تأويلات أهل السنّة - ج ٢

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة - ج ٢

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٧٣

قيل فيه بوجوه :

قيل : لا يترك الله المؤمنين على ما أنتم عليه أيها المنافقون ؛ ولكن يمتحنكم بالجهاد وبأنواع المحن ؛ ليظهر المنافق لهم من المؤمن (١).

وقيل : ليظهر الكافر لهم من المؤمن المصدق (٢).

وقيل فيه بوجه آخر : وذلك أن المنافقين كانوا يطعنون لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويستهزءون بهم سرّا ؛ فقال الله ـ عزوجل ـ : لا يدع المؤمنين على ما أنتم عليه من الطعن فيهم ، والاستهزاء بهم ؛ ولكن يمتحنكم بأنواع المحن ؛ لتفتضحوا وليظهر نفاقكم عندهم.

ويحتمل وجها آخر : وهو أن قوله : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) ، أي : لا يدع المؤمنين على ما أنتم عليه من النفاق والكفر في دار واحدة ؛ ولكن يجعل لكم دارا أخرى يميز فيها الخبيث من الطيب. [يجعل الخبيث في النار ، والطيب في الجنة ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)(٣)(وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ) الآية [الأنفال : ٣٧].

وقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) :

قيل فيه بوجهين :

قيل : إنهم كانوا يقولون : لا نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي الأنبياء ؛ كقولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) [الأنعام : ١٢٤] ؛ ومثل قوله : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) [المدثر : ٥٢] ؛ فعلى ذلك قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) إلا من اجتباه لوحيه ، وجعله موضعا لرسالته ، أي : لا يجعلكم رسلا ؛ إذ علم الغيب آية من آيات رسالته ، والله أعلم.

وقيل : إن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء ، فيسترقون ؛ فيأتون بأخبارها إلى الكهنة قبل أن يبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم إن الكهنة يخبرون بها غيرهم من الكفرة ؛ فأنزل الله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) : بعد ما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيّا ، كما كنتم تطلعون على أخبار السماء قبل بعثه.

(وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ)

أي : يصطفي من يشاء ، فيجعله رسولا ، فيوحي إليه ذلك ، أي : ليس الوحي من

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ٤٢٤ ، ٤٢٥) (٨٢٦٨) عن مجاهد وعن ابن جريج (٧ / ٤٢٥) (٨٢٦٩).

(٢) قاله بنحوه قتادة ، أخرجه عنه ابن جرير (٧ / ٤٢٥) (٨٢٧٢) ، وكذا قاله السدي ، أخرجه أيضا ابن جرير (٨٢٧٣).

(٣) ما بين المعقوفين سقط من ب.

٥٤١

السماء إلى غير الأنبياء ، عليهم‌السلام.

ويحتمل قوله ـ تعالى ـ : (يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) ، أي : لا يطلع أحدا منكم على الغيب إلا من اجتباه منكم لرسالته.

ويحتمل [قوله](١) : (يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) ، أي : لا ينسخ شرائعه وأحكامه برسول آخر ؛ نحو ما بين موسى إلى عيسى ـ عليهما‌السلام ـ ولكنه إن كان فيما بينهما نبي لم يجعل له أحكاما سوى أحكام موسى ـ عليه‌السلام ـ أبقى تلك الأحكام والشرائع ؛ وكذلك ما بين عيسى إلى محمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ فاجتبى هؤلاء ؛ لإبقاء شرائعهم وأحكامهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) :

ظاهر

(وَإِنْ تُؤْمِنُوا) : برسله كلهم.

(وَتَتَّقُوا) : المعاصى.

(فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)

ويحتمل : (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا) الشرك [فلكم أجر عظيم](٢).

قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠) لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)(١٨٢)

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في ب : كذا ، اختلفوا : من المخاطب بالآية؟ على أقوال :

فقال ابن عباس والضحاك ومقاتل والكلبي وأكثر المفسرين : الخطاب للكفار والمنافقين : أي ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الكفر والنفاق وعداوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : هو خطاب للمشركين ، والمراد بالمؤمنين في قوله (لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ)[آل عمران : ١٧٩] ـ : من في الأصلاب والأرحام ممن يؤمن ، أي : ما كان الله ليذر أولادكم الذين حكم لهم بالإيمان على ما أنتم عليه من الشرك حتى يفرق بينكم وبينهم ، وعلى هذا : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ) [آل عمران : ١٧٩] كلام مستأنف. وهو قول ابن عباس وأكثر المفسرين.

وقيل : الخطاب للمؤمنين ، أي : وما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمن بالمنافق حتى يميز بينكم بالمحنة والتكليف ؛ فتعرفوا المنافق الخبيث والمؤمن الطيب. وقد ميز يوم أحد بين الفريقين. وهذا قول أكثر أهل المعاني. أفاده القرطبي في تفسيره (٤ / ١٨٤).

٥٤٢

وقوله ـ عزوجل ـ : [(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ)

أوتوا العلم بالكتاب أن ما يؤتون من المال ، وينالون من النيل بكتمان بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته وتحريفهما ـ أن ذلك](١) خير لهم.

(بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ)

في الدنيا والآخرة ، ولو لم يكتموا كان خيرا لهم في الدنيا ذكرا وشرفا ، وفي الآخرة ثوابا وجزاء.

وقيل : نزلت في مانعي الزكاة ؛ بخلا منهم وشحا (٢) ؛ فذلك وعيد لهم. والأوّل أشبه ، والله أعلم. وإن كان في الزكاة ـ قيل : الجحود بها ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) [فصلت : ٧].

وقوله ـ عزوجل ـ : (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) :

فإن كان على التأويل الأول من كتمان نعته وصفته ؛ فهو ـ والله أعلم ـ يطوق ذلك في عنقه يوم القيامة ؛ ليعرفه كل أحد ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [الإسراء : ١٣].

وإن كان على التأويل الثاني ـ قيل : إن الزكاة التي منعها تصير حية ذكرا شجاعا أقرع ذو ذنبتين ، يعنى : نابين ؛ فيطوق بها في عنقه ، فتنهشه بنابيها ؛ فيتقيها بذراعيه ، حتى يقضي بين الناس ، فلا يزال معه حتى يساق إلى النار (٣) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) :

في الآية دلالة أن أهل السموات يموتون ، ليس على ما يقوله القرامطة : إنهم لا يموتون ؛ لأنه أخبر أن له ميراث السموات والأرض ، والوارث هو الذي يخلف المورّث ؛ دلّ أنه ما ذكرنا ، وإن كانوا هم وجميع ما في أيديهم لله ـ عزوجل ـ ملكا له وعبيدا ؛ ألا ترى أنه روي في الخبر : «لا يرث الكافر المسلم ، ولا المسلم الكافر ، إلّا المولى من عبده» (٤) سمى ما يكون للمولى من عبده ميراثا ، وإن كان العبد وما في يده ملكا للمولى :

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في ب : «ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو».

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ٤٣٢) (٨٢٧٨) عن السدي ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٨٤) ، وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي.

