تأويلات أهل السنّة - ج ٢

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة - ج ٢

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٧٣

والله أعلم.

وقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

الآية ترد على المعتزلة قولهم ؛ لأنهم قالوا : إن الهدى : البيان ، والبيان للكل ، قالوا : بتقدم الفعل ، فلو كان متقدما لكان في ذلك إعطاء الهدى للظالم ؛ فأخبر ـ عزوجل ـ أنه لا يهدي الظالم ، وهم يقولون : لا ، بل يهدي الظالم ؛ فذلك خروج عليه ، وأمّا على قولنا : فإن التوفيق والقدرة إنما تكون معه ؛ فكان قولنا موافقا للآية.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في قوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي) من ذكر ـ : فلو لم يكن الهدى غير البيان ، فلقد هداهم إذن ؛ على قول المعتزلة ، والله أعلم.

وقوله : (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ) :

[قيل : (لَعْنَةَ اللهِ)](١) عذاب الله.

[وقيل](٢) : لعنة الله : هي الإياس من رحمته وعفوه ، واللعن : هو الطرد في اللّغة ، ولعنة الملائكة : ما قيل في آية أخرى قوله : (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ. قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا) الآية [غافر : ٤٩ ، ٥٠].

وقيل : لعنة الملائكة قولهم لهم : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) [الزخرف : ٧٧] إلى آخره (٣).

وقيل : يدعون عليهم باللعن.

وقيل : لعنة المؤمنين قوله : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) [الأعراف : ٥٠] فذلك لعنهم عليهم.

وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) : ملحق على قوله : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) : ذكر (٤) الكفر بعد الإيمان ، ثم ذكر التوبة فقال : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ..). الآية : أطمع لهم المغفرة والرحمة بالتوبة بعد الكفر بقوله : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

وما قيل في القصّة ـ أيضا ـ أن نفرا ارتدّوا عن [دين](٥) الإسلام ، ثم تاب بعضهم ،

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) سقط من ب.

(٣) راجع : تفسير الرازي (٨ / ١١٣) ، اللباب (٥ / ٣٧٨).

(٤) في ب : ذلك.

(٥) سقط من ب.

٤٢١

ولم يتب البعض (١) ؛ فنزل قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) الآية.

وفي الآية دلالة قبول توبة المرتدين (٢) ؛ لأن قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الآية ـ قيل في القصّة.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١) لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٩٢)

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً [لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) الآية :

اختلف فيه ، قيل : قوله : (كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا)](٣) ، أي : ماتوا على ذلك ، فذلك زيادتهم الكفر.

وقيل : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) : بعيسى بعد الإيمان بالرسل جميعا ، ثم ازدادوا كفرا : بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) ، قيل : لن تقبل توبتهم التي تابوا مرة ثم تركوها (٤).

وقيل : (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) التي أظهروا باللسان ، وما كان ذلك في قلوبهم ، أي :

__________________

(١) أخرجه ابن جرير في تفسيره (٦ / ٥٧٢ ، ٥٧٣) ، برقم (٧٣٦٠ ـ ٧٣٦٢) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٣٨٢) (٩١٤) عن ابن عباس ، وعن مجاهد بن جبر أخرجه ابن جرير برقم (٧٣٦٣) ، وعن السدي برقم (٧٣٦٤) أخرجه ابن جرير عنه وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٨٧) وزاد نسبته لابن المنذر.

(٢) المرتدون : جمع مرتد. والردة في اللغة : هي الرجوع عن الشيء إلى غيره. يقال : رددت الشيء ردّا ، وسمي المرتد بذلك ؛ لأنه رد نفسه إلى كفره. وارتد عنه : تحول ، وفي القرآن الكريم : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) [البقرة : ٢١٧].

وفي الاصطلاح :

عرفها الحنفية بأنها : عبارة عن الرجوع عن الإيمان.

وعرفها المالكية بأنها : كفر المسلم بقول صريح ، أو بلفظ يقتضيه ، أو بفعل يتضمنه.

وعرفها الشافعية بأنها : قطع الإسلام من مكلف.

وعرفها الحنابلة بأنها : اسم من الارتداد ، والمرتد مشتق من الارتداد ، والمرتد هو الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر.

ينظر : الصحاح (٢٣٩) (ردد) ، لسان العرب (٣ / ١٦٢١) (ردد) ، ومجمل اللغة لابن فارس (١ / ٣٧٢) ، وجمهرة اللغة لابن دريد (١ / ٧٢) ، وبدائع الصنائع للكاساني (٧ / ١٣٤) ، وفتح القدير لابن الهمام (٦ / ٦٨) ، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (٤ / ٣٠١) ، ومنح الجليل للشيخ عليش (٩ / ٢٠٥) ، والمنهاج مع مغني المحتاج للنووي (٤ / ١٣٣ ، ١٣٤) ، وروضة الطالبين للنووي (١٠ / ٦٤ ، ٦٥) ، والمغني لابن قدامة (٨ / ١٢٣ ـ ١٢٥).

(٣) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٤) أخرجه ابن جرير (٦ / ٥٧٨ ، ٥٧٩) برقم (٧٣٧٣) ، (٧٣٧٥) ، وابن أبي حاتم في تفسيره (٢ / ٣٨٧) برقم (٩٣٢) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٨٨).

٤٢٢

ليست لهم توبة [إلا أن](١) يكون توبة منهم فترد ؛ كقوله : (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ) [النجم : ٢٦].

وقيل : هم قوم علم الله أنهم لا يتوبون أبدا ؛ فأخبر أنه لا يقبل توبتهم (٢) ؛ كقوله : (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٦].

وقيل : لا تقبل توبتهم عند الموت (٣) ؛ كقوله : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ) [غافر : ٨٤] وكقوله : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) [النساء : ١٥٩] ، وكقوله : (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ) [الأنعام : ١٥٨] : أخبر أنه لا ينفع الإيمان في ذلك الوقت ؛ فعلى ذلك قوله : (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) في ذلك الوقت ؛ إذا داموا على الكفر إلى ذلك الوقت.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) ـ : ذلك في قوم مخصوصين ، أي : لا يكون منهم توبة ؛ كقوله : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) [البقرة : ٤٨] ، أي : لا شافع لهم ، ويحتمل عند رؤية بأس الله وجزاء فعله عند القيامة أو معاينة الموت ؛ يدل على ذلك الآية التي تقدمت.

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً ..). الآية.

قوله : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) ، يقول : لو كان معهم لافتدوا به أنفسهم ـ ما قبل منهم ، ولكن لا يكون ؛ كقوله : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) [البقرة : ٤٨] ، أي : لا يكون لهم شفيع ، لا أن كان لهم شفعاء فيشفعون فلا تقبل شفاعتهم ، ولكن لا يكون لهم ؛ فهذا يدل على أن قوله : (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) ، أي : لا يتوبون ، والله أعلم.

وروى عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يجاء بالكافر يوم القيامة ، فيقال له : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا ، أكنت مفتديا به؟ فيقول : نعم يا

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٢) أخرجه بنحوه ابن جرير (٦ / ٥٨٠) برقم (٧٣٧٩ ، ٧٣٨١) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٣٨٧) برقم (٩٢٩) عن أبي العالية ، وعن السدي أخرجه ابن جرير (٦ / ٥٨١) برقم (٧٣٨٣) ، وذكره السيوطي (٢ / ٨٨) وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

(٣) أخرجه ابن جرير في تفسيره (٦ / ٥٧٨) برقم (٧٣٧٢) عن الحسن البصري وأخرجه أيضا ابن جرير (٦ / ٥٧٩) برقم (٧٣٧٤) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٣٨٨) برقم (٩٣٥) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٨٨).

٤٢٣

ربّ ، فيقال له : قد سئلت أيسر من ذلك!» (١).

وقوله : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)

يحتمل أن تكون الآية ـ والله أعلم ـ في كفار منعهم عن الإسلام الزكاة والصدقات التي تجب في الأموال ؛ كقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا ..). الآية [التوبة : ٧٥ ـ ٧٦] ، إلى قوله : (بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) [التوبة : ٧٧] : أخبر ـ عزوجل ـ لن تنالوا الإسلام حتى تنفقوا مما تحبّون من الأموال ؛ وكقوله : (لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) [فصلت : ٧].

