تأويلات أهل السنّة - ج ٢

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة - ج ٢

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٧٣

ثم فى قوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) وفى قوله : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) ، وفى قوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) وفى نحو هذه الآيات دلالة تأخر البيان ، حيث لم يبين ما الأقراء؟ ، ولم يبين الاعتزال من أى موضع ، ومن أى مكان؟ ، ولم يبين المخالطة فى ما ذا ، وفى أى شىء؟ فالاختلاف فيه باق إلى يوم التناد ؛ فبطل قول من ينكر تأخر البيان ، وثبت قول من أقر به. وبالله التوفيق.

وقوله : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). ففى الآية دلائل :

أحدها : أن ذكر حرمة الكتمان فيمن آمن ليس بشرط فيه دون غيره ؛ إذ قد يلزم ذلك من هو غير مؤمن ، إذ هو غير مستحسن فى العقل. ففيه الدليل على أن الحكم الموجب لعلة يجوز لزومه فيما ارتفعت عنه تلك العلة وعدمت وهو كقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ١] ، وقد يلزم (إصلاح ذات البين) فى غير الإيمان ، وكذا قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٢٧٨] ، وقد يلزم ترك الربا للمعاهد ، وقد يجوز ذلك للمسلم فى غير داره ؛ فدل أن الحكم إذا ذكر لعلة (١) فى أحد لا يمنع لزوم ذلك فى غير المذكور.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله تعالى ـ : فيه دليل على أن إضافة الحكم إلى سبب لا يمنع حقه ارتفاعه. وفيه دليل ألا يحل ذلك لمن قد آمن فى الخلق ؛ لأن حقه التصديق وإظهار الحق ، وفى الكتمان والتكذيب ترك ما فيه من الشرط. والله أعلم.

ثم اختلف فى قوله : (ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ).

قال بعضهم : الحبل والحيض. وكذلك روى عن على وعبد الله بن مسعود وعبد الله ابن عباس (٢) ، رضى الله تعالى عنهم ، أنهم قالوا : (ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) : الحبل والحيض ؛ فثبت أن موضع الحيض الرحم. ثم الرحم يشغله الحبل عن خروج الدم ؛ فبان أن الحامل لا تحيض. وعلى ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما ذلك دم عرق انقطع» (٣). وهو الأمر الظاهر المتعارف فى النساء أن الحبل يحبس الدم.

وقال بعض أهل التأويل : (ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) : الحبل خاصة دون الحيض ؛ لوجهين :

__________________

(١) فى ط : العلة.

(٢) أخرجه ابن أبى شيبة فى المصنف (١٩١٠٣).

(٣) أخرجه الدارقطنى (١ / ٢١٦) ، والبيهقى (١ / ٣٥٤) عن عائشة بنحوه.

١٦١

أحدهما : أنهن فى الجاهلية كن يكتمن ذلك فيلحقن بغير الآباء ، فأوعدن على ذلك بعد الإسلام ؛ فثبت أن الحيض لا يحتمل.

والثانى : أن الحيض لا ينسب بكونه فى الرحم ، فإذا كان غير منسوب إليه لم يحتمل كونه فيه. والله أعلم.

لكن الوجه فيه ما ذكرنا من قول الصحابة ، وما فيه من الدلالة أنهن مؤتمنات فيما يخبرن ؛ لوجهين :

أحدهما : ما جاء فى الخبر من أن الأمانة أن تؤتمن المرأة على فرجها (١).

والثانى : لو لا أنها ممن يقبل خبرها فيه (٢) لما أوعدن على الكتمان.

ثم يحتمل الكتمان من وجهين :

أحدهما : أن يكتمن ذلك يستوجبن به الإنفاق من عند أزواجهن بقولهن : العدة باقية ، وذلك يحتمل الحيض والحبل جميعا.

ويحتمل : ما قاله بعض أهل التأويل من إبقاء حق الرجعة.

ويحتمل قول أبى حنيفة ، رحمه‌الله تعالى ، فى كتمانها ، إذ قال فى المرأة إذا جاءت بولد فى العدة ، فشهدت امرأة على الولادة والحبل : لم يكن ظاهرا أن يقبل قولها ؛ إذ هى أمرت بالإظهار ، والكتمان أورث تهمة فى القبول.

ويحتمل : ألا يحل لهن أن يكتمن الحبل فيلحقن بغيرهم من الأزواج. والله أعلم.

وقوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً).

يحتمل وجهين :

يحتمل : أنهن لا يملكن الرجعة ، ولا منع أزواجهن عن المراجعة ، بل ذلك إلى بعولتهن.

ويحتمل : (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) فى نكاح فى العدة ، لا فى حق الرجعة ؛ إذ الزوج يملك نكاحها فى العدة ، وغيره من الناس لا يملك ، كقوله : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ).

وقوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ) ، فيه دليل أن قوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) إنما عنى به المطلق طلاقا لم يقطع على نفسه جهة العود.

وقوله فى ذلك : (إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) يحتمل وجوها :

__________________

(١) ينظر : أحكام القرآن (١ / ٣٧١).

(٢) فى أ : خبر فيها ، وفى ب : فيما تخير.

١٦٢

يحتمل : إصلاح ما بينهن.

ويحتمل : إن أرادوا إمساكهن بالمعروف ، كقوله : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) ، فهو ممسك لها وإن كان مضرّا.

ثم الأصل فى هذا : أنه وإن قال : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ، ليس على ألا يصير ممسكا لها بغير المعروف.

وأصل هذا : أن ليس فى القول بأن (لَمْ تَفْعَلُوا) ، دليل الجواز ، والفساد إذا فعل ذلك.

ثم اختلف فى قوله : (فِي ذلِكَ) ، أى : فى الوقت الذى يعيد به ، أو (فِي ذلِكَ) القروء. والله أعلم.

وقوله : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

روى عن ابن عباس (١) ، رضى الله تعالى عنه ، أنه قال : إنى أحب أن أتزين لامرأتى كما أحب أن تتزين لى ؛ لأن الله تعالى يقول : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

وقال آخرون : لهن من الكفاف ما عليهن من الخدمة.

وقال غيرهم : لهن من الحق فى المهور بتسليم الأزواج إليهن ما عليهن من تسليم الأبضاع (٢) إلى الأزواج ؛ فيدل هذا على أن الخلوة ، والتسليم منها ، يحل محل قبض الحق منها لزوجها.

وقيل : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ) ، الحقوق ما تلزمهن من حقوق الأزواج ، يلزم مثلها على الأزواج لهن ، وإن كانت مختلفة.

وقوله : (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

قيل (٣) : هو الطلاق بيد الرجل وليس بيدها.

وقيل (٤) : هى الإمارة والطاعة والأمر.

وقيل (٥) : هى ما فضل الله به عليها من الجهاد والميراث وغيره.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٤٧٧٢) ، ووكيع وسفيان بن عيينة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم كما فى الدر المنثور (١ / ٤٩٣).

(٢) فى أ : البضاع.

(٣) أخرجه عبد بن حميد وابن أبى حاتم عن أبى مالك كما فى الدر المنثور (١ / ٤٩٤).

(٤) قاله زيد بن أسلم ، أخرجه ابن جرير عنه (٤٧٧٦) ، وعن ابن زيد (٤٧٧٧) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٤٩٤).

(٥) أخرجه ابن جرير وعبد بن حميد عن مجاهد كما فى الدر المنثور (١ / ٤٩٣).