(٣) أخرجه أحمد (٢ / ٢٧٩ ، ٣٥٥) ، والبخاري (١٤٠٣) ، والنسائي (٥ / ٣٩) ، وابن خزيمة (٢٢٥٤) من حديث أبي هريرة مرفوعا : «من آتاه الله مالا فلم يؤدّ زكاته مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ـ يعني : شدقيه ـ ثم يقول : أنا مالك ، أنا كنزك ، ثم تلا : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ...) [آل عمران : ١٨٠] الآية.

(٤) أخرجه البخاري (١٣ / ٥٤٢) : كتاب الفرائض : باب لا يرث المسلم الكفار (٦٧٦٤) ، ومسلم (٣ / ـ

٥٤٣

فعلى ذلك الأوّل : سمى الله ـ عزوجل ـ ذلك ميراثا له ، وإن كان عبيده وما في أيديهم ملكا له ، والله أعلم.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : [وقوله ـ تعالى](١) ـ : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : وكانت له لا بحق الميراث ؛ لوجهين :

أحدهما : على الإخبار عن ذهاب أهلها ، وبقائه ـ عزوجل ـ دائما ؛ إذ ذلك وصف المواريث أن تكون لمن له البقاء بعد فناء من تقدم ، والله ـ عزوجل ـ هو الباقى بعد فناء الكل ، مما (٢) يجوز القول بما هو له في الحقيقة من قبله بالميراث ؛ من حيث ملّك غيره الانتفاع بذلك ؛ وعلى ذلك المروى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يرث الكافر المسلم ، ولا المسلم الكافر ، إلّا المولى من عبده» (٣) ، وليس ذلك في الحقيقة ميراثا ، إذ كان له في حال حياته ؛ ولكن كان ولاية الانتفاع به فزال ؛ وعلى مثل هذا وراثة المسلمين الجنة ، لا على انتقال من غيرهم إليهم ، ولكن على بقائهم فيها ، وحصول أمرها لهم ، أو على وراثة ما لو كان من لم يؤمن آمن ، وما ادعوا أنها لهم بقولهم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] ، فصارت ميراثا لغيرهم ما ادعوا أنها لهم ، والله أعلم.

والثاني : أن يعلم كل بالموت حقيقتها أنها له فأضيفت إليه بالميراث عنهم ؛ كما قال ـ تعالى ـ : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) [إبراهيم : ٢١] ، (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [المائدة : ١٨] ، والمرجع ونحو ذلك من غير غيبة عنه ، ولكن ما يعلم كل إذ ذاك ذلك ؛ وكذلك قوله ـ عزوجل ـ : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار : ١٩] ، وهو في الحقيقة كل يوم له ، ولا قوة إلا بالله.

وفي الذكر والإخبار أنها له ميراث ـ تحريض على الإنفاق والتزود ؛ إذ هي في الحقيقة لغير أهلها ؛ وإنما لهم ما ينفقون ويتزودون دون ما يمسكون ، وفيه منع الإمساك ؛ وذلك كقوله ـ تعالى ـ : (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ..). الآية [الحديد : ١٠].

__________________

 ـ ١٢٣٣) : كتاب الفرائض (١٦١٤) ، وأحمد في المسند (٥ / ٢٠٠) ، وأبو داود (٣ / ١٤٠) : كتاب الفرائض : باب هل يرث المسلم الكافر (٢٩٠٩) ، والترمذي في سننه (٣ / ٦٠٩ ، ٦١٠) في كتاب الفرائض : باب ما جاء في إبطال الميراث بين المسلم والكافر (٢١٠٧) ، من حديث أسامة بن زيد مرفوعا : «لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر».

(١) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٢) في ب : مع ما.

(٣) تقدم فى الحديث السابق.

٥٤٤

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) : وعيد منه ـ عزوجل ـ إياهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) : قيل : لما نزلت : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ..). الآية [البقرة : ٢٤٥] ، قالت اليهود : ربكم يستقرض منكم ونحن أغنياء (١). وليس في الآية بيان أن ذلك القول إنما قاله اليهود أو غيرهم من الكفرة ، ولكن فيه أنهم قالوا ذلك ؛ فلا ندري من قال ذلك ، ولا يجوز أن يشار إلى أحد بعينه إلا ببيان ، ثم يحتمل ذلك القول منهم وجوها :

يحتمل أن يكون قال ذلك أوائلهم ؛ على ما قال في قتل الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ وهؤلاء لم يقتلوا ؛ ولكن إنما قتلهم أوائلهم ، أضيف ذلك إليهم ؛ رضاء منهم بصنيعهم ؛ فعلى ذلك القول الذي قالوا يحتمل ما ذكرنا.

ويحتمل أن يكون هؤلاء قالوا ذلك بحضرة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبمشهدهم ، أو قالوا ذلك في سر.

فإن قال ذلك أوائلهم ؛ فإنه يحتمل وجهين :

يحتمل أن يكون الله ـ تعالى ـ أعلم ذلك رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ تصبيرا منه إياه وتسكينا ؛ ليصبر على أذى الكفار ؛ حيث قالوا في الله ما قالوا فكيف فيه؟! [والله أعلم

ويحتمل أن يكون ذلك ليكون [ذلك](٢) آية من آيات رسالته.

وإن كانوا قالوا ذلك بحضرة أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ففيه ـ أيضا ـ وجهان :

أحدهما : ما ذكرنا من التسكين والتصبير على أذاهم.

والثاني : ليعلموا أن جميع ما يقولون محفوظ عليهم ، ليس بغائب عنه ، ولا غافل عنه ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ ..). الآية [إبراهيم : ٤٢] ، لكنه يؤخر ذلك إلى وقت.

وإن كانوا قالوا ذلك سرّا ؛ ففيه ـ أيضا ـ وجهان :

أحدهما : ما ذكرنا أن يكون آية من آيات النبوة (٣) ؛ ليعلموا أنه إنما علم ذلك بالله ، على علم منهم أنه لم يكن فيما بينهم من ينهي الخبر إليه.

والثاني : خرج على التعزية له والتصبير على أذاهم.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ٤٤٣ ، ٤٤٤) (٨٣٠٠ ، ٨٣٠١) عن ابن عباس ، و (٨٣٠٥) ، (٨٣٠٦) عن الحسن البصري وعن قتادة (٨٣٠٧) ، (٨٣٠٨) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٨٦ ، ١٨٧) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن ابن عباس ، وابن المنذر عن قتادة.

(٢) سقط من ب.

(٣) في ب : رسالته.

٥٤٥

ثم معنى قوله ـ تعالى ـ : (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [المزمل : ٢٠] ، و (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة : ٢٤٥] ـ يحتمل وجهين :

أحدهما : لئلا يمنوا على الفقراء بما يتصدقون عليهم ؛ إذ يعلمون أنه ليس بفقير ولا محتاج ليستقرض لفقره ولحاجته ، وكل من أقرض آخر لا لحاجة له في ذلك القرض ولا فقر ؛ ولكن ليكون ماله عنده محفوظا في الشاهد ـ فإنه لا يمنّ المقرض عليه ؛ بل تكون المنة للذى عنده القرض على المقرض ؛ حيث يحفظ ماله في السفاتج (١) ؛ فعلى ذلك المال الذي يقرضون ويتصدقون على الفقراء ، يكون محفوظا عند الله ليوم حاجتهم إليه ؛ فلا منة تكون على الفقير ، والله أعلم.