وتحتمل الآية في المؤمنين ؛ رغبهم ـ عزوجل ـ في إنفاق ما يحبّون ؛ كقوله : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) الآية [البقرة : ١٧٧] : أخبر أنّ البرّ ما ذكر : من الإيمان به ، وإيتاء المال في حبه.

وروى عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : لما نزل قوله ـ تعالى ـ : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ، قال أبو طلحة (٢) : يا رسول الله ، حائطى الذي في مكان كذا وكذا فهو لله ، ولو استطعت أن أسرّه ما أعلنته ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اجعله فى قرابتك ـ أو أقربائك» (٣).

وروى عن ابن عمر (٤) ـ رضي الله عنه ـ أنه لما نزل هذا : أعتق جارية (٥).

__________________

(١) أخرجه البخاري (١٣ / ٢١٦) : كتاب الرقاق : باب من نوقش الحساب عذب ، رقم (٦٥٣٨) ، وأحمد في مسنده (٣ / ٢١٨) ، من حديث أنس.

(٢) هو زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو النجاري أبو طلحة الأنصاري ، شهد بدرا والمشاهد ، وكان من نقباء الأنصار. قتل يوم حنين عشرين رجلا ، وعاش بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعين سنة ، ومات سنة ٣٤ ه‍ في خلافة عثمان رضي الله عنهم.

ينظر : الخلاصة للخزرجي (١ / ٣٥٣) ، سير أعلام النبلاء (٢ / ٢٧) رقم (٥).

(٣) أخرجه أحمد في مسنده (٣ / ٢٦٢) ، ومسلم في صحيحه (٢ / ٦٩٣ ، ٦٩٤) في كتاب الزكاة ، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين ، برقم (٩٩٨) ، والنسائي في سننه (٦ / ٥٤٢) برقم (٣٦٠٤) ، وأبو داود في سننه (١ / ٥٢٨) برقم (١٦٨٩) ، والبيهقي في الكبرى (٦ / ١٦٥ ، ٢٨٠) وأخرجه البخاري بألفاظ أخرى (١١ / ٢٠٣) في كتاب الأشربة : باب استعذاب الماء برقم (٥٦١١) ، وأخرجه أيضا برقم (٢٧٥٨ ، ٢٧٦٩).

(٤) هو الصحابي ابن الصحابي عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي أبو عبد الرحمن ، هاجر مع أبيه وشهد الخندق وبيعة الرضوان ، وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحاديث كثيرة ، وكان إماما متينا واسع العلم ، وافر النسك ، كبير القدر ، متين الديانة ، عظيم الحرمة. مات سنة ٧٤ ه‍.

ينظر : الخلاصة للخزرجي (٢ / ٨١) ، سير أعلام النبلاء (٣ / ٢٠٣) ، رقم (٤٥).

٤٢٤

ثم اختلف في البرّ ، قيل : البرّ هو الجنة (١) هاهنا.

وقيل : البر هو الإسلام (٢) ، إن كان في الكافرين (٣).

وقيل : لن تنالوا درجات الجنة ، وما عند الله من الثواب إلا بإنفاق ما تحبون (٤).

وقوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)

ففيه دليل قبول القليل من الصدقة ؛ لأنهم كانوا يمتنعون عن قليل التصدق استحقارا ، فأخبر أنه بذلك عليم وإن قل ، بعد أن يكون ذلك لله عزوجل ، والله أعلم.

قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٩٤)

قوله : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) الآية.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : «وكان الطعام كله حلالا ، إلا الميتة والدم ولحم الخنزير (٥).

(إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) يعني : يعقوب ، حرم على نفسه لحم الإبل

__________________

(٥) أخرجه أبو نعيم في الحلية كما في الدر المنثور (٢ / ٩١) ، وذكره الرازي في التفسير (٨ / ١١٧) ، وقال القرطبي : وأعتق ابن عمر نافعا مولاه ، وكان أعطاه عبد الله بن جعفر ألف دينار ، قالت صفية بنت أبي عبيدة : أظنه تأول قول الله ـ عزوجل ـ : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران : ٩٢].

وقد أعتق عمر بن الخطاب جارية ، ولكن كان بعد فتح المدائن ؛ متأولا هذه الآية كما أخرجه الطبري (٧٣٩٠).

وقد تصدق زيد بن حارثة لما نزلت هذه الآية بفرس فأعطاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ابنه أسامة ؛ فقال زيد : يا رسول الله ، إنما أردت أن أتصدق به ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد قبلت صدقتك».

أخرجه الطبري (٧٣٩٥).

(١) أخرجه ابن جرير في تفسيره (٦ / ٥٨٧) ، برقم (٧٣٨٦) (٧٣٨٧) عن عمرو بن ميمون وعن السدي مثله برقم (٧٣٨٨) ، وأخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٣٩٠) برقم (٩٤١) من طريق أبي عبيدة ، وبرقم (٩٤٢) من طريق زر بن حبيش كلاهما عن ابن مسعود ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٩١) وزاد نسبته لابن المنذر عن مسروق.

(٢) أخرجه بنحوه ابن جرير الطبري برقم (٨٤١) عن ابن عباس وذكره السيوطي في الدر (١ / ١٢٦).

(٣) في ب : الكافر.

(٤) انظر نحوه في تفسير الرازي (٨ / ١١٨) ، وقيل : البر : العمل الصالح ، وفي الحديث الصحيح : «عليكم بالصدق ؛ فإنه يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة».

ينظر : تفسير القرطبي (٤ / ٨٦).

والحديث أخرجه البخاري (٦٠٩٤) ، ومسلم (١٠٣ ـ ٢٦٠٧) ، من حديث عبد الله بن مسعود.

(٥) ينظر تفسير الكشاف للزمخشري (١ / ٣٨٥) ، تفسير المحرر الوجيز (١ / ٤٧٢) ، تفسير البحر المحيط (٣ / ٤).

٤٢٥

وألبانها ، وكان من أحب الطعام إليه ، إن ثبت ما ذكر في القصّة : أن يعقوب ـ عليه‌السلام ـ أقبل يريد بيت المقدس ، فلقيه ملك ، فظن يعقوب أنه لص ؛ فعالجه (١) يصارعه حتى أضاء له الفجر ، فلما أضاء لهما الفجر غمز الملك فخذ يعقوب ، فتهيج عليه عرق النسا (٢) ؛ فكان يبيت الليل ساهرا من وجعه ، فأقسم : لئن شفاه الله ليحرّمنّ أحبّ الطعام والشراب إليه على نفسه ؛ فشفاه الله من ذلك ؛ فحرم لحم الإبل وألبانها ؛ لأنها من أحب الطعام والشراب إليه (٣).

فإن ثبت هذا فهو إنما حرم ذلك على نفسه بالإذن من الله ـ تعالى ـ والأمر منه.

ثم إن اليهود قالوا : إنما كان تحريم ذلك من الله في التوراة ؛ فأمر الله ـ تعالى ـ نبيّه أن قل لهم : (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ): أن ذلك التحريم من الله في التوراة (٤).

ويحتمل أن يكون التحريم كان بظلم منهم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ ..). الآية [النساء : ١٦٠] ؛ ثم أنكروا تحريم ذلك بظلمهم ، فدعوا بإحضار التوراة ؛ ليظهر كذبهم ، فأبوا ذلك (٥).

__________________

(١) يقال : عالجه فعلجه علجا : إذا زاوله فغلبه فيها ، أي : في المعالجة. الوسيط (٢ / ٦٢٠) (علج).

(٢) النسا : العصب الوركي ، وهو عصب يمتد من الورك إلى الكعب ، مثناه : نسوان ، ونسيان ، والجمع : أنساء. ينظر : الوسيط (٢ / ٩٢٠) (نسا).

(٣) ينظر : تفسير القرطبي (٢ / ٨٧) وجعله من قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي. والذي حرّمه يعقوب على نفسه في هذه القصة العروق.

أما تحريم لحوم الإبل وألبانها ففي حديث آخر : فعن ابن عباس قال : حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا أبا القاسم حدثنا عن خلال نسألك عنها لا يعلمهن إلا نبيّ فكان فيما سألوه : أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه قبل أن تنزل التوراة؟ قال : فأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب عليه‌السلام ، مرض مرضا شديدا فطال سقمه فنذر لله نذرا : لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحبّ الشراب إليه وأحب الطعام إليه ، فكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل ،. وأحب الشراب إليه ألبانها. فقالوا : اللهم نعم.