١٦٣

وقيل : لهم من الفضيلة من الولايات والشهادات والعقل ، وذلك ليس لهن.

وقيل : هى فضيلة فى الحق وبما ساق إليها من المهر.

وقال الشيخ أبو منصور ، رحمه‌الله تعالى ، فى قوله : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ، أى من الحقوق على الأزواج. ثم يحتمل حقوقهن المهر والنفقة ، ويحتمل ما أتبع من قوله : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) ويحتمل قضاء ما لها من الحوائج خارج البيت مما به قوام دينها ووقايتها عن النار. وعليها من الحقوق :

مقابل الأول : البذل له وألا يوطئن فرشهن أحدا.

ومقابل الثانى : أن يحسن إليهن فى البر باللسان والقول المعروف الذى فيه تطيب نفسه به ، كما وصف الحميدة منهن. «من إذا نظرت إليها سرتك ، وإذا دعوتها أجابتك ، وإذا غبت عنها حفظتك فى مالك ونفسها».

ومقابل الثالث : ألا تتلقاه بمكروه ، ولا تقابله بما يضجره ويغضبه مع الخدمة وكفاية الداخل مما به قوام دينه. والله أعلم.

و «الدرجة» : التى ما له من الملك فيها ، والفضل فى الحقوق عليها ، وما جعل «قواما عليها» ، وغير ذلك. والله أعلم.

ويحتمل : ما لهن من قوله : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) وعليهن بذل حقهم المعروف ، والإحسان إليهم فيما يبغون من الخدمة والقيام بكفاية داخل البيت ، مع حفظ ماله عندها. والله أعلم.

وقوله عزوجل : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ).

فيه دلالة أنه يطلق بنيتين بمرتين.

وقوله : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).

أن له الرجعة بعد طلاقين ، بذكره مرتين. وفيه أن المطلق فى الطهر الثالث من غير رجعة مطلق للسنة ؛ لما خير بين الإمساك أو التسريح من غير مراجعة ، وهو على مالك ؛ لأنه يقول : ليس له أن يزيد على تطليقة واحدة إلا أن يراجع.

والتسريح بإحسان : هو التطليقة الثالثة ، كذلك روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه سئل عن «التسريح بإحسان» ، فقال : «هو التطليقة الثالثة» (١).

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٤٧٩٥ ، ٤٧٩٦ ، ٤٧٩٧) ، ووكيع وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وأحمد وعبد ابن حميد وأبو داود فى ناسخه وابن المنذر وابن أبى حاتم والنحاس وابن مردويه والبيهقى عن أبى رزين الأسدي كما فى الدر المنثور (١ / ٤٩٥).

١٦٤

فإن قيل : أيش الحكمة فى ذكر (المعروف) فى الإمساك ، و (الإحسان) فى التسريح.

قيل : وذلك أن فى (التسريح) قطع الحقوق التى أوجبها النكاح ، فأمر عند قطعها عنها بالإحسان إليها مبتدئا ، والإحسان أبدا إنما يكون عند ابتداء الفعل ، لا عند المكافأة. وأما (المعروف) فى الإمساك فالنكاح أوجب ذلك ؛ كقوله : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً). قيل (١) : «الميثاق الغليظ» : الحقوق التى أوجب النكاح. وهذا ـ والله أعلم ـ وجه الحكمة ، و (المعروف) ما عرفا فى النكاح ، و (الإحسان) هو ما يبتدئ مما لم يعرفا.

وقوله : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ).

فظاهر هذه الآية الكريمة يوجب ابتداء الخطاب للأزواج ، ثم آخرها يوجب الخطاب لهما جميعا ، ثم آخرها يوجب الخطاب لغير الأزواج يحفظ عليهما حدود الصحبة ، فيشبه أن يكون فى الآية الإضمار (فهما الحكمين) ، فيكون كقوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) فيكونان هما اللذان يحفظان عليها الحد والمحدود.

ويحتمل : أن يكون الخطاب فى قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) للحكام ؛ لأنهم هم الذين يتولون النظر فى أمور الناس ليقوموهم على حفظ حدود الله.

ثم القول عندنا فى قوله : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) إذا كان النشوز واقعا من قبل الزوج فإنه لا يحل له أخذ شىء على الخلع استدلالا بقوله : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) [النساء : ٢٠]. وأما إذا كان النشوز من قبلها فإنه لا بأس أن يأخذ قدر المهر ، ويكره الزيادة [وتجوز](٢). أما قدر المهر فإنه لا بأس إذا كان من قبلها استدلالا بقوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) ، ذكر رفع الحرج عن الذى فدى فيما عنه نهى فى غير هذا وهو المؤتمن ؛ لذلك قلنا : إنه يجوز إذا كان النشوز من قبلها قدر المهر. وأما الزيادة فإنها تكره استدلالا بما روى فى الخبر : أن امرأة أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت بغض زوجها ، فقال : «أتردين عليه حديقته؟» فقالت : نعم ، وزيادة. فقال : «أما الزيادة

__________________

(١) يأتى.

(٢) سقط فى ط.

١٦٥

فلا» (١). ففيه الدلالة أن النشوز إذا كان من قبلها فإنه يجوز قدر المهر.

وقال ابن داود (٢) : خالف الشافعى ظاهر الكتاب فيما جعل له أخذ ما فدى والزيادة ، والكتاب رفع الحرج عن أخذ ما فدى ، لم يجعل له غيره بقوله : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ).

وقال ابن شريح (٣) : ما ذلك الأخذ فى الطلاق ، إنما ذلك فى الطلاق كرها ؛ لأنه ليس فى الآية ذكر الطلاق. واستدل بقوله : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) [النساء : ٤] ، فجعل له أكل ما أخذ بالوصف الذى ذكره ، ثم كان له أخذ ما تبذل فى غير الطلاق ، فعلى ذلك فى الطلاق [وفى الطلاق](٤) أحق. والله أعلم.

والأصل عندنا : جواز ما بذلت أخذه مما احتيج به الرجل إن كان له ذلك فى غير الطلاق ، وهو فى الطلاق أجوزه ؛ لأنها تنتفع ، غير أنه يكره له الفضل لما ذكرنا من الآية والخبر. ثم يجوز هو لأنه تبادل ، فكان كالعقود التى تكره لربح ما لم يضمن على الجواز

__________________

(١) أخرجه البخارى (٩ / ٣٩٥) كتاب : الطلاق ، باب : الخلع ، حديث (٥٢٧٣) ، والنسائى (٦ / ١٦٩) كتاب : الطلاق ، باب : ما جاء فى الخلع ، وابن ماجه (١ / ٦٦٣) كتاب : الطلاق ، باب : المختلعة تأخذ ما أعطاها ، حديث (٢٠٥٦) ، والدارقطنى (٤ / ٤٦) كتاب : الطلاق والخلع والإيلاء (١٣٥) ، والبيهقى (٧ / ٣١٣) ، والبغوى فى شرح السنة (٥ / ١٤١ ـ ١٤٢) من طريق عكرمة عن ابن عباس به.

وأخرجه أبو داود (١ / ٦٧٧) كتاب : الطلاق ، باب : فى الخلع ، حديث (٢٢٢٩) ، والترمذى (٣ / ٤٩١) كتاب : الطلاق ، باب : ما جاء فى الخلع ، حديث (١١٨٥) مكرر من طريق عكرمة عن ابن عباس بلفظ : إن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه فجعل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عدتها حيضة.

وقال الترمذى : حسن غريب.

