تأويلات أهل السنّة - ج ٢

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة - ج ٢

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٧٣

قيل : إنه لم يرو أنه فيم قضى فى الأموال أو فى غير الأموال فإن ثبت أنه فيم قضى لكنا نقضى به.

ثم قال الصحابة : رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، أنه قضى بالشاهد واليمين فى

__________________

 ـ عثمان بن الحكم الجذامى حدثنى زهير بن محمد عن سهيل بن أبى صالح عن أبيه عن زيد بن ثابت «أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى باليمين مع الشاهد».

والحديث ذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد (٤ / ٢٠٥) ، وقال : وفيه عثمان بن الحكم الجذامى ، قال أبو حاتم : ليس بالمتقن وبقية رجاله ثقات.

 ـ حديث جابر :

أخرجه أحمد (٣ / ٣٠٥) ، والترمذى (٣ / ٦٢٨) كتاب : الأحكام ، باب : اليمين مع الشاهد ، حديث (١٣٤٤) ، وابن ماجه (٢ / ٧٩٣) كتاب : الأحكام ، باب : القضاء بالشاهد واليمين ، حديث (٢٣٦٩) ، والطحاوى فى شرح معانى الآثار (٤ / ١٤٤ ـ ١٤٥) ، والدارقطنى (٤ / ٢١٢) كتاب : الأقضية والأحكام ، حديث (٢٩) ، وابن الجارود فى المنتقى (١٠٠٨) ، والبيهقى (١٠ / ١٧٠) كتاب : الشهادات ، باب : القضاء باليمين مع الشاهد ، من طريق عبد الوهاب الثقفى : ثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى باليمين مع الشاهد» ، وقد خولف عبد الوهاب الثقفى فى هذا الحديث ، فخالفه الإمام مالك فرواه عن جعفر بن محمد عن أبيه مرسلا أخرجه مالك (٢ / ٧٢١) كتاب : الأقضية ، باب : القضاء باليمين مع الشاهد ، حديث (٥) ، والطحاوى فى شرح معانى الآثار (٤ / ١٤٥) عن جعفر بن محمد عن أبيه مرسلا ، وقد توبع مالك على ذلك ، تابعه سفيان الثورى ، أخرجه الطحاوى (٤ / ١٤٥) ، وتابعه إسماعيل بن جعفر.

أخرجه الترمذى (٣ / ٦٢٨) كتاب : الأحكام ، باب : اليمين مع الشاهد ، حديث (١٣٤٥).

وقال : وهذا أصح ـ يعنى مرسلا ـ ا. ه.

لكن عبد الوهاب لم ينفرد بوصل الحديث كما قال البيهقى ، وقد روى عن حميد بن الأسود ، وعبد الله العمرى ، وهشام بن سعد وغيرهم عن جعفر بن محمد كذلك موصولا. ا ه.

وللدارقطنى كلام ذكره فى علله فى ترجيح الموصول ، قال الزيلعى فى نصب الراية (٤ / ١٠٠) :

وقد أطال الدارقطنى الكلام على هذا الحديث فى كتاب العلل ، قال : وكان جعفر بن محمد ربما أرسل هذا الحديث وربما وصله عن جابر ؛ لأن جماعة من الثقات حفظوه عن أبيه عن جابر والقول قولهم ؛ لأنهم زادوا وهم ثقات ، وزيادة الثقة مقبولة ا ه.

 ـ حديث سعد بن عبادة :

أخرجه الترمذى (٣ / ٦٢٧) كتاب : الأحكام ، باب : ما جاء فى اليمين مع الشاهد ، حديث (١٣٤٣) ، والدارقطنى (٤ / ٢١٤) كتاب : الأقضية والأحكام ، حديث (٣٧) ، والبيهقى (١٠ / ١٧١) كتاب : الشهادات ، باب : القضاء باليمين مع الشاهد ، من طريق ربيعة بن أبى عبد الرحمن قال : وأخبرنى ابن سعد بن عبادة قال : «وجدنا فى كتاب سعد أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى باليمين مع الشاهد».

وله طريق آخر :

أخرجه الطبرانى فى الكبير (٦ / ١٦) رقم (٥٣٦١) ، والبيهقى (١٠ / ١٧١) كتاب : الشهادات ، باب : القضاء باليمين مع الشاهد ، من طريق سعيد بن عمرو بن شرحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة عن أبيه عن جده «أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى باليمين مع الشاهد».

٢٨١

الأمان.

ونحن نقضى بعض أحكام الأمان بالشاهد الواحد إذا كان عدلا. واليمين باب ما يحتاط فيه إذا شهد شاهد أنه أمنه لم يقبل ، ولكن يسترق. وأما الأموال فإن الاحتياط فى ذلك ترك القضاء إلى أن تقوم الحجة التى تزيل الشبهة من جميع الوجوه. وبالله التوفيق.

وأما شهادة النساء : فإنها جائزة فى الأموال وفى غير الأموال إلا فى الحدود خاصة ، فإنها غير مقبولة. أما جوازها فى غير الحدود ؛ لأن الله تعالى ذكر التداين ، وذكر فى التداين الأجل ، والأجل ليس بمال. ثم أجاز شهادتهن فى التداين وفى الأجل الذى ليس هو بمال ؛ دل ذلك أن علة جواز شهادتهن ليس هو المالية نفسها ، وأجيزت شهادتهن فيما لا مالية فيه وهو الأجل ؛ فظهرت أن علتها ليست مالية.

وأما بطلان شهادتهن فى الحدود ؛ فلأن شهادتهن إنما أجيزت بحكم البدل عن شهادة الرجال ، والأبدال فى الحدود غير مقبولة نحو الوكالات والكفالات ؛ فعلى ذلك شهادتهن لما كانت جوازها بحكم البدل لم تقبل ، ولأنهن جعلن على السهو والغفلة ونقصان العقل والدين ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنهن ناقصات عقل ودين» (١). فإذا كان كذلك أورث ذلك شبهة فى الحدود ، والحدود مما يبتغى فيها الدرء ؛ لذلك لم تقبل. والله أعلم.

ولأن شهادتهن إنما ذكرت فيما يبتغى (٢) به الإعلام والإعلان ، لا الإسرار. فعلى ذلك تقبل شهادتهن فيما يبتغى ذلك المعنى. وأما الحدود وما يلزم بها ذلك إنما يبتغى (٣) فى ذلك الإسرار والستر ؛ لذلك قلنا بأن شهادتهن تجوز فى النكاح والطلاق والعتاق ؛ لأن النكاح يبتغى فيه الإعلان على ما جاء : «أعلنوا النكاح» ؛ لذلك قبلت. والله أعلم.

ومعنى آخر : أن الخصم أجاز شهادة النساء بالانفراد فى كل شىء ما خلا الحدود والقصاص ؛ لذلك قبل بالرجال. ولأن شهادة النساء أجيزت فى الأصل توسيعا ، فلا يجوز أن ترد فيما يتوسع ، وتقبل فيما يضيق ، وأمر النكاح والطلاق فى الشهادة أوسع ، فهو أحق أن يقبل.

وقوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ)

فإن قال قائل : كيف جاز استشهاد المرأتين عند وجود الرجلين؟ والله أمر باستحضار الرجلين عند الحاكم للشهادة ، لا أمر بالإشهاد عليها ؛ لذلك قال عزوجل : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا

__________________

(١) تقدم.

(٢) فى أ : ينبغى.

(٣) فى أ : ينبغى.

٢٨٢

رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ).

أى : لا تكلف النساء حضور أبواب القضاة ومجلسهم لأداء الشهادة إلا عند العجز عن وجود الرجل ؛ لما فى ذلك هتك أستارهن ، وكشف عورتهن. والله أعلم.

والثانى : أن الله تعالى ذكر امرأتين وأقامهما مقام رجل فائت ، والرجل الذى قامت امرأتان مقامه هو فائت أبدا غير موجود ، إذ له أن يشهد عددا على ذلك الحق ؛ لذلك جازت شهادتهن وإن كان هناك رجلان. والله أعلم.

فإن قيل : ما الحكمة فى ذكر رجلين دون ذكر العدد ، أو ذكر واحد؟

قيل : لوجوه :

أحدها : ذكر على قدر الأشياء ومراتبها عند الناس ، إذا كان أمرا عظيما فظيعا لا تقبل فيه إلا شهادة عدد ، نحو الزنى ، كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) [النور : ٤]. وإذا كان خسيسا سهلا عند الناس قبل قول الفرد حرّا كان أو عبدا ، من نحو الاستئذان للدخول على آخر ونحوه. ثم الأموال وغيرها هى المتوسطة المترددة بين هذين ، فقبل الوسط من الشهادة ، ولم يقبل دونها. والله أعلم.

ووجه آخر : قيل : إنه ذكر ذلك عبادة ، لا لمعنى المودع فيه ، ولكن سمعا ، فهو على ما ذكر ، لا يطلب معناه.

والثالث : أن الواحد لم تقبل شهادته فى الحقوق بالانفراد ؛ لأنه ينتفع بها. لأن من صدق فى قوله يتلذذ بتصديقهم إياه. فعلى ذلك لم يقبل قول المدعى فى دعواه وإن كان عدلا ، لما ينتفع بالتصديق وقبول قوله فيه. فإذا كانا اثنين صار تلذذ كل واحد منهما وانتفاعه لصاحبه ؛ فحصلت الشهادة خالصة صافية ؛ فقبلت. والله أعلم.

والرابع : أن الإنسان مطبوع على السهو والغفلة ، فإذا كان فردا يخاف عليه النسيان ؛ أمر بضم آخر إليه ليذكر كل واحد منهما صاحبه إذا نسيه. وعلى ذلك يخرج قوله : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) لما ذكر أنهن جبلن وطبعن على فضل السهو والغفلة ، أمر بضم غيرها إليها إذا سهت وغفلت عنها.

ثم اختلف فى قوله : (شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) :

قال أصحابنا ـ رحمهم‌الله تعالى ـ : يرجع الخطاب إلى الأحرار خاصة دون العبيد والكفرة. أما الكفرة ؛ فلأن الخطاب فى الابتداء للمؤمنين بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا

٢٨٣

تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ ..). الآية ؛ فخرج الكفار من خطاب الآية ؛ لذلك لم تقبل شهادتهم على أهل الإسلام.

وأما العبيد فلم يدخلوا تحت هذا الخطاب لوجوه :

أحدها : ما ذكرنا : أن ظاهر الخطاب للأحرار دون العبيد ، لما لا يملكون هم التداين والتبايع ؛ فعلى ذلك خطاب الشهادة.

فإن قيل : أليس العبيد يملكون التبايع والتداين؟ قيل : يملكون بالإذن والتولية لا بملك أنفسهم فذلك القدر من التداين وغيره ، يملك الكفار ، ثم لم يجب قبول شهادتهم ، ولا دخلوا تحت ذلك الخطاب ؛ فكذلك العبيد.

والثانى : ما قاله عزوجل : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) ، ثم لا يملك العبيد الإجابة لكل ما دعوا لحق السادات ؛ فعلى ذلك ليس عليهم الإجابة فى الشهادة لحق السادات. والله أعلم.

والثالث : أن الله تعالى قسم الشهادة قسمة الميراث بقوله : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) ، وقال فى الميراث : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء : ١١] ، ثم لا حظ للعبيد فى الميراث ؛ فعلى ذلك لا حظ لهم فى الشهادة.

والرابع : أن الشهادات تجرى مجرى الولايات والتمليكات ، ثم لا ولاية تكون للعبد على غيره ولا تمليك ؛ فعلى ذلك الشهادة ، إذ فيها ولاية وتمليك الحاكم الحكم. والله أعلم. وعلى هذا بطلت شهادة الكفار على أهل الإسلام لما لا ولاية لهم عليهم.

والخامس : أن الشهود بين حالين : بين أن يصدقوا فتمضى شهادتهم ، وبين أن يكذبوا فيضمنوا. ولما كان العبيد إذا كذبوا فى شهادتهم لم يضمنوا ؛ لأن ضمان الشهادة ضمان معروف ؛ لأنه لا بدل له بإزاء من لم يكن من أهل الشهادة ؛ دل أنهم ليسوا من أهل الشهادة.

وعلى ذلك قلنا : إن النكاح يجوز بشهادة الفاسق والمحدود فى القذف ، وأنهما من أهل الشهادة فيه ؛ لأنهما من أهل الضمان ، وإن كانت شهادتهما ردت لتهمة الكذب فى سائر الحقوق. وأما العبد : فليس هو من أهل الشهادة بحال ، للمعنى الذى وصفنا. والله أعلم.

وإلا القياس يقتضى أن تجوز شهادة العبيد ؛ لأنها من حق الله ، ودليله قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) [الطلاق : ٢] ، وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) [المائدة : ٨]. فإذا كانت من حق الله تعالى ، وحقوق الله تعالى لا يختلف

٢٨٤

العبيد والأحرار فيها ، فيجب أن تقبل شهادتهم ، لكنها لم تقبل للوجوه التى ذكرناها. والله أعلم.

وقوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) ، إلى أن قال : (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) :

قد ذكرنا فيما تقدم أنهن لما جبلن وطبعن على فضل سهو وغفلة ، ضمت إليها أخرى لتذكرها الشهادة إذا نسيت.

وفى الآية دلالة أن الرجل إذا نسى الشهادة ، ثم ذكر فتذكر ، يجوز أن يشهد. وأما إذا أخبر بالشهادة ولم يتذكر ، لم يجز له أن يشهد ؛ لقوله : (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) ، إذ لم يقل : «فتخبر إحداهما الأخرى».

وقوله تعالى : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) :

فيه دلالة أن من المسلمين من لا يكون مرضيّا ، وكذلك فيهم من يكون عدلا ومن لا يكون عدلا ، دليله قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق : ٢] ، لأنه لو لم يكن فيهم مرضيا وغير مرضى لكان يقول : «وأشهدوا رجلين منكم» ، ولم يشترط فيه العدالة والرضاء.

وهو على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : المسلم لا يكون غير عدل ولا غير مرضى. وفى الآية التى ذكرنا دلالة ما قلنا. والله أعلم.