أخرجه أحمد (١ / ٢٧٣ ، ٢٧٨) ، والترمذي (٣١١٧) ، والحاكم (٢ / ٢٩٢) ، والطبري (٤٧٢٠) من طرق عن ابن عباس.

(٤) ينظر : تفسير الرازي (٨ / ١٢٣) ، اللباب (٥ / ٣٩٤).

(٥) قال القرطبي : اختلف : هل كان التحريم من يعقوب باجتهاد منه أو بإذن من الله تعالى؟ والصحيح الأول ؛ لأن الله ـ تعالى ـ أضاف التحريم إليه بقوله ـ تعالى ـ : (إِلَّا ما حَرَّمَ) [آل عمران : ٩٣] ، وأن النبي إذا أداه اجتهاده إلى شيء كان دينا يلزمنا اتباعه ؛ لتقرير الله ـ سبحانه ـ إياه على ذلك ، وكما يوحى إليه ويلزم اتباعه ، كذلك يؤذن له ويجتهد ، ويتعين موجب اجتهاده إذا قدر عليه. ولو لا تقدم الإذن له في تحريم ذلك ما تسوّر على التحليل والتحريم.

ينظر : تفسير القرطبي (٤ / ٨٧).

٤٢٦

فلا ندري كيف كانت القصة؟ ولكن فيه إثبات دلالة رسالة [رسولنا](١) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أخبر عمّا أسرّوا ، وأظهر ما كتموا.

قال أبو يزيد : إنما قدر أهل الكتاب على تغيير كتابهم ، والزيادة فيه والنقصان ، ولم يكن لأحد تغيير القرآن عن وجهه ، أو زيادة فيه أو نقصان منه ؛ لأن كتبهم تشبه كلام غيره من الحكماء (٢) ؛ فغيروا بغيره من كلام الحكماء ، وأمّا القرآن : فهو آية معجزة ، لم يقدروا على تحريفه ولا تبديله ، وإن علم أنه كان كما ذكر ؛ وإلا فهو ـ والله أعلم ـ ليهتك عليهم أستارهم ، وليظهر منهم (٣) ما كتموا ، وفيه إثبات لرسالة (٤) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)(٩٧)

[وقوله : (قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) الآية :

قد ذكرنا فيما تقدم (٥)](٦).

وقوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً) :

قيل فيه بوجوه ؛ قيل : إن أوّل بيت مبارك وضع للناس هو بكة (٧).

وقيل : أوّل مسجد وضع للناس مكة (٨).

وقيل : يريد ب «بكة» البقعة (٩) ، أي : أوّل بقعة خلق الله هو بكة ، ومنها دحيت

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) وهم : المشتغلون بعلم الحكمة ، وهو علم يبحث فيه عن حقائق الأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية ، وموضوعه الأشياء الموجودة في الأعيان والأذهان.

ينظر : أبجد العلوم (٢ / ٢٤٥).

(٣) في ب : عليهم.

(٤) في ب : الرسالة رسالة.

(٥) عند قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [البقرة : ١٣٥] ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً ...) [آل عمران : ٦٧].

(٦) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٧) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٩) برقم (٧٤٢٢) ، (٧٤٢٣) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٤٠٣) (٩٦٤) عن علي ، وعن السدي أخرجه ابن جرير (٧٤٣١) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٤٠٢) (٩٦٣) ، وعن مطر الوراق أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٠) (٧٤٢٥). وعن الشعبي أخرجه ابن أبي حاتم (٩٦٢) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٩٣) وزاد نسبته لابن المنذر.

(٨) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٠) برقم (٧٤٢٤) عن الحسن البصري ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٩٣) وزاد نسبته لابن المنذر.

(٩) أخرجه البيهقي في الشعب عن ابن عباس مرفوعا (٣ / ٤٣٢) ، رقم (٣٩٨٤) وابن جرير الطبري (٧ / ٢١) برقم (٧٤٢٩) عن مجاهد. وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٩٣) وعزاه للبيهقي في الشعب.

٤٢٧

الأرض (١).

وقيل : إن آدم ـ عليه‌السلام ـ لما أمر بالحج فيه ، قال جبريل ـ عليه‌السلام ـ : «قد حج فيه الملائكة قبلك بألفي عام» (٢).

وقيل : خلق الله البيت قبل الأرض بألفي عام (٣).

ثم اختلف في قوله «بكة» ؛ قيل «البكة» : الزحام (٤).

وقيل : «البكة» : موضع البيت ، ومكة سائر القرية (٥).

وعن ابن عباس (٦) ـ رضي الله عنه ـ قال : «مكة من فخ (٧) إلى التنعيم (٨) إلى المنحر ، وبكة : من البيت إلى البطحاء» (٩).

وقيل : «بكة» : الكعبة ؛ حيث يبك الناس ، أي : يزدحم بعضهم بعضا ، ب «مكة» : ما وراءها (١٠).

وقوله : (مُبارَكاً) ، قيل : يغفر فيه الذنوب والخطايا.

__________________

(١) دحيت الأرض : أي : بسطت ووسعت ، يقال : دحا الأرض : أوسعها ، ودحيت الشيء أدحاه دحيا : بسطته.

ينظر : لسان العرب (٢ / ١٣٣٨) (دحي).

(٢) أخرجه بنحوه ابن جرير الطبري (٧ / ٢١) برقم (٧٤٣٣) عن قتادة.

(٣) أخرجه البيهقي في الشعب (٣ / ٤٣١) (٣٩٨٣) ، وابن جرير (٧ / ٢٠) برقم (٧٤٢٨) عن عبد الله بن عمرو ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٩٣) وزاد نسبته لابن المنذر عن أبي هريرة ، وابن عمرو.

(٤) أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (٧ / ٢٤) رقم (٧٤٣٩) عن سعيد بن أبي عروبة.

(٥) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٤) (٧٤٣٥) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٤٠٨) (٩٧٨) عن أبي مالك الغفاري ، وعن عطية العوفي أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٥) (٧٤٤٣) ، وبنحوه قاله الزهري أخرجه ابن جرير (٧٤٤٤) ، وذكره السيوطي (٢ / ٩٤) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد.

(٦) أخرجه ابن أبي حاتم برقم (٢ / ٤٠٨) (٩٧٧) ، وذكره ابن كثير في تفسيره (١ / ٣٨٣) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٩٤).

(٧) فخ : موضع بمكة ، دفن به ابن عمر رضي الله عنهما. القاموس المحيط ص (٢٣٣) ، (فخخ).

(٨) التنعيم : هو من الحل بين مكة وسرف ، عن فرسخين من مكة ، وقيل : على أربعة أميال ، وسميت بذلك ؛ لأن جبلا عن يمينها يقال له : نعيم ، وآخر عن شمالها ، يقال له : ناعم ، والوادي نعمان بفتح النون.

ينظر : المطلع على أبواب المقنع ص (١٧٥).

(٩) وقيل : «بكة» لغة في «مكة» ؛ فإن العرب تعاقب بين الباء والميم ؛ كما في قولهم (ضربة لازب ، ولازم) و (النميط والنبيط) في اسم موضع بالدهناء. وقولهم : (أمر راتب وراتم) و (أغبطت الحمى وأغمطت).

ينظر : محاسن التأويل للقاسمي (٤ / ١٥٠).

(١٠) البطحاء : مسيل فيه دقاق الحصى. وبطحاء الوادي : تراب لين مما جرته السيول ، والجمع : بطحاوات وبطاح. ينظر : لسان العرب (١ / ٢٩٩) (بطح).

٤٢٨

(وَهُدىً لِلْعالَمِينَ. فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) :

يحتمل قوله : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) ـ ما لو تأمّلوا لهداهم ؛ وذلك أن الله ـ عزوجل ـ خلق هذا البيت بين الجبال في أرض ملساء قليلة الإنزال والريع (١) ، لا ماء فيه ولا شجر ولا نزهة ؛ ما لا يرغب الخلق إلى مثله ، ثم جعل قلوب الناس تميل وتهوى إليه أفئدتهم من غير أن كان فيه ما يرغبهم من النزهة ، فلو لا أن كان ذلك من آيات الله ولطفه ؛ وإلا ما رغب الناس إلى مثله.

