تأويلات أهل السنّة - ج ٢

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة - ج ٢

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٧٣

وقوله : (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) : قد ذكرنا فيما تقدم (١) أنه إنما سمّي فرقانا ؛ لوجهين : أحدهما : لما فرق آياته وفرق إنزاله (٢).

والثاني : لما يفرّق بين الحق والباطل ، وبين الحرام والحلال ، وبين ما يتقى ويؤتى ؛ فعلى هذا كل كتاب مبيّن فيه الحلال والحرام ، وبيّن ما يتقى ويؤتى. والإنجيل فيه سمي إنجيلا ؛ لما يجلي ، وهو الإظهار في اللّغة (٣).

وقيل : سمّى التوراة توراة من أوريت الزند ؛ وهو كذلك (٤). والله أعلم (٥).

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ ...) : قيل : بحجج الله (٦).

وقيل : كفروا بآيات الله ، أي : بالله (٧) ؛ لأنهم إذا كفروا بآياته كفروا به ، وكذلك الكفر بدينه كفر به ، والبراءة من دينه براءة منه ، والبراءة من رسوله براءة منه.

__________________

(١) تقدم في الآية (٥٣) سورة البقرة.

(٢) قال ـ تعالى ـ : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) [الإسراء : ١٠٦].

(٣) الإنجيل : ـ في الحبشية ـ : ونجيل ، والأصل يونانى : يوأنجليون : المكافأة التي تعطى للبشير ، والبشرى. وهو ما أوحى به إلى عيسى ـ عليه‌السلام ـ وعند المسيحيين : سيرة المسيح وأقواله وأفعاله ، وقد نقل بروايات مختلفة ، اعتمدت الكنيسة منها أربعا هي : روايات متّى ، ويوحنّا ، ولوقا ، ومرقص ، وهي الأناجيل الأربعة المعروفة.

وأقدم ترجمة عربية للإنجيل ترجع ـ فيما يروى ابن العبري ـ إلى سنتي ٦٣١ و ٦٤١ م. ينظر : المعجم الكبير : (١ / ٥٣٥) إصدار مجمع اللغة العربية مصر.

وانظر تناقض الأناجيل وتحريفاتها في : «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» لشيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه القيم ابن القيم في كتابه : «هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى» ، وللعلامة القرافي كتاب أسماه ب «الأجوبة الفاخرة في الرد على الأسئلة الفاجرة» و «الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام» للقرطبي.

(٤) التوراة : هي كلام الله المنزل على موسى ـ عليه‌السلام ـ ليبلغه لقومه لعلهم يهتدون. قال ـ تعالى ـ : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [البقرة : ٥٣].

وتعتبر التوراة التي تحدث القرآن عنها جزءا من الكتب التي فرض الله على المؤمنين الإيمان بها في قوله ـ تعالى ـ : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥] ـ والتوراة : لفظ عبري معناه الهدى والإرشاد والشريعة كذلك ـ والتوراة المنزلة على موسى لم يوجد لها أثر لعدة أسباب إلا نذر يسير شاء الله أن تتناقله الألسنة حتى دوّن.

ينظر : الملل والنحل للدكتور طلعت محسن ص (٨١ ـ ٨٢).

(٥) ينظر : معاني القرآن وإعرابه للزجاج (١ / ٣٧٤) ، والزاهر للأنباري (١ / ١٦٨) ، والمحرر الوجيز (١ / ٣٩٨) ، واللسان (٦ / ٤٨٢١) «ورى» ، ومعاني القرآن للنحاس (١ / ٣٤١) ، وتفسير البغوي (١ / ٢٧٧).

(٦) تفسير الرازي (٧ / ١٤١).

(٧) قال الطبري : والذين كفروا هم الذين جحدوا آيات الله ، وآيات الله : أعلام الله وأدلته وحجته. جامع البيان (٦ / ١٦٤).

٣٠١

وقوله : (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ).

قيل فيه بوجهين :

قيل : ذو انتقام لأوليائه من أعدائه (١).

وقيل : ذو انتقام : ذو انتصار على الأعداء.

وقيل : ذو بطش شديد (٢).

وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ).

هو وعيد ؛ كأنه ـ والله أعلم ـ قال : لا يخفى عليه ما في السموات ، و [ما في](٣) الأرض من الأمور المستورة الخفية على الخلق ؛ فكيف يخفى عليه أعمالكم وأفعالكم ، التي هي ظاهرة عندكم؟! ويحتمل : إذا لم يخف عليه ما بطن ، وخفي في الأصلاب والضمائر والأرحام ؛ فكيف يخفى عليه أفعالكم وأقوالكم ، وهي ظاهرة؟! (٤).

ألا ترى أنه قال : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ) ؛ إذ علم ما في الأرحام وصوّرها على ما شاء وكيف شاء ، وهم (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) [الزمر : ٦].

وقوله : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ)

فيه دليل نقض قول من يقول بالقائف (٥) ؛ لأنه جعل علم التصور في الأرحام لنفسه ، لم يجعل لغيره ، كيف عرف بالقائف تصوير الأوّل ، حتى قال الله : إنه على صورته وعلى

__________________

(١) ينظر تفسير القرطبي (٩ / ٣٨٢).

(٢) قاله محمد بن إسحاق ، أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٣٩) رقم (٥٥).

(٣) سقط من ب.

(٤) قال القرطبي : هذا خبر عن علمه ـ تعالى ـ بالأشياء على التفصيل ، ومثله في القرآن كثير ، فهو العالم بما كان وما يكون وما لا يكون ؛ فكيف يكون عيسى إلها أو ابن إله وهو تخفي عليه الأشياء؟!.

ينظر : تفسير القرطبي (٤ / ٦).

(٥) القيافة لغة : مصدر قوف بالواو ثم قلبت ألفا فصارت قافا ، ويقال : فلان يقفو الأثر ، ويقتافه قيافة : أي : تتبعه واقتفى أثره ، وتطلق القيافة في الاصطلاح على تتبع العلامات الموجودة في شخصين أو أكثر للوصول إلى إثبات قرابة بينهما أو بينهم. والقائف : هو الذي يتبع الآثار ويعرف شبه الرجل بأبيه وأخيه ؛ لأنه يتبع العلامات والأمارات والصفات التي يشترك فيها الأقارب كما يتبع آثار الأقدام ويعرف اتجاهها ولمن هي.

وفي الاصطلاح : هو الذي يتبع العلامات والأمارات الموجودة في شخصين أو أكثر ليحكم بوجود صلة بينهما أو بينهم.

انظر : الصحاح للجوهري (٤ / ١٤١٩) (قوف) ، ترتيب القاموس المحيط لطاهر الزاوي (٣ / ٦٣٥) (قوف) ، اللسان (٥ / ٣٧٧٦) (قوف) ، والصحاح في اللغة والعلوم (٩٦٤) ، وفاكهة البستاني (١ / ١٢).

٣٠٢

تصويره ، وإنه من مائه (١) ، ثم اختلف في خلق الأشياء :

قال بعضهم بخلق الفروع من الأصول ، وهن أسباب للفروع.

وقال آخرون : يكون بأسباب وبغير أسباب ، فإن كان بعض الأشياء يكون بأسباب ؛ من نحو الإنسان من النطفة ، إلا أن النطفة تتلف ؛ فتكون علقة ، ثم مضغة ؛ فدل أنه يخلق الخلق كيف شاء من شيء ولا من شيء ، بسبب وبغير سبب ، وهو القادر على ذلك (٢) ، وبالله التوفيق.

وقوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ)

اختلف فيه : فقيل : المحكمات (٣) : هن النّاسخات (٤) المعمولات بهن ،

__________________

(١) اختلف العلماء في إثبات النسب بالقيافة على مذهبين :

الأول : لا يجوز إثبات النسب بالقيافة وإليه ذهب الحنفية ومالك في رواية عنه في غير ملك اليمين.

الثاني : يجوز إثبات النسب بالقيافة عند تعارض البينات وإليه ذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية وهو رواية عن مالك رواها ابن وهب عنه وبه قال من الصحابة عمر وعلى بن أبي طالب وأبو موسى الأشعري وابن عباس وأنس ومن التابعين سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والزهري وإياس بن معاوية وقتادة وكعب بن سوار والأوزاعي والليث بن سعد وأبو ثور.

