَشاءُ)](٥) على أنه شاء إيمان من آمن ، ولم يشأ إيمان من لم يؤمن ، فالآية تنقض على المعتزلة قولهم : إنه شاء أن يؤمنوا ، لكن آمن بعضهم ولم يؤمن البعض.

وفى قوله : (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) ، دلالة على ألا يفهم من البعث والإتيان والمجىء الانتقال من مكان إلى مكان ، ولا الزوال من موضع إلى موضع ؛ لأنه ذكر البعث ، وهم كانوا بين ظهرانيهم ، فدل أنه يراد الوجود ، لا غير.

وقوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ).

قيل : معنى قوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ) ، على إسقاط «الميم».

__________________

(١) انظر : تفسير البغوى (١ / ١٨٧).

(٢) ينظر : التخريج السابق.

(٣) زاد فى ط : يحتمل وجوها.

(٤) سقط فى أ.

(٥) سقط فى ط.

١٠٩

وقيل (١) : (أَمْ حَسِبْتُمْ) ، بمعنى : «بل حسبتم».

وقوله : (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ).

قيل (٢) : شبه الذين خلوا من قبلكم.

وقيل : (مَثَلُ الَّذِينَ) ، خبر الذين خلوا من قبلكم ، وقيل (٣) : سنن الذين خلوا من قبلكم من البلاء والمحن التى أصابت الماضين من المؤمنين.

وقوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ ..). الآية ، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة قبل أن تبتلوا كما ابتلى من قبلكم ، أى : لا تظنوا ذلك عمله (٤) ، وإن كان فيهم من قد يدخل ـ والله أعلم ـ كقوله تعالى : (الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ* أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [العنكبوت : ١ ـ ٤].

وقيل : إن القصة فيه أن المنافقين قالوا للمؤمنين : لم تقتلون أنفسكم وتهلكون أموالكم ؛ فإنه لو كان محمد نبيّا لم يسلط عليه؟ فقال المؤمنون لهم : إن من قتل منا دخل الجنة. فقالوا : لم تمنّون الباطل والبلايا؟ فأنزل الله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) ، من غير أن تبتلوا وتصيبكم الشدائد ، (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ).

وقوله : (وَزُلْزِلُوا)

قيل (٥) : حركوا.

وقيل : جهدوا.

وقوله : (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ)

قيل فيه بوجهين :

قيل : يقول الرسول والمؤمنون جميعا : (مَتى نَصْرُ اللهِ) ، ثم يقول الله لهم : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ).

وقيل : يقول المؤمنون (مَتى نَصْرُ اللهِ) ثم يقول الرسول : ألا إن نصر الله قريب ويحتمل هذا فى كل رسول بعثه الله تعالى إلى أمته يقول هذا ، وأمته يقولون أيضا.

__________________

(١) قاله الزجاج كما فى تفسير البغوى (١ / ١٨٧).

(٢) قاله البغوى (١ / ١٨٧).

(٣) قاله قتادة ، أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم كما فى الدر المنثور (١ / ٤٣٧).

(٤) فى أ ، ط : جملة.

(٥) قاله البغوى (١ / ١٨٧).

١١٠

ويحتمل : إن كان هذا فى رسول دون رسول ، على ما قاله بعض أهل التأويل : أنه فلان. وليس لنا إلى معرفة ذلك سبيل إلا من جهة السمع ، ولا حاجة إلى معرفته.

[وفى قوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ..). الآية](١).

وفى قوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) [التوبة : ١٦].

وفى قوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران : ١٤٢] ، وجه آخر ، وهو أنهم ـ والله أعلم ـ ظنوا لما أتوا بالإيمان أن يدخلوا الجنة ، ولا يبتلون بشيء من المحن والفتن ، وأنواع الشدائد ، فأخبر الله عزوجل أن فى الإيمان المحن والشدائد لا بد منها ، كقوله عليه‌السلام : «حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات» (٢). والله أعلم.

