تأويلات أهل السنّة - ج ٢

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة - ج ٢

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٧٣

وقوله : (آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) الآية :

ينقض قول (١) من يجعل الإيمان غير الإسلام ؛ لأنهم أخبروا أنهم آمنوا ، وأنهم مسلمون ، لم يفرقوا بينهما ، وكذلك قوله : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الذاريات : ٣٥ ـ ٣٦] : لم يفصل بينهما ، وجعلهما واحدا ، وكذلك قول موسى لقومه : (وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) [يونس : ٨٤] لم يجعل بين الإيمان والإسلام فرقا ، وهو قولنا : إن العمل فيهما واحد ؛ لأن الإيمان : بأن تصدق بأنك عبد الله ، والإسلام : أن تجعل نفسك لله سالما.

وقيل : الإيمان : اسم ما بطن ، والإسلام : اسم ما ظهر ؛ ألا ترى أنه جاز في الإسلام الشهادة ، وفي الإيمان التصديق؟!.

وقوله : (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ)

يعنى ـ والله أعلم ـ : بما أنزلت من الكتب السماوية التي أنزلها على الرسل جميعا ، فإن أرادوا بما أنزلت على عيسى ـ عليه‌السلام ـ فالإيمان بواحد من الكتب أو بواحد من الرسل : إيمان بالكتب كلها وبالرسل جميعا ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم (٢).

قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)(٥٧)

وقوله : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ).

مكروا بنبيّ الله عيسى ـ عليه‌السلام ـ حيث كذبوه وهمّوا بقتله ، (وَمَكَرَ اللهُ) ، أي : يجزيهم جزاء مكرهم ؛ وإلا حرف المكر مذموم عند الخلق ؛ فلا يجوز أن يسمّي الله به إلا في موضع الجزاء ؛ على ما ذكره ـ عزوجل ـ في موضع الجزاء ؛ كقوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ..). [البقرة : ١٩٤] والاعتداء منهي [عنه] غير جائز ؛ كقوله : (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة : ١٩٠] ؛ فكان قوله :

__________________

(١) في ب : على.

(٢) انظر قوله ـ تعالى ـ : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة : ٢٨٥].

٣٨١

فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ..). هو جزاء الاعتداء ؛ فيجوز ؛ فعلى ذلك المكر والخداع والاستهزاء : لا يجوز أن يسمّى به ، فيقال : يا ماكر ، ويا خادع ، ويا مستهزئ ؛ لأنها حروف مذمومة عند الناس ؛ فيشتم بعضهم بعضا بذلك ؛ لذلك لا يجوز أن يسمّى الله ـ تعالى ـ به إلا في موضع الجزاء (١). وبالله العصمة.

وقوله : (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) :

أي : خير الجازين أهل الجور بالعدل ، وأهل الخير بالفضل.

وقيل : (وَمَكَرُوا) ؛ حيث كذبوه وهمّوا بقتله (٢) ، (وَمَكَرَ اللهُ) ؛ حيث رفع الله عيسى ـ عليه‌السلام ـ وألقى شبهه على رجل منهم حتى قتلوه ؛ فذلك خير لعيسى ـ عليه‌السلام ـ من مكرهم (٣).

وقيل : (وَمَكَرُوا) ، أي : قالوا ، (وَمَكَرَ اللهُ) : قال الله. وقولهم الشرك ، وقال لهم : قولوا التوحيد.

(وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أي : خير القائلين.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) بما بالحق يمكر ، ويأخذ من استحق الأخذ ، وهم لا ، والله أعلم.

والمكر : هو الأخذ بالغفلة ، والله يأخذهم بالحق من حيث لا يعلمون ؛ فسمي مكرا لذلك ؛ كما يقال : امتحنه الله وهو الاستظهار ، ولكن لا يراد به هذا في [حق] الله.

وقوله : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) :

اختلف فيه : قيل : هو على التقديم والتأخير : ورافعك إلىّ ، ثم متوفيك بعد نزولك (٤) من السماء (٥) ، ولكن هو التقديم والتأخير ، ولم يكن في الذكر فهو

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي (٨ / ٥٩).

(٢) ينظر : تفسير الرازي (٨ / ٥٨ ـ ٥٩) واللباب (٥ / ٢٦٤ ـ ٢٦٥).

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) وهو قول قتادة ، أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٢٩٦) (٦٤٣) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٦٤) وعزاه إليه ، وهو أيضا قول أبي البقاء ، وينظر : اللباب في علوم الكتاب (٥ / ٢٦٥).

(٥) ومسألة نزول المسيح ـ عليه‌السلام ـ آخر الزمان وردت بها الأحاديث النبوية الصحيحة المتواترة ، ومنها :

ما رواه الإمام أحمد ومسلم عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يخرج الدجال في أمتى فيمكث أربعين يوما ، فيبعث الله ـ تعالى ـ عيسى ابن مريم ـ عليه‌السلام ـ كأنه عروة بن مسعود الثقفي فيطلبه فيهلكه ثم يمكث الناس سبع سنين ، ليس بين اثنين عداوة ، ثم يرسل الله ـ تعالى ـ ريحا باردة من قبل الشام ، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى ـ

٣٨٢

سواء (١) ؛ لأنا قد ذكرنا أن ليس في تقديم الذكر ، ولا في تأخيره ما يوجب الحكم كذلك ؛ لأنه كم من مقدّم في الذكر هو مؤخّر في الحكم ، وكم من مؤخر في الذكر هو مقدم في الحكم ، فإذا كان كذلك : لم يكن في تقديم ذكر الشيء ، ولا في تأخيره ـ ما يدل على إيجاب الحكم كذلك (٢) ؛ كقوله : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزمر : ٤٢] : فإنما هو قبض الأرواح ؛ فيحتمل الأول كذلك ، ويحتمل توفي الجسم ، أي : متوفيك من الدّنيا ، أي : قابضك ، وليس بوفاة موت (٣).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) ، أي : مميتك (٤) وهو ما ذكرنا ؛

__________________

 ـ تقبضه ، فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفا ، ولا ينكرون منكرا ، فيتمثل لهم الشيطان ، فيقول : ألا تستجيبون؟ فيقولون : فما ذا تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان فيعبدونها ، وهم في ذلك دار رزقهم ، حسن عيشهم ، ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى لينا ورفع لينا ، فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق ويصعق الناس ، ثم يرسل الله مطرا كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس ، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ، ثم يقال : يا أيها الناس هلم إلى ربكم وقفوهم إنهم مسئولون ، ثم يقال : أخرجوا بعث النار ، فيقال : من كم؟ فيقال : «من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين فذاك : (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) [المزمل : ١٧] (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) [القلم : ٤٢].