وقال أبو داود : وهذا الحديث رواه عبد الرزاق عن معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسلا.

(٢) هو : أبو بكر محمد بن داود وكان فقيها أديبا شاعرا ظريفا وكان يناظر أبا العباس ابن سريج وخلف أباه فى حلقته. وحكى القاضى أبو الحسن الخرزى أن أبا بكر لما جلس بعد وفاة أبيه فى حلقته يفتى استصغروه فدسوا إليه رجلا فقالوا له : سله عن حد السكر ما هو؟ فأتاه الرجل فسأله عن حد السكر ما هو ومتى يكون الإنسان سكرانا؟ فقال محمد : إذا عزبت عنه الهموم وباح بسره المكتوم ، فاستحسن ذلك منه وعلم موضعه من أهل العلم. ينظر : طبقات الشيرازى (ص ١٧٥).

(٣) هو : أبو أمية شريح بن الحارث القاضى : قال المدائنى : مات سنة اثنتين وثمانين ، قال الأشعث : مات وهو ابن مائة وعشرين سنة. وروى أن عليّا عليه‌السلام قال : اجمعوا لى القراء ، فاجتمعوا فى رحبة المسجد ، قال : إنى أوشك أن أفارقكم ، فجعل يسائلهم : ما تقولون فى كذا؟ ما تقولون فى كذا؟ وبقى شريح فجعل يسائله فلما فرغ قال : اذهب ، فأنت من أفضل الناس أو من أفضل العرب ، وقيل : إنه استقضاه عمر على القضاء بالكوفة وبقى فى القضاء خمسا وسبعين سنة ثم استعفى الحجاج فأعفاه. ينظر : طبقات الشيرازى (ص ٨٠).

(٤) سقط فى أ.

١٦٦

فكذا هذا.

والأصل : بأن الطلاق بالبذل بينها ، وهو لو لم يملك البينونة مطلقا لم يملكه بما شرط ؛ فثبت أنه يملك.

وأصله : أنه بالطلاق ، ويصرف إليها ما ملك عليها بالعقد فانتفعت بإزاء ما بذلت ؛ لذلك سلم للزوج ما أخذ. والله أعلم.

قال : ويكره أخذ الزيادة بما فيه رفع النكاح ، فيصير أخذ ما يأخذ بالذى أعطى ، فما يفضل عليه ليس بإزائه بدل ، وذلك وصف الربا. والله أعلم.

ثم اختلف فى قوله : (إِلَّا أَنْ يَخافا) :

قيل : (يَخافا) علما ، يعنى الرجل والمرأة.

وقيل : علم الحكمان ألا يقيما حدود الله. وعلى ذلك قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ ، خِفْتُمْ) يعنى علمتم.

وقيل : الخوف هو الخوف ، فكأنه أقرب ؛ لأن العلم يكون فيما مضى من الحال أنهما أقاما حدودا أو لم يقيما. وأما الخوف فى حادث الوقت أمكن ؛ لأنه لا يعلم باليقين ؛ لذلك كان ما ذكرنا ، وهو كقوله : (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الأنعام : ١٥].

ثم اختلف فى قوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) :

قال بعضهم (١) : أراد بقوله : (عليهما) ، (عليه) خاصة. وهذا جائز فى اللغة إضافة الشىء إلى الاثنين ، والمراد واحد منهما ، كقوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] ، وإنما يخرج من أحدهما ، ومثله كثير.

وقال آخرون (٢) : أريدا جميعا : المرأة بالفداء ، والزوج بالأخذ ؛ لأن الزوج نهى عن أخذ شىء مما آتاها بقوله : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) ثم أباح ورفع الحرج منه بالأخذ على الشرط.

وقيل : أراد بذلك الزوج خاصة. وهو ما ذكرنا. والله أعلم.

وقوله : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها).

قيل : إذا لم يفهم بحد من حدود الله تعالى ما يفهم من حد الخلق ، كيف فهم من استواء الرب ومجيئه من قوله : (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) ، و (وَجاءَ رَبُّكَ) ما فهم من استواء

__________________

(١) قاله ابن جرير (٢ / ٤٨١).

(٢) ينظر : السابق.

١٦٧

الخلق ومجيئهم؟ والاستواء والمجىء إلى احتمال معان أن ينفى عنه التشبيه أكثر من احتمال الحدود التى فى الشاهد. فإذا لم يفهم من هذا ذلك لم يجز أن يفهم من الأول ما فهموا ، وقد قال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١].

وقوله : (حُدُودَ اللهِ).

قيل : أحكام الله وسننه.

وقيل : أوامره ونواهيه.

[وقيل : آدابه وهو واحد.](١)

وقوله : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

يحتمل وجهين :

يحتمل : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) مستحلّا بها ، فيكفر بتعديه ذلك ، فهو ظالم ـ ظلم كفر.

ويحتمل : (وَمَنْ يَتَعَدَّ) تجاوز أمر الله وما نهاه عنه غير مستحل لها ، فهو ظالم نفسه ، غير كافر.

وقوله : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ)

هذه الآية رجعت إلى الأولى قوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) فإن طلقها بعد التطليقتين تطليقة أخرى (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ، وقوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) قيل : التطليقة الثالثة ، وعلى ذلك جاء الخبر ، وهو واحد عندنا ، يدل عليه أيضا قوله تعالى : (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ).

ويحتمل : عقد النكاح خاصة ، دون الجماع من الثانى ؛ إذ ليس فى الآية ذكر الدخول بها. وأما عندنا : فهو على الجماع فى النكاح الثانى ، يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : «لا ، حتى تذوق من عسيلته ويذوق من عسيلتها» (٢) ، فيكون النكاح مضمرا ، وهو أولى ؛ لأن الآية فى عقوبة الأول ولا يشتد عليه النكاح حتى يتصل به الوطء (٣).

وفيه دلالة على كراهية التطليقة الثالثة ـ إذ هى لا تحل له بعدها إلا بعد دخول زوج آخر بها ، وذلك مما ينفر عنه الطبع ويكرهه.

__________________

(١) سقط فى ط.

(٢) أخرجه البخارى (١٠ / ٢٧٦) كتاب اللباس ، باب الإزار المهدب (٥٧٩٢) ، ومسلم (٢ / ١٠٥٥) كتاب النكاح ، باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره (١١١ / ١٤٣٣).

(٣) فى ب : الأول.

١٦٨

وقوله : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

فيه دليل على أن فى التراجع إيجاب عقد بهما جميعا ؛ فدل على قطع رجعه الثانى المحل (١) للزوج الأول ، وذلك أن لا رجعة فيه لغيره. وقوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) ، أضاف (الرد) إلى الأزواج ؛ فدل أنهم ينفردون به دونهن.

ثم ذكر الكتاب : (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ، جعل سبب الحل على الزوج الأول نكاح الثانى ، لم يجز أن ينهى عنه ، وقد جعل هو سبب رفع الحرمة ؛ إذ مثل (٢) هذا ـ فى أحكام الله تعالى ـ لا يوجد ولا يستقيم وهو كالوضوء فيما جعل سببا لإقامة الصلاة ، ولم يجز أن يجعل سببا لها ثم يكره الإقدام عليه وينهى عنه ، وكالتحريم إذ جعل سببا للدخول بها فى الصلاة لم يجز النهى عنها ، وبها قوامها. كذا هذا ، لما جعل سببا لرفع الحرمة به لا جائز أن ينهى عنه.