انظر تفصيل أدلة كل فريق في :

المبسوط للسرخسي (١٧ / ٧٠) ، فتح القدير للكمال بن الهمام (٤ / ٣٥١) ، بدائع الصنائع للكاساني (٦ / ٢٤٤) ، بداية المجتهد لابن رشد (٢ / ٣٥٩) ، جواهر الإكليل للآبي (٢ / ١٣٩) ، التبصرة لابن فرحون (٢ / ٩٢) ، الفروق للقرافي (٣ / ١٥٦) ، الأم للشافعي (٦ / ٢٤٦) ، المهذب للشيرازي (٢ / ٣٥٤) ، المغني لابن قدامة (٨ / ١٢٦) ، الطرق الحكمية لابن القيم (٢١٦) ، الفروع لابن مفلح (٥ / ٥٣٢) ، المحلى لابن حزم (٩ / ٤٣٥).

(٢) أخرجه الطبري (٦ / ١٧٤ ـ ١٧٥) (٦٥٧٤) وقاله كذلك ابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخرجه الطبري (٦ / ١٧٥) رقم (٦٥٧٦).

(٣) يقال : أحكم الشيء : أتقنه ، ومنعه من الفساد ، وأحكمت فلانا أي : منعته ، وبه سمي الحاكم ؛ لأنه يمنع الظالم ، وسورة محكمة : غير منسوخة ، أو : التي أحكمت ، فلا يحتاج سامعها إلى تأويلها لبيانها.

والمحكم : اسم للشيء المتقن ، مأخوذ من إحكام البناء.

وفي اصطلاح علماء الأصول : المحكم : هو اللفظ الذي لا يحتمل النسخ والتبديل ، كالآيات الدالة على الصفات ، كقوله تعالى : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[البقرة : ٢٨٢] ، وسورة الإخلاص.

ينظر : لسان العرب (٢ / ٩٥٢ ، ٩٥٣) (حكم) ، ترتيب القاموس (١ / ٦٨٥) (حكم) ، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس (٢ / ٩١) (حكم) ، والصحاح للجوهري (٥ / ١٠٠١ ، ١١٠٢) (حكم) ، أصول السرخسي (١ / ١٦٥) ، وكشاف اصطلاحات الفنون لمحمد على الفاروقي التهانوني (٢ / ١٤٤ ، ١٤٥) ، وميزان الأصول للسمرقندي (١ / ٥٠٩) ، والكليات لأبي البقاء الكفوي (١ / ٣٤٠).

(٤) الناسخات من النسخ ، والنسخ في اللغة : الإزالة ، يقال : نسخت الريح أثر القوم : أزالته ، وقيل : إزالة شيء بشيء ، يقال : نسخت الشمس الظل ، والظل الشمس. ـ

٣٠٣

والمتشابهات (١) : هن المنسوخات غير معمول بهن ، وهو قول ابن عباس [رضي الله عنه](٢).

وقال آخرون : المحكمات : هن ثلاث آيات في [آخر](٣) سورة الأنعام : قوله : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ ..). [الأنعام : ١٥١] إلى قوله : (... تَتَّقُونَ) [الأنعام : ١٥٣] ، وما ذكر في سورة «بنى إسرائيل» من قوله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا) [الإسراء : ٢٣] إلى آخر هذه الآيات (٤) ، سميت محكمة ؛ لأن فيها توحيدا وإيمانا بالله وغيره من المتشابه.

ثم قيل بعد هذا بوجوه : قيل : المحكمات : هي التي يعرفها كل أحد إذا نظر فيها ، وتأمّل فيها.

والمتشابه : هو المبهم الذي يعرف عند البحث فيه والطلب (٥).

وقيل : المحكمات : ما يوقف ويفهم مراده.

والمتشابه : هو الذي لا يوقف [عليه] البتة (٦) ، بعد ما قضى حوائج الخلق من البيان في

__________________

 ـ ويطلق بمعنى نقل الشيء وتحويله من حالة إلى أخرى مع بقائه في نفسه ، يقال : نسخت الكتاب ، أي : نقلت ما فيه إلى آخر ومنه قوله ـ تعالى ـ : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[الجاثية : ٢٩].

ومنه المناسخات في علم المواريث لانتقال المال من وارث إلى وارث.

واصطلاحا : النسخ : رفع حكم شرعى بدليل شرعي متأخر عنه لا إلى غاية.

وعرفه الغزالي بقوله : «الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا به مع تراخيه عنه».

وعرفه أبو عمرو بن الحاجب : بأنه رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر.

ينظر : عمدة الحفاظ (٤ / ١٩٤) ، لسان العرب (٦ / ٤٤٠٧) (نسخ) ، المستصفى للإمام الغزالي (١ / ١٠٧) ، ميزان الأصول للسمرقندي (٢ / ٩٧٥) ، البرهان للجويني (٢ / ١٢٩٣) ، البحر المحيط للزركشي (٤ / ٦٣) زوائد الأصول للإسنوي ص (٣٠٨).

(١) المتشابه ـ لغة ـ : أن يشتبه اللفظ بآخر في الظاهر مع اختلاف المعاني كما قال ـ تعالى ـ : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً)[البقرة : ٢٥] أي : ثمر الجنة يشبه بعضه بعضا ، فالمنظر واحد ، والطعم مختلف.

ينظر : عمدة الحفاظ (٢ / ٢٨٤).

(٢) كما في تفسير القرطبي (٤ / ٩) ، وما بين المعقوفين سقط من ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه سعيد بن منصور في سننه رقم (٤٩٣) ، والطبري (٦ / ١٧٤) رقم (٦٥٧٣) وابن أبي حاتم (٢ / ٥٣) ، رقم (٨٠) ، والحاكم في المستدرك (٢ / ٢٨٨) عن ابن عباس. وفي سنده عبد الله بن قيس مجهول كما في التقريب ترجمة (٣٥٦٩).

(٥) قاله الأصم كما في تفسير مفاتيح الغيب (٧ / ١٤٨).

(٦) البتة ، يقال : لا أفعله بتة ، ولا أفعله البتة ، لكل أمر لا رجعة فيه ، ونصبه على المصدر ، لسان العرب (١ / ٢٠٤) (بتت).

٣٠٤

المحكم منه ، ولكن يلزم الإيمان به ، وهو من الله محنة على عباده ، ولله أن يمتحن خلقه بما شاء من أنواع المحن ؛ لأنها دار محنة. وغيرها لا يفهم (١) مرادها (٢).

ويحتمل أن يكون المحكمات : هن ما ظهر لكل أحد من أهل الإسلام ؛ حتى لم يختلفوا فيها.

والمتشابه : هو الذي اشتبه على الناس ؛ لاختلاف الألسن فاختلفوا فيها ، ولما يؤدي ظاهره إلى غير ما يؤدي باطنه ؛ فتعلق بعضهم بالظاهر فقالوا به ، وتعلق آخرون بالباطن ؛ لما رأوا ظاهره جورا وظلما (٣) أو تشبيها ، على اتفاقهم على نفي الجور والظلم عنه ، ويجوز لمن يوقف على المتشابه بمعرفة المحكم.

وقال آخرون : المحكم : هو الواضح المبين ، فلو كان على ما قالوا لم يكن لاختلاف الناس فيه ، وادعاء كل أنّ الذي هو عليه هو المحكم ؛ لأنه لو كان ظاهرا مبيّنا لتمسّكوا به ، ولم يقع بينهم اختلاف.

وفيه دليل ونقض على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون بالأصلح في الدين (٤) : أنه لا يفعل إلا

__________________

(١) في ب : ما لا يفهم.

(٢) قال الطبري : وقال آخرون : بل «المحكم» من آي القرآن : ما عرف العلماء تأويله وفهموا معناه وتفسيره. والمتشابه : ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه ... وهذا قول ذكر عن جابر بن عبد الله بن رئاب. جامع البيان (٦ / ١٧٩ ـ ١٨٠).

(٣) أما الجور : فهو الميل ـ أيضا ـ لغة : يقال : جار السهم : إذا زال عن سننه. إلا أنه في الشرع استعمل في الميل عن الحق إلى الباطل.

وأما الظلم ـ في اللغة ـ فعبارة عن : وضع الشيء في غير محله. يقال في المثل : من أشبه أباه فما ظلم ـ أي : هذا الشبه ليس في غير موضعه ، ويقال : ظلم الشعر إذا ابيضّ في غير حينه.

ينظر : ميزان الأصول للسمرقندي (١ / ١٥٢) ، ومختار الصحاح للرازي (٣٩).

(٤) إن فكرة الصلاح والأصلح فكرة من بنات أفكار أهل الاعتزال ، وقد كثر الحديث عنها بين أهل السنة والجماعة والمعتزلة ، حتى المعتزلة أنفسهم لم تتفق كلمتهم في تحديد مدلول الصلاح ، هل هو في الدين فقط أم في الدين والدنيا معا؟

يقول العلامة الباجوري : «واعلم أن للمعتزلة عبارتين ؛ الأولى : وجوب الصلاح ، والمراد به ما قابل الفساد كالإيمان في مقابلة الكفر ، فيقولون : إذا كان هناك أمران ؛ أحدهما : صلاح ، والآخر : فساد ، وجب على الله أن يفعل الصلاح منهما دون الفساد.