وفى قوله : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) ، دلالة أن الشهود إذا شهدوا على المدعى عليه بالحق ، وهم مرضيون عنده ، يجب أن يؤدى إليه حقه ؛ لأنا قلنا : إن قوله : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) ، أمر باستحضارهم عند الحاكم ، فإذا كان كذلك فهو دليل ما قلنا. والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) :

اختلف فيه :

قيل : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) للإشهاد.

وقيل (١) : لا يأبوا إذا ما دعوا للأداء. وهذا أشبه ؛ لأن للشهود أن يقولوا : أحضر الخصم هاهنا لتشهدنا عليه ، فإنا لا نحضر المكان الذى هو فيه. وليس هذا القول فى الأداء ، إذ الأداء لا يكون إلا عند الحاكم ؛ لذلك كان أولى ، كقوله تعالى : (وَلا تَكْتُمُوا

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٦٣٦٦).

٢٨٥

الشَّهادَةَ) ، ولا يجد من يشهدهم ، ولا يجد من يشهد له غيرهم. والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ) :

فيه دلالة جواز السلم فى الثياب ؛ لأن ما يكال ويوزن لا يقال فيه : «الصغير والكبير» ، ولا يكتب : «صغيرة وكبيرة» ، إنما يقال ذلك فى العددى.

وقوله تعالى : (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) ، يقول : أعدل عند الله ، (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) ، فى الحجة.

وقوله تعالى : (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) :

أقرب إلى دفع الظنون والشكوك التى تحملكم على التناكر والتنازع الذى عاقبته الفسخ ؛ ولهذا ما أمر عزوجل بالكتابة فيه والإشهاد ، وذكر كل صغير وكبير ، لئلا يقع بينهم فى العاقبة تنازع وتناكر ، فيحمل ذلك الحاكم على فسخ العقد بينهما. وعلى ذلك نصبوا الأجل فيه شرطا لقطع وقوع التنازع والتناكر الذى حكمه الفسخ فى العاقبة (١). والله أعلم.

وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ ..). الآية :

استثنى عزوجل التجارة الحاضرة بترك الكتابة والإشهاد والرهن وغيره ، وذلك لما ذكرنا آنفا أن الديون والقروض تنسى وتشتبه على الناس ؛ فلذلك أمر بالكتابة فيها ، والإشهاد ، ولا كذلك التجارات الحاضرات ، وعلى ذلك أمر ظاهر بين الناس أنهم يكتبون ويشهدون فى الديون والقروض ، ولم يعلموا ذلك فى التجارات الحاضرات الجاريات فيما بينهم ، لارتفاع ما يخاف وقوعه فى الديون والقروض وخلائها عن ذلك. والله أعلم.

وقوله : (تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) :

يقول : يدا بيد وليس فيها إيجاب القبض على المجلس.

وقوله (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) :

أمر عزوجل بالإشهاد [فى التجارة الحاضرة ، ولم يأمر بالكتابة ، وأمر فى التداين بالكتابة والإشهاد](٢) جميعا ؛ فالأمر بالكتابة لمحافظة الحقوق ومعاهدة كل قليل وكثير فيه ، وأما الأمر بالإشهاد للأدب ، والأمر بالرهن أمر بالوفاء ، والرهن والكتابة والإشهاد كل ذلك يمنع صاحبه عن الإنكار والجحود ، ويذكر عند النسيان والسهو. ذلك كله لقطع التنازع الواقع فيما بينهما فى المتعقب. والله أعلم.

__________________

(١) فى ب : الآخرة.

(٢) ما بين المعقوفين سقط فى أ ، ط.

٢٨٦

وقوله : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) اختلف فيه :

قال بعضهم : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) لا يشغل الكاتب ولا الشهيد ، فيقول له : اكتب لى كذا ، واشهد لى على كذا ، وهو يجد غيره.

وقال آخرون (١) : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) أى لا يضار كاتب صاحب الحق ، فيكتب ما لا ينبغى أن يكتب بالزيادة والنقصان ، وكذلك الشاهد لا يزيد على الحق ولا ينقص من الحق شيئا ، ولا يكتم الشهادة أيضا. فهذا أقرب. والله أعلم.

فإن قيل : إذا كان المعنى راجعا إلى ما ذكرت ألا يزيد الكاتب ولا ينقص ألا قال : لا يضار بالرفع؟

قيل : إنه لا يضاره فطرحت إحداهما فإذا طرحت انتصبت علامة للطرح إذ هكذا عمل الإضمار.

وعن ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : «الإضرار أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غنى : إن الله أمرك ألا تأبى إذا ما دعيت فتضاره بذلك».

وقوله : (وَإِنْ تَفْعَلُوا) أى : تضاروا فإنه فسوق بكم ؛ هذا يدل على أن التأويل هو ما ذكرنا من النهى عن الزيادة والنقصان والتحريف والكتمان ؛ إذ فى ذلك خروج عن الأمر.

والفسق هو الخروج عن الأمر كقوله (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف : ٥٠] وهو على المعتزلة ؛ كقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) فى المضارة من الزيادة والنقصان والكتمان (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) الحكم والأدب وما يحل وما لا يحل (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) حرف وعيد.

وقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ).

قد ذكرنا فيما تقدم فى الأمر بالكتابة والإشهاد : أنهما ـ والله أعلم ـ لحفظ الحقوق ، ما جل منها وما دق ، وألا يحملهم على الإنكار والجحد ، وأن يذكرهم ذلك حتى لا ينسوا ، فعلى ذلك الأمر بالرهان لئلا يؤخر قضاء الدين ويذكرون ولا ينسون ، والله أعلم.

ثم فيه دلالة ألا يجوز الرهن إلا مقبوضا ؛ لأن الرهن يقبض لأمرين :

أحدهما : لأنه إذا كان مقبوضا محبوسا عن صاحبه عن جميع أنواع منافعه ذكره وتقاضاه لقضاء دينه ، وإذا كان فى يديه لم يتقاضاه على ذلك ؛ لذلك قلنا : إنه لا يجوز إلا

__________________

(١) قاله قتادة بنحوه ، أخرجه ابن جرير عنه (٦٤٠٧).

٢٨٧

مقبوضا.

والثانى : أنه إنما يقبض ليستوفى منه الدين ، ولا يستوفى إلا بعد القبض ، أو يأخذ ليأخذ الدين منه من غير بخس فيه ولا منع عنه.

ووجه آخر ـ فيما لا يجوز الرهن إلا مقبوضا ـ لأنه جعل وثيقة ، فلا جائز أن يكون وثيقة وهو فى يدى الراهن غير محبوس ولا ممنوع عن منافعه ؛ فدل ما ذكرنا من طلب الناس بعضهم من بعض الرهون ، أنهم طلبوا وثيقة. فإذا كان وثيقة فهو إنما يكون وثيقة إذا كان فى يدى المرتهن محبوسا عن صاحبه. ألا ترى أن الكاتب أمر بأداء الأمانة إذا أمن بعضهم بعضا بغير رهن ، فلو كان الرهن يكون رهنا فى يدى الراهن لذكر فيه أداء الأمانة فى الرهن ، ولم يكن لذكر القبض وجه ؛ لذلك قلنا : إن الرهن لا يجوز إلا أن يكون مقبوضا محبوسا عن منافع صاحبه.