وكقوله : (الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت :

١ ، ٢] ، ولأن الإيمان من حيث نفسه ليس بشديد ؛ لأنه معرفة حق وقول صدق ، ولا فرق بين قول الصدق وقول الكذب ، ومعرفة الحق ومعرفة الباطل فى احتمال المؤن ، والإيمان : مخالفة الهوى والطبع ، وذلك فى أنواع المحن. والله أعلم.

وقوله : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ).

فظاهر هذا السؤال (٣) لم يخرج له الجواب ؛ لأن السؤال «عما ينفق» ، فخرج الجواب «على من ينفق» ، غير أنه يحتمل أن يكون (ما ذا) بمعنى (من) ، وذلك مستعمل فى اللغة ، غير ممتنع.

ويحتمل : أن يكونوا سألوا سؤالين :

أحدهما : عما ينفق؟

والثانى : على من ينفق؟ فخرج لأحدهما الجواب على ما كان من السؤال : «على من ينفق» ، ولم يخرج جواب ما كان من السؤال : «عما ينفق». وهذا أيضا جائز ، كثير فى القرآن : أن يكثر الأسئلة ، ويخرج الجواب لبعض ولم يخرج لبعض ، ويكون جواب

__________________

(١) سقط فى ط.

(٢) أخرجه البخارى (١١ / ٣٢٧) كتاب الرقاق : باب حجبت النار بالشهوات (٦٤٨٧) ، ومسلم (٤ / ٢١٧٤) كتاب الجنة : وصفة نعيمها (١ / ٢٨٢٢ ـ ٢٨٢٣).

(٣) فى ط : القول.

١١١

سؤال : «مم (١) ينفق؟» فى قوله تعالى : (قُلِ الْعَفْوَ) [البقرة : ٢١٩] ، فيكون على ما ذكر. والله أعلم.

ويدل لما قلنا ، أنه كان ثم سؤالان ، أن أحدهما : «عما ينفق» والآخر : «على من ينفق» ، ما روى عن عمرو بن الجموح الأنصارى (٢) ، رضى الله تعالى عنه ، أنه قال : يا رسول الله ، كم ننفق؟ وعلى من ننفق؟ فأنزل الله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ ..).(٣) الآية.

ثم اختلف فى هذه النفقة :

قال بعضهم (٤) : هذه النفقة كانت تطوعا ، فنسخت بالزكاة.

وقيل : هذه النفقة صدقة يتصدقون بها على الوالدين والأقربين الذين يرثون ، فنسختها آية المواريث.

وقيل : فيه الأمر بالإنفاق على الوالدين والأقربين عند الحاجة ، وكان هذا أقرب. والله أعلم. وفيه دلالة لزوم نفقة الوالدين والمحارم.

قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢١٨)

وقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

والكراهة المذكورة هاهنا والمحبة : هى كراهة الطباع والنفس ، [ومحبة الطباع

__________________

(١) فى ب : ثم.

(٢) عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصارى السلمى ، من بنى جشم بن الخزرج. شهد العقبة ، ثم شهد بدرا ، وقتل يوم أحد شهيدا ، ودفن هو وعبد الله بن عمرو حرام فى قبر واحد ، وكانا صهرين. ينظر الاستيعاب (٣ / ٢٥٣) (١٩٢٥).

(٣) أخرجه ابن المنذر كما فى الدر المنثور (١ / ٤٣٧).

(٤) قاله السدى وابن جريج وابن أبى نجيح وابن زيد ، أخرجه ابن جرير عنهم (٤٠٧١ ، ٤٠٧٢ ، ٤٠٧٣ ، ٤٠٧٤) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٤٣٧).

١١٢

والنفس ،] لا كراهة الاختيار. ولا يكون فى كراهة الطباع خطاب ؛ لأن طبع كل أحد ينفر عن القتال والمجاهدة مع العدو ، لا أنهم كرهوا ذلك كراهة الاختيار ؛ لأنه لا يحتمل أن يكون أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤمرون بالقتال والمجاهدة مع العدو ثم هم يكرهون عما أمروا اختيارا منهم ؛ لأن ذلك دأب أهل النار ، فثبت أنه على ما ذكرنا من نفور كل طبع عن احتمال الشدائد والمشقة وكراهيته.

وقوله : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ).