والثانية : وجوب الأصلح ، والمراد به ما قابل الصلاح ككونه أعلى الجنان في مقابلة كونه في أسفلها ، فيقولون إذا كان هناك أمران أحدهما : صلاح ، والآخر : أصلح منه وجب على الله أن يفعل الأصلح منهما دون الصلاح. فالحاصل أن المعتزلة توجب على الله ـ تعالى ـ فعل الصلاح والأصلح ؛ غير أنهم انقسموا إلى فريقين :

فمدرسة بغداد الاعتزالية ترى أنه يجب على الله ـ تعالى ـ مراعاة الصلاح والأصلح لعباده في الدين والدنيا.

ومدرسة البصرة الاعتزالية ترى أنه يجب عليه ـ تعالى ـ مراعاة الصلاح والأصلح لعباده في ـ

٣٠٥

ذلك ، ثم لم يبين لهم المحكم من غير المحكم ، ولو بين كان أصلح لهم في الدين ؛ فدل أن الله ـ عزوجل ـ قد يجوز أن يفعل بهم ما ليس بأصلح لهم في الدين ؛ امتحانا وابتلاء منه لهم ، والله أعلم.

لكن لا يخرج من الحكمة ، ثم ما قالوه في الأمر حق ؛ لأنه لا يأمر إلا أن يفعل بهم ما لهم فيه الأصلح ، وقد يفعل ما هو حكمة في حق المحنة وإن كان غير ذلك أصلح لهم في الدّين ، بمعنى : أقرب وأدعى إليه ، والله الموفق.

وقال قوم : المحكم : ما في العقل بيانه.

والمتشابه : ما لا يدرك في العقل ؛ وإنما يعرف بمعونة السمع.

وقال قوم : لا متشابه فيما فيه أحكام من أمر (١) ونهي (٢) وحلال (٣) وحرام (٤) ؛ وإنما

__________________

 ـ الدين فقط. ثم اختلفوا أيضا في المراد بالأصلح :

فعند البغدادية : الأصلح : الأوفق في الحكمة والتدبير.

وعند البصرية : الأصلح : الأنفع.

ووجهة المعتزلة فيما ذهبوا إليه أنهم يرون أن الله ـ عزوجل ـ عادل غير ظالم ، حكيم ، وخلق الأشياء كلها لصالح العباد ، فبمقتضى عدله ـ تعالى ـ لا تصدر أفعاله ـ سبحانه ـ إلا على وجه الصواب والمصلحة. وبمقتضى حكمته يكون كل ما في العالم من أجل خير الإنسان ورعاية مصالح العباد.

أما مذهب أهل السنة والجماعة فإنهم لا يوجبون عليه تعالى شيئا ؛ إذ إنه ـ تعالى ـ فاعل بالاختيار ، ولو وجب عليه فعل أو ترك لما كان مختارا ؛ لأن المختار هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك.

وأما الآيات الدالة على الوجوب عليه ـ تعالى ـ نحو : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها)[هود : ٦] فمحمولة على أن المراد بها : الوعد تفضلا.

وكذلك الأحاديث الدالة على ذلك.

انظر : حاشية البيجوري على الجوهرة (ص / ٧٥ ـ ٧٦) ، أصول الدين للبزدوي (١٢٦).

(١) الأمر في اللغة ضد النهي ويجمع على أمور. وقال الجوهري : أمر مصدر أمره.

واصطلاحا : عرفه المصنف بأنه القول الذي هو دعاء إلى تحصيل الفعل على طريق العلو والعظمة دون التضرع.

وقيل : هو القول الدال على طلب الفعل على جهة الاستعلاء ، وصيغته : افعل ، وهي مستعملة في اللغة في ستة عشر موضعا : الأول : الأمر. الثاني : الإذن. الثالث : الإرشاد. الرابع : التأديب. الخامس : التهديد. السادس : التسوية. السابع : الإهانة. الثامن : الاحتقار. التاسع : الامتنان. العاشر : الإكرام. الحادي عشر : الدعاء. الثاني عشر : التعجيز. الثالث عشر : التكوين. الرابع عشر : التمني. الخامس عشر : الإنذار. السادس عشر : الخبر.

انظر : ميزان الأصول (١ / ٢٠٠) ، اللسان (١ / ١٢٥) (أمر).

(٢) النهي خلاف الأمر ، يقال : نهاه ينهاه نهيا : كفه ، فانتهى وتناهى : كف. وفعله يائي واوي يقال في اليائى : نهيته ، ويقال في الواوى : نهوته ، وجاء في كلام الله ـ عزوجل ـ : (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) [المائدة : ٧٩]. ـ

٣٠٦

ذلك فيما ليس بالناس حاجة إلى العلم به ، نحو : الإنباء عن منتهى الملك ، وعن عدد الملوك ، وعن الإحاطة بحقيقة الموعود ، ونحو ذلك (١). ولا قوة إلا بالله (٢).

لكن يمكن أن يكون سمي متشابها (٣) ؛ بما تشابه على أولئك القوم حقيقة ما راموا من الوجه الذي طلبوا (٤).

__________________

 ـ والنهاية والنهية : آخر كل شيء وذلك لأن آخره ينهاه عن التمادي فيرتدع ، والنّهي والنّهي : الموضع الذي له حاجز كأنه ينهي الماء أن يفيض منه. ونهية الوتد : الفرضة التي في رأسه تنهى الحبل أن ينسلخ.

والنهي : العقل ، فيؤخذ من مجموع ما تقدم أن اشتقاق كلمة نهي تفيد الحظر والمنع.

والنهي ـ اصطلاحا ـ : هو القول الدال على طلب الامتناع من الفعل على جهة الاستعلاء. وقيل : هو القول الطالب للترك دلالة أولية ، والمراد بالترك هنا هو الكف عن كذا لا الترك بمعنى عدم الفعل ، وقيل : بأنه قول يقتضي طاعة المنهي بالكف عن المنهي عنه. وصيغته : لا تفعل وقد استعملت في اللغة في سبعة معان : الأول : التحريم. الثاني : الكراهة. الثالث : الدعاء. الرابع : الإرشاد. الخامس : التحقير. السادس : بيان العاقبة. السابع : اليأس.

انظر : نهاية السول للأسنوى (٢ / ٢٩٣).

(٣) الحلال في اللغة مأخوذ من معنى الفتح والإطلاق ومنه حل العقدة وهو نقض العقد ، يقال : حللت العقدة أحلها حلا فتحتها فانحلت ، يقال : يا عاقدا اذكر حلا. والحلال يطلق على غير الحرام فيعم الواجب والمندوب والمكروه والمباح غير أن المباح يطلق على الثلاثة الأولى والحلال على الأربعة.

ينظر : الصحاح للجوهري (ص ١٦٧٤) (حلل) ، ميزان الأصول (١ / ١٤٥) ، شرح الكوكب المنير للفتوحي (١ / ٤٢٧) ، اللسان (٢ / ٩٧٤) (حلل).

(٤) الحرام في اللغة : الممنوع ، والحرمة والحرمان والتحريم ـ هو المنع. قال الله ـ تعالى ـ : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) [القصص : ١٢] أي : منعنا.

وشرعا : هو الفعل الذي طلب الشارع من المكلف الكف عنه طلبا جازما. ويسمى الحرام : ممنوعا ومزدجرا ومعصية وذنبا وقبيحا وسيئة وفاحشة وإثما وحرجا وتحريجا وعقوبة.

ينظر : لسان العرب (٢ / ٨٤٤) (حرم) ، ميزان الأصول (١ / ١٤٣) ، نهاية السول للأسنوى (١ / ٦١) ، شرح الكوكب المنير (١ / ٣٨٦).

(١) وذلك مثل قيام الساعة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، والدجال وعيسى ، ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور.

ينظر : تفسير القرطبي (٤ / ٨).

(٢) قاله قتادة وأخرجه الطبري (٦ / ١٧٧) ، رقم (٦٥٨٥) ، وعبد بن حميد والفريابي كما في الدر المنثور (٢ / ٧).

(٣) في ب : متشابه.

(٤) وقيل : إن المحكم ما لا يحتمل إلا وجها واحدا ، والمتشابه : ما يحتمل وجوها ، ثم إذا ردت الوجوه إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكما ؛ فالمحكم ـ أبدا ـ أصل ترد إليه الفروع ، والمتشابه هو الفرع.

وقال محمد بن جعفر بن الزبير : المحكمات هي التي فيها حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه.

والمتشابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل ، ابتلى الله فيهن العباد. قاله مجاهد وابن إسحاق.