ثم فيه دلالة جواز نكاح المحلل. فإن سئلنا عن قوله عليه الصلاة والسلام : «لعن الله المحلل والمحلل له» (٣). قيل : لحوق اللعن لأجل النكاح على قصد الفراق والطلاق ، ليس لأجل التحليل على الأول ، ورفع الحرمة عنه ، دليله قوله عليه الصلاة والسلام : «إن

__________________

(١) فى أ : الحل.

(٢) فى أ ، ط : فى.

(٣) حديث على :

أخرجه أحمد (١ / ٨٧ ، ١٠٧ ، ١٢١ ، ١٣٣ ، ١٥٠ ، ١٥٨) ، وأبو داود (٢ / ٥٦٢) كتاب : النكاح ، باب : فى التحليل ، حديث (٢٠٧٦) ، والترمذى (٣ / ٤٢٧) كتاب : النكاح ، باب : المحلل والمحلل له ، حديث (١١١٩) وابن ماجه (١ / ٦٢٢) كتاب : النكاح ، باب : المحلل والمحلل له ، حديث (١٩٣٥) ، وأبو يعلى (١ / ٣٢٣ ـ ٣٢٤) رقم (٤٠٢) ، والبيهقى (٧ / ٢٠٨) كتاب : النكاح ، باب : فى نكاح المحلل ، كلهم من طريق عامر الشعبى عن الحارث عن على ابن أبى طالب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لعن الله المحلل والمحلل له».

حديث ابن مسعود :

أخرجه أحمد (١ / ٤٤٨) ، والترمذى (٣ / ٤٢٨ ـ ٤٢٩) كتاب : النكاح ، باب : المحلل والمحلل له ، حديث (١١٢٠) ، والنسائى (٦ / ١٤٩) كتاب : النكاح ، باب : إحلال المطلقة ثلاثا ، والدارمى (٢ / ١٥٨) كتاب : النكاح ، باب : فى النهى عن التحليل ، والبيهقى (٧ / ٢٠٨) كتاب : النكاح ، باب : ما جاء فى نكاح المحلل ، من طرق عن سفيان عن أبى قيس عن هزيل ابن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود قال : لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المحلل والمحلل له.

قال الترمذى : هذا حديث حسن صحيح.

وأخرجه أحمد (١ / ٤٥٠ ـ ٤٥١) ، وأبو يعلى (٨ / ٤٦٨) رقم (٤٠٥٤) ، والبغوى فى شرح السنة (٥ / ٧٨) من طريق عبد الكريم الجزرى عن أبى واصل عن عبد الله بن مسعود ؛ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعن المحلل والمحلل له.

١٦٩

الله لا يحب كل ذواق مطلاق» ؛ وذلك لقصده الفراق بالنكاح ، إذ النكاح بنى فى الأصل على البقاء والدوام عليه ، وفيه التعفف ، وفى الطلاق زوال ما به يقصد ؛ فلهذا لحقه ما لحقه من اللعن.

ثم المحلل له لما طلب بنكاح الزوج الثانى ما ينفر عنه الطباع ويكرهه من عودها إليه بعد مضاجعة غيره إياها ، واستمتاعه بها منع لهذا المعنى عن إيقاع الثالثة ، لكن إذا تفكر حرمتها عليه إلا بنكاح آخر ، انزجر عن ذلك.

ثم العقد نفسه لا ينفر عنه الطباع ولا يكرهه ؛ ثبت أن الدخول شرط فيه ليكون زجرا ومنعا عن ارتكابه.

وقوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) يخرج على الترخيص ؛ وذلك ـ والله أعلم ـ أن الطلاق يحرمها عليه ويبينها منه كما تحرم عليه هى بأنواع الحرم يحرم فأخبر ـ عزوجل ـ وأباح له النكاح بعد وقوع الحرمة ـ أن هذه الحرمة ليست كغيرها من الحرم التى لا ترتفع أبدا. والله أعلم.

قوله تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٢٣٢)

وقوله : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)

وقال عزوجل : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) ، ذكر فى الآية الأولى (الإمساك) ، والإمساك المعروف : هو إمساكها على ما كان من الملك. وذكر فى الآية الأخيرة (الرد) ، والرد لا يكون إلا بعد الخروج من الملك. هذا هو الظاهر فى الآية. لكن بعض أهل العلم يقولون : إنه يمسكها على الملك الأول ويردها من الحرمة إلى الحل ؛ لأن من مذهبهم : أن الطلاق يوجب الحرمة ، ولا يخرجها من ملكه. وهذا جائز أن يحرم المرأة على زوجها وهى بعد فى ملكه. فإذا كان كذلك فأمر بالإمساك على الملك الأول وبالرد من الحرمة إلى الحل. وهو قول أهل المدينة أى يردها من العدة إلى ما لا عدة ، ويمسكها بلا عدة.

وأما عندنا : فهو واحد بحدث الإمساك ، دليله قوله : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) ، ولو لم يكن الإمساك سوى القصد إليه ، لكان لم يكن بالقصد إليها مضرّا.

وهو فيما أمر بالإمساك بالمعروف فيه وجهان :

١٧٠

أحدهما : هو أن يمسكها على ما كان يمسكها من قبل من مراعاة الحقوق ومحافظة الحدود.

ويحتمل ما قيل : ألا تطول عليها العدة ، على ما ذكر فى القصة من تطويل العدة عليها ، وفيه نزلت الآية.

وفيه دلالة أن الزوج يملك جعل الطلاق بائنا بعد ما وقع رجعيّا ؛ لأنه يصير بائنا بتركه المراجعة ؛ فعلى ذلك يملك إلحاق الصفة من بعد وقوعه ، فيصير بائنا. والله أعلم.

وقوله : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ).

قال الشيخ ـ رحمه‌الله تعالى ـ : الأصل عندنا فى المناهى : أنها لا تدل على فساد الفعل ولا تستدل بالنهى على الفساد ، كقوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) ، على ذلك قوله : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) ، أنه يصير ممسكا لها وإن كان فيه ضرارا لها ، وهكذا هذا فى كل ما يشبه هذا من قوله : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) [النساء : ٢٥] ، أنه إذن بالفعل فى حال فهو وإن أوجب نهيا فى الفعل ، فذلك لا يدل على الفساد فى حال أخرى.

وقوله : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً).

معناه ـ والله أعلم ـ أى لا تعملوا بآيات الله عمل من يخرج فعله بها مخرج فعل الهازئ ؛ لأنه معقول أن أهل الإيمان والتوحيد لا يتخذون آيات الله هزوا ، ولا يقصدون إلى ذلك.

وقيل : إنهم فى الجاهلية كانوا يلعبون بالطلاق والعتاق ، ويمسكونهم بعد الطلاق والعتاق على ما كانوا يمسكون قبل الطلاق وقبل العتاق ، فنهوا عن ذلك بعد الإسلام والتوحيد.

ثم اختلف فى (آياتِ اللهِ) :

قيل : حجج الله.

وقيل : أحكام الله.

وقيل : دين الله.

ويحتمل : (آياتِ اللهِ) ، الآيات المعروفة.

وقوله : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

قوله : نعمة الله يحتمل وجوها :

١٧١

يحتمل : (نِعْمَتَ) هاهنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو من أعظم النعم.

ويحتمل (١) : (نِعْمَتَ) ، الإسلام وشرائعه.

ويحتمل : (نِعْمَتَ) ، هى التى أنعمها على خلقه جملة.

النعمة على ثلاثة أوجه :

النعمة بالإسلام ، تقتضى منه المحافظة.