والثاني : إنباء عن جوده (٢) وكرمه ؛ لأن العبد وما في يده له ، فلو أراد أن يأخذ جميع ما في يده لكان له ذلك ، ثم يطلب منه ببدل يضاعف على ذلك.

والثالث : أن المولى في الشاهد إذا طلب [من عبده](٣) القرض ؛ يكون في ذلك شرف للعبد وعظم ؛ فعلى ذلك الله ـ تعالى ـ إذا طلب من عبده القرض ، على علم منه في أنه غني بذاته ، لا يجب أن يبخل عليه ، وفي ذلك شرفه وعظمه ، والله أعلم.

وقوله : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ) ، قال أهل التفسير : قالت اليهود ، وذلك تنبيه بصنيعهم وشدة سفههم ؛ حتى زعموا أن يد الله مغلولة ، لكن ليس في الآية بيان القائلين ، ولا في النسبة إلى أحد تقع سوى خوف الكذب ؛ لو لم يكن ذلك منه ، لكنهم قالوه ، والأغلب على مثله أن يكونوا قالوه سرّا ، يكون في إظهاره آية الرسالة ، أو كانت الأوائل يقولون فيكون في ذلك ذلك ؛ إذ لا يحتمل أن يصبر لمثله : يقال بحضرة الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ إلا أن يكون في وقت أمروا بالكف ؛ فيكون في ذلك بيان قدر طاعتهم لله ، مع عظيم ما سمعوا من القول ، وجملة ذلك أن في ذكر ذلك دعاء إلى الصبر على أذاهم وسوء قولهم ؛ إذ هم مع تقلبهم في نعم الله ـ تعالى ـ وعلمهم بأنهم لم ينالوا خيرا إلا بالله ـ تعالى ـ اجترءوا عليه بمثل هذا القول ، وبلغ عتوّهم هذا ،

__________________

(١) السفاتج : جمع السفتجة : بضم السن وفتحها وفتح التاء ـ فارسى معرب ، وهي أن يعطي مالا لآخر ، وللآخر مال في بلد المعطى ، فيوفيه إياه ثمّ ، فيستفيد أمن الطريق ، وهي في الاصطلاح ـ قال العلامة ابن عابدين : إقراض لسقوط خطر الطريق.

وفي حاشية الدسوقي على الشرح الكبير : هي الكتاب الذي يرسله المقترض لوكيله ببلد ؛ ليدفع للمقرض نظيره ما أخذه منه ببلده ، وهي المسماة بالبوليصة ، أي : الكمبيالة. ينظر : القاموس المحيط ص (١٧٧) (سفتج) ، حاشية ابن عابدين (٤ / ٢٩٥) ، حاشية الدسوقي (٣ / ٢٢٥).

(٢) في ب : وجوده.

(٣) ما بين المعقوفين سقط من ب.

٥٤٦

والله ـ جل ثناؤه ـ مع قدرته وسلطانه يحلم (١) عنهم ليوم وعدهم فيه الجزاء ؛ فمن ليس منه إليهم نعمة ولا تقدم عليهم منه كثير منة ـ أحق بالصبر لأذاهم ، وإعراض عن مكافأتهم ؛ وعلى ذلك قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ ..). الآية [الجاثية : ١٤] ، وقال [الله تعالى لرسوله](٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [المائدة : ١٣](٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) :

قيل : سنجزيهم جزاء ما قالوا (٤) ، وقيل : سنحفظ ما قالوا ، وسنثبت ، وسألزم (٥) ، كقوله ـ عزوجل ـ : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [الإسراء : ١٣] ، والله أعلم.

وقوله : (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) :

قد ذكرنا هذا فيما تقدم أنه يحتمل : إذ قتل أوائلهم ؛ فأضيف إليهم لرضائهم بفعلهم ؛ كقوله ـ تعالى ـ (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة : ٣٢] ؛ لرضاه بقتله (٦).

__________________

(١) في ب : يحكم.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في ب : لرسول الله.

(٣) قال الرازي : واعلم أنه ليس في الآية تعيين هذا القائل ، إلا أن العلماء نسبوا هذا القول إلى اليهود واحتجوا عليه بوجوه :

أحدها : أن الله ـ تعالى ـ حكى عنهم أنهم قالوا : إن يد الله مغلولة ، يعنون أنه بخيل بالعطاء ، وذلك الجهل مناسب للجهل المذكور في الآية.

وثانيها : ما روي في الخبر أنهم تكلموا بذلك على ما رويناه في قصة أبي بكر.

وثالثها : أن القول بالتشبيه غالب على اليهود ، ومن قال بالتشبيه لا يمكنه إثبات كونه ـ تعالى ـ قادرا على كل المقدورات ، وإذا عجز عن إثبات هذا الأصل عجز عن بيان أنه غني وليس بفقير.

والوجه الرابع : أن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما طلب منهم أن يوافقوه في مجاهدة الأعداء قالوا : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ)[المائدة : ٢٤] فموسى ـ عليه‌السلام ـ لما طلب منهم الجهاد بالنفس قالوا : لما كان الإله قادرا فأي حاجة به إلى جهادنا؟! وكذا هاهنا ؛ فإن محمدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما طلب منهم الجهاد ببذل المال قالوا : لما كان الإله غنيّا ، فأي حاجة به إلى أموالنا؟! فكان إسنادهم هذه الشبهة إلى اليهود لائقا من هذا الوجه. وإن كان لا يمتنع أن يكون غيرهم من الجهال قد قال ذلك ، والأظهر أنهم قالوه على سبيل الطعن في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعني : لو صدق محمد في أن الإله يطلب المال من عبيده لكان فقيرا ، ولما كان ذلك محالا ثبت أنه كاذب في هذا الإخبار ، أو ذكروه على سبيل الاستهزاء والسخرية. فأما أن يقول العاقل مثل هذا الكلام عن اعتقاد فهو بعيد.

ينظر : مفاتيح الغيب (٩ / ٩٥ ـ ٩٦).

(٤) ينظر : البحر المحيط لأبي حيان ٣ / ١٣٦.

(٥) ينظر : السابق.