وقوله : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) فيه دلالة ضمان الرهن دلالة استيفاء الدين من الرهن ؛ لأنه إنما ذكر الأداء فيما أمن بعضهم بعضا بلا رهن ، ولم يذكر الأداء فيما فيه الرهن ، فلو لا أن جعل فى الرهن استيفاء الحق والدين وإلا لذكر الأداء فيه كما ذكر فى الرهن فدل أنه مضمون به إذا هلك ، هلك به. والله أعلم.

وأيضا قوله : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) فيه دليل لقولهم فى الشركات : إنه يكتب اشتركا على تقوى الله وأداء الأمانة [؛ لأن كل واحد منهما أمين فى ذلك ، لذلك ذكر فيه تقوى الله وأداء الأمانة](١) كما ذكر ـ عزوجل ـ تقوى الله وأداء الأمانة فيما اؤتمن.

وقوله : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) ذكر إثم القلب ، والإثم موضعه القلب لكنه يشيع فى الجوارح ويظهر على ما روى : «إن فى النفس مضغة إذا صلحت صلح البدن ، وإذا فسدت فسد البدن».

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : وفيه دلالة أن المأثم تعمد القلوب بأى شىء كان ؛ فلذلك وصف القلب بأنه آثم ؛ وهو كقوله : (يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) ، وكذا قوله (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) الآية.

قوله تعالى : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤) آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط فى ط.

٢٨٨

إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(٢٨٦)

وقوله تعالى : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

هو ظاهر ، إذ ما فى السموات والأرض كلهم عبيده وإماؤه ، ردّا على قولهم : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] ، و (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] ، و «الملائكة بنات الله». وقد ذكرنا الوجه فيما تقدم فى غير موضع.

وقوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ).

ومن الناس من استدل على نسخها بقوله : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ، لكنه لا يحتمل ؛ لأن الآية وعد وخبر بالمحاسبة ، والوعد لا يحتمل النسخ ؛ لأنه خلف وبداء ، وذلك ممن يجهل بالعواقب ، تعالى الله عزوجل عن ذلك علوا كبيرا.

ثم اختلف فيه :

قال الحسن : هو على ما عزم لا على ما خطر بالنفس. وكذا قوله : «من هم». ويحتمل : أن يكون على التقديم والتأخير : إن تخفوا ما فى أنفسكم أو تبدوه يحاسبكم به الله.

ويحتمل أيضا : إن تبدوا ما فى أنفسكم أو تخفوه وعزمتم عليه وعقدتم ، لا على الخطر فيه أو حديث النفس ، على ما روى : «من هم بحسنة فله كذا ، ومن هم بسيئة فكذا» ، ليس على ما يخطر فيه أو حديث النفس ، على ما روى ، وتحدث النفس به ، ولكن على العزم عليه والاعتقاد. وكذلك قوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) [يوسف : ٢٤] ، همت هى به هم عزم ، وهو هم بها هم خطر. والمرء غير مؤاخذ بما يخطر فى القلب وتحدث النفس به ، إنما يؤاخذ على ما عزم واعتقد عليه. والله أعلم.

وقوله تعالى : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

فيه دليل ما قلنا : إنه على العزم والاعتقاد عليه ؛ لما ذكرنا من العفو والعقوبة عليه.

وقوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ).

قوله : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) ، يحتمل وجهين :

٢٨٩

يحتمل : آمن بنفس المنزل (بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) ، أنه من عند الله وكذلك (وَالْمُؤْمِنُونَ) أيضا آمنوا بما أنزل إليه أنه من عند الله تعالى.

ويحتمل : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) ، أى : آمن الرسول بما فى المنزل إليه ، وكان فيه ما ذكر : (آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) إلى قوله : (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) ، وكذلك «المؤمنون» آمنوا بجميع ما فى المنزل ، وهو ما ذكرنا.

وفيه دليل أن الإيمان بالمنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيمان بجميع الرسل والكتب كلها والملائكة والبعث والجنة والنار.

وفيه دلالة نقض قول من يشك فى إيمانه ويستثنى ؛ لأنه عزوجل شهد لهم بالإيمان ، فلا يخلو الاستثناء : إما أن يكون لشكهم فى إتيان (١) ما أمروا ، أو فى الذى أخبر الله عنه بما كان ، ففيه الويل لهم.

وفيه دلالة نقض قول المعتزلة ؛ لأنه شهد لهم بالإيمان ، وهم نفوا عنهم الاسم (٢) الذى شهد الله لهم بالإيمان به ، وبالذى ذكر ، وكل صاحب كبيرة مؤمن بجميع ما ذكر ، وقد سماهم الله به مؤمنين ، وشهد لهم به. والله الموفق.

فإن قيل : فقد ذكر الطاعة فى آخرها.

قيل : ذكر الطاعة فى الإجابة ، وبتلك الإجابة شهد لهم ؛ فيلزمهم ما شهد الله لهم جل وعلا بما أجابوا. والله أعلم.

وقوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)

ويحتمل : أن يكون هنا خبرا أخبر الله عزوجل عن المؤمنين أنهم قالوا : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) كما فرق اليهود والنصارى.

وقوله تعالى : (... وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا).

يحتمل : (سَمِعْنا) قولك ودعاءك ، و (أَطَعْنا) ، أى : أطعناك فى الإجابة.

ويحتمل : (سَمِعْنا) القرآن ، و (وَأَطَعْنا) ، أى : أطعنا ما فيه. والله أعلم.

وقوله تعالى : (... غُفْرانَكَ رَبَّنا).

أى : اغفر لنا ربنا

(وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)

أى : المرجع.

__________________

(١) فى أ : إيتاء.

(٢) فى ب : لأيهم.

٢٩٠

وهذه الآية جمع جميع شرائط الإيمان ؛ لذلك قلنا : إن الإيمان بالقرآن إيمان بجميع الكتب والأنبياء والبعث وغيره. وبالله العصمة والنجاة.

وقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)

اختلف فيه :

قال الحسن : قوله تعالى : (إِلَّا وُسْعَها) ، إلا ما يحل ويسع ، لكن بعض الناس يقولون : هذا بعيد ، لا يحتمل الآية ، إذا كلف حل ووسع. فإذا كان كذلك لم يكن لقوله معنى.

قيل له : هو كقوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) ، إذا أحل طيّب وإذا طيب أحل. فكذا الأول. وكذا ذكرنا (١) الأمرين جميعا.

وتأويل ثان (إِلَّا وُسْعَها) : إلا طاقتها وكذلك قول المعتزلة : [غير أنا اختلفنا فى تقدم استطاعة الأفعال فمنعنا نحن تقدمها وقلنا لا تكون إلا مع الفعل ، وقالت المعتزلة](٢) بتقدم الفعل ، وأما عندنا : فإنها على وجهين :

استطاعة الأحوال والأسباب ، واستطاعة الأفعال.