ينظر : تفسير القرطبي (٤ / ٩).

٣٠٧

وقد بيّنا الحق في أمر المتشابه ، وما يجب في ذلك من القول ، وبالله العصمة والنجاة (١).

وقوله : (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) : يحتمل وجهين :

يحتمل أم الكتاب ، أي : أصل الكتاب (٢).

ويحتمل أم الكتاب ، أي : المتقدم على غيرها ؛ وعلى هذا يخرّج : (أُمَّ الْقُرى) [الأنعام : ٩٢ ـ الشورى : ٧] ، أعني : مكة (٣) ؛ لأنها هي المتقدمة على غيرها من القرى ، ويحتمل هي أصل القرى ؛ كما سمى «فاتحة الكتاب» : «أم القرآن» ؛ لأنها أصل ؛ أو لأنها هي المتقدمة على غيرها من السور ، والله أعلم.

__________________

(١) حقيقة ذلك أن آيات الكتاب العزيز عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أقسام :

الأول : متشابه من حيث اللفظ فقط. الثاني : من حيث المعنى فقط. الثالث : من جهتهما معا. ثم المتشابه من حيث اللفظ نوعان : أحدهما : يرجع إلى المفردات إما من جهة الغرابة من قوله : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) [عبس : ٣١] وكقوله : (يَزِفُّونَ)[الصافات : ٩٤] ، وإما من جهة الاشتراك كاليد والعين في قوله تعالى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ)[المائدة : ٦٤](تَجْرِي بِأَعْيُنِنا)[القمر : ١٤](عَلى عَيْنِي)[طه : ٣٩]. والثاني : يرجع إلى التركيبات ، وهي الجمل. وهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

أحدها : لاختصار الكلام كقوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) إلى قوله : (وَرُباعَ)[النساء : ٣]. وثانيها : عكسه ، وهو بسط الكلام ، كقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)[الشورى : ١١] ، إذ لو قيل : ليس مثله شيء. لكان أظهر للسامع. ثالثها : لنظم الكلام ، كقوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً)[الكهف : ١].

والقسم الثاني : من حيث المعنى فقط ، وذلك في أوصاف الباري تعالى ، وأوصاف القيامة. فإن تلك الصفات لا تتصور لنا ؛ إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه إذ لم يكن من جنس ما نحسه.

والقسم الثالث : وهو المتشابه من جهتهما معا ينقسم إلى خمسة أقسام : الأول من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)[التوبة : ٥]. الثاني : من جهة الكيفية كالوجوب والندب كقوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ)[النساء : ٣]. الثالث من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ)[آل عمران : ١٠٢].

الرابع : من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها كقوله تعالى : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ ..). الآية [البقرة : ١٨٩] ، وقوله : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ)[التوبة : ٣٧] فإن من لا يعرف عادة أهل الجاهلية في ذلك يتعذر عليه تفسير هذه الآية الكريمة.

الخامس : من جهة الشروط التي يصح بها الفعل أو يفسد كشروط النكاح والصلاة. ويعلم أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن أحد هذه الأقسام.

ينظر : عمدة الحفاظ (٢ / ٢٨٤ ـ ٢٨٦).

(٢) قاله سعيد بن جبير أخرجه عنه ابن أبي حاتم (٢ / ٥٦) ، رقم (٨٥).

(٣) مكة : علم على جميع البلدة ، وهي البلدة المعروفة المعظمة المحجوجة ، غير مصروفة ، للعلمية والتأنيث ، وقد سماها الله ـ تعالى ـ في القرآن أربعة أسماء : بكة ، البلد الأمين ، والبلدة ، والقرية ، وأم القرى.

ينظر : المطلع على أبواب المقنع لأبي الفتح البعلي الحنبلي (١٨٦).

٣٠٨

ويحتمل قوله : (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) ، أي : مقصود الكتاب ، يعني : المحكمات ، والمتشابهات مما فيه شبه (١) من غيره ؛ فيتشابه ؛ فهو متشابه ؛ كقولهم : (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) [البقرة : ٧٠] ؛ وكذلك المشكل (٢) سمي مشكلا ؛ لما يدخل فيه شكل من غيره فسمي مشكلا ؛ فكذلك المتشابه يدخل فيه شبه غيره ؛ فصار متشابها ، والله أعلم.

وقوله [عزوجل](٣) : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ)

قيل : ميل عن الحق (٤).

وقيل : الزيغ : هو الريب والشك (٥).

(فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ)

ولو كان ثم اتباع لعذروا ؛ إذ الاتباع للشيء اتباع ما فيه من المراد ؛ وعلى هذا يقولون في قوله : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) [البقرة : ١٢١] : أي يتبعونه حق اتباعه ، وكذلك قوله : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [الأعراف : ٣]. والمتشابه قد أنزل إلينا من ربنا ؛ فيحمد متبعه في الحقيقة ؛ فثبت أنه لم يكن ثم اتباع في الحقيقة ، وأنه لو كان لعذروا ، ولكنه كان ـ والله أعلم ـ اتباع الآراء في التأويل بالآراء الفاسدة ؛ ألا ترى أنهم طلبوا بالتأويل منتهى ملك هذه الأمّة؟! وفي الوقوف عليه وقوف على علم الساعة وسبب

__________________

(١) في ب : شبهة.

(٢) المشكل في اللغة : مأخوذ من قولهم : أشكل أي : دخل في أمثاله وأشكاله. يقال : أشكل الأمر : التبس ، وحرف مشكل : ملتبس ومشتبه. والشكل : الشبه والمثل.

وعند علماء الأصول : هو اللفظ الذي اشتبه مراد المتكلم للسامع بعارض الاختلاف بغيره من الأشكال ، مع وضوح معناه اللغوي. أي : هو ما اشتبه مراده بحيث لا يدرك إلا بالتأمل. وقيل : هو ما أشكل على السامع طريق الوصول إلى المعاني ؛ لدقة المعنى في نفسه ، مثل قوله ـ تعالى ـ : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) [البقرة : ٢٢٣] اشتبه معناه على السامع أنه بمعنى كيف ، أو بمعنى أين ، يعرف بعد الطلب والتأمل أنه بمعنى كيف بقرينة الحرث ، وبدلالة حرمة القربان في الأذى العارض ، وهو الحيض ، ففي الأذى اللازم أولى ، وفيه زيادة خفاء ، ولذلك قالوا : المشكل كرجل تغرب عن وطنه فاختلط بأشكاله من الناس ، فيطلب موضعه ، ويتأمل في أشكاله ليوقف عليه.

ينظر : لسان العرب (٤ / ٢٣١٠) (شكل) ، والصحاح (٥ / ١٧٣٧) (شكل) ، ترتيب القاموس (٢ / ٧٧٣) ، وميزان الأصول للسمرقندي (١ / ٥١٠) ، وكشف الأسرار عن أصول البزدوي لعبد العزيز البخاري (١ / ٥٢) ، وفصول البدائع في أصول الشرائع (٨٥) ، والكليات لأبي البقاء (٣٤٠) ، وجامع العلوم للباقولي (٣ / ٢٦٦ ، ٢٦٧).

(٣) سقط من أ.

(٤) قاله محمد بن جعفر بن الزبير أخرجه عنه الطبري (٦ / ١٨٤) رقم (٦٥٩٢).

(٥) قاله ابن عباس أخرجه عنه الطبري (٦ / ١٨٤) رقم (٦٥٩٥) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٦٢) ، رقم (٩٨) ، وابن المنذر كما في الدر المنثور (٢ / ٨). وقاله أيضا ابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخرجه الطبري (٦ / ١٨٤) رقم (٩٥٩٦).

٣٠٩

القيامة ، وذلك علم لم يطلع الله الرسل على ذلك ، فضلا أن يطلع عليه غيرهم.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : ويحتمل أن يكون اتباعهم نظرهم فيما تقصر أفهامهم عن الإدراك في الوقوف عليه ، ولو كان نظرهم في المحكم من ذلك ، لكان لهم في ذلك بلاغ وكفاية فيما إليهم به حاجة ، ولا قوة إلا بالله.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : في قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) : أي : ميل عن الحق ، وذلك همتهم ، أو كان ذلك اعتقادهم ، فإن كان المراد من ذلك في الكفرة فهو الأوّل ، وإن كان في أصحاب الهوى من الذين يدينون دين الإسلام ـ فهو الثاني (١) ؛ وكذلك نجد كل ذى مذهب في الدّين ـ ممّن اعتقد حقيقة الأمر في قوله : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [الأعراف : ٣] ، وقوله : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء : ٩] الآية ، وقوله : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ ..). [النمل : ٧٦] الآية ـ يتعلق بظاهر الآية ؛ يدعي أنها محكمة بما عنده أنه الحق ، بعد أن أجهد نفسه في طلب الحق ، ويسوي غير ذلك عليه ، فإن كان على ذلك فحقه التسليم لما عليه توارث الأمة ظاهرا ؛ على ما روى عن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أخبر عن تفرق الأمة ، ثم أشار إلى التمسّك بما عليه هو وأصحابه (٢) [ـ رضي الله عنهم ـ](٣) فعلى ذلك أمر المتوارث ؛ فيجب جعله محكما وبيانا [لما] اختلف عليه ، ولا قوة إلا بالله.