(٦) ينظر : ابن جرير (٧ / ٤٤٦) ، والبحر المحيط لأبي حيان (٣ / ١٣٦) ، والسيوطي في الدر (٢ / ١٨٧) ، ـ

٥٤٧

فإن قيل : ما الحكمة في قوله : (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) والأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ لا يرتكبون ما يجب به قتلهم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ ..). الآية [الأحزاب : ٥٧] ، أطلق القول فيه من غير ذكر اكتساب شيء يستوجب (١) به ذلك ، وشرط في المؤمنين اكتساب ما يستوجبون به ؛ كقوله : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا ..). الآية [الأحزاب : ٥٨] ، فكيف ذكر هاهنا ـ القتل بغير حق ، وهم لا يكتسبون [ما](٢) يستوجبون به القتل؟! قيل : يحتمل قوله : بغير حق ، أي : بغير حاجة ؛ لأنهم كانوا يقتلون بلا منفعة تكون لهم في قتلهم ؛ على ما قيل : إنهم كانوا يقتلون كذا كذا نبيّا ، ثم يهيج لهم سوق (٣) ؛ فإذا كان كذلك يحتمل قوله : (بِغَيْرِ حَقٍّ) ، أي : بغير حاجة ؛ كقول لوط ـ عليه‌السلام ـ : (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) فقالوا : (ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) [هود ٧٨ ـ ٧٩] ، أي : من حاجة ، والله أعلم.

ويحتمل قوله ـ عزوجل ـ : (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ) أي : قصدوا قصد قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فكأن قد قتلوه ، أو قتلوا أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ فأضيف إليهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) :

أي : المحرق ، وقد ذكرنا هذا.

وقوله : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) :

ذكر الأيدي ؛ لما بالأيدي يقدم ، وإن لم يكن هذا مقدما باليد في الحقيقة ؛ وكذلك (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] لما باليد يكتسب ، والله أعلم.

__________________

 ـ وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم عن العلاء بن بدر ، وقال القرطبي : أي : ونكتب قتلهم الأنبياء ، أي : رضاؤهم بالقتل ، والمراد : قتل أسلافهم الأنبياء ؛ لكن لما رضوا بذلك صحت الإضافة إليهم.

وحسن رجل عند الشعبي قتل عثمان ـ رضي الله عنه ـ فقال له الشعبي : شركت في دمه. فجعل الرضا بالقتل قتلا ، رضي الله عنه.

(١) في ب : فيستوجب.

(٢) سقط من ب.

(٣) وقيل : إن قتلهم الأنبياء كان بغير حق في اعتقادهم أيضا ؛ فهو أبلغ في التشنيع عليهم. قاله القاسمي في محاسن التأويل (٤ / ٧٣).

وقد جاء الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن بني إسرائيل قتلت ثلاثة وأربعين نبيّا من أول النهار في ساعة واحدة ؛ فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل ، فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر ، فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم.

أخرجه الطبري (٦٧٧٧) ، والبزار كما في مجمع الزوائد (٧ / ٢٧٢) وفيه ممن لم أعرفه اثنان ، قاله الهيثمي.

٥٤٨

قوله تعالى : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ)(١٨٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ) :

قيل : إنهم لما دعوا إلى الإسلام ـ يعنى : اليهود ـ قالوا : (إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ)(١) ، وكان ذلك آية في بنى إسرائيل ؛ فسأل اليهود من [نبينا](٢) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك.

وقيل : كان من قبلنا ، في الأمم الخالية ذلك ؛ فسألوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك (٣) ، ولكن لم يكن القربان من آيات النبوة والرسالة إن كان ؛ فهو من آيات التقوى ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة : ٢٧] كان القربان من آيات التقوى ؛ ألا ترى أنه قال : يا محمد (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ)

يعنى : القربان ؛ (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

أي : إن كان ذلك من آيات النبوة ، لم قتلتم الأنبياء الذين أتوا به؟! أو لم قتل أوائلكم الأنبياء ؛ إذ أتوا بالقربان ، (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : أنه من آيات النبوة ، أو (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ): أنه عهد إليكم ألا تؤمنوا به حتى يأتى بقربان ، والله أعلم.

وفي قوله ـ عزوجل ـ أيضا ـ : (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ـ فهو ، والله أعلم ، ادّعوا أن أوائلهم ادّعوا الذي ذكروا من العهد ، وهم تبعوا أولئك ، فعرّفهم صنع من بدعواهم احتجوا ؛ ليكون لهم فيه آية ، أما تكذيبهم بما احتجوا بوصية المتقدمين في ذلك ، فبطل عذرهم ؛ إذ هم قتلوهم ؛ فلا يجوز تصديقهم على العهد الذي ادعوا وذلك صنيعهم ، أو يقروا أنهم أخبروا بالعهد من غير أن كان كذبا وباطلا ؛ فبطل حجاجهم.

على أن في الآية : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة : ٢٧] ، فجعل ذلك آية التّقى لا آية النبوة. والأصل فيه : أنا لما عرفنا آيات الرسل ـ عليهم‌السلام ـ لا يذكر فيها

__________________

(١) ينظر : تفسير ابن جرير (٧ / ٤٥٠) ، وتفسير الرازي (٩ / ١٠٠) والسيوطي في الدر (٢ / ١٨٨) وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي.

(٢) سقط من ب.

(٣) ينظر : الرازي (٩ / ١٠٠) ، البحر المحيط (٣ / ١٣٨) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٨٨) وعزاه لابن أبي حاتم عن قتادة.

٥٤٩

القرابين ؛ ثبت أن هذا الذي ادعوا ليس هو بعهد جاء به الرسل ـ عليهم‌السلام ـ ولكنه حيل السفهاء بتلقين الشياطين ووحيهم ؛ لذلك لم يجب الذي ذكروا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) :

يا محمد في القول ، وما جئت من آيات تدل وتوضّح أنك رسول الله ، وأنك صادق في قولك (فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ)

يعزي نبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ويصبّره ؛ ليصبر على أذاهم وتكذيبهم إياه ؛ كما صبر أولئك على أذاهم وتكذيبهم ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ..). الآية [الأحقاف : ٣٥].

وفي قوله ـ تعالى ـ أيضا ـ : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) وجوه :

أحدها : أن يصبّره على ذلك (١) بما له فيه أجر أن صبروا ، على عظم ذلك عليهم ؛ وذلك قوله تعالى : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ).

والثاني : على رفع العذر عنه في ترك الإبلاغ ؛ فإن ذلك لم يمنع من تقدمه.

والثالث : على الأنبياء أنهم أصحاب تقليد في التكذيب ، لا أن يكذبوا من محنة وظهور ؛ فذلك أقل للتأذي ، ولتوهم الارتياب في الأنبياء ؛ ليستيقن من حضره ، وصدقه ـ أن ذلك منهم على الاعتناد والتقليد دون المحنة والظهور ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بِالْبَيِّناتِ) :

قد ذكرناها فيما تقدم في غير موضع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالزُّبُرِ) :

قيل : أحاديث الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ من قبلهم بالنبوة على ما يكون.

وقيل : الزبر : هي الكتب ، أي : جاءوا بالبينات والزبر ، يعني : الكتب.

(وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) :

قيل : الزبر والكتاب واحد.

وقيل : (وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) : هو الذي فيه الحلال والحرام ، والأحكام المكتوبة عليهم. والمنير : هو الذي أنار قلب كل من تمسّك بالهدى ؛ كما قيل في الفرقان أنه يفصل ويفرق بين الحق والباطل ، والله أعلم.