أخرجه مسلم (٤ / ٢٢٥٨ ، ٢٢٥٩) : كتاب الفتن وأشراط الساعة : باب في خروج الدجال ... ونزول عيسى وقتله إياه ، رقم (١١٦ ـ ٢٩٤٠).

وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تقوم الساعة حتى ينزل عيسى ابن مريم حكما مقسطا ، وإماما عادلا ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال ، حتى لا يقبله أحد».

أخرجه البخاري (٥ / ٤١٥) : كتاب المظالم : باب كسر الصليب وقتل الخنزير ، رقم (٢٤٧٦) ، ومسلم (١ / ١٣٥) : كتاب الإيمان : باب نزول عيسى ابن مريم رقم (٢٤٢ ـ ١٥٥).

(١) مثّل له القرطبي بقوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) [طه : ١٢٩] والتقدير : ولو لا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما.

وبقول الشاعر :

ألا يا نخلة من ذات عرق

عليك ورحمة الله السلام

أي : عليك السلام ورحمة الله.

ينظر : تفسير القرطبي (٤ / ٦٤).

(٢) سبق معنى هذا الكلام في تفسير المصنف للآية (٤٣) : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [آل عمران : ٤٣].

(٣) وقال الربيع بن أنس : وهي وفاة نوم ، قال الله ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) [الأنعام : ٦٠] أي : ينيمكم ؛ لأن النوم أخو الموت. ينظر : تفسير القرطبي (٤ / ٦٤ ـ ٦٥). ثم قال الدارقطني : والصحيح أن الله ـ تعالى ـ رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم ، كما قال الحسن وابن زيد ، وهو اختيار الطبري ، وهو الصحيح عن ابن عباس ، وقاله الضحاك.

(٤) علقه البخاري (٦ / ٦٨) كتاب التفسير : (باب ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ) [المائدة : ١٠٣].

وأخرجه الطبري (٧١٤١) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٢٩٥) (٦٣٧) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» ـ

٣٨٣

ليعلم أنه ليس بمعبود.

وقوله : (وَرافِعُكَ إِلَيَّ) :

هو على تعظيم عيسى ـ عليه‌السلام ـ ليس على ما قالت المشبهة (١) بإثباتها المكان له ؛ لأنه لو كان في قوله : (وَرافِعُكَ إِلَيَ) يوجب ذلك ، يجب أن يكون أهل الشام أقرب إليه ؛ لأن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ قال :

(إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات : ٩٩] ، والكفرة إليه قريب منه ؛ كقوله : (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) ؛ دل هذا أن ما قالوا خيال فاسد ـ تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا ـ ولكن على التعظيم والتبجيل (٢) ، أعني : المضاف إليه.

والأصل في هذا : أن الخاص إذا أضيف إلى الله فإنما يراد به تعظيم ذلك الخاص ؛ نحو ما قال : «بيت الله» ؛ على تعظيم البيت ، (ناقَةَ اللهِ) [الشمس : ١٣] ؛ فهو على تعظيم الناقة ، ونحوه مما يكثر [وقوعه](٣).

وإذا أضيف الجماعة إليه ، فهو على إرادة تعظيم الربّ ـ جل ثناؤه ـ نحو : (رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ٢] ، (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة : ١٠٧] ونحوه ؛ كله على إرادة تعظيم الربّ ، جل ثناؤه.

وقوله : (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) :

قيل فيه بوجوه :

قيل : مطهرك من أذى الكفرة ، من بين أظهر المخالفين لك (٤)

وقيل : ومطهرك من الكفر والفواحش ، ويحتمل : مطهرك ممّا قالوا فيك.

وقوله : (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا)

يحتمل : يجعله فوق الذين كفروا بالقهر والغلبة والقتل ، ويحتمل : بالحجّة ، ويحتمل : في المنزلة والدرجة في الآخرة.

__________________

 ـ (٢ / ٦٤) وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

(١) المشبهة : هم الذين شبهوا الله تعالى بالمخلوقات ، وهم فرقة واحدة قائلة بالتشبيه وإن اختلفوا في طرق التشبيه ، فمنهم مشبهة غلاة الشيعة. ومنهم مشبهة الحشوية ، ومنهم مشبهة الكرامية. ينظر : نشر الطوالع ص (٣٩١).

(٢) في ب : التبجيل والتعظيم.

(٣) سقط من ب.

(٤) أخرجه الطبري (٦ / ٤٦١) (٧١٤٨) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٢٩٨) (٦٤٧) عن الحسن ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٦٥) وعزاه إليهما.

٣٨٤

ويحتمل قوله : (وَمُطَهِّرُكَ) بقتل الكفرة من وجه الأرض ؛ على ما ذكر في بعض القصّة : أنه ينزل من السماء ، فلا يبقى على وجه الأرض كافر إلا وهو يقتله مع الذين اتبعوه ؛ فذلك تطهيره وجعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا (١).

وقوله : (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ)

ذكر هذا ـ والله أعلم ـ وإن كان المرجع للكل إليه في [كل](٢) حال ؛ لأنهم يقرّون ويعترفون في ذلك اليوم أن المرجع إليه ، وكانوا ينكرون ذلك في الدّنيا ؛ وهو كقوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الحج : ٥٦] الملك كان في ذلك اليوم وفي غير ذلك اليوم ، ولكن معناه : لا ينازعه أحد يومئذ في ملكه ، ويقرون له بالملك ، وفي الدّنيا أنكروا ملكه ؛ وهو كقوله : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) [إبراهيم : ٢١] كلهم بارزون لله في كل وقت ؛ لكنهم أنكروا بروزهم في الدنيا له ؛ فيقرون يومئذ بالبروز له ؛ فكذلك الأول ، والله أعلم.

وقوله : (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).

يحتمل : أحكم بينكم من المحقّ منكم ، ومن المبطل.

ويحتمل : أحكم بينكم : أي : أجزيكم على قدر أعمالكم.

ويحتمل : أحكم بينكم أي ، أجزى كلا بعمله على ما يستوجبون.

وقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ. وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الآية :

وقوله : (فِي الدُّنْيا) ، قيل : القتل ، والجزية (٣) ، وفي الآخرة : العذاب (٤).

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في قوله : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) فقوله : (مُتَوَفِّيكَ) :

__________________

(١) وقيل : إن الوقف التام عند قوله (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال النحاس وهو قول حسن.