والنعمة الخاصة ، تقتضى الشكر.

والنعم العامة جملة ، تقتضى منه التوحيد.

وقوله : (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ) ، وهو القرآن. ففيه دلالة أن (الْكِتابِ) ، هو منزل ، ليس كما يقول القرامطة (٢) ؛ لأنهم يقولون : بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألف القرآن ، وإنما كان

__________________

(١) قاله ابن جرير (٢ / ٤٩٦).

(٢) وأما تسميتهم بالقرامطة ففى سبب ذلك ستة أقوال :

أحدها : أنهم سموا بذلك ؛ لأن أول من أسس لهم هذه المحنة محمد الوراق المقرمط ، وكان كوفيا.

والثانى : أن لهم رئيسا من السواد من أنباط ، يلقب : بقرمطويه فنسبوا إليه.

والثالث : أن قرمطا كان غلاما لإسماعيل بن جعفر فنسبوا إليه ؛ لأنه أحدث لهم مقالاتهم.

والرابع : أن بعض دعاتهم نزل برجل يقال له : كرمية ، فلما رحل تسمى قرمط بن الأشعب ، ثم أدخله فى مذهبه.

الخامس : أن بعض دعاتهم رجل يقال له : كرمية ، فلما رحل تسمى باسم ذلك الرجل ، ثم خفف الاسم فقيل : قرمط ، قال أهل السير : كان ذلك الرجل الداعى من ناحية خوزستان ، وكان يظهر الزهد والتقشف ، ويسف الخوص ، ويأكل من كسبه ، ويحفظ لقوم ما صرموا من نخلهم فى حظيرة ، ويصلى أكثر الناس ، ويصوم ، ويأخذ عند إفطاره من البقال رطلا من التمر فيفطر عليه ، ويجمع نواه فيدفعه إلى البقال ، ثم يحاسبه على ما أخذ منه ، ويحط من ذلك ثمن النوى.

فسمع التجار الذين صرموا نخلهم فوثبوا عليه وضربوه ، وقالوا : لم ترض بأن أكلت التمر حتى بعت النوى. فأخبرهم البقال فى الحال ، فندموا على ضربه ، وسألوه الإحلال ، فازداد بذلك نبلا عند أهل القرية ، وكان إذا قعد إليه إنسان ذاكره أمر الدين وزهده فى الدنيا ، وأعلمه أن الصلاة المفروضة على الناس خمسون صلاة فى كل يوم وليلة ، ثم أعلم الناس أنه يدعو إلى إمام من أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم مرض ومكث مطروحا على الطريق ، وكان فى القرية رجل يحمل على أثوار له ، وكان أحمر العينين ، وكان أهل القرية يسمونه كرمية لحمرة عينيه ، وهو بالنبطية : حار العين ، فكلم البقال كرمية هذا فى أن يحمل هذا العليل إلى منزله ، ويوصى أهل الإشراف عليه والعناية به ، ففعل ، فأقام عنده حتى برئ ، ثم كان يأوى إلى منزله ودعا أهل القرية إلى أمره فأجابوه ، وكان يأخذ من الرجل إذا دخل فى دينه دينارا ، ويزعم أنه يأخذ ذلك إلى الإمام ، فمكث يدعو أهل القرى فيجيبونه ، واتخذ منهم اثنى عشر نقيبا ، وأمرهم أن يدعوا الناس إلى دينه ، وقال لهم : أنتم كحواريى عيسى بن مريم عليهما‌السلام ، فشغل أكرة تلك الناحية عن أعمالهم بما رسمه لهم من الخمسين صلاة التى ذكر أنها فرضت عليهم.

وكان للهيصم فى تلك الناحية ضياع ، فوقف على تقصير أكرته فى العمارة ، فسأل عن ذلك ، ـ

١٧٢

يوحى إليه كما يتوهم الرجل شيئا فيجعله كلاما.

وقوله : (وَالْحِكْمَةِ) ، اختلف فيه :

قيل : (وَالْحِكْمَةِ) ، الفقه.

وقيل : (وَالْحِكْمَةِ) ، الحلال والحرام.

وقيل : (وَالْحِكْمَةِ) ، المواعظ.

وقيل : (وَالْحِكْمَةِ) ، هى الإصابة : إصابة موضع كل شىء منه.

وقيل : (الْحِكْمَةِ) ، القرآن ، وهو من الإحكام والإتقان ، كأنه قال ـ عزوجل ـ : «اذكروا ما أعطاكم من الفقه والإصابة والكتاب المحكم والمتقن الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه».

وقوله : (يَعِظُكُمْ بِهِ) ، يعنى بالقرآن.

__________________

 ـ فأخبر أن رجلا قدم عليهم فأظهر لهم مذهبا من الدين ، وأعلمهم أن الله عزوجل قد افترض عليهم خمسين صلاة فى اليوم والليلة ، وقد اشتغلوا بها فوجه إليه فجىء به فسأله عن أمره ، فأخبره بقصته ، فحبسه فى بيت ، وحلف بقتله ، وأقفل عليه ، وترك المفتاح تحت وسادته ، ونام ، فرقت له جارية ، فأخذت المفتاح ، وفتحت وأخرجته ، ثم أعادت المفتاح إلى موضعه ، فلما أصبح الهيصم فتح الباب ، فلم يجده فشاع ذلك الخبر ، فعبر به أهل تلك الناحية وقالوا : قد رفع.

ثم ظهر فى موضع آخر ولقى جماعة من أصحابه فسألوه عن قصته ، فقال : ليس يمكن أحدا أن يؤذينى. ثم خاف على نفسه ، وخرج إلى الشام ، وتسمى باسم الرجل الذى كان فى منزله كرميته ، ثم خفف فقيل : قرمط ، وفشا أمره وأمر أصحابه ، وكان قد لقى صاحب الزنج فقال له : أنا على مذهب ورائى مائة ألف سيف ، فناظرنى ، فإن اتفقنا ملت بمن معى إليك ، وإن تكن الأخرى انصرفت ، فناظره فاختلفا ففارقه.

السادس : أنهم لقبوا بهذا نسبة إلى رجل من دعاتهم يقال له : حمدان بن قرمط ، وكان حمدان هذا من أهل الكوفة يميل إلى الزهد ، فصادفه أحد دعاة الباطنية فى طريق ، وهو متوجه إلى قرية وبين يديه بقر يسوقها ، فقال حمدان لذلك الداعى وهو لا يعرفه : أين تقصد؟ فسمى قرية حمدان ، فقال له : اركب بقرة من هذه البقر لتستريح من المشى. فقال : إنى لم أؤمر بذلك : قال كأنك لا تعمل إلا بأمر؟ قال : نعم! فقال حمدان : وبأمر من تعمل؟ قال : بأمر مالكى ومالكك ومالك الدنيا والآخرة ، فقال : ذلك الله عزوجل ، قال : صدقت قال : وما غرضك فى هذه البقعة؟ قال : أمرت أن أدعو أهلها من الجهل إلى العلم ، ومن الضلال إلى الهدى ، ومن الشقاوة إلى السعادة ، وأستنقذهم من ورطات الذل والفقر ، وأملكهم ما لا يستغنون به من التعب والكد ، فقال له حمدان : أنقذنى أنقذك الله ، وأفض على من العلم ما تحيينى به ، فما أشد حاجتى إلى ذلك ، فقال : ما أمرت أن أخرج السر المكنون إلى كل أحد إلا بعد الثقة به ، والعهد إليه ، فقال له : فاذكر عهدك ، فإنى ملتزم به. فقال : أن تجعل لى وللإمام على نفسك عهد الله وميثاقه ألا تخرج سر الإمام الذى ألقيه إليك ولا تفشى سرى أيضا. فالتزم حمدان عهده ، ثم اندفع الداعى فى تعليمه فنون جهل ، حتى استدرجه واستغواه واستجاب له فى جميع ما دعاه إليه ، ثم انتدب للدعوة ، وصار أصلا من أصول هذه البدعة فسمى أتباعه القرمطية.