وتسمي كتب الله كلها فرقانا ومنيرا ؛ بما تفرق بين الحق والباطل ، وتبين السبيلين

__________________

(١) في ب : وذلك في.

٥٥٠

جميعا ، والله أعلم.

قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ) (١٨٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) :

فيه دلائل :

أحدها : دليل إثبات الرسالة ؛ لأنه ليس في العقل ألا تبقى هذه الأنفس أبدا ، ولا تدوم ، ولا فيه آثار فنائها وموتها ، ثم وجود العلم من كل منهم بالموت ، والتسليم له ، والإقرار منهم أن كل نفس تموت ـ يدل أنهم إنما عرفوا ذلك وأيقنوا به من خبر السماء بالوحي ، والله أعلم.

ثم إن كل حي يتلذذ بحياته ، وحبّب ذلك إليه ، ويتكرّه الموت ويبغضه ؛ دل أن هذا العالم لم يكن بالطباع ، ولكن كان بغيره ؛ لما يتلذذ طبع كل منهم بالحياة ، ويتكره بالموت ويتنغص به ؛ إذ لو كان به : لكان يختار ما يتلذذ به ، ويدفع ما يتكره به ؛ فدلّ أن غيرا فعل ذلك وخلق ؛ لما ذكر : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) الآية [الملك : ٢] ؛ وفي ذلك بطلان قول أصحاب الطبائع.

وأيضا : أن كل نفس يجتمع فيها الطبائع المختلفة المتضادة ، التي من طبعها التنافر ـ لم يجز أن يكون بنفسه تجتمع ؛ دل أن له جامعا. وأيضا : إن كان العالم لو كان بنفسه وطبعه لاختار كلّ لنفسه أحوالا : أحسن الأحوال وألذها ؛ فيبطل به الشرور والقبائح ؛ فدلّ وجود ذلك على كونه بغيره. ثم فيه أن ذلك الغير ـ الذي كان به العالم ـ واحد لا عدد (١) ؛ إذ لو كان بعدد لم يحتمل وجود العالم على الطبائع المختلفة والهمم المتفرقة : لما جمع هذا فرّق الآخر ، وما أثبت هذا نفي الآخر ، وفي ذلك فساد الرّبوبية ؛ فدلّ وجوده على ما ذكرنا : أنه واحد لا عدد ؛ فاتسق تدبيره ونفذ أمره ، مع ما كان الأمر المعتاد بين الملوك في الشاهد : أن من فعل هذا نقض الآخر ، وما رام هذا إيجاده يريد الآخر إعدامه ، وما أبقى هذا أراد الآخر إفناءه ؛ وفي ذلك تناقض وتناف ؛ فدلّ الوجود على أن الذي به كان ـ واحد لا عدد ، ثم يحتمل على الاصطلاح منهم ؛ لأنه يدلّ على العجز والجهل : أن العجز والجهل هو الذي حملهم على الاصطلاح ، والعاجز والجاهل لا يصلح أن يكون إلها وربّا (٢) ، وبالله التوفيق.

__________________

(١) في ب : عدة.

(٢) في ب : ربا.

٥٥١

ثم الدلالة على حكمته وعلمه : ما لم يعاين شيء ولا يشاهد إلا وفيه حكمة عجيبة ، ودلالة بديعة مما يعجز الحكماء عن إدراك مائيته ، وكيفية خروجه على ما خرج ، وعلم كل أحد منهم بتصور علمه على ما عنده من الحكمة ، والعلم عن إدراك كنه ذلك فيما ذكرنا ، وخروج الفعل متقنا محكما ـ دلالة حكمة مبدعه وخالقه ، وبالله التوفيق.

ثم الدلالة أنه لم يخلق الخلق للفناء خاصّة ؛ ولكن خلق للعواقب : يتأمّل ويرجى ويخاف ويحذر ـ خروج فعل كل أحد في الشاهد من الحكمة إذا بنى للفناء والنقض ، فإذا كان الحكمة التي هي جزء يخرج فعله عن الحكمة ؛ إذا كان ذلك للفناء والهلاك خاصّة ، فخروج الكل عن ذلك لذلك أحرى وأولى أن يكون سفها لا حكمة ، والله الموفق.

قال : دلت طمأنينة القلوب بموت كل نفس ، وترك حكماء البشر الاحتيال ـ في دفعه ، على ما ليس في الجوهر دليله ، ولا في العقل امتناعه ـ أنه عرف ذلك بمن له التدبير فيها بالوحي إليه ؛ وفي ذلك إيجاب القول بالرسل ، ثم دل قهر جميع الحكماء به على حب الحياة إليهم ، وبغض الموت عندهم ـ على خروج جميع الأحياء عن تدبيرهم ، وفي خروجهم خروج الأموات ؛ إذ هم تحت تدبير الأحياء.

ثم في طمأنينة كل قلب على الموت دلالة التدبير للواحد ؛ إذ لو كان لأكثر لجوز التمانع وإبطال الوارد من الحيّ ؛ وفي ذلك ارتياب ، مع ما كانت كل نفس تحت أمور تقهرها ، وتحوجها إلى أمور تعلم أن مدبّرها هيأها على ذلك وطبعها ، وأنه العليم بما به صلاحها وقوامها وإليه حاجتها ، وعلى ذلك جبلها ؛ ليظهر عظيم حكمته وتعاليه عن الشرك في التدبير ، أو المعونة في التقدير.

ثم لا يحتمل نشوء مثله على ما جرى عليه من حكمته في موت كلّ ـ أنه كان للموت أنشأ لا لغير ؛ إذ تدبير فعل واحد للفناء خاصّة من حكماء البشر ـ يخرج عن معنى الحكمة ، ويدلّ على قصور صاحب ذلك وسفهه ؛ فجملة العالم الذي كانت حكمة الحكماء جزءا منها ، وعقل العقلاء بعضا منها ـ أحق وأولى ؛ فثبت أنها أنشئت (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [المطففين : ٥ ـ ٦] ، ويوم تجزى كل نفس بما كسبت ، وذلك قوله ـ تعالى ـ : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) الآية.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ)

لما ذكرنا أنهم لها خلقوا ـ أعنى (١) : الآخرة ـ للجزاء والثواب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ) :

__________________

(١) في ب : يعنى.

٥٥٢

قيل : بعّد ونحّى عنها (١).

(وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) :

قيل : فاز : نجا ، وقيل : سعد (٢) ، وقيل : الفائز : السابق ، وقيل : فاز : غنم.

وأصل الفوز : النجاة ، أي : نجا مما يخاف ويحذر ، ويظفر بما يتأمّل ويرجو.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) :حياة الدنيا للدنيا غرور ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) [الحديد : ٢٠] حياة الدنيا للدنيا لعب ولهو وغرور ، وللآخرة : ليست (٣) بلعب ولا لهو ولا غرور. وأصل الغرور : هو أن يتراءى الشيء في ظاهره حسنا مموها ؛ يغتر بها كل ناظر إليها ظاهرا ، فإذا نظر في باطنها وجدها قاتلة مهلكة ، نعوذ بالله من الاغترار بها.