يحتمل هذا فى القتال خاصة ، وهو أن يكونوا كرهوا القتال ؛ لما فيه من المشقة والشدة ، (وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) ؛ لما فيه من الفتوح والظفر وسعة العيش ومنال الثواب والدرجات فى الآخرة.

(وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً) يعنى التعود على الجهاد ، (وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) ، لما فيه من اجتراء العدو والأسر والقتل والذل والصغار وقطع الثواب فى الآخرة.

ويحتمل هذا فى كل أمر يحب [الرجل] فى الابتداء ويكون عاقبته شرّا له ، ويكره أمرا فيكون عاقبته خيرا له. هذا لجهلنا بعواقب الأمور وخواتيمها ؛ ليعلم أن ليس إلينا من التدبير فى شىء. والله أعلم.

وقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ، [أى : ويعلم](١) ما هو خير لكم فى العواقب مما هو شر لكم ، «وأنتم لا تعلمون».

وقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ).

معناه ـ والله أعلم ـ : يسألونك عن القتال فى الشهر الحرام وفى المسجد الحرام ، (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) ، لو لم يكن من الكفرة ما ذكر من الصد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والكفر به ، وإخراج أهله منه ، لكن إذ فعلوا ذلك ، لم يكن القتال بجنبه كبيرا ، بل الكفر فيه أكبر من القتل. فكأنه ـ والله أعلم ـ ذكر هذه الأحرف وعنى به الكناية عن الكفر ، ثم جعل الكفر أكبر من هذا كله مع المعرفة أن الذى يؤذيه أقل منه. ثم ألزمهم اختيار الأيسر عند البلوى بما بين. والقتال بنفسه كبير ؛ لأن فيه تفانى الخلق ، ولم يخلقوا للفناء.

ثم فيه نقض على المعتزلة بوجهين :

أحدهما : أنه ذكر القتل ، وجعل الكفر أكبر منه ، ولو أوجب القتل التخليد ، ما أوجب الكفر ، لكان فيه التساوى ، ولا يكون الكفر أكبر من القتل فبان أن الكبيرة لا توجب

__________________

(١) سقط فى أ.

١١٣

التخليد ما أوجب الكفر. والله أعلم.

والثانى : قال : والكفر أكبر منه ، فصيره أكبر ، ثم [لا يخلو أكبره](١) من أن يكون بنفسه ، أو بالكافر ، أو بالله. ولا يحتمل أن يكون بالكافر ؛ لأن فعل الكفر أصغر عنده من فعل الزنى والقتل ؛ لأنه يدين بالكفر ويستحسنه ، ويستقبح ذلك. فبان أنه يكبر بنفسه أو بالله.

فإن قالوا : بنفسه.

قيل لهم : لما جاز أن يكون كبره بغير من ينشئه لما لا جاز خلقه بغير من يفعله ، أو يكون بالله؟ وهو قولنا.

وقوله : (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ)

فيه دلالة إثبات رسالة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه أخبر أنهم يفعلون كذا ، فكان كما قال : فدل أنه إنما عرف ذلك بالله عزوجل.

وقوله : (إِنِ اسْتَطاعُوا) ، ولكن لا يستطيعون أن يردوكم عن دينكم.

ففيه إياس الكفرة عن رد هؤلاء إلى دينهم ، وأمن هؤلاء عن الرجوع إلى دينهم.

وقيل : (إن) بمعنى (لو) ، أى : لو قدروا أن يردوكم عن دينكم إلى دينهم لفعلوا.

أخبر الله عزوجل عما ودوا (٢) إن استطاعوا ، لكن الله بما أكرمهم وبشرهم من النصر وإظهار الدين لا يستطيعون على ذلك أظهر بقوله : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [المائدة : ٣].

وقوله : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

ذكر إحباط الأعمال ، بالموت على الكفر ، والعمل يحبط بالكفر دون الموت.