__________________

(١) قال القرطبي : وهذه الآية تعمّ كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل وصاحب بدعة ، وإن كانت الإشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران.

ينظر : تفسير القرطبي (٤ / ١٠).

(٢) أصح ما قيل في تعريف الصحابي أنه : من لقى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته مسلما ومات على إسلامه.

ينظر : تدريب الراوى للسيوطي (٢ / ٢١٢).

(٣) أخرجه أحمد (٤ / ١٠٢) ، والدارمي في سننه (٢ / ٢٤١) ، وأبو داود (٢ / ٦٠٨) كتاب السنة : باب شرح السنة (٤٥٩٧) ، والحاكم في المستدرك (١ / ١٢٨) ، والآجري في الشريعة ص (١٨) ، وابن أبي عاصم في السنة (١ / رقم ٢) من طريق صفوان بن عمرو قال حدثني أزهر بن عبد الله عن أبي عامر عبد الله بن لعيّ عن معاوية بن أبي سفيان أنه قام فينا فقال : ألا إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام فينا فقال : «ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملّة ، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين : ثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة ، وهي الجماعة».

قال الحافظ ابن حجر في «تخريج الكشاف» ص (٦٣) : وإسناده حسن. وله شواهد من حديث أنس بن مالك ، وعوف بن مالك الأشجعي ؛ فأما حديث أنس فأخرجه أحمد (٣ / ١٤٥) ، وابن ماجه في سننه (٥ / ٤٧٢) كتاب الفتن : باب افتراق الأمم (٣٩٩٣) ، وابن أبي عاصم في السنة (١ / رقم ٦٤) ، وأما حديث عوف بن مالك فأخرجه ابن ماجه في سننه ، الموضع السابق ، رقم (٣٩٩٢) ، وابن أبي عاصم في السنة (١ / رقم ٦٣).

وما بين المعقوفين سقط من ب.

٣١٠

ويكون المبتدع (١) في ابتغاء تأويله ؛ يريد التلبيس على من لزم تلك الجملة ، وكذلك لأهل جمل في الدّين مرفوع عليه ، كذا التنازع وترك الاشتغال بتأويل ما اعترضه ، لكان متبع المحكم عند الأمة مطيعا المتشابه ، ولا قوة إلا بالله.

وإن كان هو الأوّل فقد ذكر أن ذلك في استخراج منتهى ملك هذه الأمة ، وأن نهايته الساعة ، والعلم به لم يطلع عليه الرسل فضلا عمن (٢) دونهم ، أو كان ذلك في أشياء تقصر عقول الضعفاء عن الإحاطة بذلك ؛ يريدون بذلك التلبيس على العوام وأهل الغباوة ؛ فأخبر ـ عزوجل ـ بما ذكر أنه لا يعلمه إلا الله كان ذلك فيما يعلمه غيره أو لا ، فإن كان أطلعه فبالله علم ، لا أن في العقول بلوغ ذلك ، ومعنى الاتباع ما قد بين.

وقوله : (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) أي : من القرآن بقول ما اشتبه حسابهم.

(ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ).

وقيل : الفتنة : الكفر (٣) ، ويحتمل «الفتنة» : المحنة ، أي : يمتحنون أهل الإسلام (٤).

وقوله : (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ).

منتهى ما كتب الله ـ عزوجل ـ لهذه الأمّة من المدّة [لهم والوقت](٥) ، وأصل التأويل : هو المنتهى.

قال الله ـ تعالى ـ (٦) : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ).

__________________

(١) البدعة ـ بالكسر ـ : الحدث في الدين بعد الإكمال ، والمبتدع : الذي يأتي أمرا على شبه لم يكن ، بل ابتدأه هو.

ينظر : تاج العروس (٢٠ / ٣٠٩) (بدع) ، ولسان العرب (١ / ٢٢٩) (بدع).

(٢) في ب : من.

(٣) قاله السدي أخرجه عنه الطبري (٦ / ١٩٦) ، رقم (٦٦١٦) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٦٧) رقم (١١٠) وقاله أيضا الربيع أخرجه عنه الطبري (٦ / ١٩٦) رقم (٦٦١٧).

(٤) قال القرطبي : قال شيخنا أبو العباس ـ رحمة الله عليه ـ : متبعو المتشابه لا يخلو أن يتبعوه ويجمعوه ؛ طلبا للتشكيك في القرآن وإضلال العوام .. أو طلبا لاعتقاد ظواهر المتشابه .. أو يتبعوه على جهة إبداء تأويلاتها وإيضاح معانيها كما فعل صبيغ حين أكثر على عمر فيه السؤال ؛ فهذه أربعة أقسام :

الأول : لا شك في كفرهم وإن حكم الله فيهم القتل من غير استتابة.

الثاني : الصحيح القول بتكفيرهم ؛ إذ لا فرق بينهم وبين عبادة الأصنام والصور ، ويستتابون : فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بمن ارتد.

الثالث : اختلفوا في جواز ذلك ؛ بناء على الخلاف في جواز تأويلها.

الرابع : الحكم فيه الأدب البليغ كما فعله عمر بصبيغ.

ينظر : تفسير القرطبي (٤ / ١١).

(٥) بدل ما بين المعقوفين في ب : لحد ذا الوقت.

(٦) في ب : عزوجل.

٣١١

أي : وما يعلم منتهي تلك الأمة (١) إلّا الله.

ثم المتشابه : إن كان ما يوقف فيه فهو ، وإن كان مما يعرفه أهل المعرفة ، ويعلمه بالواضح ـ فهو هو ، وأصل هذا : أن كل ذي مذهب في الإسلام يدعي على خصمه بما ذهب إليه من الحجاج بالآيات ـ الوقوع في المتشابه ، ولنفسه ـ الوقوع في الواضح ، وعنده أن ما ذهب إليه هو الحق ؛ فلا فرق بين أن يدعي عليه ذهابه إلى غير الحق ، أو تعديه إلى المتشابه وترك الواضح ، فسبيل مثله الفحص والبحث عما ذهب إليه إن جاء بشيء يضطر العقل إلى قبوله سلم له ما جاء به ، وإلا فخصمه منه في دعوى مثله : بالوقوع له في المتشابه بمحل دعواه.

وقوله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) :

قال قوم : موضع الوقف على قوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ثم ابتدأ فقال : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) : «يقولون» ، بمعنى : قالوا ، «آمنا به» (٢) : بما عرفنا ، وذلك جائز في اللغة ؛ «يقول» بمعنى : «قال».

وقال آخرون (٣) : موضع الوقف على قوله : (إِلَّا اللهُ) ، ثم استأنف الكلام فقال : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) : المحكم والمتشابه وغيره (٤).

قيل : الراسخون : هم المتدارسون (٥).

__________________

(١) في ب : ملك.

(٢) أخرج الطبري (٦ / ٢٠٣) ، رقم (٦٦٣٣) عن مجاهد : «والراسخون في العلم يعلمون تأويله ، ويقولون : آمنا به». وكذا قاله محمد بن جعفر بن الزبير أخرجه الطبري عنه (٦ / ٢٠٣) ، رقم (٦٦٣٦).

(٣) هذا قول ابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وعائشة كما في جامع الأحكام للقرطبي (٤ / ١٧) ، وهو ـ أيضا ـ قول الكسائي والأخفش والفراء وأبي عبيد وابن أبي حاتم كما في معاني القرآن الكريم لأبي جعفر النحاس (١ / ٣٥١). وبه قال الحسن وأكثر التابعين كما في تفسير البغوي (١ / ٢٨٠).

(٤) الراجح من القولين القول الثاني القائل بأن موضع الوقف على قوله تعالى : إِلَّا اللهُ ودليل رجحانه ما يلى :

أولا : ما قبل هذه الآية يدل على أن طلب تأويل المتشابه مذموم ـ لقوله ـ تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) الآية ، ولو كان طلب تأويل المتشابه جائزا لما ذمه الله تعالى.

ثانيا : مدح الله الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به ، قال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ)[البقرة : ٢٦] والراسخون لو كانوا عالمين بالمتشابه تفصيلا لما كان للإيمان به مدح لأنهم لو عرفوه وجب عليهم الإيمان به ، وإنما الراسخون هم الذين يعلمون أن علم الله تعالى كامل والقرآن كلامه وهو لا يتكلم بالباطل والعبث فإذا سمعوا آية كان ظاهرها غير مراد فوضوا علم ذلك لله وقالوا : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا).