ويحتمل قوله : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) ـ ما ذكر : (مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) ، وذلك آياته ، والله أعلم.

وقوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) : ظاهره فيمن يجنى (٢) ، ثم دخل الحرم آمن (٣) ؛ لأن من لم يجن فهو آمن أين دخل من الحرم وغيره ، وإنما الآية على ما يخص بالأمن إذا دخل الحرم دون غيره.

وقد روي عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يوافق هذا ، وروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : «إذا أصاب الرجل الحدّ (٤) في الحرم ، أقيم عليه ، وإن

__________________

(١) الريع : النماء والزيادة. ينظر : لسان العرب (٣ / ١٧٩٣) (ريع).

(٢) من الجناية ، وهي لغة : الذنب والجرم ، مصدر جنى ، واصطلاحا : كل فعل محظور يتضمن ضررا على النفس أو غيرها ، وهي في الشرع اسم لكل فعل محرم يحل بمال أو بنفس ، لكن الفقهاء خصوا لفظ الجناية بالأفعال التي تحل بالنفس والأطراف فقط ، وجعلوا ما يحل بالمال غصبا وسرقة وإتلافا.

ينظر : حاشية رد المحتار لابن عابدين (٥ / ٣٣٩).

(٣) لا خلاف بين الفقهاء في أن من دخل الحرم مقاتلا وبدأ القتال فيه ، يقاتل وذلك لقوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) [البقرة : ١٩١] وكذلك من ارتكب في الحرم جريمة من الجرائم المنصوص عليها حدودا أو قصاصا فإنه يقتل فيه اتفاقا لاستخفافه بالحرم ، أما من وجب عليه حد أو قتل بقصاص أو رجم بالزنا وغيره فالتجأ إلى الحرم ففيه ثلاثة أقوال :

أحدها : وهو مروي عن أبي حنيفة ، وعمر وابن عباس وسعيد بن جبير والحكم بن عتيبة ، وإسحاق بن راهويه والظاهرية وهو رواية عن أحمد : أنه آمن ما دام في الحرم لقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧].

الثاني : وهو مروي أيضا عن أحمد وأبي حنيفة : إن كان قاتلا لم يقتل حتى يخرج من الحرم ، وإن كانت الجناية فيما دون النفس أقيم عليه الحد.

الثالث : وهو قول مالك والشافعى : أن الحدود تقام فيه ويستوفى القصاص لقوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ)[البقرة : ١٩١].

وانظر : أدلة مذاهب الفقهاء في حاشية ابن عابدين (٢ / ٢٥٦) ، بدائع الصنائع (٧ / ١١٤) ، تبيين الحقائق (٢ / ٧٠) ، مواهب الجليل للحطاب (٣ / ٢٠٣ ، ٢٠٤) ، وشرح المهذب للنووي (٧ / ٢١٥) ، إعلام الساجد للزركشي ص (١٦٤) ، الأحكام السلطانية للماوردي (١٩٣).

(٤) الحد ـ لغة ـ : هو المنع ، ومنه سمي البواب والسجان حدادا لمنع الأول من الدخول ، والثاني من ـ

٤٢٩

أصابه في غير الحرم ، ثم لجأ إليه ، لا يحدّث ، ولا يجالس ، ولا يؤاكل ، ولا يبايع ، حتى يخرج منه ؛ فيؤخذ ، فيقام عليه الحد» (١).

وروي عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : «لو وجدنا قاتل أبينا في الحرم لم نقتله» (٢).

وروي عن الحسن ـ رحمه‌الله ـ أنه قال في قوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) ـ كان هذا في الجاهلية ، فأما الإسلام : فلم يزده إلا شدة : من أصاب الحدّ في غيره ، ثم لجأ ـ إليه أقيم عليه الحدّ (٣).

يقال للحسن : إن الصيد كان يأمن في الجاهلية ، ثم الإسلام لا يرفع ذلك الأمن ؛ بل كان أمن الصيد في حال الإسلام. كهو في حال الجاهلية ؛ فعلى ذلك الأمن الذي كان في الجاهلية هو باق غير زائل في الإسلام.

وأصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ يذهبون إلى ما روي عن ابن عباس وابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله ـ تعالى ـ حرّم مكّة يوم خلقها ؛ لم تحلّ لأحد قبلي ولا تحلّ لأحد بعدي ، وإنّما أحلّت لى ساعة من نهار ، لا يختلي خلاها ، ولا يعضد شجرها ، ولا ينفّر صيدها ، ولا يحتشّ حشيشها» (٤). أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن مكة بعد

__________________

 ـ والخروج.

وحدود الله ـ تعالى ـ : محارمه.

والحد ـ اصطلاحا ـ : عقوبة مقدرة وجبت حقا لله ـ تعالى ـ على ذنب كالزنا والسرقة ، وشرب الخمر ، وغيرها.

ينظر : المصباح المنير ص (٤٨) (حدد) ، حاشية ابن عابدين (٣ / ١٤٠) ، بداية المجتهد (٢ / ٣٣٠).

(١) أخرجه ابن جرير في تفسيره (٧ / ٢٩ ، ٣٣) برقم (٧٤٥٤) ، (٧٤٥٩) ، (٧٤٦١) (٧٤٦٨) ، (٧٤٦٩) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٤١٤) (١٠٠٤) ، وعن عطاء بن أبي رباح أخرجه ابن جرير (٧٤٦٧) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٩٧) ، وزاد نسبته لابن المنذر ، والأزرقي ، وعبد بن حميد.

(٢) أخرجه ابن جرير الطبري (٧ / ٣٢) (٧٤٦٣) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٩٧) وعزاه لابن جرير عن ابن عمر ، ولعبد بن حميد وابن المنذر والأزرقي عن عمر بن الخطاب ، ولعبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس.

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ٣٠) برقم (٧٤٥٨) ، وعن قتادة أخرجه عنه ابن جرير (٧ / ٢٩) ، برقم (٧٤٥٤) ، (٧٤٥٥) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٤١٦) (١٠٠٦) ، وعن مجاهد أخرجه ابن جرير (٧ / ٣٠) برقم (٧٤٥٦) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٩٦ ـ ٩٨) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر.

(٤) أخرجه البخاري (٤ / ٥٢٠) في كتاب جزاء الصيد ، باب : لا ينفر صيد الحرم برقم (١٨٣٣) ، وفي (٥ / ٤١) كتاب البيوع : باب ما قيل في الصواع (٢٠٩٠) ، ومسلم في (٢ / ٩٨٨) كتاب الحج : باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام (١٣٥٣) من حديث ابن عباس.

٤٣٠

الإسلام حرام ؛ كما كانت قبله ، وأنها لم تحلّ له إلا ساعة من نهار ، فإذا كان الملتجئ آمنا قبل الإسلام ؛ فالواجب أن يكون آمنا بعد الإسلام ، حتى يخرج منها.

وحجة أخرى : وهو أن الله ـ تعالى ـ أباح لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل المشركين جميعا ، بل فرض ذلك عليه ، إلا أهل مكة ؛ فإنه لم يحلّ له قتلهم إلا ساعة من نهار (١) ، ففضّل مكة على غيرها بما خصّها به من التحريم ؛ فلا يبعد ألا يقام على من التجأ إليها في الإسلام ؛ إذ كانت جنايته أقل من كفر أهلها ، ولم يحلّ قتالهم إلا ساعة من نهار.

وفي الفرق [بين] من قتل فيها وفي غيرها ، ثم لجأ إليه ـ وجه آخر : قال الله ـ تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) [البقرة : ١٩١] : أباح لهم القتل عند المسجد الحرام ، إذا قاتلونا ؛ فعلى ذلك يقام الحدّ إذا أصاب وهو فيه ، وإذا أصاب ـ وهو في غيره ـ ثم لجأ إليه : لم يقم ؛ كما لم يقاتلوا إذا لم يقاتلوا ، وهذا فرق حسن واضح [بحمد الله وعونه](٢).