أما استطاعة الأحوال والأسباب : فإنها يتقدمها ، وعلى ذلك يقع الخطاب ، دليله : قوله عزوجل : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧]. قيل : يا رسول الله ما الاستطاعة؟ قال : «الزاد والراحلة». ثم كل يجمع أن من كان بأقصى بلاد المسلمين قد يلزمه فرض الحج ، على علم كل منهم أن تلك الاستطاعة لو صرفت إلى استطاعة الأفعال لم يبق إلى وقت وجود الأفعال ، ثم قد لزمه ذلك ؛ فبان أن الكلفة إنما تقع على استطاعة الأحوال والأسباب ، وكذلك الكلفة فى جميع الطاعات.

فإن قيل : قد يقع هذا على الخروج ، فيوجد الفعل عقيب قوة الخروج ، قيل : لو كان كذا لكان لا يلزم فرض الحج إلا بالخروج ، وله ترك الخروج ، إذ باكتساب الخروج يلزمه فرض الحج ، فلا يلزم عليه فرض الحج ؛ فثبت أنه لا يحتمله ، بل هو على ما قاله أصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ : إنها استطاعة الأحوال [والأسباب](٣) ، وتلك تتقدم ، لما ذكرنا. والله أعلم.

وأما استطاعة الأفعال : فإنها تحدث بحدوث الأفعال وتتلو كالأوقات التى لا تبقى فى

__________________

(١) فى أ ، ب : وقد ذكر.

(٢) ما بين المعقوفين سقط فى أ ، ط.

(٣) سقط فى ب.

٢٩١

وقت ثان ، فهى كالوقت الذى لا يبقى فى وقت ثان. والله أعلم.

فإن سئلنا عن التكليف : أيكون فيما لا يطاق؟

فجوابنا : أنه فيما منعنا عنه فلا. وفيما لم نمنع ، وصنيعنا يشغلنا بغيره ، فبلى. ثم الكافر بما أعطى من القوة والاستطاعة ، شغل نفسه بغير وضيع ما أعطى من القوة. فإذا ضيع لم يكن تكليف ما لا يطيق ثم ننظر أينا أحق بالقول بتكليف ما لا يطاق.

فمن قول المعتزلة : إن القوة على الفعل ليوجده فى الوقت الثانى. ثم فى الوقت الثانى جعلوه غير قادر عليه بقدرة توجد ، ثم جعلوه أيضا غير قادر على الترك للفعل. والمتعارف من الأمر فى الظاهر بشيء يفعله فى وقت ألا يقع الأمر به وقت ما يسمعه ويقرع الخطاب السمع ، بل فى ثان من الوقت. فحصل عندهم الأمر على الوقت الذى هو غير قادر فيه. فأى تكليف على فقد الطوق والوسع أبين مما قالوا؟! وبالله التوفيق.

ثم أفحش من هذا ما قالوا : إن القدرة تتقدم الفعل ، والفعل هو الذى يدل على وجود الولاية ، وهو فى وقت إيجاد الفعل ، إن كان كفرا يعادى ، وإن كان إيمانا يوالى. فحصل القول : على أن الموالاة والمعاداة أبدا تقع فى غير وقت الانتهاء والائتمار.

ثم قولهم فى قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩] ، أنه على الجبر. ولا يحتمل ذلك ؛ لأنه قد أوجب لكل ذلك مرة بالجبر فى الخلقة ، وهو قوله : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [آل عمران : ٨٣] ، فقد ألزمهم الإسلام بالخلقة ، بان أن الثانى على الاختيار.

ثم قولهم : فى استطاعة واحدة لفعلين خطأ ؛ لأن من قولهم : إن الاستطاعة لا تبقى ، ثم وجود الفعلين معا فى وقت باستطاعة واحدة محال ، ووجود تلك الاستطاعة لأحد الفعلين بعدم الآخر مستحيل لعدم البقاء ، ووجوده عندهم على البدل (١) محال ، إذ جعلوا عين ما هو الأصل لأحدهما للآخر ؛ فثبت أنه خطأ.

وقوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ)

فيه دلالة : أن الله تعالى إنما يأمر عبيده وينهى ، وإنما يأمر وينهى ؛ لمنافع لهم ولضرر يلحقهم ، لا لمنافع تكون له بالأمر فيأمر ، أو بضر يلحقه فينهى عن ذلك. فيكون الأمر جارّا منفعة ، وفى النهى دافعا مضرة. كما يكون فى الشاهد أن من أمر آخر بشيء إنما يأمر

__________________

(١) فى ط : البعض.

٢٩٢

لمنفعة تتأمل فيه ، وينهى عن شىء لدفع ضرر يخافه. وتعالى الله عن ذلك.

وقوله تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا).

قيل فيه بوجهين :

قيل : (إِنْ نَسِينا) يعنى : تركنا ، كقوله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ). وكقوله : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) [طه : ١١٥] ، أى : ترك.

وقوله : (أَخْطَأْنا) ، يعنى : ارتكبنا ما نهيتنا.

وقيل (١) : إنه على حقيقة النسيان والخطأ ، كأنه على الإضمار أن قولوا (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا ..). الآية.

ثم اختلف بعد هذا :

قالت المعتزلة : أمر بالدعاء بهذا تعبدا أو تقربا إليه. وكذلك قوله تعالى : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) [آل عمران : ١٩٤] ، وكذلك قوله : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) [الأنبياء : ١١٢] ، ونحوه ، خرج الدعاء به مخرج التعبد والتقرب ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر أن لا يؤاخذنا بالنسيان والخطأ (٢) ، وأخبر أنه لا يخلف الميعاد ، وكذلك معلوم أنه لا يحكم إلا بالحق. وكذلك قوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [محمد : ١٩] وقد أخبر أنه تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، ولكنه على ما ذكرنا ، وإلى هذا يذهب المعتزلة.

وأما الأصل عندنا فى هذا : أنه جائز فى الحكمة أن يعاقب على النسيان والخطأ ، ليجتهدوا فى حفظ حقوقه وحدوده وحرماته لئلا ينسوا. ألا ترى أن الله تعالى أوجب على قاتل الخطأ الكفارة ، ثم قال : (تَوْبَةً مِنَ اللهِ) [النساء : ٩٢] ، فلو لم يجز (٣) أن يعاقب على النسيان والخطأ ، لم يكن لوجوب الكفارة عليه والتوبة معنى ؛ دل أنه جائز فى الحكمة المؤاخذة به.

والثانى : قوله عزوجل : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ) [الكهف : ٦٣] ، وفعل الشيطان

__________________

(١) قاله ابن زيد بنحوه ، أخرجه ابن جرير عنه (٦٥٠٦).

(٢) أخرجه ابن ماجه (١ / ٦٥٩) كتاب : الطلاق ، باب : طلاق المكره والناسى ، حديث (٢٠٤٥) ، والعقيلى فى الضعفاء (٤ / ١٤٥) ، والبيهقى (٧ / ٣٥٦ ـ ٣٥٧) كتاب : الطلاق ، باب : ما جاء فى طلاق المكره ، كلهم من طريق محمد بن المصفى ثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعى عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله تعالى تجاوز لأمتى عما استكرهوا عليه وعن الخطأ والنسيان».