والوجه فيه : أنه لا يحتمل أن يكون الموت هو سبب إحباط الأعمال ، بل الكفر بنفسه إذا وجد ؛ إذ الموت لا صنع فيه للعباد ، والكفر فيه لهم اختيار ، لم يجز جعل العمل حبطا بما لا صنع له فيه ، دل أن الكفر هو المحبط ، لا الموت ، ولكن ذكر الموت فى هذا لما فيه تمام الحبط والإبطال ، وما لم يمت ترجى له المنفعة بحسناته ؛ لأنه إذا كفر جحد تلك الحسنات فأبطلها ، فإذا أسلم بعد ذلك ندم على جعل ذلك باطلا ، فصار مقابلا لسيئاته

__________________

(١) فى ط : لأكبره.

(٢) فى ب : ردوا.

١١٤

بحسنات ، فهو حالة الانتفاع به كما قال عزوجل : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان : ٧٠].

وقوله : (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ).

أما فى الدنيا : فذهاب التعظيم والإجلال والثناء الحسن الذى يستوجب (١) بالخير والدين عند الناس ، فإذا ارتد عن الإسلام حبط ذلك كله وصار على أعين الناس أخف من الكلب والخنزير.

وأما حبطه فى الآخرة : فذهاب ثواب أعماله ، وكأن ما يستوجب المرء من الثواب إنما يستوجب بما يأتى من الأعمال ويحضرها عند الله ، لا بالعمل نفسه ؛ ألا ترى إلى قوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠] ، وقوله : (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) [طه : ٧٥ ـ ٧٦] ، دل هذا أن الثواب إنما يستوجب بإحضاره وإتيانه عند الله ، لا بالعمل نفسه. والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا).

تضمن قوله : (آمَنُوا) الإيمان بالله ، والإيمان بجميع ما جاء به الرسل من الرسالات وغيرها.

وقوله : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا).

الهجرة تكون على وجهين :

أحدهما : الهجرة المعروفة التى كانت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، وهو كقوله : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ١٠٠]. ثم روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «لا هجرة بعد فتح مكة» (٢).

__________________

(١) فى ب : لا يستوجب.

(٢) وأما حديث يعلى بن أمية فأخرجه النسائى (٧ / ١٤١) فى البيعة ، باب البيعة على الجهاد (٧ / ١٤٥) فى ذكر الاختلاف فى انقطاع الهجرة ، وأحمد (٤ / ٣٢٣ ، ٣٢٤) ، والطبرانى فى الكبير (٢٢ / ٢٥٧) (٦٦٤ ، ٦٦٥) ، والبيهقى (٩ / ١٦) ، من طريق ابن شهاب عن عمرو بن عبد الرحمن بن أمية أن أباه أخبره أن يعلى قال : جئت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأبى يوم الفتح ، فقلت : يا رسول الله ، بايع أبى على الهجرة. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبايعه على الجهاد ، وقد انقطعت الهجرة».

وأما حديث أبى سعيد الخدرى فأخرجه أحمد (٣ / ٢٢) ، (٥ / ١٨٧) ، والطيالسى (٦٠١ ، ٩٦٧ ، ٢٢٠٥) ، والبيهقى فى دلائل النبوة (٥ / ١٠٩) ، عن أبى البخترى الطائى عن أبى سعيد الخدرى قال : لما نزلت هذه السورة (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ ..). الآية ـ

١١٥

والهجرة الثانية : هجرة الآثام والإجرام ، فهى لا ترتفع أبدا.

وقال الحسن (١) فى قوله تعالى : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ) : أى بالعداوة منه لمن كفر بالله.

وقال أبو بكر الصديق (٢) ـ رضى الله تعالى عنه ـ : أن يهجر قومه وداره ويخرج لله.

وقوله : (وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ).

المجاهدة تكون على وجوه :

مجاهدة العدو ، ومجاهدة الشيطان ، ومجاهدة النفس.

وقوله : (أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ).

فيه دلالة على أن الذى يحق رجاؤه يعمل ما ذكر الله.

وقوله : (رَحْمَتَ اللهِ) ، يحتمل وجهين : الرحمة : الجنة ، والرحمة : المغفرة.

وقوله : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

لما كان منهم من التقصير فيما ذكر من المجاهدة والمهاجرة.

