تأويلات أهل السنّة - ج ٢

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة - ج ٢

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٧٣

ثم قدر أبو حنيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ ، الزيادة بستة أشهر ، ذهب فى ذلك إلى أن الفطام ربما يعترض ويعترى فى حال ـ وهو حال الحر والبرد ـ ما لو منع الرضاع منه لأورث هلاك الصبى وتلفه ، لما لم يعود بغيره من الطعام ، ففيه خوف هلاكه ، فإذا كان فيه خوف هلاكه ، لما ذكرنا ، استحسن أبو حنيفة ، رضى الله تعالى عنه ، إبقاءها بعد الحولين لستة أشهر ، إذ على هذين الحالين تدور السنة. والله أعلم.

وقال زفر (١) : بزيادة سنة ، ذهب فى ذلك إلى أنه لما جاز أن يزاد بالاجتهاد على حولين بستة أشهر ، جاز أن يزاد بالاجتهاد على الحولين بسنة.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله تعالى ـ : وعلى ما زيد على المذكور من الحبل مثل أقل وقت الرضاع ، يزاد على المذكور من الرضاع مثل أقل الحبل ، أو لما احتمل الأقل الانتقال إلى الوسط يحتمل الوسط الانتقال إلى الأكثر ، وذلك فى قوله : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف : ١٥]

وقوله : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) يحتمل وجهين :

يحتمل : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) فى ترك الإنفاق عليهما.

ويحتمل : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) فى انتزاع الولد منها ، وهى تريد إمساكه.

وقوله تعالى : (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) ، كذلك يحتمل وجهين :

[ويحتمل : لا يضار الوالد بولده فى ردها الولد عليه ورميه إليه بعد ما](٢) ألف الولد الأم.

ويحتمل : لا يضار الوالد فى تحميل فضل النفقة عليه وملكه لا يحتمل ذلك ، بل إنما يحمل عليه ما احتمله ملكه.

وفى قوله : (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) ، دليل أنه إنما يسمى (الوالد) على المجاز ، ليس على التحقيق ؛ لأنه لم يلد هو ، إنما ولد له ؛ فثبت أن الرجل يستحق اسم الفعل بفعل غيره ، وكل معمول له يستحق اسم الفاعل وإن لم يعمل هو ، نحو ما سمى (والدا) ، وإن لم يلد هو ، وإنما ولد له.

__________________

(١) زفر بن الهذيل بن قيس العنبرى ، من تميم ، أبو الهذيل : فقيه كبير ، من أصحاب الإمام أبى حنيفة. أصله من أصبهان. أقام بالبصرة وولى قضاءها وتوفى بها سنة ١٥٨ وهو أحد العشرة الذين دونوا الكتب ، جمع بين العلم والعبادة. وكان من أصحاب الحديث فغلب عليه (الرأى) وهو قياس الحنفية ، وكان يقول : نحن لا نأخذ بالرأى ما دام أثر. وإذا جاء الأثر تركنا الرأى. ينظر الأعلام (٣ / ٤٥) (٧٣١).

(٢) بدل ما بين المعقوفين فى ط : ويحتمل لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها فى انتزاع الولد منها وهى تريد.

١٨١

ففيه دلالة أن من حلف : (لا يعتق) ، و (لا يطلق) فأمر غيره ، ففعل ، حنث وجعل كأنه هو الفاعل. والله أعلم.

ثم اختلف فى تأويل قوله : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ).

قال بعضهم (١) : هو معطوف على قوله : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) معناه : ألا يضار الوارث أيضا باليتيم.

وقال آخرون : هو معطوف على الكل : على النفقة ، والكسوة ، والمضارة.

وقال غيرهم : هو راجع إلى النفقة والكسوة دون المضارة. وهو قولنا ؛ لوجهين :

أحدهما : أن نسق الكلام إنما هو على قوله : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ، فنسقه على حرف (على) أولى من نسقه على حرف (لا) ، [ليصح ، إذ](٢) لو حمل على قوله : (لا تُضَارَّ) لكان ما يوازيه من الكلام ، إنما هو : الوارث مثل ذلك.

والثانى : أنه لو حمل على إضرار من الوارث بالولد فى الميراث لقال : وعلى المورث بحق الميراث ، فلا ضرر يقع فيه ، بل يقع (٣) الإنفاق ؛ فثبت أن حمله عليه أحق.

ثم اختلف فى قوله : (وَعَلَى الْوارِثِ) :

قال بعضهم : أراد (بالوارث) الوالد ، والأم ، والجد ، ولا يدخل ذو الرحم المحرم فيه. ذهبوا فى ذلك إلى ما روى عن ابن عباس ، رضى الله تعالى عنه ، أنه قال ذلك.

وأما أصحابنا ، رحمهم‌الله تعالى ، ذهبوا إلى ما روى عن عمر (٤) ، رضى الله تعالى عنه ، أنه أوجب النفقة على العم ، وقال : لو لم يبق من العشيرة إلا واحد لأوجبت عليه النفقة. وروى أيضا عن زيد بن ثابت (٥) ، رضى الله تعالى عنه أنه قال فى قوله تعالى :

__________________

(١) قاله الضحاك والشعبى ومجاهد وسفيان ، أخرجه ابن جرير عنهم (٥٠٣٦ ، ٥٠٣٧ ، ٥٠٣٨ ، ٥٠٤٠) ، وأخرجه ابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقى من طريق مجاهد والشعبى عن ابن عباس كما فى الدر المنثور (١ / ٥١٤).

(٢) فى ط : يتضح أن.

(٣) فى ب : يمنع

(٤) أخرجه ابن جرير (٤٩٩٢ ، ٤٩٩٤) ، وسفيان وعبد الرزاق وأبو عبيد فى الأموال وعبد بن حميد وابن أبى حاتم فى ناسخه والبيهقى كما فى الدر المنثور (١ / ٥١٤).

(٥) أخرجه عبد بن حميد عن حماد كما فى الدر المنثور (١ / ٥١٤) زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان بمعجمة ابن عمرو النجارى المدنى كاتب الوحى وأحد نجباء الأنصار ، شهد بيعة الرضوان ، وقرأ على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجمع القرآن فى عهد الصديق. وولى قسم غنائم اليرموك. له اثنان وتسعون حديثا. اتفقا على خمسة وانفرد البخارى بأربعة ، ومسلم بواحد. روى عنه ابن عمر وأنس وسليمان ابن يسار ، وابنه خارجة بن زيد وخلق. قال يحيى بن سعيد : لما مات زيد قال أبو هريرة : مات خير الأمة. توفى سنة خمس وأربعين. وقيل : سنة ثمان. وقيل : سنة إحدى وخمسين. ينظر : الخلاصة ـ

١٨٢

(وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) : النفقة على كل ذى الرحم المحرم على قدر مواريثهم. فاتبعنا الصحابة ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، فى ذلك. وفى الكتاب دليل وجوب النفقة على المحارم ، قوله : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) [النور : ٦١] ، فإنما يأكل بحق ، لا بالرضاء.

ألا ترى أنه يأكل من بيت الأجنبى إذا بذل ورضى ، فلو لم يكن أكله من بيت هؤلاء بحق لم يكن للتخصيص فائدة.

فإن عورض (بالصديق) ، أنه لا يفرض عليه [قيل : لما أنه لو فرض عليه](١) لانقطعت الصداقة بينهما. ثم لقائل أن يقول : كيف لا أوجبت النفقة على كل وارث على ظاهر الآية؟

قيل : الآية مخصوصة بالإنفاق ؛ لأن المرأة وارثة ، ولا تفرض عليها نفقة الزوج ؛ دل أنه أراد وارثا دون وارث ، وهو الوارث من الرحم المحرم. والله أعلم.

وقوله : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما).