١٧٣

وفى قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، تخويف وتحذير ، ليعلموا أن كل شىء فى علمه ، وأنه لا يعزب عنه شىء فى علمه. وبالله العصمة.

وقوله : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ).

اختلف فى تأويله :

قال قائلون : فيه دليل فساد النكاح دون الأولياء ، واحتجوا بأن قالوا : قال الله تعالى : (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) ، ولا ينهى عن القول من غير أن يعمل ، إذ القول فيما لا يعمل غير ضار لعضلها به ؛ فثبت أنه عامل ، وأن له فيه حقّا إلى أن نهوا ، ثبت أن قوله : «لا تعضل» ، منع ؛ إذ لو لم يجعل منعا لم يكن ضارّا به.

وقال آخرون : فيه دليل جواز نكاحهن دون الأولياء ؛ لأنه تعالى قال : (أَنْ يَنْكِحْنَ) ، واستدلوا : بأن النكاح على وجود العضل يجوز ، ولو كان العضل سبب المنع فى الجواز لم يحتمل جوازه إذا فات. وفيه أن العضل إذا لم يكن ، جاز للنساء تولى النكاح. واحتجوا أيضا بما أضاف النكاح إليهن بقوله : (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ) ، وقوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) [البقرة : ٢٤٠] ، وأضاف الإنكاح إلى الأولياء على إرادة إدخال الصغار ، والثانى على وجوب الحق لهن عليهم ، لا أن يجب لهم عليهن.

ثم الأصل : بأن كل نكاح أريد بالذكر الصغار وأضيف الإنكاح إلى الأولياء ؛ كقوله : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) [النور : ٣٢] ، وقوله : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) [البقرة : ٢٢١] ، (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) [البقرة : ٢٢١] ، مع ما احتمل دخول البالغين فى هذا ، دليله قوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) ، والفدية لا تصح (١) من الصغار ، وقوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) ، والصغار لا يخاطبن بإقامة حدود الله ، وقوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ، وإن كان متأخرا فى الذكر.

بهذا قيل إن وقوع الإنكاح بالإضافة فى الصغار إلى الأولياء ، وفى الكبار إليهن ، ثم ذكر الكفاءة والمهر ، وجرى إضافته إلى الأولياء ، لذلك كان لهم التعرض فى فسخه.

ثم قوله : (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) رجع ذلك إلى المهر ؛ لأن (التراضى) فعل

__________________

(١) فى ب : تصلح.

١٧٤

اثنين ، والمهر يتعرف بهما ؛ لأن القصة فى امرأة بعينها وكانت ظهرت كفاءة زوجها لها ، وقال فى الكفاءة : (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ) [البقرة : ٢٣٤] ، ووجود الكفاءة إنما تكون من إحدى الجانبين ، فذكر ذلك مضافا إلى الأولياء ، لم يجز دونهم.

والأصل فى مسألة النكاح : أن الحق فى النكاح لها على الولى ، لا للولى عليها ، دليله : ما يزوج على الولى إذا عدم ، ويجوز (١) عليه إذا وجد ، وزوج عليه إذا أبى ، وهى لا تجبر بإرادة الولى إذا أبت ؛ فبان أن الحق لها قبله ، ومن ترك حق نفسه فى عقد له قبل آخر لم يوجب ذلك فساده. والله أعلم.

وقوله : (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ) ، فيه دليل على أن النهى عن العضل إنما كان فى الأزواج كانوا لهن ، دليله قوله : (أَزْواجَهُنَّ) ، ولا يسمى (الأزواج) إلا بعد النكاح ، ويدل أيضا قوله : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) ، ذكر (الطلاق) فدل أنه كان فى أزواج كان لهن.

ويحتمل : أن يكون فى الابتداء من غير أن كان ثم نكاح ، وجائز تسمية الشىء باسم ما يئول الأمر إليه لقرب حالهن بهم.

وأما أهل التفسير بأجمعهم قالوا : إن الآية نزلت فى أخت معقل بن يسار المزنى ، أن زوجها قد طلقها وانقضت عدتها ، ثم أراد الزوج أن يتزوجها ثانية وتهوى المرأة ذلك ، فيقول الولى : لا أزوجها إياه ؛ فنزل قوله تعالى : (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) وهو يحتمل المعنى الذى ذكرنا. والله أعلم.

وقوله : (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

قيل : (يُوعَظُ بِهِ) ، أى ينهاكم به ، كقوله : (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً) [النور : ١٧] ، أى : ينهاكم.

وقيل : (يُوعَظُ بِهِ) ، أى : يؤمر به.

وقوله : (ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ).

قيل : إذا وضعن أنفسهن حيث هوين فذلك أزكى وأطهر لكم من العضل من ذلك ؛ ولعل العضل يحملهن (٢) على الفساد والريبة.

وقيل : المراجعة خير لكم من الفرقة ، وأطهر لقلوبكم من الريبة.

وقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

__________________

(١) فى أ : ويخبر.

(٢) فى ط : يحملن.

١٧٥

أى : الله يعلم من حب كل واحد منهما صاحبه ، وأنتم لا تعلمون ذلك.

ويحتمل : (وَاللهُ يَعْلَمُ) فيما صلاحكم ، (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك.

قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢٣٣)

وقوله : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما).

قال بعضهم (١) : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) هن المطلقات ، يرضعن أولادهن ، وهو كقوله تعالى : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) [الطلاق : ٦] ، ذكر هاهنا الأجر ، وذكر هناك الرزق والكسوة ، وهما واحد.

وقال آخرون : لا ، ولكن قوله : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) هن (٢) المنكوحات ، وقوله : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) هن المطلقات. دليل ذلك : ذكر الأجر فى أحدهما ، والرزق والكسوة فى الأخرى ، على أن المنكوحة إذا استؤجرت على رضاع ولدها منه لم يستوجب الأجر ، ويستوجب قبل الزوج الرزق والكسوة ؛ فدل هذا على أن ذكر الأجر فى المطلقات ، وذكر الرزق والكسوة فى المنكوحات.

فإن قيل : ما فائدة ذكر الرزق والكسوة فى المنكوحة فى الرضاع ، وقد يستوجب ذلك فى غير الرضاع؟

قيل : فائدة ذكر الرزق والكسوة فيه ـ والله أعلم ـ لأنها تحتاج إلى فضل طعام وفضل كسوة لمكان الرضاع ؛ ألا ترى أن لها أن تفطر لذلك؟! فثبت أن لها فضل حاجة فى حال الرضاع ما لا يقع لها تلك الحاجة فى غير حال الرضاع ؛ فخرج ذكر الرزق والكسوة فيه ـ والله أعلم ـ ذكر تلك الزيادة والفضل ، والله أعلم.

وفى القرآن دليل أن مئونة الرضاع على الأب من أوجه :

أحدها : قوله تعالى : (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) [الطلاق : ٦].

__________________

(١) قاله الربيع ، أخرجه ابن جرير عنه (٤٩٦٩).