وقيل : الحياة الدنيا ـ على ما عند أولئك الكفرة ـ لعب ولهو ، وعند المؤمنين حكمة.

قوله تعالى : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١٨٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) :

يحتمل الابتلاء في الأموال والأنفس : أن يبلوا بالنقصان فيها ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ ..). الآية [البقرة : ١٥٥].

ويحتمل : أن يبلوا بما جعل فيها من العبادات ، [من نحو : الزكاة في الأموال والصدقات والحقوق التي جعل فيها ، وفي الأنفس : من العبادات](٤) : من الصلاة والجهاد والحج ، وغيرها (٥) من العبادات ، والله أعلم (٦).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) :

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي (٩ / ١٠٢).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه عنه الطستي في مسائله ، كما في الدر المنثور (٢ / ١٨٨).

(٣) في ب : ليس.

(٤) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٥) في ب : وغيرهما.

(٦) قال الرازي : قال القاضي : والظاهر يحتمل كل واحد من الأمرين ؛ فلا يمتنع حمله عليهما.

ينظر : مفاتيح الغيب (٩ / ١٠٤).

٥٥٣

يعني : الذين لهم علم بالكتاب ومن غيرهم.

(أَذىً كَثِيراً)

[أي : تسمعون أنتم من هؤلاء أذى كثيرا ، على ما سمع إخوانكم الذين كانوا من قبلكم من أقوامهم أذى كثيرا](١) ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) [آل عمران : ١٨٤].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ تَصْبِرُوا) :

على أذاهم.

(وَتَتَّقُوا) :

مكافأتهم ، على ما صبر أولئك واتقوا مكافأتهم.

(فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) :

قيل : من خير الأمور ؛ هذا يحتمل.

وقيل : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ)

من قولهم : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) ، يعني : العرب ، (أَذىً كَثِيراً) ، يعني : نصب الحروب فيما بينهم ، والقتال ، والسب وغير ذلك ، (وَإِنْ تَصْبِرُوا) : على ذلك والطاعة له ، (وَتَتَّقُوا) : معاصي الربّ ، (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) : : ، يعني : من حزم الأمور.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) :

أي : الذين أوتوا العلم بالكتاب ، وأخذ الميثاق ؛ ليبينوا ، أي : يبيّنوا للناس ما في الكتاب من الأمر والنهي ، وما يحل وما يحرم ، وغير ذلك من الأحكام ، ولا يكتموا ذلك.

ويحتمل : أن أخذ عليهم الميثاق : أن بيّنوا للناس بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته ، ولا تكتموه بالتحريف وبترك البيان.

وقوله : (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ)

أي : لم يعملوا بما فيه ، ولا بينوا للناس ؛ فهو كالمنبوذ وراء ظهورهم.

(وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ..). الآية :

قد ذكرنا معناه في غير موضع (٢).

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٢) كما في تفسير قوله ـ تعالى ـ : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) الآية ٧٩ من سورة البقرة.

٥٥٤

وعن علي ـ رضي الله عنه ـ قال : «ما أخذ الله ميثاقا على أهل الجهل بطلب العلم ، حتى أخذ ميثاقا من أهل العلم ببيان العلم ؛ لأن العلم كان قبل الجهل».

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) :

قيل : بما غيّروا من نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته في كتابهم وكتموه ، وتبديلهم الكتاب ، وإعجاب الناس ذلك وحمدهم على ذلك.

وقيل : إن اليهود دخلوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : نحن نعرفك ونصدقك ـ وليس ذلك في قلوبهم ـ فلما خرجوا من عند [رسول الله](١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم المسلمون : ما صنعتم؟ فيقولون : عرفناه وصدقناه ؛ فيقول المسلمون : أحسنتم ، بارك الله فيكم : يحمدهم المسلمون على ما أظهروا من الإيمان ، وهم يحبون أن يحمدوا على ذلك (٢) ؛ فذلك تأويل قوله : (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا)(٣).

وقيل : إنهم قالوا : نحن أهل الكتاب الأول والعلم ، وأهل الصلاة والزكاة. ولم يكونوا كذلك ، وأحبّوا أن يحمدوا على ذلك (٤) ، والله أعلم بالقصّة (٥).

وفي قوله ـ عزوجل أيضا ـ : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا ..). الآية ـ دلّ ما ذم الله عباده ، وأوعدهم عليه أليم عقابه فيما أحبّوا الحمد على ما لم يفعلوا ـ على تعالى الربّ عن قول المعتزلة في قولهم : ليس لله في الإيمان

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في ب : النبي.

(٢) أخرجه أحمد (١ / ٢٩٨) ، والبخاري (٩ / ١٠٢) : كتاب التفسير : سورة آل عمران ، باب «لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا» (٤٥٦٨) ومسلم (٤ / ٢١٤٣) : كتاب صفات المنافقين ، (٨ ـ ٢٧٧٨) ، والترمذي (٥ / ١١٣) : كتاب التفسير ، باب (سورة آل عمران) (٣٠١٤) من حديث ابن عباس قال : «إنما دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهود ، فسألهم عن شيء ؛ فكتموه إياه ، وأخبروه بغيره ، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا من كتمانهم» الحديث.

(٣) قال بنحوه قتادة : أخرجه عنه ابن جرير الطبري (٧ / ٤٧١ ، ٨٣٥٠ ، ٨٣٥١).

(٤) قال بنحوه ابن عبّاس : أخرجه ابن جرير الطبري (٧ / ٤٦٨) (٨٣٤٤).

(٥) وهناك سبب آخر لنزول هذه الآية ؛ فعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ؛ فنزلت : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) [آل عمران : ١٨٨].

أخرجه البخاري (٩ / ١٠٢) كتاب التفسير : باب (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) ، (٤٥٦٧) ، ومسلم (٤ / ٢١٤٣) كتاب صفات المنافقين ، (٧ ـ ٢٧٧٧).

قال العلامة القاسمي : ولا منافاة بين الروايتين [حديث ابن عباس وحديث أبي سعيد] ؛ لأن الآية عامة في جميع ما ذكر ، ومعنى نزول الآية في ذلك : وقوعها بعد ذلك ، لا أن أحد الأمرين كان سببا لنزولها. ينظر : محاسن التأويل (٤ / ٣٢٠).

٥٥٥

تدبير سوى الأمر ، ولا صنع ، وقد أحبّ أن يحمد عليه بقوله ـ عزوجل ـ : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٧] ، وبقوله ـ عزوجل ـ : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) [الحجرات : ١٧] ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) [النور : ١٠] في غير موضع من القرآن ، ولا قوة إلا بالله.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٨٩)

قال الله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) :

امتدح ـ جل ثناؤه ـ بإدخال كلية الأشياء تحت قدرته ، وبه خوّف من عاند نعمته ، وأطمع من خضع له عظيم ثوابه ؛ فلئن جاز إخراج شيء تحت القدرة عن قدرته ، لاضمحل الخوف عما خوّفه ، والرجاء فيما أطمعه ؛ إذ لم يظهر على ذلك قدرته إلا بقوله : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [المائدة : ١٢٠] ، وما لا صنع لأحد في شيء إلا بأقداره ، ومحال أن يقدر على ما لا يقدر هو عليه ، أو يزول به قدرته ؛ لما فيه ما ذكرت ؛ فلذلك قلنا في بطلان قول المعتزلة بإخراج أفعال صنع الخلق عن قدرة الله ، وامتناعه عن تدبيره ، ولا قوة إلا بالله.