و (جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) يا محمد (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : بالحجة وإقامة البرهان. وقيل : بالعز والغلبة. وقال الضحاك ومحمد بن أبان : المراد : الحواريون.

ينظر : تفسير القرطبي (٤ / ٦٦).

(٢) سقط من ب.

(٣) الجزية تطلق على العقد ، وعلى المال الملتزم به ، وهي مأخوذة من المجازاة ، لكفنا عنهم ، من الجزاء بمعنى القضاء ، قال ـ تعالى ـ : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) [البقرة : ٤٨].

واصطلح على أن الجزية : عقد يتضمن إقرار بعض الكفار على ما يدينون به على الدوام ببذل الجزية والتزام أحكام الإسلام العامة.

ينظر : الصحاح (٦ / ٢٣٠٣) جزى ، والقاموس المحيط (٤ / ٣١٤) جزى ، والمصباح المنير (١ / ١٥٨) جزى ، وطلبة الطلبة (٨٧) وشرح الحدود لابن عرفة (١٤٥).

(٤) ينظر : الوسيط للواحدي (١ / ٤٤٢) ، تفسير البغوي (١ / ٣٠٩) ، واللباب في علوم الكتاب (٥ / ٢٧٣) ، وتفسير القرطبي (٤ / ٦٦).

٣٨٥

يحتمل توفّي الموت بما يقبض روحه كفعله بجميع البشر ؛ تكذيبا لمن ظن أنه الله ، أو ابنه ، لا يحتمل أن يموت ، وقد ألزمهم هذا أيضا بوجهين ظاهرين ـ وإن كان فيما عليه خلقته وجوهره. ثم تقلبه من حال إلى حال في نفسه ، ومكان إلى مكان في حق القرار والحاجة ـ كفاية لمن يعقل الحقائق ، وبلغة لمن تأمّل الأشياء عبرا.

أحدهما : بقوله : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) [المائدة : ٧٥] ، وقوله : (عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) [البقرة : ٨٧] حتى ينطق به لسان كل منهم ، ومعلوم إحالة ابن بشر إلها أو ولدا لإله ؛ إذ هو يكون أصغر منهما وذلك آية حدثه ، وكذلك قوله في المهد : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) [مريم : ٣٠] إلى آخر ما ذكر ، مع ما لو احتمل ذلك لكان آدم ـ عليه‌السلام (١) ـ الذي هو الأصل ، هو المقدم ، وهو الذي لا يعرف له والدان أحق أو هو ؛ إذ هو بجوهره فهو ولده لا غير ، أو ذلك وصف الأولاد ، والله أعلم.

والثاني : (يَأْكُلانِ الطَّعامَ) [المائدة : ٧٥] : فأخبر عن حاجته وغلبة الجوع عليه ، وفقر نفسه إلى ما يقيمها من الأغذية. ثم في ذلك حاجة (٢) إلى الخلاء ، واختيار الأمكنة القذرة لقضاء حاجته ، وبالله التوفيق.

والثالث : على قبضه بنفسه من بين أظهر أعدائه ، ورفعه إلى ما به شرفه ، وتطهيره مما كان يحسّ منهم من الكفر وأنواع الفساد ، وختمه من بين البشر على وجه آية يكون له عليهم من أول أحوال ظهوره إلى آخر أحوال مقامه فيهم ؛ ليكون أوضح لمتبعيه في الآيات ، وعلى مخالفيه في قطع العذر. ولا قوة إلا بالله.

وفي الدعاء إلى المباهلة (٣) دلالة ظهور التعنت والعناد ، وفي تخلفهم عن ذلك دليل

__________________

(١) في ب : صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) في ب : حاجته.

(٣) ينظر : الآية (٦١) من سورة آل عمران وتفسيرها.

والمباهلة : الملاعنة : وهو أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا : لعنة الله على الظالم منا. ينظر : النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (١ / ١٦٧).

وأخرج البخاري (٤٣٨٠) عن حذيفة قال : جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريدان أن يلاعناه قال : فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل ؛ فو الله ، لئن كان نبيّا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا. قالا : إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا ولا تبعث معنا إلا أمينا. فقال : «لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين» فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «قم يا أبا عبيدة بن الجراح» فلما قام قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا أمين هذه الأمة».

وقال الحافظ ابن حجر (٨ / ٤٢٩) : وفيها [أي : في تلك القصة] مشروعية مباهلة المخالف إذا أصرّ بعد ظهور الحجة. وقد دعا ابن عباس إلى ذلك ثم الأوزاعي ، ووقع ذلك لجماعة من العلماء. ومما عرف بالتجربة أن من باهل وكان مبطلا لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة ، ووقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة فلم يقم بعدها غير شهرين.

٣٨٦

علمهم بتعنتهم وخوفهم مما قد وعدوا بالنزول عليهم ، ثم لزموا مع ذلك ما كانوا عليه من السفه والعناد ؛ ليعلم أن الحيل عمن اعتاد المعاندة منقطعة ، ومعلوم أن الدعاء إلى المباهلة لا يكون في أول أحوال الدعوة ؛ وإنما يكون بعد توفير الحجة وقطع الشبهة (١) ؛ ففي ذلك بيان أنه كانت ثمّ محاجّات ، حتى بلغ الأمر هذا ، وعلى ذلك أمر القتال أنه لم يوضع في أول أحوال الإرسال ، وفي الحال التي للقول وللحق وجه القبول من طريق النصف والعقل ؛ وإنما كان [عند ظهور](٢) معاندتهم ، وكثرة (٣) سفههم ، حتى همّوا بالقتل ، وأكثروا الأذى ، وأكرهوا أقواما على الكفر ، وأخرجوا [رسول](٤) ربّ العزة من بين أظهرهم بما راموا قتله ، وطردوا أصحابه من بلادهم حتى تحصّنوا بالغيران ، فأذن الله [تعالى](٥) عند ذلك بالقتال ، وفتح الفتوح ؛ ليكون آيته في كل وجوه الآيات ظاهرة وحجته بينة ، وفي ذلك جواز محاجة الكفرة في التوحيد والرّسالة ، لكن على ما قال الله ـ تعالى ـ : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] ، و (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) [الكهف : ٢٢] نهي عن التعمق والخوض فيما تقصر عنه الأفهام ، وإن كان معلوما أن لله حججا ظاهرة وغامضة ، ولا قوة إلا بالله.

وفي ذلك تعليم الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر : أنه يكون ذلك باللطف والرفق يرى المقصود [به](٦) ؛ ليقرر به عنده الحجة ، ويزيل عنه الشبهة من الوجه الذي يحتمله (٧) عقله ، ويبلغه فهمه ، فإن رآه يتعامى في ذلك يوعده ويخوفه بالذي في ذاك من الوعيد.