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في قوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) ـ : يحتمل أن يكون خبرا من الحرم في قديم الدهر : أنه كان على ما بين الخلق من القتال والحرب يأمنون بالحرم ، إذا التجئوا إليه ؛ وذلك كقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٦٧] ؛ فيكون ذلك من عظيم آيات الله ـ تعالى ـ أن أهل الجاهلية ـ على عظيم ما بدلوا من الأمور ، وغيروا من الدين ـ منعهم الله ـ تعالى ـ عن هذا التغيير ؛ حتى بقيت لكل من شهده آية أن الله له هذا السلطان ، وبه قام هذا التدبير العظيم ، له العلم بحقائق الأشياء ، ووضع كل شيء موضعه ؛ وعلى ذلك قال بعض أهل التأويل في قوله : (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ) [المائدة : ٩٧] ـ إن الله قد جعل ـ جل ثناؤه ـ ذلك كالماء في الشرع والطبع ، فأمّا الشرع : فما جاءت به الرسل ، وأمّا الطبع : فما تنافر الناس ، حتى سار ذلك إلى الصيد الذي يؤذيه الأخذ ، وإلى أنواع الأشياء التي قامت بجوهر تلك البقعة من النبات ، لا بأسباب تكتسب ؛ ولهذا كره بيع رباع مكة (٣) ،

__________________

(١) تقدم قريبا وهو الحديث السابق.

(٢) في ب : والله أعلم.

(٣) الرباع ـ بكسر الراء ـ المنازل ودار الإقامة فيرى الحنفية وهو المشهور من مذهب مالك ورواية عن الإمام أحمد أنه لا يجوز بيع رباع الحرم وبقاع المناسك ولا كراؤها لحديث : «مكة حرام وحرام بيع رباعها ، وحرام أجر بيوتها» أخرجه الدارقطنى (٣ / ٥٧) وصوب وقفه.

وذهب الشافعية وهو رواية عن مالك وأحمد أنه يجوز بيع وإجارة دور الحرم ؛ لأنها على ملك أربابها يجوز لهم التصرف فيها ببيع ورهن وإجارة ، واستدلوا للجواز بعموم النصوص الواردة في جواز البيع من غير فصل وانظر تفصيل ذلك باستفاضة في : إعلام الساجد بأحكام المساجد ـ

٤٣١

ورخص في بيع ما يحدث فيه من البنيان ، والله أعلم.

ودلّ قوله : و (جَعَلْنا) كذا ـ على لزوم ذلك الحق ؛ لأنه مذكور بحرف الامتنان ، والاحتجاج له ، ولا يجوز تغير الذي هذا وضعه ، والله أعلم.

ويحتمل : كأن صار آمنا ، أي : أوجب له الأمان ، ومعلوم أن الذي لم يلزمه القتل كان آمنا دون دخوله ؛ فثبت أن ذلك فيمن لزمه ؛ وأيّد ذلك قوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فهم قوم قد سبق منهم الكفر (١) وقت شرع القتل بالكفر ، لم يأخذهم حق الشرع على ما سبق من الكفر في وقت لم يكن ذلك جزاءه (٢) في الدنيا ، إلا أن يحدث القتال ؛ فعلى ذلك من لزمه ـ لا فيه ـ فهو يأمن به ، إلا أن يكون أحدثه فيه ، والله أعلم.

وأصله : أنه أضاف الأمان إلى نفسه بقوله : (كانَ آمِناً) فكل حق بتلف نفسه فله أمان بالدخول فيه ، وكل حق في إقامته إحياء ما جعلت الحياة لنفع مثله ـ فهو يقام ؛ ليكون زجرا له ، وتكفيرا على بقاء الأمن ؛ ليقى نفسه ، وردّه إلى ما لم يدر أنه التجأ إليه ؛ للهرب عن حكم الله ـ تعالى ـ أو للأمان بالله ؛ ليصل إلى إقامة أحكام الله ـ تعالى ـ آمنا ، وفي إقامته هذا أيضا ، والله أعلم.

وقوله (٣) : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)

فرض الله ـ تعالى ـ الحج بهذه الآية على من استطاع إليه سبيلا ، ولم يبين ما السبيل ، وبين ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حيث سئل عن الاستطاعة؟ فقال : «الزّاد ، والرّاحلة» (٤) ، وهكذا يقول علماؤنا (٥) : إن الاستطاعة والسبيل هو الزاد والراحلة ؛ كما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

 ـ للزركشي (١٤٤) وما بعدها ، والبدائع للكاساني (٥ / ١٤٦) ، والفروق للقرافي (٤ / ١٠ ـ ١١) ، كشاف القناع للبهوتي (٣ / ١٦٠).

(١) في ب : القتل.

(٢) في ب : جزاء.

(٣) في ب : وقوله ـ عزوجل ـ.

(٤) أخرجه الترمذي (٢ / ١٦٦) أبواب الحج : باب ما جاء في إيجاب الحجّ بالزاد والراحلة ، (٨١٣) ، (٥ / ١٠٢ ـ ١٠٣) : أبواب تفسير القرآن : باب ومن سورة آل عمران ، (٢٩٩٨) ، وابن ماجه (٤ / ٤٠١) : كتاب المناسك : باب ما يوجب الحج ، (٢٨٩٦) ، والدار قطني (٢ / ٢١٧) ، والبيهقي (٥ / ٥٨) من طريق إبراهيم بن يزيد المكي عن محمد بن عبّاد بن جعفر المخزومي عن عبد الله بن عمر ابن الخطاب قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ما يوجب الحجّ؟ قال : «الزاد والراحلة». وإبراهيم بن يزيد المكي هو الخوزي ـ متروك الحديث كما في التقريب ترجمة (٢٧٤).

(٥) انظر : المبسوط (٤ / ١٢٢) ، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني (٢ / ١٢٠) ، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي (٢ / ٤).

٤٣٢

وقال بعض الناس : إذا كان بينه وبين الحج بحر ، لم يلزمه الحج ؛ فكأنه ذهب إلى ظاهر الآية : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ؛ فجعل البحر وأشباهه مزيلا للاستطاعة (١) ؛ فخالف ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الاستطاعة؟ فقال : «الزّاد والرّاحلة» (٢) ؛ فلم يجز لأحد أن يزيد في شرائط الاستطاعة مع الزاد والراحلة ؛ لأن النبي ـ عليه‌السلام ـ هو المبين عن الله ؛ فعلينا اتباعه في قوله وفعله وتفسيره الآية ، ولكنا نجعل من يحول بينه وبين البيت معذورا في التأخير ، ولا يأثم ـ إن شاء الله تعالى ـ إذا لم يقدر على الوصول إلى البيت بعلة على ما جعل التأخير في غيرها من العبادات عند الأعذار والعلل ، ولا يأثم في ذلك.

ثم في الآية دلالة أنه لا يلزم المرأة الحج إلا بالمحرم (٣) ؛ لأن المرأة ـ وإن وجدت الزاد والراحلة ـ فإنها تحتاج إلى من يركبها وينزلها ، ولا تقدر على ذلك إلا بغيرها ، وهكذا العرف فيهن ، فإذا كان كذلك جعل كأنها غير واجدة للراحلة ، والله أعلم.

وفيه دلالة أن العبد إذا حج ثم أعتق ـ لزمه حجة الإسلام (٤) ؛ لأنه لا يملك الزاد والراحلة ، فإذا لم يملك الزاد والراحلة لم يجز ذلك من حجة الإسلام وكذلك روي عنه

__________________

(١) مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد أنه يجب الحج في البحر إن غلبت فيه السلامة وإلا فلا وهذا هو الصحيح عند الشافعي وأصحابه ، ومما جاء في هذه المسألة من الأحاديث حديث بن عمرو بن العاص أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يركبن أحد بحرا إلا غازيا أو معتمرا أو حاجا وإن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا» رواه أبو داود والبيهقي وآخرون ، قال البيهقي وغيره : قال البخاري : هذا الحديث ليس بصحيح ، ورواه البيهقي من طرق عن ابن عمرو موقوفا والله أعلم. انظر : المجموع للنووي ص (٧ / ٦٦ ـ ٦٧).

(٢) تقدم تخريجه قريبا.