وانظر تفصيل أدلة رجحان هذا القول في التفسير الكبير للرازى (٧ / ١٥٤).

(٥) قال البغوي : الدارسون علم التوراة والإنجيل. معالم التنزيل (١ / ٢٨٠). قال الواحدي في الوسيط (١ / ٤١٤) : وعند أكثر المفسرين : المراد بالراسخين : علماء مؤمني أهل الكتاب.

٣١٢

وقيل : المتثابتون ؛ رسخ ، بمعنى : ثبت (١).

وقيل : الراسخون (٢) : [الناتجون.

يقال : رسخ في العلم : نتج فيه](٣).

فإن قيل : ما الحكمة في إنزال المتشابه؟.

قيل : إذا كان مما يعلم فهو يحتمل وجهين :

يحتمل : ليعلم فضل العالم على غير العالم.

ويحتمل : أن جعل عليهم طلب المراد فيه ، والفحص عما أودع فيه.

وإن كان مما لا يعلم يحتمل المحنة ؛ امتحنهم في ذلك بالوقف فيه ؛ إذ الدار دار محنة ، ولله أن يمتحن عباده بجميع أنواع المحن.

وقوله : (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ).

أي : ما يتعظ إلا أولو الحجج والعقل.

قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٩)

وقوله : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا)

فيه وجهان على المعتزلة :

أحدهما : أنه أضاف الزيغ إلى نفسه ، وهو حرف مذموم عند الخلق ، إذا قيل : فلان أزاغ فلانا عن الحق ، فإذا أضاف الله ـ عزوجل ـ إلى نفسه حرف الزيغ ، دل أن فيه معنى سوى ظاهره ؛ حتى جاز إضافته إليه ، وهو أن خلق منهم فعل الزيغ ، وكذلك هذا في الضلال ، وأضاف ـ أيضا ـ الهداية إلى نفسه بقوله : (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) ، فلو كان الهدى : البيان ؛ على ما يقوله المعتزلة ، لجاز أن يضاف ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ إذ هو يملك البيان ؛ لأنه بعث مبينا معلما ، فإذا لم يجز ذلك دلّ أن فيه معنى سوى البيان وهو التوفيق والعصمة ؛ حتى جاز إضافته إليه ، ولا يجوز إلى غيره ، والله الموفق.

__________________

(١) قاله الواحدي في الوسيط (١ / ٤١٤) ، والبغوي في معالم التنزيل (١ / ٢٨٠).

(٢) رسخ الشيء يرسخ رسوخا : ثبت في موضعه ، والراسخ في العلم : الذي دخل فيه دخولا ثابتا.

واعلم أن الراسخ في العلم هو الذي عرف ذات الله وصفاته بالدلائل اليقينية القطعية ، وعرف أن القرآن كلام الله تعالى بالدلائل اليقينية ، فإذا رأي شيئا متشابها ، ودل القطعى على أن الظاهر ليس مراد الله تعالى ، علم حينئذ قطعا أن مراد الله شيء آخر سوى ما دل عليه ظاهره ، وأن ذلك المراد حق ، ولا يصير كون ظاهره مردودا شبهة في الطعن في صحة القرآن. ينظر : تفسير الرازي (٧ / ١٥٤).

وينظر : تاج العروس (٧ / ٢٥٧) (رسخ).

(٣) بدل ما بين المعقوفين في ب : الناتحون ، يقال : نتح في العلم ورسخ فيه.

٣١٣

والثاني : أنهم سألوا العصمة عن الزيغ والضلال ، فلو كان عليه أن يفعل (١) ، وأن يبذل لهم العصمة ، لم يكن للسؤال عن ذلك معنى ؛ فدل أنه تفضل منه ببذل ذلك لهم ، والله أعلم.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في قوله : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) الآية : فيه وجهان :

أحدهما : أنه لو لم يكن له إلا الأصلح في الدين ؛ فتركه جور ، فالقول ب (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) ـ لا يخلو من أن يكون الإزاغة أصلح له ، وهو يدعو بأن يجور أو لا يكون أصلح ، فهو يدعو بأنه لا يجور ، ومحال الدعاء على خوف الجور ؛ ومن خاف جور الخالق فهو غير عارف به.

والثاني : أن الداعي ـ فيما جبل عليه الخلق ـ يدعو على أمر أنه لو أجابه لكان لا يزيغ قلبه ، وكذلك سؤال العصمة والهداية ؛ ولهذا يؤمر به ـ أيضا ـ ولو كان معه زيغ ، لكان الأفضل في الأمر بين الدعاء بالإزاغة ، وأن «لا تزغ» ؛ إذ الخوف مع الأمرين قائم ، والله الموفق.

وفي ذلك ـ أيضا ـ وجهان آخران :

أحدهما : أن الإزاغة إذا أضيفت إلى أحد ، خرجت مخرج الشتم له والتعيير ؛ فثبت (٢) أن فيما أضيفت إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ معنى ليس فيما أضيفت إلى أحد آخر غيره ، وهو ـ والله أعلم ـ أن الإزاغة من كل أحد فعل هو زيغ بنفسه فيه ذمّ ، ومن الله ليست [بذم] ؛ فيكون فيه أن خلق فعل الزيغ ليس بزيغ ، وإن (٣) كان فعله زيغا ، والله أعلم.

وفيه أن خلق الشيء ليس هو ذلك ، والشيء ذاته يكون من الله ما يوصف بالإزاغة ، ويصير لديه الآخر زائغا ، ولا شيء يوجد يكون كذلك سوى خلق فعل الإزاغة من العبد ، والله الموفق.

والثاني : قوله : (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) : ولو لم يكن من الله في الهداية سوى البيان ، لكان يصح ذلك لكل كافر ، ويجوز الإضافة إلى الرسل ؛ فإذ لم يصح ذلك ولم يجز ، ثبت أن ثم فضلا ، وهو خلق فعل الهداية ، والتوفيق الذي معه الاهتداء لا محالة ، وبالله [التوفيق و](٤) المعونة.

__________________

(١) أي : لوجب عليه أن يفعل ، فالمعتزلة توجب على ـ الله ـ تعالى فعل الصلاح والأصلح. وقد تقدم بيان ذلك والرد عليه.

(٢) في ب : ثبت.

(٣) في ب : فإن.

(٤) سقط من ب.

٣١٤

وقوله : (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) :

يحتمل وجوها :

يحتمل الهدى والإسلام ؛ إذ به يستفاد.

ويحتمل الجنة.

ويحتمل أنهم سألوه كل رحمة.

قال أبو بكر الأصم : الرحمة : السعة في الدنيا ، والثواب في الآخرة (١).

وقوله : (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) :

فهو ـ على قول المعتزلة ـ ليس بوهاب ؛ لأن الوهاب هو المفضل الذي يهب ويبذل ما ليس عليه ، وهو ـ على قولهم ـ عليه أن يعطي الخلق كل ما هو أصلح لهم في الدين ؛ فالآية تكذبهم ، وترد عليهم قولهم الوخش (٢) في الله ، تعالى الله عن ذلك [علوّا كبيرا](٣).

ويحتمل : هب لنا ما يستوجب به الرحمة ، وهو عمل الخير ؛ كقوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦].

وقوله : (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ)

إقرار بالإيمان (٤) والبعث بعد الموت (٥).

__________________

(١) انظر : تفسير الرازي (٧ / ١٥٧).

(٢) الوخش : الردىء من كل شيء. وقد وخش وخاشة. ينظر : تاج العروس (١٧ / ٤٤٦) (وخش).

(٣) سقط من ب.

(٤) الإيمان ـ لغة ـ : التصديق ، وهو ضد الكفر ، والتصديق ضد التكذيب. يقال : آمن به قوم وكذب به قوم ، وهو مصدر آمن يؤمن إيمانا فهو مؤمن. قال الله ـ تعالى ـ : على لسان أولاد يعقوب : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ)[يوسف : ١٧] أي : بمصدق لنا.

وقد اختلف الأشاعرة والماتريدية حول هذا : فقد عرفه أبو الحسن الأشعري في اللمع بقوله : «إن قال قائل : ما الإيمان بالله تعالى عندكم؟ قيل له : هو التصديق بالله تعالى ، فالإيمان عندهم عبارة عن التصديق القلبي.

والتصديق القلبي الذي يعنيه الأشاعرة هنا : الإيمان بالله سبحانه وإثبات ما أثبته لنفسه من صفات ، وأنه سبحانه ليس كمثله شيء.