قيل (٢) : فإن أراد الأبوان فصال الصبى وفطامه بدون الحولين ليس لهما إلا بتراضيهما جميعا واتفاقهما على ذلك ، وأما بعد تمام الحولين فإنه إذا أراد أحدهما [الفصال دون الآخر يفصل وأصله واحد بأن الفصال بعد الحولين فصال على التمام والكمال فجاز أن يفصل اذا أراد أحدهما](٣). وأما الفصال قبل الحولين فصال عن غير تمام ذكره الكتاب ، فلا يفصل إلا باجتماعهما واتفاقهما على ذلك. وأما ما بعد الحولين هو على تمام النص ، فجاز ذلك لرأى واحد منهما ، وما قبله لا يجوز إلا لرأيهما جميعا.

وأصله : أنه بالحولين قد ظهر التمام والكفاية ، ثم بالنص ، وما دونه يعلم بالاجتهاد ، وعند التنازع يزول موضع بيان الصواب فيرد إلى الحد المذكور ، مع ما فى القرآن للتمام ذكر إرادة الفرد ، وللفصل التشاور. والله أعلم.

__________________

 ـ (١ / ٣٥٠) (٢٢٤٥).

(١) سقط فى ط.

(٢) قاله ابن عباس والسدى والضحاك ، أخرجه ابن جرير عنهم (٤٠٤٥ ، ٤٠٤٤ ، ٤٠٤٦) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٥١٥).

(٣) سقط فى ط.

١٨٣

ثم إن الزوجين يحكمان عن أنفسهما برضاع ولدهما لذلك يحتج (١) إلى نظير غيرهما ، ولا إلى رأى آخر ، لما لا يجوز أن يعدم شفقتهما جميعا عن ولدهما. وأما إذا كان الحكم لغيرهما أو على غيرهما فلا بد من أن يحكم غيره ، دليله : قوله تعالى : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) [المائدة : ٩٥] ، وكقوله : (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) [النساء : ٣٥] ، فهذا الحكم على غيرهما ؛ ولذلك احتيج إلى غيرهما ؛ وذلك الزوجان يحكمان على أنفسهما وينظران لولدهما ؛ لذلك افترقا. والله أعلم.

و (الجناح) و (الحرج) واحد : وهو الضيق ، ومعناه : أى لا ضيق ولا تبعة عليهما ، ولا إثم إذا أرادا فطامه بدون الحولين.

وقوله : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ).

فيه دلالة جواز الرضاع بعد الحولين وحرمته ؛ لأنه ذكر فى قوله : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً) بتراضيهما بدون الحولين.

[ثم قوله : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) يصير استرضاعا بعد الحولين](٢)

إذ ذكر الرضاع فى الحولين بقوله : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) ، وذكر الفصال بدون الحولين بقوله : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ) فحصل قوله : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) بعد الحولين. وهذا يدل لقول أبى حنيفة ، رضى الله تعالى عنه ، ويقوى مذهبه.

ويحتمل : أن تكون الآية فى جواز استرضاع غير الأمهات إذا أبت الأم رضاعه ؛ وهو كقوله : (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) [الطلاق : ٦].

وقوله تعالى : (إِذا سَلَّمْتُمْ) ، يعنى إذا سلمتم الأمر لله تعالى ، (ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) ، أى قبلتم ، ليس هو على الإيتاء ، ولكن على القبول ، دليل ذلك قوله تعالى : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [التوبة : ٥] [ليس هو الإيتاء نفسه ، ولكنه على القبول كأنه قال : فإن تابوا وقبلوا إقامة الصلاة وعهدوا إيتاء الزكاة فخلوا سبيلهم ،](٣) فعلى ذلك الأول.

و (آتَيْتُمْ) أى قبلتم إيتاء ما عهدوا وهو الأجر.

وقد يكون (ما آتَيْتُمْ) ، أى : عقدتم عقد الإيتاء ؛ إذ الإيتاء هو الإعطاء والعطية عقدتم

__________________

(١) فى أ : يجتمع.

(٢) سقط فى ط.

(٣) سقط فى ط.

١٨٤

التسليم عليه. وذلك دليل لقول من يفرق بين قوله : أعطيتنى كذا ، فلم أقبضه. [وسلمتنى فلا أقبضه](١) والله أعلم.

وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ).

أى : فيما أمركم من الإنفاق ، والكسوة ، ونهاكم من إضرار أحدهما صاحبه.

وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

وهو وعيد على ما سبق من الأمر والنهى.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)(٢٣٥)

وقوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً).

قيل : هى ناسخة لقوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) [البقرة : ٢٤٠] ، إنها وإن كانت مقدمة فى الذكر ، وتلك مؤخرة ، (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) ، ناسخة لتلك. إلى هذا يذهب عامة أهل التأويل ؛ ألا ترى إلى ما جاء فى الخبر : أن امرأة أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، [فذكرت : أن بنتا لها توفى عنها زوجها ، واشتكت عينها ، وهى تريد أن تكحلها. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد كانت](٢) إحداكن فى الجاهلية تجلس حولا فى منزلها ثم تخرج عند رأس الحول ، فترمى بالبعر ، وإنما هى أربعة أشهر وعشرا» (٣). فثبت

__________________

(١) سقط فى أ.

(٢) ما بين المعقوفين سقط فى أ ، وفى ب : وهى معتقدة فاستأذنته فى الكحل والتدهن ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن أحدكن كانت.

(٣) أخرجه البخارى (٩ / ٤٨٤ ـ ٤٨٥) كتاب : الطلاق ، باب : تحد المتوفى عنها أربعة أشهر وعشرا ، حديث (٥٣٣٦ ، ٥٣٣٧) ، ومسلم (٢ / ١١٢٤) كتاب : الطلاق ، باب : وجوب الإحداد فى عدة الوفاة ، حديث (٥٨ / ١٤٨٨) ، ومالك (٢ / ٥٩٧) كتاب : الطلاق ، باب : ما جاء فى الإحداد ، حديث (١٠٣) ، والنسائى (٦ / ٢٠٥) كتاب : الطلاق ، باب : النهى عن الكحل للحادة ، وأبو داود (١ / ٧٠١) كتاب : الطلاق ، باب : إحداد المتوفى عنها زوجها ، حديث (٢٢٩٩) ، والترمذى (٣ / ٤٩٢) كتاب : الطلاق ، باب : ما جاء فى عدة المتوفى عنها زوجها ، حديث (١١٩٧) ، وأحمد (٦ / ٢٩١ ـ ٢٩٢) ، والطحاوى فى شرح معانى الآثار (٣١ / ٧٥ ـ ٧٦) ، وابن الجارود (٧٦٨) ، وأبو يعلى (١٢ / ٣٩٦ ـ ٣٩٧) رقم (٦٩٦١) ، والبيهقى (٧ / ٤٣٩) كتاب : العدد ، باب : كيف الإحداد ، والبغوى فى شرح السنة (٥ / ٢٢٠) من طريق حميد بن نافع عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة به.

١٨٥

أن ما كان ذلك مما تقدم الأمر به ، نسخ بالثانى.

وقال آخرون : إنه قد أثبت فى الآية متاعا أو وصية ، ثم ورد النسخ على كل وصية كانت للوارث بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله قد أعطى كل ذى حق حقه ، فلا وصية لوارث» (١). وإلا كان الاعتداد الواجب اللازم هو أربعة أشهر وعشرا.

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٣ / ٢٩٠) كتاب : الوصايا ، باب : الوصية للوارث ، حديث (٢٨٧٠) ، والترمذى (٤ / ٤٣٣) كتاب : الوصايا ، باب : ولا وصية لوارث ، حديث (٢١٢٠) ، وابن ماجه (٢ / ٩٠٥) كتاب : الوصايا ، باب : لا وصية لوارث ، حديث (٢٧١٣) ، وأحمد (٥ / ٢٦٧) ، والطيالسى (٢ / ١١٧ ـ منحة) رقم (٢٤٠٧) ، وسعيد بن منصور (٤٢٧) ، والدولابى فى الكنى (١ / ٦٤) ، وأبو نعيم فى «تاريخ أصبهان» (١ / ٢٢٧) ، والبيهقى (٦ / ٢٦٤) كتاب : الوصايا ، باب : نسخ الوصية للوالدين ، كلهم من طريق إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم عن أبى أمامة الباهلى ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول فى خطبته عام حجة الوداع : «إن الله تبارك وتعالى قد أعطى كل ذى حق حقه ، فلا وصية لوارث».