(٣) اتفق الفقهاء على أن المرأة يلزمها الحج إن استطاعت واستطاعتها كاستطاعة الرجل ، واختلفوا في اشتراط المحرم لها فشرطه أبو حنيفة لوجوب الحج عليها إلا أن يكون بينها وبين مكة دون ثلاث مراحل. وقال عطاء وسعيد بن جبير وابن سيرين ومالك والأوزاعي والشافعي في المشهور عنه : لا يشترط المحرم بل يشترط الأمن على نفسها ويحصل الأمن بزوج أو محرم أو نسوة ثقات.

انظر تفصيل مذاهب الفقهاء وأدلتهم في : الهداية للمرغيناني (١ / ١٣٥) ، بدائع الصنائع للكاساني (٢ / ١٢٣) ، والذخيرة للقرافي (٣ / ١٧٩) ، الأم للشافعي (٥ / ٣٨) ، شرح صحيح مسلم للنووي (٥ / ١١٧) ، الشرح الكبير للرافعي (٣ / ٢٩١) ، الفروع لابن مفلح (٣ / ٢٣٤) ، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي (٣ / ٣٩٧).

(٤) العبد المملوك لا يجب عليه الحج ؛ إذ إنه مستغرق في خدمة سيده ؛ ولأن الاستطاعة شرط ولا تتحقق إلا بملك الزاد والراحلة والعبد لا يتملك شيئا ، فلو حج المملوك ولو بإذن سيده صح حجه وكان تطوعا لا يسقط به الفرض ويأثم إذا لم يأذن له سيده بذلك وعليه أن يحج إذا أعتق ؛ لخبر البيهقي في السنن الكبرى (٥ / ١٧٩): «أيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة أخرى».

٤٣٣

صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أيّما عبد حجّ ولو عشر حجج ؛ فعليه إذا أعتق حجّة الإسلام» (١). وليس كالحرّ ـ الفقير يحج ، ثم أيسر : جاز ذلك من حجة الإسلام ؛ ففرقوا بينهما ، وإن كانا في زوال الحج في الابتداء سواء ؛ وذلك أن الفقير إذا بلغ ذلك المكان صار غنيا ، ولزمه الفرض ؛ لأنه لا يحتاج حينئذ إلى زاد وراحلة ، وأمّا العبد إذا حضر ذلك المكان لم يعتق ؛ لذلك افترقا.

وفي ذلك حجة أخرى : ما أجمع أهل العلم أن فقيرا لو حضر القتال ضرب له بسهم كامل ؛ كما يضرب لمن كان فرض الجهاد لازما له ، ولو أن عبدا شهد الوقعة رضخ (٢) له ، ولم يكمل له سهم الحرّ ؛ فافترقت حال الفقير والعبد في : الجهاد ، والضرب في السّهمان ؛ فعلى ذلك يفترق حالهما في الحج ، والله أعلم.

وقال بعض أهل العلم : إن الشيخ الذي لا يستمسك على الراحلة (٣) ، [إذا وجد غيره يحج عنه ـ يلزمه فرض الحج ؛ فما ينكر من قال في المرأة بمثله ، فاحتج بما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : «جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إن أبي

__________________

(١) أخرجه الطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد (٣ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩) ، والحاكم (١ / ٤٨١) ، والبيهقي (٤ / ٣٢٥) ، والخطيب في تاريخ بغداد (٨ / ٢٠٩). من طريق محمد بن المنهال ثنا يزيد بن زريع ثنا شعبة عن سليمان الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيما صبي حجّ ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى ، وأيما أعرابي حجّ ثم هاجر فعليه حجة أخرى ، وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى».

ورجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في المجمع.

(٢) الرضخ ـ بفتح الراء وسكون الضاد وبالخاء المعجمتين ـ : مأخوذ من الشيء المرضوخ وهو المرضوض المشروخ وهو أن يعطى شيئا قليلا دون سهم المقاتلين. انظر : الزاهر للأزهري (٢٨٣) ، المغني في الإنباء عن غريب المهذب والأسماء لابن باطيش (١ / ٦٣٧).

(٣) وهذه المسألة تعرف في كتب الفقهاء بالمعضوب ومن المتفق عليه أن سلامة البدن من الأمراض والعاهات التي تعوق عن الحج شرط لوجوب الحج فلو وجدت الشروط في شخص ما وهو مريض لا يستمسك على الراحلة إلا بمشقة عظيمة كهرم وضعف بيّن أو علّة أو شلل أو فالج أو غير ذلك من الأمراض فلا يجب عليه أن يؤدى بنفسه فريضة الحج اتفاقا ، غير أنهم اختلفوا هل صحة البدن شرط لأصل الوجوب أو هي شرط للأداء بالنفس؟ فذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنها شرط للوجوب ، وبناء على ذلك لا يجب على فاقد صحة البدن أن يحج بنفسه ولا بإنابة غيره ، ولا الإيصاء بالحج عنه في المرض.

وذهب الشافعية والحنابلة وأبو يوسف ومحمد من الحنفية إلى أن صحة البدن ليست شرطا للوجوب بل هي شرط للزوم الأداء بالنفس ، فمن كان هذا حاله يجب عليه الحج بإرسال من ينوب عنه.

انظر تفصيل الأدلة في : المبسوط للسرخسي (٤ / ١٥٣) ، بدائع الصنائع (٢ / ١٢١) ، شرح المهذب (٧ / ٩٧) ، نهاية المحتاج (٢ / ٣٨٥) ، الكافي لابن قدامة (١ / ٢١٤).

٤٣٤

شيخ فأدركته فريضة الحج ، وهو لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة](١) ؛ أفيجزئ أن أحج عنه؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه ، أكان يقبل منك»؟ قال : نعم ؛ قال : «فالله أولى بحجّ أبيك» (٢) أو كلام نحوه ، ولكن ليس في الخبر أن فريضة الحج إنما أدركته في الحال التي لا يستمسك على الراحلة ، فيجوز أن أدركته فريضة الحج قبل ذلك ؛ فكذلك يقول علماؤنا : إن الحج إذا وجب فأخّر أداءه حتى أعسر ـ لم يسقط عنه الحج ، وكذلك إن (٣) وجب عليه الحج فلم يحج حتى كبر ، فصار لا يستمسك على الراحلة ، عليه أن يوصي ليحجّ عنه.

ويحتمل ـ أيضا ـ أنه رغبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحج عنه تبرعا (٤) ، لا أنه ألزمه الحج في ذلك الوقت الذي لا يثبت على الراحلة ـ وعندنا أنه لا يلزمه ؛ لأنه إذا لم يستمسك على الراحلة فلا راحلة له ، ثم من قول هذا القائل : إن من لزمه فرض الحج ، فله التأخير ، وفي التأخير فوت أو إدراك المنيّة ، ومن قوله : إنه لو أخر حتى مات يصير فاسقا ؛ فإذا مات مات فاسقا ، يجعل له رخصة (٥) التأخير ، ثم يفسقه ؛ فكأنه يجعل له الرخصة في الفسق ، فذلك قبيح وخش من القول سمج.

وأمّا عندنا : فإنه لا يسع له التأخير في أوّل أحوال الإمكان (٦) على تمام شرط الاختيار ؛

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٢) أخرجه النسائي (٨ / ٢٢٩) : كتاب آداب القضاة : باب الاختلاف على يحيى بن أبي إسحاق فيه ، من طريق سليمان بن يسار عن ابن عباس بهذا اللفظ. وأخرجه بنحوه البخاري (٤ / ٥٤٦) : كتاب جزاء الصيد : باب حج المرأة عن الرجل ، (١٨٥٥) ، ومسلم (٢ / ٩٧٣) : كتاب الحج : باب الحج عن العاجز ، (٤٠٧ ـ ١٣٣٤) من طريق مالك عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس أنه قال : كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه ، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر. قالت : يا رسول الله : إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال : نعم. وذلك في حجة الوداع.

(٣) في ب : إذا.

(٤) في ب : متبرعا.

(٥) الرخصة ـ بالتسكين ـ : مأخوذة من الترخيص وهو ـ لغة ـ : السهولة والتيسير ، قال الجوهري : الرخصة في الأمر : خلاف التشديد فيه ومن ذلك رخص السعر : إذا تيسر وسهل.