يقول القاضى الباقلاني : «الإيمان بالله ـ عزوجل ـ هو : التصديق بالقلب بأنه الله الواحد الأحد الفرد الصمد القديم الخالق العليم الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير».

فالإيمان عند الأشاعرة يعني المعرفة ، وصحة الإيمان لا تكفي ؛ إذ لا بد من التصديق القلبي الذي هو المعرفة.

يقول الإمام البغدادي : «الإيمان هو الإقرار بالله عزوجل وبكتبه وبرسله ، إذا كان ذلك عن معرفة ، وتصديق بالقلب ، فإن خلا الإقرار عن المعرفة بصحته لم يكن إيمانا».

ويرى الإمام الرازي : «أن الإيمان يعني الاعتقاد ، والتصديق القلبي ، أما القول فإنه مترجم لهذا التصديق ومظهر له ، إذ يقول : «الإيمان عبارة عن التصديق ، فهو الاعتقاد ، والقول سبب لظهوره ـ

٣١٥

__________________

 ـ والأعمال خارجة عن مسمى الإيمان».

ولقد نحا متأخرو الأشاعرة هذا المنحى في تفسير معنى الإيمان.

يقول الإيجى : «الإيمان تصديق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما علم مجيئه به ضرورة ـ أي : فيما اشتهر كونه من الدين ـ فتفصيلا فيما علم تفصيلا ، وإجمالا فيما علم إجمالا».

وأما الماتريدية فإنهم يرون أن الإيمان هو : «تصديق بالقلب وإقرار باللسان» ، فهم لم يحصروا حقيقته في التصديق فقط مثلما قال الأشاعرة ، لكنهم ـ أي الماتريدية ـ يشترطون الإقرار مع التصديق ، ولا يكفي الإقرار وحده في صحة الإيمان عند الماتريدية ، وإلا للزم الحكم بإيمان المنافقين ، وكذلك فالتصديق وحده على حد قول الماتريدية ليس يكفي في صحة الإيمان وإلا للزم الحكم على أهل الكتاب كلهم بالإيمان.

ولقد ذهب الماتريدية في ذلك مثلما ذهب أبو حنيفة ؛ إذ قال : «الإيمان إقرار باللسان ، وتصديق بالجنان ، والإقرار وحده لا يكون إيمانا ؛ لأنه لو كان إيمانا لكان المنافقون كلهم مؤمنين ، وكذلك المعرفة وحدها.

وبهذا لا يكون مجرد التصديق إيمانا ؛ إذ لو كان كذلك لكان أهل الكتاب كلهم مؤمنين ، ولقد قال الله ـ عزوجل ـ في شأن المنافقين : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ)[المنافقون : ١] ، أي : لا تصديق لهم لكذبهم في دعواهم ، وقال الله ـ سبحانه ـ كذلك : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ)[البقرة : ١٤٦] وبهذا يتضح أن مجرد الإقرار ليس يكفي ، وكذلك التصديق فإنه ليس يكفي ، إذن لا بد أن يكون كل منهما منضما إلى الآخر.

لكن سؤالا مهمّا يجب طرحه هنا في خصوص ما قال به الإمام أبو حنيفة وهو :

إذا كان الإمام أبو حنيفة قد قال بأن الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان ، فهل يعني هذا أنه قد جعل الإقرار شرطا للإيمان أو ـ على الأقل ـ ركنا له؟

وما ذا نقول مثلا ـ تبعا لما يقول به الإمام أبو حنيفة ـ في قوم صدقوا بقلوبهم وأقروا بخلاف الذين صدقوا به ، مع أن القرآن قد أيدهم ، فقال الله ـ جل وعزّ ـ : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)[النحل : ١٠٦].

والإمام أبو حنيفة يقول : بأن الإقرار وإن كان شرطا إلا أنه قد يحتم سقوطه مع صحة إيمان صاحبه ، وهذا في حالة الإكراه ، مثلما كان المشركون يفعلون مع بعض الصحابة الذين نزلت فيهم الآية السابقة. وبهذا يكون التصديق على مراتب ثلاث :

الأولى : الذي يصدق بقلبه ويقر بلسانه ، فهذا يكون مؤمنا عند الله وعند الناس.

الثانية : الذي يصدق بقلبه ويكذب بلسانه ، فهذا نوع قد اضطرته أحواله وظروفه ، وهو ما نزلت فيه الآية السابقة.

الثالثة : الذي يصدق بلسانه ويكذب بقلبه ، وهذا هو المنافق ، ولقد قال الله ـ تعالى ـ في هذا النوع : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ ..). [المنافقون : ١].

ومما سبق يتضح مما قاله الإمام أبو حنيفة أنه رغم جعله الإقرار باللسان ركنا ـ أو شرطا على الأقل ـ في الإيمان ، إلا أنه قد جعله ركنا زائدا غير أصيل ، ومجرد شرط لإجراء الأحكام في دار الدنيا. ويوضح هذا ما قاله الإمام ابن الهمام الحنفي : «الإيمان تصديق بالقلب واللسان ، ويعبر عنه بأنه تصديق بالجنان وإقرار باللسان ، وهو منقول عن أبي حنيفة ومشهور عن بعض أصحابه».

والذي قال به الإمام أبو حنيفة وعرضه الإمام ابن الهمام كان مذهب متقدمي الماتريدية ومتأخريهم ، ويؤيد هذا ما قاله أبو اليسر البزدوي الذي يعد من متأخري الماتريدية حيث يقول : ـ

٣١٦

وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ)

في هذا خاصّة : يراد به القيامة والبعث.

ويحتمل : لا يخلف الميعاد في كل شيء ، ممّا يصيب الخلق : من الخير والشر ، والفرح والحزن والأسف ، يقولون : إنه كان بوعده ووعيده ، وإنه كان مكتوبا عليهم ولهم ، وإنه لا يكون على خلاف ما كان مكتوبا عليهم ؛ ليصبروا على الشدائد والمصائب ، فلا يجزعوا عليها ، ولا يحزنوا ، وليشكروا على الآلاء والنعماء ولا يفرحوا عليها ، وهو كقوله : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) [الحديد : ٢٣].

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ)(١١)

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) وذلك أنهم كانوا يستنصرون بأولادهم وأموالهم في الدنيا ، ويستعينون بهما على غيرهم ؛ فظنوا أنهم يستنصرون بهم في الآخرة ، ويدفعون بهم عن أنفسهم العذاب ؛ وهو كقولهم : (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ : ٣٥] ؛ فأخبرهم الله ـ عزوجل ـ أن أموالكم وأولادكم لا تغني عنكم من عذاب الله (١) شيئا.

وقوله : (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) :

__________________

 ـ «الإيمان اعتقاد بالقلب ، وإقرار باللسان».

وكذلك يؤيده ما يقوله صاحب نظم الفرائد وجمع الفوائد : «ذهب مشايخ الحنفية إلى أن الإيمان هو الإقرار والتصديق ، فالإقرار شطر منه».

ونخلص من هذا إلى أن الماتريدية قد اتفقوا على تعريف الإيمان بأنه : «تصديق بالقلب ، وإقرار باللسان».

ينظر : لسان العرب (١ / ٤١) (أمن) ، اللمع لأبي الحسن الأشعري (١٢٣) ، الإنصاف للباقلاني (٢٣) ، أصول الدين للبغدادي (٢٤٩) ، شرح المواقف للإيجي (٨ / ٣٢٢) ، الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة بشرح ملا على القارئ (١٢٤) ، المسايرة للإمام الكمال بن الهمام (٢) ، أصول الدين للبزدوي (١٤٦) ، نظم الفرائد وجمع الفوائد لشيخى زاده (٣٧) ، شرح العقائد النسفية للتفتازانى (١٢٥) ، شرح البيجورى على الجوهرة (٢٩).

(٥) قال جميع أهل القبلة وجميع أهل الكتاب : إن البعث حق خلافا للفلاسفة والدليل على أن البعث حق نصوص كثيرة منها : (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [الحج : ٧] وقال ـ تعالى ـ : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ ...) [يس : ٧٨].

انظر : أصول الدين للبزدوي (١٥٧).

(١) في ب : النار.

٣١٧

أي : حطب النار ؛ فهو ـ والله أعلم ـ أن الإنسان إذا وقع في النار في هذه الدنيا لا يحترق احتراق الحطب ؛ ولكنه يذوب ويسيل منه الصّديد ، فقال الله ـ عزوجل ـ : إنهم يحترقون في النار في الآخرة احتراق الحطب ، لا احتراق الإنسان في الدنيا ؛ لأنها أشدّ بطشا ، وأسرع أخذا ، وأطول احتراقا ؛ وعلى هذا يخرج قوله : (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) : ليس كعذاب الدنيا أنه على الانقضاء والنفاد ؛ ولكن على الدوام فيها والخلود أبد الآبدين ؛ فنعوذ بالله منها.