قال الله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.). إلى قوله ـ عزوجل ـ : (لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) [آل عمران : ١٩٠] :

نقول ـ وبالله نستعين ـ : أخبر الله ـ تعالى ـ أن فيما ذكر آيات لمن ذكر ، ومعلوم أن الآيات إنما احتيج إليها لمعرفة أمور غابت عن الحواس ، يوصل إليها بالتأمّل والبحث عن الوجوه التي لها جعلت تلك الأشياء المحسوسة ، التي يغني من له اللبّ دخولها تحت الحواس ـ عن تكلف العلم بها بالتدبير ، بل علم الحواس هو علم الضرورات وأوائل علوم البشر الذي منه يرتقي إلى درجات العلوم ؛ فيلزم طلب ذلك ؛ فيبطل به قول من قال : العلوم كلها ضرورات لا تقع بالأسباب ، ولا يلزم الخطاب دون تولى الرب إنشاء العلم في القلوب بحقيقة ما فيه الخطاب ؛ إذ ذلك يرفع حق الطلب ، ويستوفي فيه الموصوف باللبّ وغير الموصوف ، والمتفكر في الأمر وغير المتفكر ، وقد قال الله ـ تعالى ـ : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ..). الآية [آل عمران : ١٩١] ، وفي ذلك دليل أن المقصود مما أظهر ليس هو ما أظهر ، إذ لزم التفكر بالذي أظهر ؛ ليوصل به إلى العلم بالذي له أنشأ الذي أظهر ، ويعلم ما جعل في الذي دليله وعمله ، وهذا لكل أنواع العلوم أن منها ظاهرا مستغنيا بظهوره عن الطلب ، وخفيّا يطلب بما له في الذي ظهر من أثر ينبئ عنه التأمل (١) ،

__________________

(١) في ب : المتأمل.

٥٥٦

والله أعلم.

وفي ذلك دليل لزوم التوحيد باللبّ ؛ إذ صيرها آيات لمن له ذلك ، وأوّل درجات الآيات أن يعرف منشئها وجاعلها آيات ، والله أعلم.

ثم دلّ اتصال منافع السماء والأرض على تباعد ما بينهما ، حتى قام بها وحي جميع من دب على وجه الأرض وانتفع بشيء ، ثم في إيصال الليل بالنهار في منافع كل حي على تضادّ ما بينهما ؛ حتى صارا كالشكيلين ، والسماء والأرض كالقرينين ـ على أن منشئ ذلك كله واحد ، وأنه لو اختلف الإنشاء لتناقض التدبير ، وبطل وجوه النفع ، وأن الذي أنشأ ذلك علم (١) كيف يدبر لاتصال المنافع واجتماعها بغيرها (٢) ، على اختلاف ما بينها ، وأنه حكيم وضع كل شيء على ما لو تدبر الحكماء فيه ـ لم يكن يعرف اتصال أقرب في المنافع ، على اختلاف في الجواهر ، وتضاد في الأحوال ـ أبلغ من ذلك ؛ بل تقصر حكمتهم عن الإحاطة بوجه الحكمة ، أو الظفر بطرف منها ، إلا بمعونة من دبّر ذلك سبحانه ، وذلك هو الدليل على قدرته وعلو سلطانه ؛ إذ سخر ذلك كلها لبذل ما فيها من المنافع لمن جعلها له ، وجعل لبعض على بعض سلطانا وقهرا ؛ ليعلم أن التدبير يرجع إلى غير ذلك ، ويعلم أن من قدر على ذلك ، وعلم قبل خلق المنتفعين بما خلق على أيّ تدبير [يخلق ذلك ، وبأيّ وجه يصل كل خلق في ذلك إلى منافعه بها ، وما الذي سوى معاشهم ، وعلى أيّ تدبير](٣) دلهم عليه ـ لقادر على إعادة مثله ، والزيادة منه على أنواع ذلك ؛ إذ كل أمر له (٤) حق الابتداء ـ كان ذلك أبعد عن التدبير مما له حق الاحتذاء بغيره أو الإعادة ، مع ما كان في إعادة الليل والنهار ، وجعل كلّ من ذلك [كالذي](٥) مضى ، وإن كان الذي مضى ـ مرة ـ دلالة كافية للبعث والقدرة عليه ، والله الموفق.

ومنها : أنها جعلت على تدبير يعرّف صاحبها ومنشئها ، وأنه دبرها على ما فيها من وجوه (٦) الحكمة التي صارت الحكمة جزءا منها ، وفنون العلم التي تنال بالتأمل فيها ، مما يوضح أن الذي أبرمها حكيم عليم ، مع ما فيها من آثار الإحكام والإتقان الكافية في الإنباء عن الإنشاء للحكمة ، وأن الذي أبدع ذلك ليس بعابث ولا سفيه.

__________________

(١) في ب : علم علم.

(٢) في ب : لغيرها.

(٣) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٤) في ب : له له.

(٥) سقط من ب.

(٦) في ب : وجود.

٥٥٧

ثم معلوم أن الفعل للهلاك والفناء غير داخل في الحكمة ؛ ثبت أن ذلك غير مقصود ؛ فصار المقصود من ذلك وجها يبقى ؛ فثبت أن مع هذه دارا أخرى تبقى ، فهي المقصود ، وجعلت (١) بحق الجزاء ؛ وفي ذلك لزوم المحنة والقول بالرسالة ؛ ليعلم بالوحي كيفية وجوه المحنة مع ما لم يخل شيء من أن يكون فيه آثار النعمة ، من غير أن كان منه ما يستحق ذلك ؛ فثبت أنه في حق الابتداء ، ولازم شكر المنعم في العقول ؛ فيجب به وجهان :

أحدهما : القول بالرسل ؛ لبيان وجوه الشكر ؛ إذ النعم مختلفة ، وأصل الشكر يتفاضل على قدر المنعمين ؛ وكذلك النعم تتفاضل على قدر تفاضل متوليها ، لا بد من بيان ذلك ممن يعرف حقيقة مقادير النعم ، وجلالة حق المنعم ، وبالله التوفيق.

فكان فيها آيات الرسالة والتوحيد ، وحكمته وقدرته وعلمه وجلاله عن الأشباه والشركاء ، وبها جل عن احتمال الشرك في صنعه ، أو الشبه في فعله على أن كلّيّة كلّ من سواه تحت القدرة ، وهو المتعالي عن ذلك.