فإن رأيته يكابر عرفت شؤم طبعه وسوء عنصره ، يوعده بما جاء به التعليم من الضرب

__________________

(١) الشبهة ـ لغة ـ : من أشبه الشيء الشيء ، أي : ماثله في صفاته ، والشّبه ، والشبه والشبيه : المثل ، والجمع : أشباه ، والتشبيه : التمثيل ، والشبهة : المأخذ الملبس والأمور المشتبهة ، أي : المشكلة لشبه بعضها ببعض.

والشبهة ـ اصطلاحا ـ : الظن المشتبه بالعلم ، ذكره أبو البقاء. وقال بعضهم : الشبهة : مشابهة الحق للباطل والباطل للحق من وجه إذا حقق النظر فيه ذهب.

وقال ابن الكمال : الشبهة : الشيء المجهول حله وحرمته على الحقيقة ، كذا في الودائع. وعبر عنه بعضهم بقوله : ما لم يتيقن حله ولا حرمته.

ينظر : التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (٤٢٢ ، ٤٢٣) ، وتعريفات الجرجاني (٢٢٩) ، ولسان العرب (٤ / ٢١٩١) (شبه) ، والموسوعة الفقهية الكويتية (٢٥ / ٣٣٨).

(٢) في ب : عند ما ظهرت.

(٣) في ب : وكثر.

(٤) سقط من ب.

(٥) سقط من ب.

(٦) سقط من ب.

(٧) في ب : يحتمل.

٣٨٧

والحبس ، فإن نفع ذلك ، وإلا بكف شره عن غيره وتطهير الأرض منه ؛ فإنه النهاية في القمع ، والغاية فيما يحق من معاملة السفهاء ، والله أعلم.

لكنه على منازل لا يحتمل انتهاء كل أنواع المآثم إلى هذه الغاية ؛ بل فيها ما كان أعظمها دون هذا بكثير ـ والله أعلم ـ لذلك يلزم تعرف مقادير الآثام أولا ؛ ليعرف بها ما يحتمل كل إثم من العقوبة فيه والزجر به ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) :

لأنه لا يحب الظلم.

قوله تعالى : (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ)(٦٣)

وقوله : (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ) ، قيل (١) : ذلك الذي ذكر في هذه الآية : نتلو عليك يا محمد.

(مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ)

هو (٢) المحكم ، وقيل : (الْحَكِيمِ) ، أي : من نظر فيه وتفكر يصير حكيما ؛ كما قال : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) [يونس : ٦٧] ، أي : يبصر فيه ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) :

قيل في القصّة : إن نصارى من أهل نجران (٣) قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا له : إنك تشتم صاحبنا عيسى بن مريم ، تزعم أنه عبد ، وهو يحيى الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص ، ويخلق من الطين كهيئة الطير فيطير ، فأرنا فيما خلق الله عبدا مثله يعمل

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي (٨ / ٦٥ ـ ٦٦).

(٢) في ب : قيل : الحكيم : هو.

(٣) نجران بالفتح ثم السكون وآخره نون ، وهو في عدة مواضع ؛ منها : نجران من مخاليف اليمن من ناحية مكة ، وبها كان خبر الأخدود ، وإليها تنسب كعبة نجران ، وكانت ربيعة بها أساقفة مقيمون ، منهم السيد والعاقب اللذين جاءا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أصحابهما ، ودعاهم إلى المباهلة ، وبقوا بها حتى أجلاهم عمر ـ رضي الله عنه.

ينظر : مراصد الاطلاع في أسماء الأماكن والبقاع ، لصفي الدين البغدادي (٣ / ١٣٥٩).

٣٨٨

هذا (١) ، والنصارى في الحقيقة مشبهة وقدرية : وأمّا التشبيه : فإنما حملهم على ذلك ظنهم في قول إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ حيث قال : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨] ؛ ظنوا أن عيسى لما قال : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) [آل عمران : ٤٩] أنه رب وإله ؛ لأن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أخبر أن ربه (الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨] ؛ فسموا عيسى إلها بهذا ، وهم كانوا يرون عيسى يأكل ويشرب وينام ؛ فلو لا أنهم عرفوا الله ـ عزوجل ـ وإلّا ما شبهوه به ، تعالى الله عن ذلك.

وأمّا القدرية : فلما لم يروا لله في أفعال العباد صنعا ؛ إنما رأوا ذلك للخلق خاصة (٢) ،

__________________

(١) أخرجه الطبري (٦ / ٤٦٨) (٧١٦١) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٣٠٧) (٦٦٧) عن ابن عباس. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٦٦) وعزاه إليهما من طريق العوفي عن ابن عباس. وأخرجه الطبري بنحوه (٦ / ٤٦٨) (٧١٦٠) عن الشعبي ، ورقم (٧١٦٢) عن قتادة ، وفي (٦ / ٤٦٩) (٧١٦٣) عن السدي.

(٢) وهي معرفة بالجبر والاختيار في الفعل ، والمراد من أفعال العباد : المعنى الحاصل بالمصدر الذي هو متعلق الإيجاد والإيقاع ، وهو على سبيل المثال ما يشاهد من الحركات والسكنات ، وإطلاق المصدر على المعنى الحاصل بالمصدر ـ وإن كان مجازا ـ من قبيل إطلاق اللازم وإرادة اللزوم ، إلا إنه كثير الوقوع ، فلا يحتاج إلى قرينة.

وتنقسم أفعال العباد إلى اختيارية كحركة البطش ، واضطرارية كحركة الارتعاش ، ومباشرة ومتولدة كحركة المفتاح المتولدة من حركة اليد ، ومنها ما يتعلق بالجوارح ، ومنها ما يتعلق بالقلوب ، وهذا كله فيما يختص بالمستيقظ ؛ لأن أفعال النائم والساهي مختلف فيها على تفصيلات كثيرة ليس المجال مجال ذكرها.

وهذه المذاهب التي اختصت بهذه المسألة : ذهبت المعتزلة : إلى أن العبد فاعل ومحدث لأفعاله الاختيارية ؛ إذ أفعال العباد من حركات وسكنات واقعة من جهتهم بإقدار الله لهم على هذه الأحداث ، وبهذا يتبين ـ كما يقول المعتزلة ـ خطأ من قال بأن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله ؛ لأن قدرة الله لا تتعلق بأفعال العباد من حيث الإيجاد والنفي.