وقوله : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ).

قيل : كأشباه (١) آل فرعون ، وقيل : كعمل آل فرعون وكصنيعهم (٢) ، وكله واحد ، ثم يحتمل بعد هذا وجهين :

يحتمل : صنيع هؤلاء وعملهم ـ كصنيع آل فرعون ومن كان قبلهم بموسى ، في التكذيب والتعنت.

ويحتمل بصنيع هؤلاء بما يلحقهم من العذاب بالتكذيب والتعنت ؛ فألحق أولئك من العذاب بتكذيب الرسل ، وتعنتهم عليهم.

(وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) :

قد ذكرناه.

قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) (١٣)

وقوله : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ)

هذا ـ والله أعلم ـ في قوم قد علم الله ـ عزوجل ـ أنهم لا يؤمنون أبدا ؛ لذلك قال [تعالى](٣) لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن قل لهم : (سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ ..). الآية ، وإلا فلا يلحقه ذلك الوعيد ، والله أعلم ؛ لأن من الكفار من يسلم ومن لا يسلم ، [وإلا فلا يلحق بالوعيد من الكفار من أسلم](٤).

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه عنه الطبري (٦ / ٢٢٤) رقم (٦٦٦٤) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٩١) رقم (١٥٣). وقاله أيضا الضحاك وعكرمة ومجاهد. ينظر : المصدران السابقان.

(٢) قاله الربيع بن أنس ولفظه : «كسنتهم». أخرجه عنه الطبري (٦ / ٢٢٣) ، رقم (٦٦٥٩) وقال ابن أبي حاتم (٢ / ٩٢) رقم (١٥٨) : وروي عن الربيع بن أنس أنه قال : كشبيه آل فرعون.

(٣) سقط من ب.

(٤) ما بين المعقوفين سقط من ب.

٣١٨

وقوله : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا)

فيه : فإن قال قائل : ما في فئة (١) قليلة ، وهي فئة أهل الإسلام ، في غلبة فئة كثيرة ، وهي فئة المشركين ؛ حيث غلبت فئة المسلمين ـ وهم قليل ـ فئة المشركين ـ وهم كثير ـ يوم بدر (٢) ، وقد يكون لأهل الكفر إذا كانوا قليلا (٣) ، فغلبوا على أهل الإسلام ـ آية.

قيل : ليست الآية في الغلبة خاصّة ؛ لكن الآية فيها [والله أعلم](٤) وفي غيرها من وجوه :

أحدها : أن غلبة المسلمين ، مع ضعف أبدانهم ، وقلة عددهم ، وخروجهم لا على وجه الحرب والقتال ـ المشركين مع قوة أبدانهم ، وكثرة عددهم ، واستعدادهم للحرب ، وخروجهم على ذلك ، والقتال ـ آية ، وعلم العدو أن ليس لهم فئة ، ولا لهم رجاء المدد ، وأن لا غياث لهم من البشر ، وذلك آية الجرأة وعلامة الشجاعة ، ومعه آمن ، والله أعلم.

والثاني : [أن](٥) ما روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ كفا من تراب ، فرماه على وجوههم ، وقال : «شاهت الوجوه» (٦) ؛ فامتلأت أعينهم من ذلك وعموا ؛ حتى انهزموا ؛ فصار آية.

والثالث : ما قيل : إن أبا جهل قام فدعا فقال : «أيّنا أحقّ دينا ، وأوصل رحما ؛

__________________

(١) الفئة : الجماعة من الناس ، وقيدها بعضهم بالمتظاهرة ، وبعضهم بالمتعاضدة.

قال السمين الحلبي : وهما متقاربتان. قال الراغب : الفئة : الجماعة المتظاهرة التي يرجع بعضها إلى بعض في التعاضد.

ينظر : عمدة الحفاظ (٣ / ٢٢٩) ، المفردات للراغب الأصفهاني (ص ٣٨٩).

(٢) بدر : قرية مشهورة على نحو أربعة مراحل من المدينة الشريفة ، قيل : نسبت إلى بدر بن مخلّد بن النضر بن كنانة ، وقيل : إلى بدر بن الحارث ، وقيل : إلى بدر بن كلدة. وقيل : بدر : اسم البئر التي بها ؛ سمّيت بذلك لاستدارتها أو لصفائها فكان البدر يرى فيها ، وأنكر ذلك غير واحد من شيوخ بني غفار وقالوا : هي ماؤنا ، ومنازلنا وما ملكها أحد قطّ يقال له بدر ، وإنما هو علم عليها كغيرها من البلاد. قال الإمام البغويّ : وهذا قول الأكثر.

ينظر : سبل الهدى والرشاد للصالحي (٤ / ١٢٠) ، مراصد الاطلاع لصفي الدين البغدادي (١ / ١٧٠ ـ ١٧١).

(٣) في ب : قليل.

(٤) سقط من ب.

(٥) سقط من ب.

(٦) أخرجه الطبراني في الكبير (٣ / ٢٢٧) رقم (٣١٢٨) عن حكيم بن حزام قال : لما كان يوم بدر أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذ كفّا من الحصباء فاستقبلنا به فرمانا بها ، وقال : «شاهت الوجوه» فانهزمنا ، فأنزل الله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧]. وإسناده حسن ، قاله الهيثمي في مجمع الزوائد (٦ / ٨٤).

٣١٩

فانصره ، واجعل الغلبة والهزيمة على الآخر» (١) ، فاستجيبت ؛ فكانت الغلبة والهزيمة عليهم ؛ فكان آية.

والرابع : ما أعان الملائكة المسلمين ، وبعثهم الله ـ عزوجل ـ مددا لنصرة المؤمنين على الكافرين يوم بدر ؛ فذلك آية.

ووجه آخر : ما ذكرنا أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا خرجوا شبه العير (٢) بغير سلاح ، غير مستعدين للقتال على علم منهم بذلك ، وأولئك خرجوا مستعدين لذلك ، فكان ما ذكر ، والله أعلم.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : في ذكر القليل في الأعين من الجانبين آية عظيمة ؛ إذ هي حسّية ، والحواس تؤدي عن المحسوسات حقائقها ، فجعلها الله بحيث لا تؤدي ؛ لما قال : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) [الأنفال : ٤٢] ؛ فيحتمل أن يكون المراد مما ذكر من الآية في أمر الفئتين ـ هذا ، والله أعلم (٣).

وقوله : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ).

وفي بعض القراءات : «ترونهم» بالتاء (٤) : يرى المؤمنون أولئك مثلي أنفسهم لا أكثر ، وهم كانوا ثلاثة أمثالهم ، على ما روي في القصة (٥) ؛ وهذا لما جعل الحق عليهم قيام الواحد من المسلمين بالاثنين منهم ، مع ضعفهم ؛ لجهدهم في العبادات ، وبلوغهم الغاية من احتمال الشدائد والمشقات.

__________________

(١) أخرجه أحمد (٥ / ٤٣١) ، والنسائي في الكبرى (٦ / ٣٥٠) كتاب التفسير : باب قوله ـ تعالى ـ : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) [الأنفال : ١٩] ، (١١٢٠١) ، والحاكم في المستدرك (٢ / ٣٢٨) ، والبيهقي في الدلائل (٣ / ٧٤) من طرق عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير قال : كان المستفتح يوم بدر أبو جهل ، وإنه قال حين التقى القوم : اللهم أينا كان أقطع للرحم وآتى لما لا نعرف فاحنه الغداة ، وكان ذلك استفتاحه ، فأنزل الله (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. واحنه : أهلكه.

(٢) العير ـ بالكسر ـ : القافلة أو العير : الإبل التي تحمل الطعام. ينظر : تاج العروس (١٣ / ١٧٥) (عير).

(٣) في ب : الموفق.

(٤) قرأ نافع ويعقوب وسهل : «ترونهم» بالتاء على الخطاب ، وقرأ باقي السبعة بالياء على الغيبة ، وقرأ ابن عباس وطلحة «ترونهم» بضم التاء على الخطاب. راجع : البحر المحيط لأبي حيان (١ / ٤١١) السبعة لابن مجاهد (ص : ٢٠١) ، الحجة لابن خالويه (ص : ١٥٤) ، إتحاف فضلاء البشر للبنا (١ / ٤٧٠).

(٥) قاله الربيع بن أنس ولفظه بعد أن ذكر الآية : «كان ذلك يوم بدر ، وكان المشركون تسعمائة وخمسين رجلا ، وكان أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا».

أخرجه الطبري (٦ / ٢٣٧) ، رقم (٦٦٨٨) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٩٨) ، رقم (١٦٦).

٣٢٠