(٢) فى ط : من.

١٧٦

والثانى : قوله عزوجل : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

والثالث : قوله تعالى : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ).

فثبت أنه حق على الوالد إلى أن ذكر فيه إيتاء الأجر.

وفيه دلالة على أن شرط الطعام والكسوة للظئر يجوز بقوله تعالى : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ) ، غير أن الكسوة لا تجوز إلا بإعلام الجنس ، والطعام يجوز ؛ لأن الظئرة تكسى كسوة الأهل وتطعم طعامهم. فلا بد فى الكسوة من إعلام جنسه ، إذ لا يجوز أن تكون كسوة واحدة لها وللأهل ، ويجوز فى الطعام ذلك ؛ لأن الكسوة ليست بذى غاية تعرف ، فاحتيج إلى ذكر الجنس ليقع فى حد قرب المعرفة والعلم (١) ، وأما الطعام فهو ذو غاية عند الناس غير متفاوت ولا متفاضل عندهم ؛ لذلك جاز هذا ، ولم يجز الآخر إلا أن يعلم الجنس ، فإذا علم الجنس فحينئذ يصير عندهم كالطعام. والله أعلم.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله تعالى ـ فدل على جوازه قوله تعالى : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) ، أى ـ والله أعلم ـ مثل ما على المولود له ، ويكون ذلك بعد موته ؛ لذلك يجوز شرط الكسوة والطعام فى الرضاع.

وقوله : (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) ، ليس فيه جعل الحولين شرطا فى الرضاع لوجوه :

أحدها : قوله : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) ، فلو لم يحتمل الزيادة والنقصان لم يكن لقوله : (لِمَنْ أَرادَ) معنى.

والثانى : الإرادة والقدرة ربما تذكر على غير إرادة وقدرة فى الحقيقة ، ولكن على إرادة حقيقة الفعل. دليله قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أراد الحج فليفعل كذا ، ومن استطاع أن يفعل كذا فليفعل» (٢) ، ليس ذلك على حقيقة (٣) القدرة والإرادة ، ولكن هذا ـ والله أعلم ـ على معنى : «من فعل كذا فليفعل كذا» ؛ فكذلك الأول ليس على حقيقة الإرادة ، ولكن تذكر ذلك لما لم يكن الفعل إلا بقدرة وإرادة. والله أعلم.

والثالث : لا يخلو «الحولين» من أن يقدر بالأهلة فقد ينتقص عن سنتين ، أو أن يقدر بالأيام فقد يزداد على المعروف من الوقت ؛ فثبت أنه بحيث الاحتمال لما ذكرنا ؛ إذ

__________________

(١) فى أ : والعمل.

(٢) أخرجه مسلم (٤ / ٣٩٥) كتاب الحج ، باب بيان وجوه الإحرام (١١٤ / ١٢١١) عن عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ..» الحديث.

(٣) فى ب : إرادة.

١٧٧

يحتمل (لِمَنْ أَرادَ) أن يزيد حتى يتم ، أو (لِمَنْ أَرادَ) أن يقتصر على التمام ، على أن الآية ليست فى حق الحرمة ، لكنها فى حق الفعل ؛ إذ قد يجب الحرمة لا بحولين.

وروى عن ابن عباس (١) ، رضى الله تعالى عنهما ، فى تأويل قوله : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف : ١٥] ، وقوله : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) [لقمان : ١٤] ، قال : إن كان الحمل ستة أشهر ، ففصاله فى عامين ، وإن كان الحمل تسعة أشهر ، فيقدر الباقى ؛ فدل هذا على أن (الحولين) ليسا بشرط فى الفطام ، ولا وقت له ، لا يجوز الزيادة عليه ولا النقصان. والله أعلم.

وقد ذكرنا أن قوله : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ، يحتمل وجهين :

قيل : إنه فى المطلقة ، وقيل : إنه فى المنكوحة. وقد دللنا على أنه فى المنكوحة. والله أعلم.

وقوله : (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها).

قال قوم : قوله : (إِلَّا وُسْعَها) ، إلا ما يسع ويحل. لكن هذا لو كان على ما ذكر لكان بالأمر يحل ويسع ، فكان كأنه قال : لا نكلف إلا ما نكلف. وذلك لا يكون.

وقال قوم (٢) : (إِلَّا وُسْعَها) ، يعنى : طاقتها وقدرتها. وهذا أشبه ، ومعناه : لا يكلف الزوج بالإنفاق عليهما والكسوة إلا ما يحتمل ملكه وإن كانت حاجاتها (٣) تفضل عما يحتمله ملكه ، لم يفرض عليه إلا ما احتمله ملكه ـ والله أعلم ـ كقوله : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) [الطلاق : ٧].

ثم اختلف فى تحريم الرضاع فى حال الكبير (٤) :

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٤٩٥٣) ، وسعيد بن منصور وابن المنذر والحاكم والبيهقى فى سننه (١ / ٥١٢).

(٢) قاله سفيان أخرجه ابن جرير عنه (٤٩٧٦).

(٣) فى أ ، ب : حاجتهم.

(٤) لا خلاف بين الفقهاء فى أن ارتضاع الطفل وهو دون الحولين يؤثر فى التحريم ؛ فقد قال الشافعية والحنابلة وأبو يوسف ومحمد ـ وهو الأصح المفتى به عند الحنفية ـ : إن مدة الرضاع المؤثر فى التحريم حولان ؛ فلا يحرم بعد حولين. واستدلوا بقوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) وقالوا : جعل الله الحولين الكاملين تمام الرضاعة ، وليس وراء تمام الرضاعة شىء. وقال عزّ من قائل : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) وقال : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وأقل الحمل ستة أشهر فتبقى مدة الفصال حولين ، ولحديث : «لا رضاع إلا ما كان فى الحولين» ، ولحديث أم سلمة مرفوعا : «لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء فى الثدى وكان قبل الفطام».

وقال ابن تيمية : وقد ذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن إرضاع الكبير يحرّم. واحتجوا بما فى صحيح مسلم وغيره عن زينب بنت أم سلمة أن أم سلمة قالت لعائشة : إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذى ما أحب أن يدخل علىّ ، فقالت عائشة : أما لك فى رسول الله أسوة حسنة؟ قالت : إن ـ

١٧٨

قال قوم : يحرم. ورووا فى ذلك أحاديث.

وقال أصحابنا ـ رحمهم‌الله تعالى ـ : لا يحرم. وذهبوا فى ذلك إلى الآثار رويت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه عليه‌السلام سئل عن الرضاع ، فقال : «ما أنبت اللحم وأنشز العظم» (١) ، وفى بعضها عنه : «لا رضاع بعد حلم ، ولارضاع بعد فصال» (٢). وروى عن على بن أبى طالب وابن عباس (٣) ، رضى الله تعالى عنهم ، أنهما قالا : لا رضاع بعد الحولين. وعن على وابن مسعود (٤) ، رضى الله تعالى عنهما ، أنهما قالا : لا رضاع بعد الفطام أو الفصال ، الشك منا. وروى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى بعض الأخبار : أنه دخل على عائشة ، رضى الله تعالى عنها ، فرأى معها رجلا ، فرأت عائشة ، رضى الله تعالى عنها ، الكراهة فى وجهه ، فقالت : «إنه أخى من الرضاعة أو عمى» ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انظرن من إخوانكن ، ما الرضاعة؟ إنما الرضاعة من المجاعة» (٥).