وفيه دلالة البعث ؛ لما ذكرت ، ولما إذ لزم الشكر بما ذكرت ـ لزمت عقوبة (٢) الكفران ، وقد يخرج المعروف به سليما غريقا في النعم ، وفي الحكمة والعقل عقوبته ـ لزم أن يكون ثمّ دار أخرى ، مع ما كان خلق الخلق ، لا لمن يعرف الحكمة من السفه ، والولاية من العداوة ، والخير من الشر ، والرغبة من الرهبة ، لا معنى له بما فيه تضييع الحكمة ، وجمع بين الذي حقه التفريق في الحكمة والعقل ، وذلك آية السفه ، ومحال كونه ممن الحكمة صفته والعدل نعته ؛ فلزم [به](٣) خلق الممتحن بالذي ذكرت ؛ فصار جميع الخلائق للمحن.

ثم لا بدّ من ترغيب وترهيب ؛ إذ على مثله جبل محتملو المحن ؛ فلزم به القول بالدار الأخرى ، وهو البعث ؛ ليكون إحداهما بحق ابتداء النعم ، والأخرى : بحق استحقاق الجزاء ، وإن كان لله التكليف بلا ، جزاء سابق النعم ، ولا قوة إلا بالله.

والمعاقبة واجبة في الحكمة للجفاء والكفران ، وبالله التوفيق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ)

وقيل : [بمفازة ، أي : بنجاة من العذاب (٤) ، وهو ما ذكرنا من الفوز أنه نجاة على ما

__________________

(١) في ب : جعلت.

(٢) في ب : العقوبة.

(٣) سقط من ب.

(٤) قاله الضحاك : أخرجه عنه ابن المنذر كما في الدر المنثور (٢ / ١٩٣) وقاله أيضا ابن زيد أخرجه عنه الطبري (٧ / ٤٧٢) ، رقم (٨٣٥٣).

٥٥٨

يخاف ويحذر ، أي : ليسوا هم بنجاة](١) من العذاب ، بل لهم عذاب أليم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) :

يشبه ـ والله أعلم ـ أن يكون هذا جوابا لقولهم : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) أي : كيف جاز نسبة الفقر إليه والحاجة ، وله ملك ما في السموات وما الأرض؟! ونسبة الغنى إلى أنفسكم ، وأنتم عبيده وإماؤه ، وما في يد العبد يكون لمولاه؟!.

أو أن (٢) يكون جوابا لقولهم : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [البقرة : ١١٦] أي : كيف يجوز أن يتخذ ولدا ، وله ملك ما في السموات وما في الأرض ، كلهم عبيده وإماؤه؟! والولد في الشاهد إنما يتّخذ لأحد وجوه ثلاثة : إمّا لوحشة أصابته فيستأنس به ، أو لحاجة تبدو له فيدفع به ، أو لقهر وغلبة (٣) يخاف من عدوّ ؛ فيستنصر به على أعدائه ، ويرث (٤) ملكه إذا مات. فإذا كان الله له ملك السموات والأرض وتعالى (٥) عن أن يصيبه شيء من ذلك ؛ كيف جاز لكم أن تقولوا : اتخذ ولدا؟! وإن كان الخلق كلهم عبيده وإماءه ، وأنتم لا تتخذون الأولاد من عبيدكم وإمائكم ؛ كيف زعمتم أنه اتخذ ولدا من عبيده؟! (٦).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : وهذا على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : لا يقدر على خلق فعل العبد ، وعلى قولهم : غير قادر على أكثر الأشياء ، وهو قد أخبر أنه على كل شيء قدير.

قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ)(١٩٤)

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في ب : ببعيد.

(٢) في ب : وأن.

(٣) في ب : غلبة.

(٤) في ب : يرث.

(٥) في ب : يتعالى.

(٦) وقيل : المعنى : لا تظنن الفرحين ينجون من العذاب ؛ فإن لله كل شيء ، وهم في قبضة القدير ؛ فيكون معطوفا على الكلام الأول ، أي : إنهم لا ينجون من عذابه ، يأخذهم متى شاء.

ينظر : تفسير القرطبي (٤ / ١٩٦).

٥٥٩

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) :

في الآية وجوه.

أحدها : أنه خلق السموات والأرض للبشر ومنافعهم ، لا أنه خلقهما لأنفسهما : لا منفعة لهما بخلقه إياهما ؛ حتى يكون خلقه لأنفسهما ؛ إذ خلق الشيء لا لمنفعة أحد أو للفناء خاصة ـ عبث ، فإذا كان ما ذكرنا أنه لا منفعة لهما في خلقهما ـ دل أنه إنما خلقهما لمنافع البشر ، وسخرهما لهم ، ثم جعل منافع السماء مع بعدها من الأرض متصلة بمنافع الأرض ؛ حتى لا تقوم منافع هذا إلا بمنافع الآخر ؛ فيصيرهما كالمتصلين ؛ لاتصال المنافع مع بعد ما بينهما ؛ فدل هذا أن الذي أنشأهما واحد.

وكذلك : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) : هما مختلفان : أحدهما ظلام والآخر نور ، يفنيان الأعمار ويقربان الآجال ، وليس بينهما في رأي العين تشابه ولا تشاكل ؛ إذ أحدهما نور والآخر ظلام ، وهما متضادان ، لكن خلقهما لمنافع البشر ، والمقصود بخلقهم بنو آدم لا أنفسهم ، على ما ذكرنا أن لا منفعة لهم في خلقهم ، ثم صيّرهما مع اختلافهما وتضادهما كالشكلين ؛ لاتصال منافع بعضها ببعض ؛ دل أن منشئهما واحد ، وأنه عليم حكيم ؛ حيث جمع من المتضادين المختلفين وصيّرهما كالشكلين ؛ وهما لعلم وحكمة وتدبير صارا كذلك.

وفيهما دلالة البعث ؛ لأنهما يفنيان حتى لا يبقى من الليل أثر حتى يجىء النهار ، فيذهب النهار أيضا حتى لا يبقى من النهار أثر ، فيجىء آخر ، لا يزالان كذلك ، فإذا كان قادرا على خلق الليل وإنشائه من غير أثر بقي من النهار ؛ وكذلك قادر على إنشاء النهار من غير أن بقي من الليل أثر ظلام ـ لقادر على أن ينشئ الخلق ثانيا ويحييهم ، وإن فنوا وهلكوا ولم يبق منهم أثر ؛ فإذا كان ما ذكرنا من خلق السموات والأرض وما فيهما لمنافع البشر ، وهو المقصود من خلقهما لا غيرهم من الخلائق ؛ لما ركب فيهم من العقول والبصر الذي بهما يميزون بين المنافع والمضار ، وبين الخبيث والطيب ، وبين الحسن والقبيح ، ولم يركب ذلك في غيرهم من الخلائق ـ لا بدّ من أمر ونهي : يأمر بأشياء ، وينهى عن أشياء ؛ يمتحنهم على ذلك ؛ إذ هم أهل التمييز والفهم والبصر ؛ فإذا كان ما ذكرنا ، لا بد ـ أيضا ـ من دار أخرى للجزاء ، يكرم المطيع له فيها والولى ، ويعاقب العدو فيها والعاصي ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) :

٥٦٠