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢٢٠)

وقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما

__________________

 ـ قرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ختمها وقال : «الناس حيز ، وأنا وأصحابى حيز» ، وقال : «لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية» فقال له مروان : كذبت. وعنده رافع بن خديج وزيد بن ثابت ، وهما قاعدان معه على السرير. فقال أبو سعيد : لو شاء هذان لحدثاك ، ولكن هذا يخاف أن تنزعه من عرافة قومه ، وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة ، فسكتا ، فرفع مروان عليه الدرة ليضربه ، فلما رأيا ذلك قالا : صدق.

أما قول ابن عمر فأخرجه البخارى (٧ / ٢٦٧) ، فى مناقب الأنصار ، باب هجرة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه إلى المدينة (٣٨٩٩) ، (٧ / ٦٢٠) فى المغازى ، باب (٥٣) (٤٣٠٩ ـ ٤٣١١) من طريق عطاء عن ابن عمر كان يقول : لا هجرة بعد الفتح.

وفى لفظ آخر : قلت لابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ : إنى أريد أن أهاجر إلى الشام. قال : لا هجرة ، ولكن جهاد. فانطلق فاعرض نفسك ، فإن وجدت شيئا وإلا رجعت.

وأما قول عمر فأخرجه النسائى (٧ / ١٤٦) فى البيعة ، باب الاختلاف فى انقطاع الهجرة ، وأبو يعلى فى مسنده (١٨٦) ، عن شعبة عن يحيى بن هانئ عن نعيم بن دجاجة قال : سمعت عمر يقول : لا هجرة بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(١) يأتى فى سورة النساء.

(٢) يأتى فى سورة النساء.

١١٦

أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما).

(قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) ، بعد الحرمة (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) ، قبل الحرمة ، (وَإِثْمُهُما) بعد الحرمة (أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) ، قبل التحريم.

والمنفعة فى الميسر : بعضهم ينتفع به ، وبعضهم يخسر ، وهو القمار.

وذلك أن نفرا كانوا يشترون الجزور فيجعلون لكل رجل منهم سهما ، ثم يقترعون ، فمن خرج سهمه برئ من الثمن حتى يبقى آخر رجل ، فيكون ثمن الجزور عليه وحده ، ولا حق له فى الجزور ، ويقتسم الجزور بقيتهم.

وقيل : يقسم بين الفقراء ؛ فذلك الميسر.

ثم قال : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) ، فى ركوبهما ؛ لأن فيهما ترك الصلاة ، وترك ذكر الله ، وركوب المحارم والفواحش.

ثم قال : (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) ، يعنى التجارة ، واللذة ، والربح.

ثم اختلف فيه :

قال قوم : إن الخمر محرمة بهذه الآية حيث قال : (إِثْمٌ كَبِيرٌ) ، والإثم محرم بقوله : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ) [الأعراف : ٣٣].

وقال قوم : لم تحرم بهذه الآية ؛ إذ فيها ذكر النفع ، ولكن حرمت بقوله : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ) [المائدة : ٩٠] ، والرجس محرم ، وقال الله تعالى : (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [المائدة : ٩٠] ، وعمل الشيطان محرم.

ثم أخبر فى آخرها أنه : (يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) [المائدة : ٩١] ، وذلك كله محرم.

والأصل عندنا فى هذا : أنهم أجمعوا على حرمة الميسر مع ما كان فيه من المنافع للفقراء وأهل الحاجة والمعونة لهم ؛ لأنهم كانوا يقتسمون على الفقراء ، فإذا حرم الله هذا ثبت أن المقرون به أحق فى الحرمة مع ما فيه من الضرر الذى ذكرنا. والله أعلم.

وقال الشيخ ، رحمه‌الله تعالى ، فى قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) : ولم يبين فى السؤال أنه عن أى أمرهما كان السؤال؟ وأمكن استخراج حقيقة ذلك عن الجواب بقوله : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) ، كأن السؤال كان «عما فيهما»؟ فقال : فيهما كذا.