(٣) فى ط : فلو كان لا يجوز.

٢٩٣

مما يتقى ويحذر ؛ لذلك كان ما ذكرنا ـ والله أعلم ـ لأنه لو اجتهد عن فعل السهو والنسيان سلم عنه ، فجائز أن يسأل السلامة عنهما ، إذ بالجهد يسلم عنه ، وبالغفلة يقع فيه.

والثالث : ما ذكرنا : أن النسيان هو الترك ، والخطأ هو ارتكاب المنهى ، والتارك لأمر الله ، والمرتكب لنهيه يستوجب العقاب عليه. والله أعلم. فيصبح الدعاء على ذلك ؛ لئلا يلحقهم العذاب بترك ذلك الأمر وارتكابه المنهى.

فإن قيل : ما معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»؟ (١)

قيل : إنما جاء هذا فى الكفر خاصة ، لا فى غيره ؛ وذلك أن القوم كانوا حديثى العهد بالإسلام ، يجرى على ألسنتهم الكفر على النسيان والخطأ ، وكذلك كانوا يكرهون على الكفر فيجرون على ألسنتهم الكفر مخافة القتل ، فأخبرهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ذلك مرفوعا عنهم.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله تعالى ـ : وبعد فإن فى الخبر العفو ، فيكون فى ذلك دليل جواز الأخذ ، ولعل الوعد بالعفو مقرونا بشرط الدعاء ؛ فلذلك يدعون. وذكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا بهذا ، فأجيب إلا أن يؤمر أحد أن يدعو ابتداء. والله أعلم.

وأما قوله تعالى : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) [آل عمران : ١٩٤] ، ففيه وجهان :

أحدهما : أنه وعد الرسل والمؤمنين جملة الجنة. فسؤال كل منهم أن يجعله من تلك الجملة التى وعدهم الجنة.

والثانى : يسأل الختم على ما به يستوجب الموعود.

وأما الأمر بالاستغفار : فهو يخرج على وجهين :

أحدهما : ما روى : «المؤذن يغفر له مد صوته» ، فهو على استيجاب أولئك المغفرة به ؛ فعلى ذلك استغفاره ، ليغفر به بعض أمته.

والثانى : أن المغفرة فى اللغة هى التغطية والستر ؛ فكأنه يسأل الستر عليه بعد التجاوز عنه.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله تعالى ـ : ثم الأصل أن الاستغفار هو طلب المغفرة ، فلو كان لا يجوز له التعذيب ، فيكون التعذيب [جورا] ، فيصير السؤال فى التحقيق سؤال ألا يجور ، وذلك مما لا يسع المحنة. وكذلك لو كان مغفورا له ، كان الحق فيه الشكر لما أنعم عليه ، وفى ذلك كتمان النعمة ، والمحنة بكتمان نعم الله وكفرانها محال ؛ لذلك لا

__________________

(١) تقدم.

٢٩٤

بد (١) أن يكون فى الآيات ما يتمكن معه المحنة من المعنى. والله أعلم.

وأما قوله عزوجل : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) قيل : الحق هاهنا هو العذاب ، كأنه أمره أن يسأل بإنزال العذاب عليهم.

وقيل : (احْكُمْ بِالْحَقِّ) ، أى احكم بحكمك الذى هو الحق.

فإذا كان ما ذكر محتملا ، دل أنه ليس على ما ذهب إليه أولئك. والله أعلم.

وقوله تعالى : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا).

قيل (٢) : «الإصر» ، هو العهد ، ويقول : لا تحمل علينا عهدا تعذبنا بتركه ونقضه كما حملته على الذين من قبلنا. وكان من قبلهم إذا خطّئوا خطيئة حرم الله عليهم على نحوها مما أحل لهم الطيبات ، كقوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء : ١٦٠] ، وكأصحاب الأخدود ، وغيرهم. فخاف المسلمون ذلك فقالوا : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) ، فى جرم أجرمناه فتحرم علينا الطيبات.

وأصل (٣) «الإصر» ، الثقل والتشديد (٤) الذى كان عليهم من نحو ما كان توبتهم الأمر بقتل بعضهم بعضا ، كقوله تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٥٤].

وقوله تعالى : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ)

يحتمل وجهين :

يحتمل : أن (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) من القتل والهلاك ، إذ فى ذلك إفناؤهم ، وفى الفناء ذهاب طاقتهم.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله تعالى ـ : أى مما نشتغل عما أمرتنا ، فيكون كالدعاء بالعصمة. والله أعلم.

ويحتمل : أن يراد به طاقة الفعل ، وهى لا تتقدم عندنا الفعل. والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَاعْفُ عَنَّا)

قيل : اتركنا على ما نحن عليه ، ولا تعذبنا.

وقوله تعالى : (وَاغْفِرْ لَنا).

أى : استر لنا. و «الغفر» ، هو الستر ؛ ولذلك يسمى المغفر «مغفرا» ؛ لأنه يستر. وستر

__________________

(١) فى ب : لا فرق.

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٦٥١٢) ، وعن قتادة (٦٥٠٩) ، ومجاهد (٦٥١٠ ، ٦٥١١) ، وغيرهم.

(٣) قاله الربيع ، أخرجه ابن جرير عنه (٦٥٢٠).

(٤) فى أ : والشدائد.

٢٩٥

الذنب هو أعظم النعم.

[وقوله تعالى : (وَارْحَمْنا)

أى : تغمدنا برحمتك ، لأنه لم ينج أحد إلا برحمتك](١).

وقوله تعالى : (أَنْتَ مَوْلانا)

قيل : أنت أولى بنا.

وقيل (٢) : أنت حافظنا.

وقيل (٣) : أنت ولينا وناصرنا. وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وقوله تعالى : (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)

يحتمل : الكفار المعروفين.

ويحتمل : الشياطين ، أى : انصرنا عليهم.

سورة آل عمران

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٧)

قوله : (الم. اللهُ).

قال بعضهم : تفسيره ما وصل به من قوله : (الم. ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ١ ـ ٢] : هو تفسير (الم) ، و (الم* اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : تفسير (الم) ، و (المص* كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١ ـ ٢] ، وجميع ما وصل (٤) به الحروف المقطعة فهو تفسيرها ، ولله أن يسمي نفسه بما شاء : سمى نفسه مجيدا ؛ كقوله : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) [البروج : ١٥] ،

__________________

(١) سقط فى ب.

(٢) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ٢٧٥).

(٣) قاله ابن جرير (٣ / ١٦٠).

(٤) في ب : وصف

٢٩٦

وسمّى القرآن مجيدا ؛ كقوله : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) [البروج : ٢١].

وقال بعضهم : الحروف المقطعة هي مفتاح السورة (١).

وقال آخرون : إن كل حرف منها اسم من أسماء الله تعالى (٢).

ومنهم من يقول بأنها من المتشابه التي لا يوقف عليها (٣).

ومنهم من يقول : هو على التشبيب (٤) ؛ إذ من عادة العرب ذلك ، وقد مضى الكلام فيه في قوله : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ١ ـ ٢] بما يكفي (٥).