وقال الترمذى : حديث حسن صحيح.

وأخرجه ابن الجارود فى المنتقى رقم (٩٤٩) من طريق الوليد بن مسلم قال : ثنا ابن جابر ، ثنا سليم بن عامر ، سمعت أبا أمامة ، فذكر الحديث.

وفى الباب عن جماعة من الصحابة وهم عمرو بن خارجة ، وأنس بن مالك ، وابن عباس ، وجابر ، وعلى ، وعبد الله بن عمرو ، ومعقل بن يسار ، وزيد بن أرقم ، والبراء ، ومجاهد مرسلا.

حديث خارجة :

أخرجه الترمذى (٤ / ٤٣٤) كتاب : الوصايا ، باب : لا وصية لوارث ، حديث (٢١٢١) ، والنسائى (٦ / ٢٤٧) كتاب : الوصايا ، باب : إبطال الوصية للوارث ، وابن ماجه (٢ / ٩٠٥) كتاب : الوصايا ، باب : لا وصية لوارث ، وأحمد (٤ / ١٨٦ ، ١٨٧) ، والدارمى (٢ / ٤١٩) كتاب : الوصايا ، باب : الوصية للوارث ، والطيالسى (١٣١٧) ، وأبو يعلى (٣ / ٧٨) رقم (١٥٠٨) ، والبيهقى (٦ / ٢٦٤) كتاب : الوصايا ، باب : نسخ الوصية للوالدين ، كلهم من طريق شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم عن عمرو بن خارجة ؛ أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب على ناقته وأنا تحت جرانها ، وإن لعابها يسيل بين كتفى ، فسمعته يقول : «إن الله عزوجل أعطى كل ذى حق حقه ، فلا وصية لوارث».

قال الترمذى : حسن صحيح.

وللحديث طريق آخر :

أخرجه الدارقطنى (٤ / ١٥٢) كتاب : الوصايا ، حديث (١٠) ، والبيهقى (٦ / ٢٦٤) كتاب : الوصايا ، باب : نسخ الوصية للوالدين والأقربين ، من طريق زياد بن عبد الله عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن عمرو بن خارجة مرفوعا بلفظ : «لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة». وضعف البيهقى سنده.

وأخرجه الطبرانى فى الكبير (٤ / ٢٠٢) رقم (٤١٤٠) من طريق عبد الملك بن قدامة الجمحى عن أبيه عن خارجة بن عمرو ؛ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم الفتح وأنا عند ناقته : «ليس لوارث وصية ، قد أعطى الله عزوجل كل ذى حق حقه ، وللعاهر الحجر».

وقال الهيثمى : رواه الطبرانى وفيه عبد الملك بن قدامة الجمحى وثقه ابن معين وضعفه الناس. ا. ه. ـ

١٨٦

__________________

 ـ قلت : ووثقه أيضا يعقوب بن سفيان فقال فى المعرفة والتاريخ (١ / ٤٣٥) : مدنى ثقة.

لكن عبد الملك هذا ضعفه الجمهور.

قال البخارى فى الضعفاء (٢٢٠) : يعرف وينكر.

وقال أبو زرعة الرازى : منكر الحديث «سؤالات البرذعى» ص (٣٥٦).

وقال أبو حاتم : ضعيف الحديث «علل الحديث» (٢٤٣٥).

وقال النسائى : مدنى ليس بالقوى «الضعفاء والمتروكين» (٤٠٣).

وقال الدارقطنى : مدنى يترك «سؤالات البرقانى» (٣٠١).

حديث أنس :

أخرجه ابن ماجه (٢ / ٩٠٦) كتاب : الوصايا ، باب : لا وصية لوارث ، حديث (٢٧١٤) ، والدارقطنى (٤ / ٧٠) كتاب : الفرائض ، حديث (٨) ، والبيهقى (٦ / ٢٦٤ ـ ٢٦٥) كتاب :

الوصايا ، باب : نسخ الوصية للوالدين والأقربين ، من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن سعيد بن أبى سعيد عن أنس به.

قال البوصيرى فى الزوائد (٢ / ٣٦٨) : هذا إسناد صحيح ، رجاله ثقات.

حديث ابن عباس :

أخرجه الدارقطنى (٤ / ٩٧) كتاب : الفرائض ، حديث (٨٩) ، والبيهقى (٦ / ٢٦٣) كتاب : الوصايا ، باب : نسخ الوصية للوالدين والأقربين ، من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس.

قال البيهقى : عطاء هو الخراسانى لم يدرك ابن عباس ولم يره. قاله أبو داود وغيره.

وأخرجه البيهقى (٦ / ٢٦٣ ـ ٢٦٤) من طريق يونس بن راشد عن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس.

قال الحافظ فى التلخيص (٣ / ٩٢) : حديث حسن.

حديث جابر :

أخرجه الدارقطنى (٤ / ٩٧) كتاب : الفرائض ، حديث (٩٠) من طريق فضل بن سهل : ثنا إسحاق بن إبراهيم الهروى ، ثنا سفيان عن عمر عن جابر به.

قال الدارقطنى : الصواب مرسل.

قال أبو الطيب آبادى فى التعليق المغنى (٤ / ٩٧) : إسحاق بن إبراهيم الهروى ثم البغدادى أبو موسى ، وثقه ابن معين وغيره ، وقال عبد الله بن على بن المدينى : سمعت أبى يقول : أبو موسى الهروى روى عن سفيان عن عمرو عن جابر : «لا وصية ...» الحديث.

كأنه سفيان عن عمرو مرسلا ، كذا فى الميزان. ا. ه.

وللحديث طريق آخر :

أخرجه الدارقطنى (٤ / ١٥٢) كتاب : الوصايا ، حديث (١٢) من طريق نوح بن دراج عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا وصية لوارث ، ولا إقرار بدين».

حديث على :

أخرجه الدارقطنى (٤ / ٩٧) كتاب : الفرائض ، حديث (٩١) من طريق يحيى بن أبى أنيسة عن أبى إسحاق الهمدانى عن عاصم بن ضمرة عن على قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدين قبل الوصية ، ولا وصية لوارث».

ومن طريق يحيى أخرجه ابن عدى فى الكامل (٧ / ١٩٠). ـ

١٨٧

وأمكن أن يستدل بقوله : (فَإِنْ خَرَجْنَ) ، إذ كان على إثر قوله : (غَيْرَ إِخْراجٍ) أن قوله ، (فَإِنْ خَرَجْنَ) ، كان النهى على (الإخراج) ، دون (الخروج). وهذا أصل فى الوصايا بالمتاع : ألا يمنع الرد وإن أجبر على التسليم.

وفى الآية دلالة جواز الوصية بالسكنى إذا بطلت بحق الميراث ، لا بحق الوصية ـ والله الموفق ـ وهو جائز فيمن لم تنسخ له الوصية.

وأمكن الاستدلال بالآية على عدة الوفاة بالحبل إن ثبت ما روى : «أنه يكون أربعين يوما نطفة ، وأربعين يوما علقة ، وأربعين يوما مضغة ، ثم ينفخ فيه الروح فى العشرة» (١).

__________________

 ـ ويحيى بن أبى أنيسة :

قال أحمد : متروك الحديث.

وقال ابن المدينى : لا يكتب حديثه.

وقال ابن معين : ليس بشيء.

وقال البخارى : لا يتابع فى حديثه ، وليس بذاك.

وقال النسائى : متروك الحديث.

أسند ذلك ابن عدى فى الكامل عنهم.

حديث عبد الله بن عمرو :

أخرجه الدارقطنى (٤ / ٩٨) كتاب : الفرائض ، حديث (٩٣) ، وابن عدى فى الكامل (٢ / ٨١٧) من طريقين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فى خطبته يوم النحر : «لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة».