وعلى ذلك قوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) [البقرة : ٢٢٠] كأن السؤال عما يعمل فى أموال اليتامى ، من المخالطة وأنواع المصالح ، وكذلك قوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) [البقرة : ٢٢٢] ، كأنه قال : عن غشيان فى المحيض ، إذ فى ذلك جرى الجواب فلم يبين

١١٧

فى السؤال لما فى الجواب دليله ، أو لما كان الذين سألوا معروفين يوصل بهم إلى حقيقة ذلك. والله أعلم.

وقيل : هذه الآية تدل على حرمتهما بما قال : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) ، وقد قال الله تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) إلى قوله : (وَالْإِثْمَ) [الأعراف : ٣٣] ، ثبت أن الإثم محرم.

وأكثر السلف على أن الحرمة فيهما ليست بهذه الآية ، ولكن بقوله : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ) [المائدة : ٩٠].

وقوله : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) ، يبلغ أمر الخمر (١) والميسر إلى ما يكون فيهما (إِثْمٌ كَبِيرٌ) ، من نحو ما بين عند السكر والميسر فى سورة المائدة من وقوع العداوة والبغضاء والصد عما ذكر ، (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ) ، فى ذلك الوقت بوجوه :

أما فى الخمر : إلى أن يسكر ، وفى التجارة فيها.

وفى الميسر : لما كان يفرق ما فيه ذلك على الفقراء ، وما فيه من (٢) التجارة ونحو ذلك.

وعلى التأويل الأول يخرج قوله : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) ، أى : فى الشرب والعمل إذ حرما ، (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) ، قبل أن يحرما. والله أعلم.

ثم الذى علينا : أن نعرف حرمتهما اليوم إن كانت فى هذه الآية أو لم تكن ، فينتهى الانتفاع بهما ويحذر ذلك ، وقد بين الله الكافى من ذلك فى سورة المائدة ، وجاءت الآثار فى تحريمهما ، على ما فى الميسر من الخطر والجهالة (٣) التى جاءت الآثار على كون أمثالها فى حكم الربا ، وفى الخمر ما لا يتخذ للمنافع وإنما يتخذ للهو والطرب ، وكل ذلك مما نهينا عنه ، مع ما فى ذلك من ذهاب العقل الذى هو أعز ما فى البشر ، وغلبة السفه فى أهله. فحقيق لمن عقل اتقاه لو كان حلالا ؛ لما فى ذلك من التبذير ، فكيف وقد ظهرت الحرمة.

ثم كان معلوما علة حرمة الخمر إذا سكر منها الشارب ، ثم جاء به القرآن ، وليست تلك العلة فى شرب القليل منه ، فلم يلحق بحق القليل غيرها ، وألحق بالكثير كل شراب يعمل ذلك العمل ، لما فيه المعنى الذى ذكره ، إذ كانت الخمر لا تتخذ فى المتعارف للمصالح ولا لأنواع المنافع ، بل تتخذ لما ذكرت من اللهو والطرب ، ولا يستعمل شربها

__________________

(١) فى ب : الشرب.

(٢) فى ط : على.

(٣) فى ط : الحظر والجهالة ، وفى ب : الخطأ.

١١٨

إلا المعروفون بالفسق ، فتكون حرمة الخمر بعينها ، لا ما ذكرت من قصد العواقب بها. وكل جوهر لا يتخذ لا يقصد باتخاذ ذلك فهو غير محرم بعينه. والله أعلم.

وقوله : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ).

(الْعَفْوَ) : هو الفضل عن القوت ، وذلك أن أهل الزروع كانوا يتصدقون بما يفضل عن قوت سنة ، وأهل الغلات يتصدقون بما يفضل عن قوت الشهور ، وأهل الحرف والأعمال يتصدقون بما يفضل عن قوت يوم ، ثم نسخ ذلك بما روى عن أنس بن مالك ، رضى الله تعالى عنه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «الزكاة نسخت كل صدقة كانت ، وصوم شهر رمضان نسخ كل صوم كان ، والأضحية نسخت كل دم كان» (١). فإن ثبت هذا فهو ما ذكرنا.

وروى عن ابن عباس ، رضى الله تعالى عنهما ، قال : كان هذا قبل أن تفرض الصدقة (٢).