أما الجبرية : فقالوا بنفي الاستطاعة والقدرة عن الإنسان في جميع أعماله ؛ لأن الأفعال مخلوقة لله ـ تعالى ـ فينا لا تعلق لنا بها أصلا ، لا اكتسابا ولا إحداثا ، وإنما نحن كالظرف لها.

ويتضح مذهب الجبرية فيما يقوله جهم بن صفوان إذ يقول : «الإنسان لا يقدر على شيء ، ولا يوصف بالاستطاعة ، وإنما هو مجبور في أفعاله لا قدرة له ولا اختيار». وبهذا يكون مذهب المعتزلة رد فعل لمذهب الجبرية.

أما الأشاعرة فلقد ذهبوا إلى أن أفعال العباد واقعة بقدرة الله ـ تعالى ـ وحدها ، والعبد ليس له أدنى تأثير فيها ، لأنها ـ أي الأفعال ـ مخلوقة لله من حيث الإبداع والإحداث وللعبد فيها كسب.

والسبب الذي جعل الأشاعرة يقولون بهذا : أنهم رأوا أن قدرة الله عامة ، وتشمل سائر المقدورات ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن.

أما السؤال الذي يطرح نفسه في خصوص رأي الأشاعرة ـ وهم يقولون بأن أفعال العباد واقعة بقدرة الله وحدها وللعبد فيها الكسب ـ هو عن تفسير حدوثها من العبد؟

وإجابة هذا السؤال هي أن الأشاعرة يرون أن الله ـ سبحانه ـ قد أجرى عادته بأن يوجد في العبد ـ

٣٨٩

فلما رأوا ذلك من عيسى ـ عليه‌السلام ـ ظنوا أنه ربّ ؛ لما لم يروا ذلك من غيره ، ولو كانوا عرفوا الله حق المعرفة ، لعلموا أن لم يكن من عيسى إلا تصوير ذلك الطير وتمثيله ، ويكون مثله من كل أحد ؛ وإنما الإحياء كان من الله ـ عزوجل ـ أجراه على يدي عيسى ـ عليه‌السلام ـ وأظهره ، وإنما كان من عيسى تصويره فقط ؛ وكذلك ما كان من إبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك من الله ـ عزوجل ـ أجراه على يديه آيات لنبوته ؛ لأنهم ادعوا له الربوبية من وجهين : لكونه من غير أب ، ولآياته.

ثم قوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) ـ يحتمل وجهين ـ والله أعلم ـ : أحدهما : أن الله ـ عزوجل ـ صور صورة آدم من طين ، ثم جعل فيه الروح ، لم يجز أن يقال صار آدم حيّا من نفسه ؛ لوجود صورته ، كيف جاز لكم أن تقولوا : إن عيسى لمّا صوّر ذلك الطير من الطين ، صار محييا له بتصويره إياه دون إحياء الله ـ تعالى ـ إياه؟! والله أعلم.

والثاني : أن آدم ـ عليه‌السلام (١) ـ خلق لا من أب وأم ، ثم لم تقولوا : إنه رب

__________________

 ـ قدرة واختيارا ، فإذا لم يوجد مانع أوجد فعله المقدور مقرونا لهذه القدرة والاختيار. ويزيد رأي الأشاعرة تفسيرا قول أبي الحسن الأشعرى : «الكسب عبارة عن الفعل القائم بمحل قدرة العبد» ، ويفهم من عبارة الأشعري أن الله ـ عزوجل ـ يعطى الإنسان القدرة على إحداث الفعل عند مباشرته ، فيقع الفعل عند هذه القدرة وليس بها.

أما الماتريدية : فيتفقون مع الأشاعرة في أن أفعال العباد واقعة بقدرة الله ـ عزوجل ـ وللعباد فيها الكسب ، لكنهم يختلفون مع الأشاعرة في معنى الكسب : فيرى الماتريدية : إثبات أن للعبد قدرة وإرادة لها أثر في الفعل ، لكن لا أثر لها في الإيجاد والإحداث ، وإنما أثرها ينصب على وصف الفعل بكونه طاعة أو معصية ، فهذه القدرة متمثلة في القصد والاختيار للفعل ، وعلى أساس هذا القصد وذلك الاختيار يخلق الله للعبد القدرة على الفعل ، وعليه تكون نتيجة الفعل.

وبهذا يتضح أن الخلاف بين الماتريدية والأشاعرة في قدرة العباد التي وقع بها الفعل ، فهي غير مخلوقة عند الأشاعرة ، بينما يرى الماتريدية أن للعبد اختيارا في أفعاله ، ولم يمنعوا أن تضاف الأفعال إلى الله تعالى.

وتنظر هذه المسألة وتفصيلاتها وأدلة كل فريق وبيان الحق فيها مع أهل السنة والجماعة في : سبيل الحكمة والرشاد في بيان من له الانفراد بخلق أفعال العباد ، لعبد الرحمن مصطفي (٢) ، المغني للقاضى عبد الجبار (٨ / ٢١٨ ، ٢١٩) ، وشرح الأصول الخمسة (٣٢٤) ، والملل والنحل للشهرستاني (١١٤) ، والفصل لابن حزم (٣ / ١٨ ـ ٢٠) ، والفرق بين الفرق (٢١١) ، وشرح المواقف للجرجاني (٨ / ١٤٥) ، وشرح البيجوري على الجوهرة (٣٢) ، والأشعري لحمودة غرابة (١٠٨) ، واللمع للأشعري (٩٧) ، ونهاية الإقدام للشهرستاني (٨٧) ، والتفسير الكبير (١٣ / ١٢٧ ، ١٢٨) ، وأبي منصور الماتريدي وآراؤه الكلامية (٤٣٢ ـ ٤٣٤) ، والتوحيد للماتريدي (٢٤٢ ، ٢٤٣) ، وبحر الكلام لأبي المعين النسفي (٤٠).

(١) في ب : صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣٩٠

أو (١) إله ، فكيف قلتم في عيسى : إنه إله ؛ وإنه (٢) خلق لا من أب ؛ إذ عدم الأبوة في آدم لم يوجب أن يكون ربّا ؛ وكيف أوجب عدم الأبوة في عيسى كونه ربّا وإلها؟! والله الموفق (٣).

وإنما كان عيسى بقوله : «كن» ـ كما كان آدم ، أيضا ، ب «كن» ـ من غير أب.

وقوله : (كُنْ) :

قد ذكرنا أنه أوجز كلام في لسان العرب يعبر فيؤدي المعنى ؛ فيفهم المراد ، لا أن كان من الله ـ عزوجل ـ كاف ، أو نون ، أو وقت ، أو حرف ، أو يوصف كلامه بشيء مما يوصف به كلام الخلق ، تعالى الله عن ذلك.