حديث معقل بن يسار :

أخرجه ابن عدى فى الكامل (٥ / ٢١١) من طريق على بن الحسن بن يعمر : ثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال : قال معقل بن يسار : كنا ب «منى» ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب ولعاب ناقته بين كتفى ، ففهمت من كلامه قال : «لا وصية لوارث».

قال ابن عدى : هذا الحديث باطل بهذا الإسناد.

حديث زيد بن أرقم والبراء :

أخرجه ابن عدى فى الكامل (٦ / ٣٥٠) من طريق موسى بن عثمان الحضرمى عن أبى إسحاق عن البراء وزيد بن أرقم قالا : كنا مع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم غدير خم ونحن نرفع غصن الشجرة عن رأسه فقال : «إن الصدقة لا تحل لى ولا لأهلى ، لعن الله من ادعى إلى غير أبيه ، ولعن الله من تولى غير مواليه ، الولد للفراش ، وللعاهر الحجر ، ليس لوارث وصية».

قال ابن عدى : موسى بن عثمان ، حديثه ليس بمحفوظ.

وقال أبو حاتم : متروك.

ينظر : اللسان (٦ / ١٢٥) ، والميزان (٤ / ٢١٤).

مرسل مجاهد :

أخرجه البيهقى (٦ / ٢٦٤) كتاب الوصايا ، باب نسخ الوصية للوالدين والأقربين من طريق الشافعى عن ابن عيينة عن سليمان الأحول عن مجاهد به.

(١) أخرجه البخارى (٦ / ٣٥٠) فى بدء الخلق ، باب ذكر الملائكة (٣٢٠٨) ، وباب خلق آدم (٣٣٣٢) ، (١١ / ٤٨٦) فى القدر فى أوله (٦٥٩٤) ، و (١٣ / ٤٤٩) فى التوحيد ، باب قوله تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ ـ

١٨٨

فإذا كان ما ذكرنا أمرت بتربص أربعة أشهر وعشر ليتبين الحبل إن كان بها. وإذا كان بهذا معنى العدة (١) فإذا ولدت بدونه انقضت العدة. والله أعلم.

فإن قيل : الأمة أليست لا تختلف عن الحرة فى تبيين الحبل ، ثم لم يجعل عدتها أربعة أشهر وعشرا ، فإذا لم يجعل ذلك كيف لا بان أن الأمر بتربص أربعة أشهر وعشرا إلا لهذا المعنى؟

قيل : لوجهين :

أحدهما : أن الحرائر هن الأصول فى النكاح ، وفيهن تجرى الأنكحة ، فيخرج الخطاب لهن.

والثانى : أنها حق أخذت الحرة ، والحقوق التى تأخذ الحرائر هن الأصول فى النكاح ، إذا صرف ذلك إلى الإماء تأخذ نصف ما تأخذ الحرائر.

والثالث : أنه لا يقصد آجالهن ؛ لما فيه رق الولد واكتساب الذل والدناءة.

وروى عن على بن أبى طالب (٢) ، رضى الله تعالى عنه ، أنه قال : تعتد أبعد الأجلين احتياطا. ذهب فى ذلك إلى أن الاعتداد بوضع [الحبل إذا ذكر](٣) فى الطلاق ، ولم يذكر فى الوفاة ؛ فيحتمل أن يكون ذلك فى الوفاة كهو فى الطلاق ويحتمل ألا يكون ، فأمرها بذلك احتياطا.

وأما عندنا : ما روى عن عمر (٤) ، وعبد الله بن مسعود (٥) ، وعبد الله بن عباس (٦) ،

__________________

 ـ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) (٧٤٥٤) ، ومسلم (٤ / ٢٠٣٦ ـ ٢٠٣٧) فى القدر ، باب كيفية الخلق الآدمى (١ / ٢٦٤٣) ، وأبو داود (٢ / ٦٤٠) فى السنة ، باب فى القدر (٤٧٠٨) ، والترمذى (٤ / ٣٨٨) فى القدر ، باب ما جاء أن الأعمال بالخواتيم (٢١٣٧) ، وابن ماجه (١ / ٢٩) فى المقدمة باب فى القدر (٧٦) ، وأحمد (١ / ٣٨٢ ، ٤٣٠) ، والحميدى (١ / ٦٩) (١٢٦) ، والطيالسى (١ / ٣١) (٥٨) ، وأبو يعلى (٥١٥٧) ، وأبو نعيم فى الحلية (٨ / ٣٨٧) ، وابن الجوزى فى مشيخته ص (١٠٣ ـ ١٠٤) ، والخطيب فى تاريخ بغداد (٩ / ٦٠) ، والبغوى فى شرح السنة (١ / ١٣٣) (٧٠) من طريق الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود مرفوعا به.

وأخرجه أحمد (١ / ٤١٤) من طريق سلمة بن كهيل ، وأخرجه الطبرانى فى الصغير (١ / ٧٤) من طريق ابن عون ، وأخرجه أبو نعيم فى الحلية (١٠ / ١٧٠) من طريق حبيب بن حسان ثلاثتهم عن زيد بن وهب به.

(١) فى أ : المدة.

(٢) أخرجه البيهقى فى السنن الكبرى (٧ / ٤٣٠).

(٣) سقط فى ط.

(٤) أخرجه البيهقى فى السنن الكبرى (٧ / ٤٣٠).

(٥) أخرجه البيهقى فى السنن الكبرى (٧ / ٤٣٠).

(٦) أخرجه ابن جرير (٥٠٧٤) ، وابن المنذر وابن أبى حاتم والنحاس فى ناسخه والبيهقى فى سننه كما فى الدر المنثور (١ / ٥٧٥).

١٨٩

رضى الله تعالى عنهم ، أنهم قالوا : إذا وضعت ما فى بطنها ، وزوجها على السرير ، انقضت عدتها. وكذلك روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن امرأة مات عنها زوجها ، وكانت حاملا ، فوضعت بعد ذلك بأيام ، فأذن لها بالنكاح» (١).

ثم الأمر بالإحداد أربعة أشهر وعشرا ، ما روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا المرأة على زوجها ، فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا» (٢).

فإن قيل : أليس وجب ذلك على المطلقة ، والخبر إنما جاء فى الموت ، [قيل : ليس للموت ما وجب ولكن لمعنى فى الموت](٣) وهو فوت النعمة فى الدين ، وذلك الفوت فى الطلاق كهو فى الموت؟!

ألا ترى أنه لم يجب ذلك فى موت أبيها ولا فى موت ولدها ، دل أنه لم يجب للموت نفسه ، ولكن لفوت النعمة فى الدين ؛ ألا ترى أنه روى فى الخبر أن المرأة الصالحة مفتاح الجنة ، فأمرت بإظهار الحزن على ما فات منها من النعمة بترك الزينة والتشوف ؛ إذ النكاح نعمة. ثم الدخول بها سواء فى وجوب المهر والعدة وترك الزينة وإظهار الحزن على فوت النعمة ، وأما المطلقة قبل الدخول بها لم يلزمها ذلك ؛ لأن العدة لم تلزمها فتتجدد لها النعمة ، لما لها أن تنكح للحال ، فتكتسب نعمة. والله أعلم. ألا ترى أن الصبى الصغير إذا مات عن امرأته تلزمها أربعة أشهر وعشر ، دل هذا على أن وجوبها لفوت النعمة. والله أعلم.