واصطلاحا : ما ثبت على خلاف الدليل لعذر أي : هي الحكم الذي شرع ثانيا دفعا لحاجة الناس بعد أن اقتضى خلافه دليل متقدم عليه.

انظر : الصحاح للجوهري (رخص) ، لسان العرب (٣ / ١٦١٦) (رخص) ، نهاية السول مع حاشية الشيخ بخيت (١ / ١٢٣).

(٦) وهذه المسألة مبنية على أن الحج على الفور أو التراخي. فإن قلنا : إنه على التراخي فلو أخره عن أول عام قدر فيه إلى عام آخر لا يكون عاصيا بالتأخير ولكن بشرطين : ـ

٤٣٥

كغيره من العبادات التي لزمت ، من نحو الصلاة ، والصيام ، وغيرهما ؛ لا يسع التأخير ؛ فعلى ذلك الحج. ثم من قول الشافعى ـ رحمه‌الله ـ : إن على الكافر الحج والصلاة والصيام في حال كفره (١) ، فإذا أسلم سقط ذلك عنه ؛ فذلك عندنا لعب وعبث في دين الله ـ تعالى ـ غير جائز أن يلزمه فرض في حال لا يجوز له فعله ، فإذا جاء سبب الجواز يسقط عنه ذلك.

وفي الآية دلالة أن الحج إنما كان (٢) فرضا على المؤمنين خاصة ؛ بقوله : (وَمَنْ كَفَرَ) بالحج (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) فلو كان هو [على](٣) الكافر كما هو على المسلم ، لم يكن لقوله معنى ؛ دل أنه غير لازم ، والله أمر بالعبادات باسم المؤمنين.

ثم المسألة بيننا وبين المعتزلة في الاستطاعة ، قالت المعتزلة : تكون قبل الفعل ؛ لأن الله ـ تعالى ـ فرض الحج ، وأمر بالخروج إليه ، إذا قدر على الزاد والراحلة ؛ على ما فسره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإذا لم يقدر لم يلزمه ؛ فدلّ أنها تتقدم.

__________________

 ـ الأول : أن يعزم على الفعل فيما بعد ، وإلا حصل الإثم بالتأخير.

والثاني : ألا يتضيقا بنذر أو قضاء نسك أو خوف فوات ؛ لكبر سن وعجز عن الوصول ، أو لضياع مال ، فإن تضيقا بشيء من ذلك وجب عليه الحج فورا وإلا كان عاصيا بالتأخير. هذا مذهب الشافعية ، وقال مالك وأحمد وجمهور أصحاب أبي حنيفة والمزني من الشافعية : إنه على الفور حتى لا يباح له التأخير بعد الإمكان إلى العام الثاني ، فإن أخر كان آثما ويفسق وترد شهادته إلى أن يحج.

وانظر دليل كل فريق في : فتح القدير (٢ / ١٢٣) ، المسلك المتقسط ص (٢٤٢) ، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (٢ / ٢ ـ ٣) ، الأم (٢ / ١١٧) ، روض الطالب (١ / ٤٥٦) ، مغني المحتاج (١ / ٤٦٠) ، الفروع لابن مفلح (٣ / ٢٤٢).

(١) وهذه المسألة مترجمة بخطاب الكفار بفروع الشريعة ، فقد اختلف علماء الأصول في تكليف الكفار بفروع الشريعة على مذاهب ، أصحها : نعم ، قال إمام الحرمين في البرهان وهو ظاهر مذهب الشافعي فعلى هذا يكون مكلفا بفعل الواجب وترك الحرام وبالاعتقاد في المندوب والمكروه والمباح.

والثاني : لا ، وهو اختيار أبي إسحاق الأسفرائيني.

والثالث : إنهم مأمورون بالنواهي دون الأوامر.

والرابع : إنهم مأمورون بكل شيء عدا الجهاد.

الخامس : تكليف المرتد دون الكافر الأصلى. والصحيح من كتب علماء الأصول أنه مخاطب بالفروع كما هو مخاطب بأصل الإيمان والمراد أنهم لا يطالبون بها في الدنيا مع كفرهم وإن أسلم أحدهم لم يلزم قضاء ما فات بل إنهم يعذبون عليها في الآخرة زيادة على عذاب الكفر. ينظر : البرهان (١ / ١٠٧) ، البحر المحيط للزركشي (٣ / ٣٦) ، الإبهاج لابن السبكي (١ / ١٧٧) ، كشف الأسرار للنسفي (١ / ١٣٧) ، ميزان الأصول (١ / ٣٠٤).

(٢) في ب : كان ذلك.

(٣) سقط في ب.

٤٣٦

وأمّا عندنا (١) : فهي على وجهين :

أحدهما : استطاعة الأسباب والأحوال.

والثاني : استطاعة الأفعال.

فأمّا استطاعة الأحوال والأسباب : فيجوز تقدمها ، من نحو : الزاد ، والراحلة ، والجوارح السليمة.

وأمّا استطاعة الأفعال فإنها لا تكون إلا مع الفعل ؛ لأنها استطاعة الفعل وسببه ؛ فلا تكون إلا معه ، والوقت في الحج لفعل الحج لا للإيجاب ؛ لأنه لو كان للإيجاب لكان له ألا يخرج ، ولا يأتي ذلك المكان فيجب عليه الحج ؛ ولأنه لو لم يلزمه إلا بالوقت ، ثم لا يتمكن فعله به دون المكان فيجئ ـ لا يلزمه إلا بحضور ذلك ، فلا يلزمه الخروج أبدا ؛ إذ (٢) الحج غير لازم [إلا بالوقت](٣) ، ولأنه ليس على العبد أن يتكلف في اكتساب إيجاب العبادات ، وعليه أن يجهد في أداء الواجب عليه.

ثم الأوقات على أقسام ثلاثة :

وقت الإيجاب والأداء جميعا نحو : الصلاة ، والصيام ، ونحوهما. ووقت الإيجاب ، نحو : الزكاة. ووقت الأداء ـ وهو الحج ـ إنما وجوبه بالزاد والراحلة ، وأمّا الوقت : فهو للأداء خاصّة ، فإذا كان في أقصى بلاد المسلمين فهو لم يعط قدرة فعل الحج ؛ لأنه لا يقدر على فعله إذا كان فيما ذكر (٤) ؛ دل أن قدرة الفعل لا تتقدم الفعل ، وقدرة الأحوال تتقدم لما ذكرناه ، والله أعلم.

وقوله : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ).

في الآية دلالة أن الله ـ عزوجل ـ إذا أمر عباده بأمر ليس يأمره لحاجة نفسه ، ويأمر لحاجة العبد ؛ لأنه غنى بذاته ، لا حاجة تمسّه ، وأمّا الأمر فيما بين الخلق : فإنما هو لحاجة بعضهم لبعض : إمّا جر منفعة ، أو دفع مكروه ، فذلك معنى قوله : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ).

ثم اختلف في قوله : (وَمَنْ كَفَرَ) : عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ (وَمَنْ كَفَرَ) قال : من زعم أنه لم ينزل (٥).

__________________

(١) ينظر : الهداية (١ / ١٦٢).

(٢) في ب : إذا كان.

(٣) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٤) في ب : ذكرنا.

(٥) أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٤٢٨) برقم (١٠٣٥) من طريق عاصم ، وابن جرير (٧ / ٤٧) برقم (٧٥٠٠) من طريق مقسم كلاهما عن ابن عباس.

٤٣٧

وعن الحسن : (وَمَنْ كَفَرَ) قال : من زعم أن الحج ليس بواجب (١).

وقيل : (وَمَنْ كَفَرَ) بالله ، قال : هو الذي إن حج لم يرج ثوابه ، وإن جلس لم يخش عقابه (٢).

وعن ابن عباس (٣) قال : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ، والسبيل أن يصح بدن العبد ، وأن يكون له ثمن زاد وراحلة ، من غير أن يحجب».

ثم قال : (وَمَنْ كَفَرَ) ، يقول : ومن كفر بالحج فلم ير حجه برّا ، ولا تركه إثما (٤).

[وفي] قوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) دلالتان :

إحداهما : في الوجوب بقوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ) ، وأيد ذلك قوله : (وَمَنْ كَفَرَ) وما جاء من الأثر واتفاق القول.