دليل ذلك ظهور أموال كثيرة لأهلها فى الصحابة ، رضوان الله تعالى عنهم أجمعين ، إلى يومنا لم يخرجوا من أملاكهم ، ولا تصدقوا بها ، ولا أنكر عليهم ؛ فثبت أن الأمر فى ذلك منسوخ ، أو هو على الأدب.

وقوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ).

وقوله : (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ).

قيل (٣) : أما فى الدنيا : فتعلمون أنها دار بلاء وفناء ، وأما الآخرة : دار جزاء وبقاء ، فتفكرون فتعملون للباقية منهما.

وقال الحسن (٤) : إى ـ والله ـ ومن تفكر فيهما ليعلمن أن الدنيا دار بلاء ، وأن الآخرة دار بقاء.

وعن ابن عباس (٥) ـ رضى الله تعالى عنه ـ : (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) قال : يعنى فى زوال الدنيا وفنائها ، وإقبال الآخرة وبقائها. بل يعلم بالتفكر أن الدنيا للزوال ، علم أنها هى للتزود لدار القرار ، فيصرف سعيه إلى التقديم ، وجهده فى فكاك

__________________

(١) أخرجه الدارقطنى (٤ / ٢٨١) ، والبيهقى (٩ / ٢٦٢) ، عن عائشة ، وفى إسناده متروك.

(٢) أخرجه ابن جرير (٤١٧٧ ، ٤١٧٨) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٤٥٣).

(٣) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٤١٨٢ ، ٤١٨٤) ، وعن ابن جريج (٤١٨٣) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٤٥٦).

(٤) أخرجه عبد بن حميد وابن أبى حاتم عن الصعق بن حزن عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٤٥٦).

(٥) أخرجه ابن جرير (٤١٨١) ، انظر الدر المنثور (١ / ٤٥٦).

١١٩

رقبته وإعتاقها. ولا قوة إلا بالله.

وفى قوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) دلالة جواز تأخير البيان ؛ لأنه أمر بالتفكر والتدبر ، وجعل لهم عند الفكر الوصول إلى المراد فى الخطاب ، فدل أنه يتأخر عن وقت قرع الخطاب السمع.

وقوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ).

كأن فى السؤال إضمارا ؛ لأنه قال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) ولم يبين فى أى حكم ، وإضماره ـ والله أعلم ـ أن يقال : يسألونك عن مخالطة اليتامى. يبين ذلك قوله : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) أن السؤال كان عن المخالطة.

وكذلك قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) [البقرة : ٢١٩] ، ولم يبين فى أى حكم ، فكأنه قال : يسألونك عن شرب الخمر والعمل بالقمار والميسر ، ثم قال : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) ، دل قوله : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) أن السؤال كان عن شرب الخمر والعمل بالميسر. وهذا جائز فى اللغة ، وفى القرآن كثير أن يكون فى الجواب بيان السؤال أنه عما كان وإن لم يذكر فى السؤال ؛ كقوله : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) [النساء : ١٧٦] ، دل ما ذكر من الفتيا أن الاستفتاء كان عن الميراث. وكذلك قوله : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) [النساء : ١٢٧] ، دل قوله : (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) أن السؤال كان عن نساء اليتامى. وهذا جائز ، وربما يخرج الجواب على إثر نوازل ، فيعرف مراده بالنوازل دون ذكر السؤال.

ثم السؤال يحتمل وجهين :

يحتمل : أن يكون عن مخالطة الأموال والأنفس جميعا بقوله : (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) فإنما حملهم ـ والله أعلم ـ على سؤال المخالطة ، ما قيل : لما نزل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) [النساء : ١٠] ، وقوله : (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً) [النساء : ٦] ، أشفق المسلمون من خلطة اليتامى ، فعزلوا لهم بيتا ، وعزلوا طعامهم وخدمهم وثيابهم ، فشق ذلك عليهم جميعا ، فسألوا عن ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه (١)

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٤١٩٢ ، ٤١٩٤ ، ٤١٩٦) ، وعن الشعبى (٤١٩٣) ، وعطاء ابن أبى رباح (٤١٩٥) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٤٥٦).

١٢٠