وقوله : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

قوله : (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) [قيل : لا تبعة عليكم ولا إثم (فِيما فَعَلْنَ) قيل : تزين

__________________

(١) أخرجه مالك (٢ / ٥٩٠) كتاب : الطلاق ، باب : عدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا ، حديث (٨٦) ، والبخارى (٨ / ٦٥٣) كتاب : التفسير ، باب : سورة الطلاق ، حديث (٤٩٠٩) ، ومسلم (٢ / ١١٢٢ ـ ١١٢٣) كتاب : الطلاق ، باب : انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها ، حديث (٥٧ / ١٤٨٥) ، والترمذى (٢ / ٣٣٢ ـ ٣٣٣) كتاب : الطلاق ، باب : ما جاء فى الحامل المتوفى عنها زوجها تضع ، حديث (١١٩٤) ، والنسائى (٦٠ / ١٩١ ـ ١٩٢) كتاب : الطلاق ، باب : عدة الحامل المتوفى عنها زوجها ، وأحمد (٦ / ٤٣٢) ، والدارمى (٢ / ١٦٥ ـ ١٦٦) كتاب : الطلاق ، باب : فى عدة الحامل المتوفى عنها زوجها والمطلقة ، والطيالسى (١٥٩٣) ، وابن الجارود ، حديث (٧٦٢) ، وابن حبان (٤٢٨٣ ـ الإحسان) ، والبيهقى (٧ / ٤٢٩).

(٢) تقدم.

(٣) سقط فى ط.

١٩٠

بعد انقضاء عدة ، وقيل : المعروف هو وضعهن أنفسهن](١) ، أى فى الأكفاء بمهر مثلهن. قد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وقوله : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ).

قيل : (التعريض) هو أن يرى من نفسه الرغبة فيما يكنى به من الكلام ، على ما ذكر فى الخبر : أن فاطمة بنت قيس لما استشارت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لها : «إذا انقضت عدتك فآذنينى ، فاستأذنته فى رجلين كانا خطباها ، فقال لها : أما فلان فإنه لا يرفع العصا عن عاتقه ، وأما فلان فإنه صعلوك لا شىء له ؛ فعليك بأسامة بن زيد» (٢). فكان قوله عليه

__________________

(١) سقط فى ط.

(٢) أخرجه مالك (٢ / ٥٨٠ ـ ٥٨١) كتاب : الطلاق ، باب : ما جاء فى نفقة المطلقة ، حديث (٦٧) ، ومن طريقه أحمد (٦ / ٤١١ ـ ٤١٢) ، ومسلم (٣ / ١١١٤) كتاب : الطلاق ، باب : المطلقة ثلاثا لا نفقة لها ، حديث (٣٦ / ١٤٨٠) ، وأبو داود (٢ / ٧١٢ ـ ٧١٣) كتاب : الطلاق ، باب : فى نفقة المبتوتة ، حديث (٢٢٨٤) ، والنسائى (٦ / ٧٥ ـ ٧٦) كتاب : النكاح ، باب : إذا استشارت المرأة رجلا فيمن يخطبها هل يخبرها بما يعلم ، والبيهقى (٧ / ١٨٠ ـ ١٨١) كتاب : النكاح ، باب : من أباح الخطبة على خطبة أخيه ، وابن الجارود رقم (٧٦٠) ، وابن حبان (٤٢٧٦) ـ الإحسان) ، والطحاوى فى شرح معانى الآثار (٣ / ٦٥) ، وابن سعد فى الطبقات (٨ / ٢١٣ ـ ٢١٤) عن عبد الله ابن يزيد مولى الأسود بن سفيان عن أبى سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس به.

وأخرجه مسلم (٢ / ١١٩) كتاب : الطلاق ، باب : المطلقة ثلاثا لا نفقة لها ، حديث (٤٧ / ١٤٨٠) ، والترمذى (٣ / ٤٤٢) كتاب : النكاح ، باب : ما جاء ألا يخطب الرجل على خطبة أخيه ، وابن ماجه (١ / ٦٠١) كتاب : النكاح ، باب : لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ، حديث (١٨٦٩) من طريق وكيع ثنا سفيان عن أبى بكر بن أبى الجهم بن صخير العدوى ، قال : سمعت فاطمة بنت قيس تقول : قال لى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا حللت فآذنينى» فآذنته ، فخطبنى معاوية وأبو الجهم بن صخير ، وأسامة بن زيد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما معاوية فرجل ترب لا مال له ، وأما أبو الجهم فرجل ضراب للنساء ، ولكن أسامة بن زيد فقالت بيدها هكذا أسامة أسامة ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : طاعة الله وطاعة رسوله خير لك ، فتزوجته فاغتبطت».

وأخرجه مسلم (٢ / ١١١٩) من طريق عبد الرحمن عن سفيان به.

وأخرجه مسلم (٢ / ١١٢٠) كتاب : الطلاق ، باب : المطلقة ثلاثا لا نفقة لها ، حديث (٥٠ / ١٤٨٠) ، والترمذى (٣ / ٤٤١ ـ ٤٤٢) كتاب : النكاح ، باب : ما جاء لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ، حديث (١١٣٥) من طريق شعبة عن أبى بكر بن أبى الجهم قال : دخلت أنا وأبو سلمة بن عبد الرحمن على فاطمة بنت قيس ، فحدثتنا : أن زوجها طلقها ثلاثا ، ولم يجعل لها سكنى ولا نفقة. قالت : ووضع لى عشرة أقفزة عند ابن عم له : خمسة شعيرا ، وخمسة برا. قالت : فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت ذلك له. قالت : فقال : «صدق» قالت : فأمرنى أن أعتد فى بيت أم شريك. ثم قال لى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن بيت أم شريك بيت يغشاه المهاجرون ، ولكن اعتدى فى بيت ابن أم مكتوم. فعسى أن تلقى ثيابك ولا يراك. فإذا انقضت عدتك فجاء أحد يخطبك ، فآذنينى».

فلما انقضت عدتى ، خطبنى أبو الجهم ومعاوية. قالت : فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكرت ذلك له فقال : «أما معاوية فرجل لا مال له. وأما أبو جهم فرجل شديد على النساء». ـ

١٩١

السلام : «فآذنينى» كناية خطاب إلى أن أشار على أسامة ، دون ما ذكره أهل التأويل : «إنك لجميلة» ، و «إنك لتعجبيننى» ، و «ما أجاوز إلى غيرك» ، أو «إنك لنافعة» ، ومثل هذا لا يحل أن يشافه لامرأة أجنبية لا يحل له نكاحها.

وفى الآية دلالة أن لا بأس للمتوفى عنها زوجها الخروج بالنهار [لما ذكر من التعريض](١) لأن الرجل لا يأتيها منزلها فيعرض لها ، ولكن المرأة قد تخرج من منزلها فتصير فى مكان احتمال التعريض ، فعند ذلك يقول لها ما ذكرنا. وعلى ذلك جاءت الآثار ؛ روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن امرأة مات زوجها ، فأتته ، فاستأذنته للاكتحال ، لم يأت أنه نهاها عن الخروج» (٢). وما روى عن عمر ، وابن مسعود ، رضى الله تعالى عنهما ، بالإذن لهن بالخروج بالنهار ، والنهى عن البيتوتة فى غير منزلهن. ولأن المتوفى عنها زوجها مئونتها على نفسها ، فلا بد لها من الخروج. وأما المطلقة فإن مئونتها على زوجها ، والزوج هو الذى يكفى مئونتها ويزيح علتها ؛ لذلك افترقا. والله أعلم.

ثم (التعريض) لا يجوز فى المطلقة لوجهين :

أحدهما : ما ذكرنا ألا يباح لها الخروج من منزلها ليلا ولا نهارا ، والمتوفى عنها زوجها

__________________

 ـ قالت : فخطبنى أسامة بن زيد ، فتزوجنى ، فبارك الله لى فى أسامة.

قال الترمذى : هذا حديث صحيح ، وقد رواه سفيان الثورى عن أبى بكر بن أبى الجهم نحو هذا الحديث. ا. ه.

وهو الحديث السالف.