والثانية : جعل البيت شرطا للقيام لما هو في قوله : (عَلَى النَّاسِ) ذلك ؛ فيكون فيه دليل لزوم (٥) الطواف ، تفسيره في قوله : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج : ٢٩] ، وكذلك أيده قوله : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) [البقرة : ١٥٨] ، وأيّد ـ أيضا ـ ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في امرأة نفست : «أحابستنا هى؟» (٦) قيل : إنها أفاضت. وعلى ذلك اتفاق القول بلزوم الطواف ، والله أعلم.

فلما دلّ أن الطواف لازم لم يخل إمّا أن يكون الطواف المبدأ به في الحج ، أو الذي يختم به ، والذي يبدأ به لا يلزم كل الناس ـ ثبت أن الفرض هو الذي يختم به ، وهو

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ٤٨) برقم (٧٥٠٧) ، وعن عمران القطان (٧ / ٤٧) برقم (٧٥٠٣) ، وأخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٤٢٩) برقم (١٠٣٦) عن ابن عباس.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ٤٨) برقم (٧٥٠٩ ، ٧٥١٠) عن مجاهد بن جبر ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٠١).

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ٣٨) برقم (٧٤٧٦ ، ٧٤٧٧) ، (٧٤٨٠) ، وابن أبي حاتم الرازي (٢ / ٤٢٥) (١٠٢٦) عن عكرمة.

(٤) أخرجه ابن جرير (٧ / ٤٩) ، (٧٥١٢) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٤٢٩) (١٠٣٧) ، والبيهقي في الشعب (٣ / ٤٢٧) (٣٩٧١). وعن أبي داود نفيع مرفوعا أخرجه ابن جرير (٧ / ٤٨) برقم (٧٥١١) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٠١) وزاد نسبته لابن المنذر.

(٥) الطواف بالبيت ركن من أركان الحج ؛ لقوله تعالى : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج : ٢٩] والمراد به طواف الإفاضة ؛ لانعقاد الإجماع على ذلك ولهذا الطواف أسماء غير ذلك منها طواف الزيارة ، وطواف الفرض وقد يسمى طواف الصّدر ، والأشهر أن طواف الصدر هو طواف الوداع.

انظر : هداية السالك لابن جماعة (١ / ٤٩).

(٦) أخرجه البخاري في صحيحه (٤ / ٤١٧) كتاب الحج ؛ باب : إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت ، ومسلم في صحيحه (٢ / ٩٦٤) : كتاب الحج باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض (١٢١١). وأحمد في المسند (٦ / ٣٩ ، ٩٩).

٤٣٨

قوله : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) : أوجب جعل السبيل إليه والإمكان ـ شرطا للوجوب ؛ إذ الآية في ذكر الوجوب لا الفعل ؛ وعلى ذلك جميع العبادات ، جعل الإمكان في وجوبها شرطا بالسمع بقوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] ، وغير ذلك مما ذكر في كل نوع من العبادات من الاستطاعة ؛ وكذا حق هذا بالفعل ، وذلك يخرج على وجهين :

استطاعة الفعل من القدرة التي تحدث لا محالة ما سلمت الأسباب ، إلا أن يكون ممن منه الفعل الإعراض عنها بالشغل بغير تلك الأفعال ، أو اشتغال ذلك بالفعل ؛ فيكون فوت الاستطاعة بتضييعه ، ولا عذر بفوت ما كان المكلف يفوته ، كفوت العلم به على الإمكان ، وإن كان لا يقوم دونه ، والذي يؤيّد أن هذه الاستطاعة ليست بشرط في الإيجاب أنها لا تبقى ، ثم محال وجودها في حال لو أريد إقامة الحج لا يتهيّأ ، وذلك نحو أن يكون في أقصى البلاد من مكة ، ومعلوم أن القدرة التي بها يكون الفعل ليست معه ، ومحال تكليف السبب الذي به يجب الفعل ؛ فلذلك لم يجب (١) تكليف بالخروج ولا أمر بالحج ؛ فكأنه يؤمر بتكليف سبب الإيجاب ـ ثبت أن قد يجب الحج لا بتلك القوة ؛ وكذلك يجوز في الكفارات (٢) استعمال الأبدال في حال العجز (٣) ، وإن كان لا يعلم أن العجز يمتد إلى آخر ما يقوم به الأصل ، بل على ظهور ألا يمتد بمضى البدل ـ ثبت أن لا عبرة لفقد قدرة الفعل ووجودها في التكليف ، والله أعلم.

والثاني : يراد بالاستطاعة : سلامة الأسباب ، ولا يجوز التكليف دونها بالفعل ؛ لأنه ممنوع ، ومحال أمر الممنوع عن الفعل ـ به ؛ كالأعمى ، والمقعد ، ونحو ذلك ، وإلى مثل هذا انصرف شرط الاستطاعة ، وهو اللازم في العقل ؛ لما القرب بحق الشكر لما أنعم على المأمور ، فإذا منع عنه السبب الذي هو النعمة لم يحتمل أن يؤمر بالشكر ولا نعمة ، والله أعلم.

__________________

(١) في ب : يجز.

(٢) الكفارات : جمع مفرده : كفارة ، وهي في الأصل صفة مبالغة ، كعلامة ، ثم غلب استعمالها اسما فيما يستر الذنب ويمحوه ، ومادتها مأخوذة من «الكفر» ، ومعناه : الستر ، ومنه سمى الليل : كافرا.

وفي الاصطلاح : هي اسم لأشياء مخصوصة طلبها الشارع عند ارتكاب مخالفات معينة.

انظر : لسان العرب (٥ / ٣٨٩٩) (كفر) ، البجيرمي على الخطيب (٤ / ١٤).

(٣) لورود التخيير في الآية ، انظر مثلا كفارة اليمين في قول الله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) الآية [المائدة : ٨٩] وردت ب «أو» التي هي للتخيير.

٤٣٩

وعلى ذلك ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عن ذلك ؛ فقال : «الزّاد والرّاحلة» (١). والله الموفق.

وعلى ما ذكرت يخرج قول أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ في وجوب الحج : وإن لم يدرك الوقت الذي فيه يقوم الحج على ما لزمه ، وإن لم يكن أصاب المكان الذي فيه يقام ـ والله أعلم بظاهر الآية مع ما ذكرنا من بيان الأثر.

وأصله : أن الوقت في الحج جعل لجواز الفعل ؛ إذ هو لو فات لا يحتمل في غيره ، وكل فعل يجوز في غير وقته فما يقرب من الوقت به كان أحق بالجواز ، فإذا لم يجز هذا وجاز في مثله من القابل ـ ثبت أنه للجواز لا للوجوب ؛ وأيّد ذلك ما لا يوصف بالقضاء (٢) متى أدى ، ولو كان في الأوّل واجبا لوقت الأول لكان يكون في الثاني قاضيا ، فإذا لم يكن : ثبت أنه ليس لوجوبه وقت ، والله أعلم.

قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ)(١٠٠)

وقوله : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) :

[وآيات الله](٣) ما ذكرنا فيما تقدم بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن والحجج.

(وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) :

هو حرف وعيد وتنبيه ؛ ينبئهم عن صنيعهم ؛ ليكونوا على حذر من ذلك.

وقوله : (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً).

يحتمل قوله : (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ) من الأتباع الذين كان (٤) إيمانهم إيمان تقليد ، لا إيمانا بالعقل ؛ لأن من كان إيمانه إيمانا بالعقل فهو لا يصد ، ولا يصرف عنه أبدا ؛ لما عرف حسن الإيمان وحقيقته بالعقل ، فهو لا يترك أبدا ، وأما من كان إيمانه

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) القضاء في اصطلاح علماء الأصول : عبارة عن تسليم مثل الواجب في غير وقته المعين شرعا أو هو ما فعل بعد وقت الأداء استدراكا لما سبق له وجوب مطلقا أخّره عمدا أو سهوا ، تمكن من فعله ـ كالمسافر ـ أو لم يتمكن لمانع من الوجوب شرعا كالحائض ـ أو عقلا ـ كالنائم.

انظر : ميزان الأصول (١ / ١٦٨) ، مختصر ابن الحاجب ص (٣٥) ، شرح الكوكب المنير (١ / ٣٦٧).

(٣) في ب : وآياته.

(٤) في ب : كانوا.

٤٤٠