وقوله : (فَيَكُونُ) :

يحتمل وجهين :

يحتمل «يكون» ، بمعنى : كان ، والعرب تستعمل ذلك ولا تأبى.

والثاني : أن تكون الكائنات بأسبابها في أوقاتها التي أراد كونها على ما أراد ، وأصل ذلك ، إذا ذكر الله ووصف بذكر بلا ذكر وقت في الأزل ، وإذا ذكر الخلق معه يذكر الوقت ، والوقت يكون للخلق يقول : خالق لم يزل ، وخالقه في وقت خلقه.

وقوله : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) :

يحتمل هذا وجوها :

يحتمل أن يكون الخطاب لكل أحد قال في عيسى ما قالوا ، أي : لا تكن من الممترين في عيسى أنه عبد الله خالصا ، وأنه نبيه ورسوله إليكم.

ويحتمل أن يكون الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد غيره ؛ وهكذا عادة ملوك الأرض أنهم إذا أرادوا أن يعرفوا رعيتهم شيئا ، يخاطبون أعقلهم وأفضلهم وأرفعهم منزلة وقدرا عندهم ؛ استكبارا منهم مخاطبة كل وضيع وسفيه ؛ فكذلك [ولله المثل الأعلى] الله ـ عزوجل ـ خاطب نبيّه ؛ إعظاما له وإجلالا ، والله أعلم (٤).

ويحتمل ما ذكرنا فيما تقدم أن العصمة (٥) لا تمنع الأمر ولا النهي ؛ بل تزيد أمرا ونهيا ،

__________________

(١) في ب : ولا.

(٢) في ب : وإن.

(٣) ينظر : اللباب في علوم الكتاب (٥ / ٢٧٧ ـ ٢٧٨).

(٤) قال القرطبي : الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد أمته ؛ لأنه لم يكن شاكّا في أمر عيسى ، عليه‌السلام.

ينظر : تفسير القرطبي (٤ / ٦٧).

(٥) العصمة ـ لغة ـ : المنع. واصطلاحا : أن لا يخلق الله في المكلف الذنب مع بقاء قدرته واختياره. ـ

٣٩١

وإن كان يعلم أنه لا يكون من الممترين أبدا ، والله الموفق.

وقوله : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) الآية.

دعاهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المباهلة ، فالمباهلة في لغة العرب (١) : الملاعنة ، دعاهم إلى الدعاء باللعنة على الكاذبين ، فامتنعوا عن ذلك ؛ خوفا [منهم لحوق اللعنة ؛ فدل امتناعهم عن ذلك أنهم عرفوا كذبهم ، لكنهم تعاندوا](٢) وكابروا ؛ فلم يقروا بالحق.

وقوله : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) :

يعنى : الخبر الحق (٣).

وقوله : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) :

ظاهر ، قد ذكرناه فيما تقدم ، والله أعلم.

وقوله : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ، يحتمل : خبر الحق في أمر عيسى ـ عليه‌السلام ـ أنه كان عبدا بشرا نبيّا ، (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) ، أي : لا يحملنك شدة لجاجتهم وكثرتهم في القول فيه بهذا الوصف على الشك (٤) في الخبر الّذى جاءك عن الله ؛ كقوله : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ

__________________

 ـ وقيل : ملكة اجتناب المعاصى مع التمكن منها.

وهي عند الأشاعرة بناء على أصلهم من استناد الأشياء كلها إلى الفاعل المختار : ألا يخلق الله فيهم ذنبا. وعند الماتريدية : عدم القدرة على المعصية ، أو خلق مانع منها ـ المعصية ـ غير ملجئ ـ ومعنى غير ملجئ : أن خلقه هذا المانع لا يقهر النبي على ترك المعصية وإلا يلزم الاضطرار المنامى للابتلاء والاختبار.

وقد أجمع الملّيّون كلهم على وجوب عصمة الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ عن تعمد الكذب فيما دل على المعجز القاطع على صدقهم فيه مثل دعوى الرسالة وما يبلغونه عن الله تعالى.

ينظر : مختار الصحاح (٤٣٧) (عصم) ، التعليقات على شارح الجوهرة للشيخ محمد يوسف الشيخ (١١٦) ، التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (٥١٦) ، المصباح المنير (٤٩٣) (عصم) ، والمفردات (٥٠٤) (عصم) وتعريفات ابن الكمال (١١٧) ، شرح المواقف (٨ / ٢٦٣) ، الشفاء بحقوق المصطفي للقاضي عياض (٢ / ١٠٥).

(١) ينظر : مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى (١ / ٦٩) ، والزاهر لابن الأنباري (١ / ٢١٩).

(٢) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٣) راجع : تفسير البغوي (١ / ٣١١).

(٤) الشك : الوقوف بين النقيضين ، وهو من شك العود فيما ينفذ فيه ، لأنه يقف بذلك الشك بين جهتيه.

ذكره الجرجاني. وقال غيره : وقوف بين المعنى ونقيضه ، وضده الاعتقاد فإنه قطع بصحة المعنى دون نقيضه.

وقيل : الشك : التردد بين نقيضين لا ترجيح لأحدهما عند الشاك. والشك ضرب من الجهل ، وهو أخص منه ، لأن الجهل قد يكون عدم العلم بالنقيضين رأسا ، فكل شك جهل ولا عكس.

ينظر : التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (٤٣٦ ، ٤٣٧) ، وتعريفات الجرجاني (١٣٤) والكليات لأبي البقاء (٣ / ٦٢).

٣٩٢

ما يُوحى إِلَيْكَ) إلى آخره [هود : ١٢] : على الموعظة ، لا على أنه يكون كذلك ، أو على ما سبق ذكره ، والله أعلم.

ويحتمل : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ، أي : كل حق فهو عن الله جائز إضافته إليه ، على الوجوه التي تضاف إليه ، الباطل من الوجه الذي هو باطل ، (فَلا تَكُنْ) في ذلك (مِنَ الْمُمْتَرِينَ) ، والله أعلم.

وجائز أن يقول : جعل الله ذلك الفعل ممن فعله باطلا ، ولا يقال : الباطل من الله ، والله أعلم.

قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)(٦٤)

وقوله (١) : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) :

يعنى : كلمة الإخلاص والتوحيد ، (سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) ، أي : عدل ، أي : تلك الكلمة عدل بيننا وبينكم (٢) لأنهم كانوا يقرون أن خالق السموات والأرض : الله ، بقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٣١] ، وكذلك يقرون أن خالقهم الله ، بقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف : ٨٧] ، لكن منهم من يعبد دون الله أوثانا ، ويقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) ، ومنهم من يجعل له شركاء وأندادا يشركهم في عبادته ، فدعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ألا يجعلوا عبادتهم لغير الذي أنعم عليهم ؛ إذ العبادة لا تكون إلا لله الذي أقروا جميعا أنه خالق السموات والأرض ، وأنه ربهم ، وألا يصرفوا عبادتهم إلى غير الذي أنعم عليهم ؛ إذ العبادة هي لشكر وجزاء ما أنعم عليهم (٣).

(أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) لأن العبادة لواحد أهون وأخف من العبادة لعدد ، وأن صرف العبادة إلى من أنعم عليكم أولى من صرفها إلى الذي لم ينعم عليكم ؛ إذ ذاك جور وظلم في العقل أن ينعم أحد على آخر ، فيشكر غيره.

__________________

(١) في ب : وقوله ـ عزوجل.

(٢) ينظر : تفسير الطبري (٦ / ٤٨٧) (٧١٩٨) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٣١٧) (٤٩٦).

(٣) أي [دعاهم] إلى قول معتدل لا يميل إلى التعطيل ولا إلى الشرك ، متفق عليها لا يختلف فيها الرسل والكتب ، قاله القاسمي في محاسن التأويل (٤ / ١١٧).

٣٩٣

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : العدل في اللغة (١) : وضع الشيء [في](٢) موضعه ، وفي إخلاص العبادة لله والتوحيد ـ ذلك وهذا معنى سواء. وجائز أن تكون كلمة يستوي فيها أنها عدل ما شهد لنا بهذا كل أنواع الحجج.

وقوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) :

يحتمل : تولوا عن طاعة الله وتوحيده ، وصرف العبادة إليه ـ

(فَقُولُوا).

كذا.

ويحتمل : فإن تولوا عن المباهلة والملاعنة (٣) ـ فقولوا (٤)(اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)

أي : مخلصون العبادة له ، صادقون الشكر على ما أنعم علينا ، والله أعلم (٥).

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : فإن تولوا عن قبول ما دعوتهم إليه من الاجتماع على الكلمة.

قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)(٦٨)

وقوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ).

قيل : وذلك أن اليهود قالوا : إن إبراهيم كان على ديننا اليهودية ، والنصارى ادعت أنه كان على دينهم ومذهبهم ، ليس على دين الإسلام ؛ فنزل قوله : (لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) يعني : في دين إبراهيم (٦).

__________________

(١) ينظر : المحكم لابن سيده (٢ / ٩ ، ١٠) ، وتهذيب اللغة للأزهري (٢ / ٢١٢) (عدل) ، ولسان العرب (٤ / ٣٨٣٨) (عدل).

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : اللباب لابن عادل (٥ / ٢٩٤).

(٤) في أ : فقل.

(٥) وقيل : أي لزمتكم الحجة ؛ فوجب عليكم أن تعترفوا بأنا مسلمون دونكم ، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع أو غيرهما : اعترف بأني أنا الغالب وسلم لي الغلبة. ويجوز أن يكون من باب التعريض ومعناه : اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره. كذا في الكشاف (١ / ٣٧١).

ينظر : محاسن التأويل (٤ / ٢١٨).

(٦) أخرجه الطبري (٦ / ٤٩٠) (٧٢٠٢) عن ابن عباس ، وينظر السيرة النبوية لابن هشام (٢ / ٢٠١ ـ

٣٩٤

(وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) يعني : من بعد إبراهيم ، وهو يحتمل وجهين :

يحتمل : أن التوراة والإنجيل إنما نزلا من بعده ، وأنتم لم تشهدوه ـ يعنى : إبراهيم ـ حتى تعلموا أنه كان على دينكم ، لم تقولون بالجهل أنه كان على دينكم؟!.

ويحتمل : (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) ، أي : أن التوراة والإنجيل ما نزلا إلا من بعد موته ، وكان فيهما أنه كان حنيفا مسلما

(أَفَلا تَعْقِلُونَ)

أنه كان حنيفا مسلما؟! ثم أكذبهم الله ـ عزوجل ـ فقال :

(ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : وفي هذه الآية دلالة أنهم علموا أنه كان مسلما ، لكن ادعوا ما ادعوا متعنتين ؛ حيث لم يقابلوا بكتابهم بالذي ادعوا من نعته ، وبخلاف ما ادعى عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعته.

وفيه دلالة الرسالة ؛ إذ في دعواهم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعرف نعته بهم ، لما ادعوا هم غير الذي ادّعى ؛ فثبت أنه عرف بالله ، وذلك علم الغيب ، والله الموفق.

وقوله : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) :

وهو ما ذكرنا ، وفيه دلالة جواز المحاجة في الدين على العلم به ، وإنما نهي هؤلاء عن المحاجة فيما لا علم لهم ؛ ألا ترى أن الرسل ـ عليهم‌السلام ـ حاجوا قومهم : حاج إبراهيم قومه في الله ، وذلك قوله : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) [الأنعام : ٨٣] ، وموسى ـ عليه‌السلام ـ حاج قومه ، وما من نبي إلا وقد حاج قومه في الدين ؛ فذلك يبطل قول من يأبى المحاجة في الدين.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : وأيد الحقّ أنه كذلك ـ عجز البشر عن إيراد مثله ، وعجزهم عن المقابلة بما ادعوا أنهم عرفوه بالله.

وقوله : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا)

__________________

 ـ ٢٠٢) ، واللباب في علوم الكتاب (٥ / ٢٩٩ ـ ٣٠٠) ، وأخرجه الطبري (٦ / ٤٩١) (٧٢٠٦) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٣١٩) (٧٠٣) ، عن مجاهد. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٧٢) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر. وأخرجه الطبري (٧٢٠٣) عن قتادة ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٧٢) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر ، وأخرجه الطبري (٧٢٠٥) عن أبي العالية.

٣٩٥

وهكذا يكون في العقل أن من اتبع آخر وأطاعه ؛ فهو أولى به ، وإنما الحاجة إلى السمع بمعرفة المتبع له والمطيع أنه ذا أو ذا ؛ فأخبر ـ عزوجل ـ أن الذين آمنوا والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم المتبعون له ؛ فهم أولى به.

وقوله : (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)

اختلف فيه ؛ قيل : الوليّ : الحافظ.

وقيل : الولي : الناصر.

وقيل : هو أولى بالمؤمنين ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدّم (١).