وأخرجه النسائى (٦ / ٢٠٧ ـ ٢٠٨) كتاب : الطلاق ، باب : الرخصة فى خروج المبتوتة من بيتها فى عدتها لسكناها ، وأحمد (٦ / ٤١٤) ، والحاكم (٤ / ٥٥) من طريق ابن جريج عن عطاء : أخبرنى عبد الرحمن بن عاصم ؛ أن فاطمة بنت قيس أخبرته ـ وكانت عند رجل من بنى مخزوم ـ أنه طلقها ثلاثا وخرج إلى بعض المغازى ، وأمر وكيله أن يعطيها بعض النفقة فتقالتها ، فانطلقت إلى بعض نساء النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهى عندها فقالت : يا رسول الله هذه فاطمة بنت قيس طلقها فلان ، فأرسل إليها ببعض النفقة فردتها ، وزعم أنه شىء تطول به قال : «صدق» قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فانتقلى إلى أم كلثوم فاعتدى عندها» ، ثم قال : «إن أم كلثوم امرأة يكثر عوادها فانتقلى إلى عبد الله بن أم مكتوم ، فإنه أعمى» فانتقلت إلى عبد الله فاعتدت عنده حتى انقضت عدتها ثم خطبها أبو الجهم ومعاوية بن أبى سفيان ، فجاءت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تستأمره فيهما ، فقال : «أما أبو الجهم فرجل أخاف عليك قسقاسته للعصا وأما معاوية فرجل أملق من المال» فتزوجت أسامة ابن زيد بعد ذلك وأسامة بن زيد هو : أسامة بن زيد بن حارثة الكلبى أبو محمد وأبو زيد الأمير حب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وابن حبه وابن حاضنته أم أيمن. له مائة وثمانية وعشرون حديثا ، أمّره النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جيش فيهم أبو بكر وعمر ، وشهد مؤتة. قالت عائشة : من كان يحب الله ورسوله فليحب أسامة. توفى بوادى القرى ، وقيل بالمدينة سنة أربع وخمسين عن خمس وسبعين سنة.

ينظر الخلاصة (١ / ٦٦) (٣٥١).

(١) سقط فى ط.

(٢) تقدم.

١٩٢

يباح لها الخروج. وإنما ذكر الله سبحانه وتعالى التعريض فى المتوفى عنها زوجها ، لم يذكره فى المطلقة.

والثانى : أن فى تعريض المطلقة اكتساب عداوة وبغض فيما بينه وبين زوجها ؛ إذ العدة من حقه. دليله : أنه إذا لم يدخل بها لم تلزمها العدة ، وأما المتوفى عنها زوجها لزمتها العدة وإن لم يدخل بها ؛ لذلك يجوز التعريض فى المتوفى عنها زوجها ، ولا يجوز فى المطلقة.

قال الشيخ : ـ رحمه‌الله تعالى ـ : «ولأن زوجها فى الطلاق حى ، يعلم ما يحدث بينهما الضغن والمكروه فى الحال ، وليس ذلك فى الوفاة».

وقوله تعالى : (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) ، يعنى أخفيتم تزويجها فى السر.

وقوله : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ)

سرّا وعلانية. وقيل : يعنى الخطبة فى العدة.

وقوله : (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا)

قيل فيه بأوجه :

قيل (١) : لا تأخذوا منهن عهدا ألا يتزوجن غيركم.

وقيل : (لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) ، يعنى الزنى. و (السر) الزنا فى اللغة.

وقيل (٢) : (السر) الجماع ؛ تقول : آتيك الأربعة والخمسة ونحوه.

ثم قال الله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً)

يقول لها قولا لينا حسنا ، ولا يقول لها قولا يحملها على الزنى ، أو على ما يظهر من نفسها الرغبة فيه ، على ما ذكر فى الآية : (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) [الأحزاب : ٣٢] ، وأن يعد لها عدة حسنة ، أو أن يبر ويحسن إليها لترغيب فيه ، ولا يقول لها ما لا يحل ولا يجوز. والله أعلم.

وقوله : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ)

قيل : هو على الإضمار ، كأنه قال : «لا تعزموا على عقدة النكاح».

وقيل : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ) ، لا تعقدوا (النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) ، يعنى

__________________

(١) قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والشعبى وغيرهم ، أخرجه ابن جرير عنهم (٥١٥٧ ، ٥١٥٨ ، ٥١٦٠) وانظر الدر المنثور (١ / ٥١٨).

(٢) قاله جابر بن زيد وأبى مجلز والحسن وغيرهم ، أخرجه ابن جرير عنهم (٥١٣٩ ، ٥١٤٠ ، ٥١٤٤) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٥١٨).

١٩٣

بالكتاب : ما كتب عليها من العدة حتى تنقضى تلك (١).

وفيه دليل حرمتها على الأزواج لبقية الملك ، فالخطاب للأجنبيين ، لا للأزواج ؛ إذ للأزواج الإقدام على النكاح وإن كن فى عدة منهم.

قال الشيخ ، رضى الله تعالى عنه ، فى قوله : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) : حمل على التحريم ، وإن احتمل الذى هو بهذا المخرج غير التحريم ؛ لاتفاق الأمة على صرف المراد إليه ، ولقوله : (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) ، أى : ما كتب عليها من التربص ، ولما كان النهى عن ذلك بما لزمها العدة للزوج الأول فهى باقية بها على ما سبق من النكاح المحرّم لها على غيره ؛ فلذلك بقيت الحرمة ، ولهذا جاز لمن له العدة النكاح فيها ؛ إذ لا يجوز أن يمنع حقه. والله أعلم.

وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ).

وهو حرف وعيد ، أى يعلم ما تضمرون فى القلوب وتظهرون باللسان من التعريض ، (فَاحْذَرُوهُ) ولا تخالفوا أمره ونهيه.

وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ).

فيه إطماع المغفرة وإمهال العقوبة من ارتكب النهى وخالف أمره. والله أعلم.

(وَاعْلَمُوا ..). الآية ، حذره علمه بما فى أنفسهم ، ليكونوا مراقبين له فيما أسروا [وأعلنوا](٢) ، وليعلموا أنهم مؤاخذون بما أضمروا من المعاصى والخلاف له ، وأن الذى لا يؤاخذ به العبد هو الخطر بالبال ، لا بالعزم عليه والاعتقاد.

ثم أخبر أنه (غَفُورٌ) ؛ ليعلموا أن استتار ذلك مما غفره وأنهم قد استوجبوا بفعلهم الخزى ، لكن الله بفضله ستره عليهم ليشكروا عظيم نعمه ، أو لئلا ييأسوا من رحمته فيستغفروه.

وذكر (حَلِيمٌ) ؛ لئلا يغتروا بما لم يؤاخذوا بجزاء ما أضمروا فى ذلك الوقت ، فيظنون الغفلة عنه ، كقوله عزوجل : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) [إبراهيم : ٤٢].

قوله تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ

__________________

(١) فى أ : ذلك.

(٢) سقط فى ط.

١٩٤

النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٢٣٧)

وقوله : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ).

فيه دليل رخصة طلاق غير المدخولات بهن فى الأوقات كلها ؛ إذ لا يتكلم بنفى الجناح إلا فى موضع الرخصة ، ولم يخص وقتا دون وقت. وأما المدخولات بهن فإنه عزوجل ذكر لطلاقهن وقتا بقوله : (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) [الطلاق : ١] ؛ لذلك قال أصحابنا ـ رحمهم‌الله تعالى ـ : أن لا بأس للرجل أن يطلق امرأته فى حال الحيض [إذا لم يدخل بها](١).

وجهه : أنه إذا كان دخل بها فعرف وقت طهرها مما سبق من الدخول بها ، فأمر بالطلاق فى ذلك الوقت ليكون أدعى إلى المراجعة إذا ندم على طلاقها. وأما التى لم يدخل بها لا يعرف وقت طهرها لما لم يسبق منه ما به يعرف ذلك الوقت ، فلم يؤمر بحفظ ذلك الوقت. ولأنه إذا لم يدخل بها فإن الطلاق بينهما منه ، فجعل كل الأوقات له وقتا للطلاق ، لما لم يجعل له حق المراجعة قبلها ليكون بعض الأوقات له أدعى إلى ذلك. والله أعلم.

والثانى : أن المدخول بها يتوهم علوقها منه ، فجعل لطلاقها وقتا لتستبين حالها : أحامل ، أم لا؟ لئلا يندم على طلاقها ؛ لأن الرجل إذا طلق امرأته ثم علم أنها حامل يندم على طلاقها ؛ لذلك كان الجواب ما ذكرنا. والله أعلم.