__________________

 ـ امرأة أبى حذيفة قالت : يا رسول الله ، إن سالما يدخل على وهو رجل ، وفى نفس أبى حذيفة منه شىء ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرضعيه حتى يدخل عليك» ، وفى رواية لمالك فى الموطأ قال : «أرضعيه خمس رضعات» ؛ فكان بمنزلة ولده من الرضاعة. وهذا الحديث أخذت به عائشة ، وأبى غيرها من أزواج النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأخذن به ، مع أن عائشة روت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الرضاعة من المجاعة» ، لكنها رأت الفرق بين أن يقصد رضاعة أو تغذية : فمتى كان المقصود الثانى لم يحرم إلا ما كان قبل الفطام ، وهذا هو إرضاع عامة الناس. وأما الأول فيجوز إن احتيج إلى جعله ذا محرم. وقد يجوز للحاجة ما لا يجوز لغيرها ، وهذا قول متوجه. وقال : رضاع الكبير تنتشر به الحرمة فى حق الدخول والخلوة إذا كان قد تربى فى البيت بحيث لا يحتشمون منه للحاجة ، وهو مذهب عائشة وعطاء والليث.

وقال المالكية : يشترط فى التحريم أن يرتضع فى حولين أو بزيادة شهر أو شهرين ، وألا يفطم قبل انتهاء الحولين فطاما يستغنى فيه بالطعام عن اللبن ، فإن فطم واستغنى بالطعام عن اللبن ثم رضع فى الحولين فلا يحرّم. وقال أبو حنيفة : مدة الرضاع المحرم حولان ونصف ولا يحرم بعد هذه المدة ، سواء أفطم فى أثناء المدة أم لم يفطم ، واحتج بقوله تعالى : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) قال : فأثبت سبحانه الحرمة بالرضاع مطلقا عن التعرض لزمان الرضاع ، إلا أنه قام الدليل على أن زمان ما بعد الحولين والنصف ليس بمراد ؛ فيعمل بإطلاقه فيما وراءه. واستدلوا بقوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) أى : ومدة كل منهما ثلاثون شهرا.

ينظر : بدائع الصنائع (٤ / ٦) ، وابن عابدين (٢ / ٤٠٣) ، والمغنى (٧ / ٥٤٢) ، وكشاف القناع (٥ / ٤٤٥) ، ونهاية المحتاج (٧ / ١٦٦ ، ١٧٥).

(١) أخرجه أحمد (١ / ٤٣٢) ، وأبو داود (١ / ٦٢٧) ، كتاب النكاح باب فى رضاعة الكبير (٢٠٥٩ ، ٢٠٦٠) ، والبيهقى (٧ / ٤٦١).

(٢) أخرجه الطيالسى ، والبيهقى وعبد الرزاق وابن عدى من طرق عن جابر كما فى الدر المنثور (١ / ٥١٣).

(٣) أخرجه ابن جرير (٤٩٦٥ ، ٤٩٦٦ ، ٤٩٦٧) ، وأخرجه عنه وعن ابن عمر (٤٩٥٩ ، ٤٩٦٠).

(٤) أخرجه ابن جرير (٤٩٦١ ، ٤٩٦٤) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٥١٣).

(٥) أخرجه البخارى (٩ / ١٤٦) كتاب : النكاح ، باب : من قال : لا رضاع بعد حولين ، حديث ـ

١٧٩

وروى عن أبى موسى الأشعرى ـ رضى الله تعالى عنه ـ : أن رجلا قال له : إن امرأتى أرضعتنى ، أتحرم على؟ فقال : نعم. فبلغ ذلك ابن مسعود ، رضى الله تعالى عنه ، فأتاه ، فقال له : أأنت تفتى بكذا؟ فقال : نعم ، فقال : كذبت ، أو كلام نحو هذا ؛ إنما الرضاعة من المجاعة (١). إلى هذه الأخبار ذهب أصحابنا ، رحمهم‌الله تعالى ، فى نفى تحريم الرضاع بعد الفطام وبعد الكبر.

وأصله : أن ينظر : فإن كان غذاؤه باللبن أو أغلب غذائه فهو يحرم ، وإذا كان بالطعام أو غالب غذائه [به](٢) فهو لا يحرم.

وأصله : ما ذكر فى الخبر : «ما أنبت اللحم وأنشز العظم ، فهو يحرم» (٣) ، فإذا كان غذاؤه بالطعام سوى اللبن ، فالطعام هو الذى ينبت اللحم وينشز العظم ، فلم يحرم.

ثم الأصل : بأن كل مذكور على الكمال والتمام لا يمتنع عن احتمال الزيادة والنقصان.

دليله قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أدرك عرفة بليل وصلى معنا بجمع فقد تم حجه» ، وقوله عليه‌السلام : «إذا فعلت هذا فقد تمت حجتك» (٤) ، وقوله : «إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك» (٥). وصفهما بالتمام والحرمة باقية.

__________________

 ـ (٥١٠٢) ، ومسلم (٢ / ١٠٧٨) كتاب : الرضاع ، باب : إنما الرضاعة من المجاعة ، حديث (٣٢ / ١٤٥٥) ، وأحمد (٦ / ٩٤) ، والطيالسى (١٤١٢) ، وسعيد بن منصور (١ / ٢٧٦) رقم (٩٦٤) ، والدارمى (٢ / ١٥٨) كتاب : النكاح ، باب : فى رضاعة الكبير ، وأبو داود (٢ / ٥٤٨) كتاب : النكاح ، باب : فى رضاعة الكبير ، حديث (٢٠٥٨) ، والنسائى (٦ / ١٠٢) كتاب : النكاح ، باب : القدر الذى يحرم من الرضاعة ، وابن ماجه (١ / ٦٢٦) كتاب : النكاح ، باب : لا رضاع بعد فصال ، حديث (١٩٤٥) ، وابن الجارود ص (٢٣٢) كتاب : النكاح ، حديث (٦٩١) ، والبيهقى (٧ / ٤٦٠) كتاب : الرضاع ، باب : رضاع الكبير.

والبغوى فى شرح السنة (٥ / ٦٥) ، والقضاعى فى مسند الشهاب رقم (١١٧٦ ، ١١٧٧) من طريق مسروق عن عائشة به.

(١) تقدم.

(٢) سقط فى ط.

(٣) تقدم.

(٤) أخرجه أحمد (٤ / ٣٠٩ ، ٣١٠) ، وأبو داود (١ / ٥٩٩) ، كتاب المناسك ، باب من لم يدرك عرفة (١٩٤٩) ، والترمذى (٢ / ٢٢٦) كتاب الحج ، باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع (٨٨٩) ، والنسائى (٥ / ٢٦٤) كتاب المناسك ، باب فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة.

(٥) طرف من حديث عن رفاعة بن رافع :

أخرجه أحمد (٤ / ٣٤٠) ، وأبو داود (١ / ٢٨٨) ، كتاب الصلاة ، باب صلاة من لا يقيم صلبه فى الركوع والسجود (٨٥٧) ، والترمذى (١ / ٣٣٢) ، كتاب الصلاة ، باب ما جاء فى وصف الصلاة (٣٠٢) ، والنسائى (٣ / ٦٠) كتاب السهو ، باب أقل ما يجزئ من عمل الصلاة ، وابن ماجه (١ / ٣٧٦) كتاب الطهارة ، باب ما جاء فى الوضوء على ما أمر الله تعالى (٤٦٠).

١٨٠