وقوله : (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) :

هو الحيّ بذاته ، وكل حيّ سواه حيّ بحياة هي غيره (٦) ، فإذا كان هو حيّا بذاته لم

__________________

(١) قاله مجاهد بن جبر ، والحسن ، أما قول مجاهد فأخرجه الطبري في تفسيره (١ / ٨٧) (٢٠٥) ، وابن أبي حاتم في تفسيره (١ / ٢٩) رقم (٥١) وأبو الشيخ بن حيان كما في الدر المنثور للجلال السيوطي (١ / ٥٤) ، وأخرجه عنه أبو جعفر النحاس في معاني القرآن الكريم (١ / ٧٥) ثم قال : وقال أبو عبيدة والأخفش : هي افتتاح كلام. وينظر مجاز القرآن لأبي عبيدة (١ / ٢٨) ، ومعاني القرآن للأخفش (١ / ١٧٠).

(٢) قال بذلك ابن عباس أخرجه عنه الطبري (١ / ٨٧) ، وابن أبي حاتم (١ / ٢٧) ، وابن المنذر رقم (٤٤) ، وابن مردويه والبيهقي في كتاب الأسماء والصفات ؛ كما في الدر المنثور (١ / ٥٤). وقال بذلك أيضا عامر الشعبي أخرجه عنه ابن أبي شيبة في تفسيره وعبد بن حميد وابن المنذر كما في الدر المنثور (١ / ٥٤). وكذلك قال به قتادة أخرجه عنه عبد الرزاق وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (١ / ٥٤).

(٣) أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ بن حيان في التفسير كما في الدر المنثور للسيوطي (١ / ٥٦) عن داود ابن أبي هند قال : «كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور. قال : يا داود! إن لكل كتاب سرا ، وإن سر هذا القرآن فواتح السور ، فدعها وسل عما بدا لك».

(٤) ليفصل بين المنظوم من الكلام والمنثور من نحو الشعر ونحوه والتشبيب في الأصل : ذكر أيام الشباب واللهو والغزل ، وهو في الشعر يكون في ابتداء القصائد ، وإن لم يكن فيه ذكر الشباب. وفي اللسان : تشبيب الشعر : ترقيق أوله بذكر النساء ، وشبب بالمرأة : قال فيها الغزل والنسيب ، ويتشبب بها : ينسب بها. والتشبيب : النسيب بالنساء ، أي : بذكرهن.

تاج العروس للزبيدي (١٦ / ٩٦) (شبب).

(٥) ينظر : سورة البقرة آية (١).

(٦) الحياة : هي صفة أزلية تقتضي صحة الاتصاف بالعلم والإرادة والقدرة والسمع وغيرها.

وحياته ـ عزوجل ـ لذاته ليست بروح ، وذلك بعكس حياة الحوادث ؛ إذ هي لا لذاتها ، ولذلك كانت بروح الحياة في الحوادث كيفية يلزمها قبول الحركات الإرادية والحس ، وغير ذلك. ودليل وجوبها لله ـ عزوجل ـ اتصافه ـ سبحانه ـ بالإرادة والقدرة والعلم ، ومن كان كذلك وجبت له الحياة.

ولقد استدل العلماء على اتصاف الله ـ سبحانه ـ بالحياة بالآية التي معنا ، وكذلك استدلوا بقوله ـ تعالى ـ : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ)[طه : ١١١]

ينظر : حاشية البيجورى على الجوهرة ص (٦١) ، أصول الدين للبزدوى ص (٣٤).

٢٩٧

يوصف بالتغاير والزوال ، ولما كان كل حيّ سواه حيّا بغيره احتمل التغاير والزوال ؛ وكأن الحياة عبارة يوصف بها من عظم شأنه ، وشرف أمره عند الخلق.

ألا ترى أن الله ـ تعالى ـ وصف الأرض بالحياة عند نباتها ؛ لما يعظم قدرها ويشرف منزلتها عند الخلق عند النبات؟! وكذلك سمى المؤمن حيّا ؛ لعلوّ قدره عند الناس ، والكافر ميتا ؛ لدون منزلته عند الناس ؛ فكذلك الله ـ سبحانه ـ سمى [نفسه] حيّا ؛ لعظمته وجلاله وكبريائه ؛ وعلى هذا يخرج قوله في الشهداء ؛ حيث قال : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ) [البقرة : ١٥٤] ، أي : مكرمون معظمون مشرفون عند ربّهم.

وقوله : (الْقَيُّومُ) ، قال بعضهم : هو القائم على كل نفس بما كسبت (١).

وقال آخرون : القيوم : الحافظ (٢).

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : «هو الحيّ القيام» (٣) وكله يرجع إلى واحد : القائم.

والقيوم ، والقيام ، يقال : فلان قائم على أمر فلان ، أي : يحفظه حتى لا يغيب عنه من أمره شيء (٤).

وروي عن ابن عباس (٥) ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : «إنّ اسم الله الأعظم هو : الحيّ

__________________

(١) قال مجاهد : «القيوم» : القائم على كل شيء. أخرجه آدم بن أبي إياس والطبري والبيهقي في الأسماء والصفات كما في الدر المنثور (١ / ٥٧٩) وابن أبي حاتم (٢ / ٢٥) رقم (٢٢).

وقال قتادة : القيم على الخلق بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم. أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٢٦) رقم (٢٣).

(٢) قاله فى عمدة الحفاظ ولم يعزه (٣ / ٤١٥).

(٣) قال الطبري في التفسير (٦ / ١٥٥) : وقرأ ذلك عمر بن الخطاب وابن مسعود فيما ذكر عنهما «الحيّ القيّام» وذكر عن علقمة بن قيس أنه كان يقرأ : «الحيّ القيّم». وأخرج قراءة ابن مسعود أبو عبيد وسعيد بن منصور والطبراني. وأخرج قراءة عمر أبو عبيد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي داود وابن الأنبارى وابن المنذر والحاكم وصححه ؛ كما في الدر المنثور (٢ / ٤) ، وراجع المحتسب لابن جني (١ / ١٥١).

(٤) والقيّوم : بناء مبالغة وزنه فيعول ، وأصله : قيووم ، فقلبت الواو الأولى ياء ؛ لأجل الياء قبلها ، وأدغمت الياء الأولى فيها ، ومعناه : القائم الحافظ لكل شيء ، والمعطي له ما به قوامه.

يقول السمين الحلبي : وعندى أنه لا يجوز إطلاق هذه اللفظة على غير الباري ـ تعالى ؛ لما فيها من المبالغة ، كما ذكروا ذلك في الرحمن ونحوه.

انظر : عمدة الحفاظ للسمين الحلبي (٣ / ٤١٥) ، ولسان العرب لابن منظور (٥ / ٣٧٨٥) (قيم).

(٥) هو حبر الأمة ، وترجمان القرآن ، عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي ، ابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه ، ودعا له أن يعلمه الله الحكمة ، وكان أعلم الصحابة بالتفسير وأسباب النزول ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحاديث كثيرة ، وله مناقب جمة ، بحر في علوم الشريعة ، كانوا يرجعون إلى قوله ورأيه عند الاختلاف. مات بالطائف سنة ٦٨ ه‍. ـ

٢٩٨

القيّوم» (١).