وفيه دليل رخصة طلاق المبين (٢) منه إذا لم يملك إمساكها عند الندامة. لأن الطلاق قبل الدخول تبين المرأة من زوجها.

والأصل فى الأمرين ـ جعل الطلاق فى وقت حلها للأزواج. وكل الأوقات فى غير المدخول بها وقت الحل.

وقوله تعالى : (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً)

معناه ـ ولم تفرضوا لهن فريضة ، كأنه عطف على قوله : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) إلى قوله عزوجل : (ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) ، دليله قوله تعالى : (وَمَتِّعُوهُنَّ) ، دل الأمر بالمتعة أن قوله تعالى : (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ) ، معناه ـ ولم تفرضوا لهن. ودل قوله عزوجل : (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) ، أن ذلك فى غير المفروض لها ؛ حيث أوجب فى المفروض نصف المفروض

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين فى أ ، ط : إذا كان لهم لم يدخل بها.

(٢) فى أ : البين.

١٩٥

وأوجب ثمّ المتعة. ثم يجىء فى القياس أن يوجب فى غير المفروض نصف مهر المثل إلا المتعة ؛ لأنه إذا دخل بها أوجب كل مهر المثل كما أوجب كل المفروض عند الدخول بها ، ونصف المفروض عند عدم الدخول بها ، لكن أوجب المتعة لوجهين :

أحدهما : أن مهر المثل إنما يقدر بها إذا دخل بها ، فإذا لم يدخل بها لم يعرف الزوج ما قدر مهر مثلها؟ ، فإذا لم يعرف ما قدر مهر مثلها لم يعرف النصف من ذلك.

والثانى : أنهم أوجبوا المتعة تخفيفا وتيسيرا ؛ لأن الحاكم يلحقه فضل كلفة وعناء فى تعرف حالها وحال نسائها ، إذ مهر المثل إنما يعتبر بنسائها ، وليس ذلك فى المتعة. والله أعلم.

ثم قدر المتعة : يعتبر شأنه اعتبارا بقدرها ؛ لأنه لو اعتبر شأنه قدر ما أوجب لها غناءها وغناء أهلها ، ومهر المثل لا يبلغ ذلك ، فكان فى ذلك تفضيل المتعة على مهر المثل ـ وقد ذكرنا أن المتعة أوجب تخفيفا ـ ولو نظر إلى قدرها دون قدره لكلف الزوج ما لا طاقة له به ولا وسع ؛ لذلك وجب النظر إلى قدره اعتبارا بقدرها. والله أعلم.

وقوله : (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) ، أو نسق على قوله : (ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) ، فهو على : «ما لم تفرضوا لهن فريضة» ، وعلى ذلك قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) [الأحزاب : ٤٩] ، وعلى هذا إجماع القول فى جواز النكاح بغير تسمية.

وفى ذلك دليل أن قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) [النساء : ٢٤] ، هو ما يبتغى من النكاح بالمال ، لا بتسمية المال ، فيكون النكاح موجبا له ، به يوصل إلى حق الاستمتاع ، لا بالتسمية ؛ ولهذا كان لها حق حبس نفسها عنه حتى يسلم إليها ما منع عن الملك إلا مهر به مسمى أو غير مسمى ، كقوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) [المائدة : ٥] ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ ..). الآية [الأحزاب : ٥٠].

وإذا جاز النكاح بلا تسمية لم يفسده فساد التسمية ، بل الذى أفسد فى أعلى أحواله كأنه لم يكن ، وعلى ذلك اتفاق فيما يتزوج المرأة على ما لا يحل من خمر أو ميتة أو نحو ذلك أن يجوز ؛ فيكون فى ذلك أمران :

أحدهما : أن ما لا يتعلق جوازه بالشرط ، ففساد الشرط لا يفسد.

١٩٦

والثانى : أن تبين موضع النهى عن الشغار أنه غير مفسد العقد (١) ؛ لأنه فى جعل ذلك بدلا للبضع ، والله تعالى لم يجعل التسمية شرطا لجوازه ليفسد لفسادها. والله أعلم.

ثم جعل الطلاق قبل المماسة سببا لإسقاط بعض ما أوجب العقد ، فهو ـ والله أعلم ـ لما لم يوصل إليه كمال ما له قصد النكاح ، إذ هو مجعول للتعفف ، وحقيقته فى إمكان الاستمتاع ، لا بالعقد ، ولو لا ذلك لما جعل النكاح ، ولم يبطل كل المهر لما تقلب فى الملك الذى له البدل ، إذ هو فى الحقيقة للملك ، لا للاستمتاع. دليل ذلك : ما لا يزداد لكثرة الاستمتاع ؛ فثبت أنه بدل الملك فى التقلب فيه ، إذ ليس هو سببا لفسخ السبب الموجب للملك ، الذى له وجب البدل ، بل هو تقلب فيه ، لم يرفع عنه البدل كله. والله أعلم. فأوجب عزوجل نصف المهر ، وأسقط نصفه بما قد فقد أحد القصدين ووجد الآخر. والله أعلم.

ثم إذا لم تكن التسمية جعل الله تبارك وتعالى المتعة مقام نصف المسمى عند التسمية ، وإن كان لو تركا ، والتدبير بعد بيان الواجب فيما لم يسم مهر المثل نحو وجوب المسمى فيما سمى ، لكان الذى يغلب على الوهم أنا لا ندرك تدبيرنا غير نصف مهر المثل ، فتولى الله سبحانه وتعالى بيان ذلك ليعلم الناس ـ والله أعلم ـ أن الله تعالى بين كل ما بالخلق إليه حاجة على قدر ما يحتمله وسعهم ويبلغه عقولهم ، وأن الذى لا يحيط به تدبرهم ، بين لهم بالإشارة إليه تفضلا منه على عباده ليؤلف به بينهم ، ويمنعهم عن التنازع. والله أعلم.

ثم لم يبين (٢) لنا ماهية المتعة بالإشارة إليها. ومعلوم أن قدر الذى يتبين فيما علم قصور التدبير عن الإحاطة بدرك ذلك النوع من الحكمة فيما لم يبين ، فهو ـ والله أعلم ـ بما علم أن العقول تبلغه ، وأنه بالتدبير فيما يتبين وجه الوصول إليه. ولا قوة إلا بالله.

ثم قد بين أن الحق أوكد عند التسمية ، منه فيما لم يكن التسمية ، بوجهين :

أحدهما : بقوله تعالى : (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) ، فيما كان الطلاق قبل المماسة ، وعند التسمية أوجب نصف المسمى ، احتمله وسعه أو لا. ومعلوم أن الاحتمال على قدر الموسع أخف مما كان يجب احتماله عند الخروج من الوسع. والله أعلم.

والثانى : بما علم من وقوع الاختلاف يكون بين الأمة فيما لا تسمية إذا مات أحد الزوجين فى حق إكمال المهر وارتفاع ذلك بما كان ثم تسمية ، فهو الدليل على أن الحق فى أحد الزوجين (٣) أوكد منه فى الآخر ، على أن العقود والفسوخ كلها تثبت لها عند

__________________

(١) فى ط : مفيد الفعل.

(٢) فى أ : بين.

(٣) فى أ : الوجين.

١٩٧

تسمية البدل ، ولا يجب شىء من ذلك بنفس العقد البدل حتى يستوفى فى بعض ذلك ، ولا يجب شىء فى البعض على كل حال ؛ فثبت به ما ذكرت ، فأوجب ما ذكرت ـ ألا يراد بالمتعة نصف مهر المثل ؛ إذ قد ثبت بالبيان الأول أن التدبير لا يوجب الزيادة عليه ، وبالبيان الثانى أن الأمر فيه محمول على التيسير والتخفيف ، ومن البعيد المجاوزة بالأمر المؤسس على التخفيف على المؤسس بالتغليظ فى التغليظ.

ولم يبين لنا ماهية المتعة ـ ما هى؟

ومعروف أن المتعة هى التى يتمتع بها ، وأن مهر المثل مما قد يتمتع به.

فجعلنا نصف مهر المثل نهاية المتعة بما هو النهاية فيما كان مبنيّا على التغليظ ، فلا يجاوز بها.

ذلك مع ما فيه وجهان :

أحدهما : إحالة وجوبها أكثر من مهر مثلها ، فيكون الدخول بها سببا لإسقاط الحق ، وقد جعله الله تعالى سببا لمنع السقوط ؛ فثبت أن مهر المثل معتبر فى المتعة.

والثانى : أنها بحكم البدل عن ذلك. دليله وجهان :

أحدهما : أن المطالبة (١) كانت بمهر المثل ، والطلاق سبب إسقاط حقوق النكاح لإيجابها ؛ فثبت أن المتعة كانت مكان ما فيه المطالبة ، لا أن حدث الوجوب بالطلاق.

والثانى : أنه متى وجب مهر المثل لم يوجد لها نحو أن يدخل بها. ثبت أنها كانت بدلا ، فلا يزاد البدل ، مع ما كان التحويل إلى غير نوع مهر المثل. إنما هو ـ والله أعلم ـ لما قد يتعذر تعرفه ، أو أن لم يعرف ذلك بالاجتهاد والتفحص عن أحوالها ومحلها ومحل قومها ، وفى ذلك مؤن وتكلف. ثم بعد العلم بذلك لا بد من الاجتهاد فى الوسط من ذلك ، ثم فى أمرها منهم ، فجعل الله تفضله من الوجه الذى للمرء سبيل العلم به عن ذلك التكلف. أو لو رفع هو إلى الحاكم أمكنه الوصول إلى العلم به بدون ما ذكرت من النظر. فكان ذلك ـ والله أعلم ـ نحو ما فرض الله تعالى من زكاة الإبل ، لا فيها إذا صار بحيث لو كانت فيها لكانت جزءا يتعذر أخذ مثله ، ثم التسليم إلى الشراء ، فجعل فى ذلك بدلا على أن الذى عليه لو خرج بتسليم العين جاز ؛ فمثله ما نحن فيه.

وهذا هو وجه جعل الله تعالى متعة على أنها كانت واجبة نحو الإمساك ، لو رام ذلك ، إذ عليه النفقة والكسوة ، فإذا طلقها فجعلت هى مكان مهر المثل إذا فات السبب الذى كان

__________________

(١) فى أ ، ط : المطابقة.

١٩٨

يجب بحقها ، فجعلت واجبه بحق غيرها حتى لا يقع فى الطلاق وجوب أمر لم يكن فيما تقدم ، لو أريد بها الإمساك. ومن البعيد أن يزداد كسوة المرأة على مهرها أو نصف مهرها فى الحق. ولا قوة إلا بالله.

ثم ليس فى ظاهر الآية إبطال المهر فيما لم يسم ، ولا النصف فيما سمى. وإنما فى الأول الأمر بالمتعة ، وفى الثانى بيان أن لها نصف الفرض.

والقول : بأن نصف هذا العبد لفلان ، أو لفلان ، كذا من الحق لا يبطل عنه الحقوق جملة ، أو عن النصف لآخر بذلك القول ، بل فيه بيان ذلك أنه له وغيره متروك لدليله. ولا قوة إلا بالله.

وكذلك قوله تعالى : (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) [الأحزاب : ٤٩] ، ليس فى ذلك أن لا عدة عليهن ، ولكن فيه أن لا عدة لهم ، ويجوز أن تكون عليها ، لا له.

وكذلك عندنا : العدة هى التى عقيب الخلوة لا يملك هو فيها إمساكها ، ويلزمه المؤن فكأنها عليه ، لا له فى المعتبر.

فلما ذكرت يبطل قول من ادعى أن القول بالمهر والعدة فيما لا مماسة فيه خلاف الظاهر ـ والله أعلم ـ مع ما لو كان فى الظاهر ذلك لأمكن أن يكون من المسيس الإمكان ، لا حقيقته. دليل ذلك : أنه لو وجدت القبلة أو المعانقة فى الملأ من الخلق لوجد المسيس فى الحقيقة ، ولم يجب به ذلك ؛ فثبت أن المراد من ذلك معنى فى المسيس ، لا ما يلحقه اسمه.

ثم الذى يؤيد أنه الإمكان والاجتماع وجهان :

أحدهما : قوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٢١) [النساء] ، فأعظم عليه أخذ شىء مما آتاها بما كان من إفضاء بعض إلى بعض. والإفضاء فى اللغة معروف : أنه الانضمام ، لا المجامعة ، مع ما كانت المجامعة إلى الأزواج ، يضاف فعلها ، وفى هذا إضافة الإفضاء إلى كل واحد منهما. ثبت أنه فى معنى ذلك من كل واحد منهما نحو الذى من الآخر ، وذلك يكون فى الاجتماع خاصة. والله أعلم.

والثانى : وجود القول من خمسة من نجباء الصحابة الخلفاء ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، فمن دونهم ممن لا يحتمل خفاء الآيات عليهم ، ومن شهد الخطاب أحق بفهم الحقيقة من المراد أن يسألوا عن ذلك من أن يطلعهم على حقيقته إذا كان بحيث احتمال

١٩٩

الخفاء ، والخاصة النجباء الذين يعلمون أنهم أئمة الخلق ، وعلى الاقتداء بهم حثت الأمة ، مع ما فى ذلك عدول عن الظاهر ، وقول بالذى لا يحتمل فهمه عنه ؛ ثبت أن كان ذلك منهم عن بيان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو عن دليل شهدوه أظهر المراد. ولا قوة إلا بالله.

على أن فى الآية ، لو كان فى تصريح جماع ، لكان يلزم ذلك بالخلوة لوجهين سوى ما ذكرت :

أحدهما : جرى أحكام الكتاب والسنة فى البدل لأشياء مقصودة اسما وتحقيقا يستوجب حق العرفاء بها بحق شرط الله القبض فى الرهن ، والقتال فى المغانم ، والإيتاء فى الأجور والمهور والخروج لأمر الهجرة وأمر رؤيا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، لما أسلما لأمر الله ، فعلى ذلك أمر [المهور والعدة فى الخلوة إذ هى سلمت نفسها لذلك ، وعلى ذلك أمر](١) الخروج من الأمانات بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [النساء : ٥٨] ، ولو كان لا يخرج إلا بإدخال فى الأيدى فى الحقيقة ، لكان لا سبيل إلى القيام بما كلف الله تعالى. وعلى ذلك إجماع القول فى الإجارات إذا أمكن الانتفاع بها. والله أعلم.

والثانى : أن النساء لا يملكن من تسليم ما عليهن من الحق ، ومحال أن يلزمهن من الحق أكثر مما ذكر ، لكن الله تعالى وسعهن ؛ فثبت أن ليس عليهن غير الذى فعلن ، فاستوجبن ما لهن ، وعلى ذلك قوله تعالى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَ) [البقرة : ٢٢٨] والله أعلم.

ثم قد أجمع على وجوب المهر فى موت أحدهما ، وأن الموت لا يسقطه ، وإن لم يكن ثم دخول. فهو ـ والله أعلم ـ أن المقصود بالنكاح الملك وقيام الزوجية إلى موت أحدهما ، وإن كان ذلك الاستمتاع وقد وجد تمامه. وقد بينا أن المهر للملك ، لا لنفس الاستمتاع ، فوجب كماله وإن مات أحدهما ، لما بلغ الملك نهايته.

وعلى هذا يخرج قولنا فيما لم يسم لها المهر ؛ إذ مهر المثل إنما هو بدل الملك. دليله : أنه يوجب لها المطالبة به عند قيامه وإن لم يسم به.

وأصله : ما بينا من تعلق هذا الملك بالبدل حكما ، وإن لم يكن تعلق به شرطا ، وقد وجد ثم.

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط فى ط.

٢٠٠