وقوله : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ).

ظاهر.

(بِالْحَقِ)

قيل فيه بوجوه : يحتمل بالحق (٢) ، أي : دعاء الخلق إلى الحق ، ويحتمل بالحق ، أي : هو الحق نفسه حجة (٣) مجعولة ، وآية معجزة ، أيس العرب عن أن يعارضوه أو يأتوا بمثله (٤) ، وتحقق عند كلّ أنه من عند الله ، إلا من أعرض عنه ، وكابر وعاند.

وقيل : بالحق ، أي : بالصّدق والعدل (٥).

وقيل : بالحق الذي لله عليهم ، وما يكون لبعضهم [على بعض](٦).

ثم قال : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ).

__________________

 ـ تنظر ترجمته في : الاستيعاب لابن عبد البر (ترجمة ١٦٠٦) ، أسد الغابة لابن الأثير (ترجمة (٣٠٣٧) ، والإصابة لابن حجر (ت : ٤٧٩٩) ، سير أعلام النبلاء للذهبي (٣ / ٣٣١) رقم (٥١).

(١) وقد ورد في هذا حديث مرفوع عن أسماء بنت يزيد قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) [البقرة : ١٦٣]. وفاتحة آل عمران (الم. اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [آل عمران : ١ ـ ٢].

أخرجه أحمد في المسند (٦ / ٤٦١) ، وعبد بن حميد في مسنده رقم (١٥٧٨) ، وأبو داود في سننه (١ / ٤٧٠) : كتاب الصلاة : باب الدعاء (١٤٩٦) ، والترمذيّ في سننه (٥ / ٤٦٤) أبواب الدعوات ، باب (٦٤) ، الحديث رقم (٣٤٧٨). وابن ماجه في سننه (٥ / ٣٧١) : كتاب الدعاء : باب اسم الله الأعظم ، (٣٨٥٥) من طريق عبد الله بن أبي زياد القداح عن شهر بن حوشب عن أسماء به. وهذا إسناد ضعيف ، فعبيد الله هذا ليس بالقوي ، وشهر صدوق كثير الإرسال والأوهام كما في التقريب لابن حجر ترجمة (١١٢).

(٢) قاله ابن كيسان كما في معاني القرآن الكريم للنحاس (١ / ٣٤٠).

(٣) الحجة ـ لغة ـ بالضم ـ : الدليل والبرهان. وقيل : ما دفع به الخصم. والحجة : الوجه الذي يكون به الظّفر عند الخصومة ، وسميت حجة لأنها تحج ، أي تقصد ؛ لأن القصد لها وإليها ، والجمع : حجج وحجاج.

واصطلاحا : عرفها الشيخ أبو منصور الماتريدي ـ رحمه‌الله ـ بأنها : «الحق ما غلبت حججه وأظهر التمويه في غيره».

انظر : تاج العروس للزبيدي (٥ / ٤٦٤) (حجج) ، وميزان الأصول لعلاء الدين أبي بكر السمرقندي (١ / ١٨٠).

(٤) قال ـ تعالى ـ : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [الإسراء : ٨٨].

وقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ)[يونس : ٣٨].

(٥) قاله الطبري في تفسيره (٦ / ١٦٠).

(٦) قاله الأصم كما في تفسير الفخر الرازي (٧ / ١٣٧) ، واللباب في علوم الكتاب لابن عادل (٥ / ١٥) ، وما بين المعقوفين سقط من ب.

٢٩٩

أي : موافقا لما قبله من الكتب السماوية ، وهي غير مختلفة ولا متفاوتة ، وفيه دلالة نبوة [سيدنا](١) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه أخبر أنه موافق لتلك الكتب غير مخالف لها ، ولو كان على خلاف ذلك لتكلفوا إظهار موضع الخلاف ؛ فإذا لم يفعلوا ذلك دل أنهم عرفوا أنه من الله ، وأن محمدا رسوله ، لكنهم كابروا وعاندوا (٢).

وقوله : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ. مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ).

من بعد.

وقال بعضهم : (هُدىً لِلنَّاسِ).

أي : بيانا لهم ، وحجّة لمن اهتدى ، وحجة على من عمي (٣) ؛ إذ لا يحتمل أن يكون له هدى ، وعليه حجة فيه الهلاك ؛ إنما يكون حجة له وهدى إذا اهتدى ، وعليه إن ترك الاهتداء (٤) ؛ فبان أنه يخالف ما يقوله المعتزلة. (٥)

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) قال العلامة القاسمي : قال أبو مسلم : المراد منه أنه ـ تعالى ـ لم يبعث نبيّا قط إلا بالدعاء إلى توحيده والإيمان به ، وتنزيهه عما لا يليق به ، والأمر بالعدل والإحسان وبالشرائع التي هي صلاح كلّ زمان. فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كلّ ذلك. ينظر : محاسن التأويل (٤ / ٥).

(٣) قاله الطبري في تفسيره (٦ / ١٦١).

(٤) قال ابن فورك : التقدير : هدى للناس المتقين ، دليله ما في سورة البقرة : (فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] ، فرد هذا العام إلى ذلك الخاص.

ينظر : الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (٤ / ٦).

(٥) إن أبا الحسن الأشعري ، وأكثر الأئمة من أصحابه حملوا التوفيق على خلق القدرة على الطاعة.

وقال إمام الحرمين : التوفيق : خلق الطاعة لا خلق القدرة. وحمل الأشعري وأكثر الأئمة من أصحابه الهداية على معناه الحقيقي ؛ أعني : خلق الاهتداء وهو الإيمان ومقابله الإضلال وهو بمعنى خلق الضلالة. وفي شرح العقائد : نعم قد تضاف الهداية إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجازا بطريق التسبب كما يسند الإضلال إلى الشيطان مجازا ومثل هداه الله فلم يهتد مجازا عن الدلالة والدعوة إلى الاهتداء انتهى.

والمعتزلة أوّلوا التوفيق والهداية بالدعوة إلى الإيمان والطاعة واستدلوا بقوله ـ تعالى ـ : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٧] إذ لا شبهة في امتناع حمله عن خلق الهدى فيهم ، ولعل الجواب أن الهداية في هذه الآية مجاز عن الدلالة والدعوة إلى الاهتداء ، واستدلت الأشاعرة على بطلان تأويل المعتزلة بأن الأمة اجتمعت على أن الناس مختلفون في التوفيق والهداية فبعضهم موفق ومهدى ، وبعضهم ليس كذلك ، فلو أول التوفيق والهداية بالدعوة إلى الإيمان والطاعة كما قال به المعتزلة لاستوى جميع الناس فيهما ؛ أي في التوفيق والهداية ؛ لأن معنى الموفق والمهدى على هذا التأويل المدعو إلى الإيمان والطاعة. ثم اعلم أن المعتزلة يؤولون الإضلال المسند إليه ـ تعالى ـ بوجدان العبد ضالا أو بتسميته ضالا للعلة المذكورة في تأويلهم الختم والطبع.

ينظر : نشر الطوالع (٢٨٨ ـ ٢٩٠).

٣٠٠