وقد يكون وليهم : بما دفع عنهم سفه أعدائهم في إبراهيم ، وأظهر الحق في قولهم.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : في قوله ـ تعالى ـ : (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ..). الآية ، وفي قوله : (لِمَ تُحَاجُّونَ.). وفي قوله : (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ ..). الآية ، ونوع ذلك من الآيات التي خصّ بالخطاب بها أهل الكتاب ـ وجوه من المعتبر.

أحدها : أن الذين خوطبوا بهذا الاسم [كانوا](٢) معروفين ، وأنه لم يخطر ببال مسلم أنه قصد به غير أهل التوراة والإنجيل ، ولا ذكرت تلاوتها في حق المحاجة على غيرهم ، ثبت أن المجوس ليسوا بأهل الكتاب ، وأن المراد من ذكر أهل الكتاب غيرهم ، وأن أخذ الجزية من المجوس ليس ممّا تضمنهم قوله : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة : ٢٩] ؛ لكن بدليل آخر ، وهو ما روي عن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب ، غير ناكحى نسائهم ، ولا آكلى ذبائحهم» (٣) ؛ وعلى ذلك أيّد قوله : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) [الأنعام : ١٥٦] ؛ ليعلم أن الكتاب (٤) المعروف وأهله : هؤلاء ، إن كانت ثمّ كتب وصحف ، والله أعلم.

والثاني : أنّ الله خص أهل الكتاب بأنواع الحجج ، وجعل المحاجة بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ليوضح أنه ـ وإن كان مرسلا إلى جميع البشر ـ كان له التخصيص في المحاجة ؛ وعلى ذلك عامة «سورة الأنعام» في محاجة أهل الشرك ، على أن أهل المدينة كانوا أهل كتاب ، وأهل مكة كانوا أهل شرك ، فحاجّ كلّا بالذي هو أحق أن يكلم فيه ، وإن كانت

__________________

(١) ينظر : الوسيط (١ / ٤٤٩) ، تفسير الرازي (٨ / ٨٠) ، واللباب في علوم الكتاب (٥ / ٣٠٨).

(٢) سقط من ب.

(٣) أخرجه مالك (١ / ٢٧٨) كتاب الزكاة : باب جزية أهل الكتاب والمجوس ، حديث (٤٢) من حديث عبد الرحمن بن عوف.

(٤) في ب : أهل الكتاب.

٣٩٦

الحجة تلزم الفريقين ؛ لأن محاجة أهل الشرك أكثرها في التوحيد وأمر البعث ، وعلى وجوده [فيه](١) : في أهل الكتاب بعض المشاركة لهم ، ومحاجة أهل الكتاب بما في كتبهم ، وفيه وجهان :

أحدهما : العلم بما قد غاب عنه السبب الذي يوصل إليه بالكسب ؛ ليعلم أنه وصل إليه بالوحي ؛ فيكون من ذلك الوجه حجة على الفريقين.

والثاني : ظهور سفه أهل الكتاب بوجه يسقط عند التأمّل الرّيبة والمحلّ الذي كان يمنعهم ذلك عن اتباعه ، وذلك فيما مدح كتبهم ، وشهد لها بالصدق والحق ، وإظهار الإيمان برسلهم ؛ ليعلم أنه ليس بين الرسل والكتب اختلاف في الدعاء إلى عبادة الله وتوحيده ، وأنّ أولئك إنما كذبوا ؛ لتسلم لهم الرئاسة ، ثم ـ مع ذلك ـ ظاهروا أهل الشرك المكذبين لكتبهم ورسلهم ؛ ليعلم كلّ ذى عقل شبههم وتمردهم في الباطل ؛ إذ ظاهروا أعداءهم في الدين على من الذي أظهروا موالاته في الدّين ولى له ؛ فيكون في ذلك أبلغ الزجر لمتعنتيهم ، وأعظم الحجة عليهم فيما آثروا من السفه وتركوا الحق ، والله أعلم.

وفي ذلك وجه آخر : أن أهل الشرك قد عرفوا حاجاتهم إلى أهل الكتاب في أمور الدّين ، وما عليه أمر السياسة ؛ فيصير ما يلزم أولئك من الحجة لازمة لهم في محاجته بالذي في كتبهم ـ لزوم الحجة ، مع ما عليهم في ذلك بما [قد](٢)(أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) [فاطر : ٤٢] الآية ، أبلغ الحجة في محاجة أهل الكتاب ؛ إذ تمنوا أن يكون منهم نذير فكان ، وقد بلغ المبلغ الذي له ظهر بما خصّوا من الحجج ، وشاركوا أولئك في جميع ما به كان افتخارهم عليهم ودعوى الفضل ، والله أعلم ، مع ما لم يكن له اللسان الذي به ظهر كتبهم ، أخبر هو جميع ما في كتبهم بغير لسانهم ؛ ليعلموا أنه أدرك ذلك ممن له حقيقة كتبهم ، والله أعلم.

وفي ذلك وجه آخر : أنه حاجّهم بوجهين :

أحدهما : بالموجود في كتابهم ، والمعروف عند أئمتهم من العلم بالكلمة التي دعاهم إليها من التوحيد وعبادة من له الخلق والأمر ، وإخبار ما في كتبهم من أنواع البشارات به ، ومن موافقة الكتب (٣) ، وعلى ذلك أمر إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وغيرهم ؛ ليكون أعظم

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) سقط من ب.

(٣) في ب : الكتاب.

٣٩٧

في الحجة ، وأقطع للشغب ، والله أعلم.

والثاني : بما قد حرفوا من كتبهم ، وبدلوا من أحكامهم ، وحرفوا من صفته ونعته ونعت أمّته ؛ ليعلم كلّ متأمل أنه لا وجه لتعلم ذلك بهم ؛ إذ لا يحتمل أن يكون منهم هتك أستارهم ، والاطلاع على أسرارهم بما لا يتهيأ لهم دفع ذلك ، ولا المقابلة في ذلك ؛ ليعلم كل الخلائق : من انقاد لهم أو لا ، أن ذلك لا يدركه إلا بمن له العلم بكل سرّ ونجوى ، ولا قوة إلا بالله.

مع ما في ذلك وجهان من المعتبر :

أحدهما : أن ذلك الزمان لم يكن زمان حجاج ونظر في أمر الدين ؛ إنما كان ذلك الزمان زمان تقليد (١) في أمر الدين ، وتناه في أمر الدنيا ، وتفاخر بكثرة الأموال والمواشي ؛ فبعث الله ـ تعالى ـ رسولا نشأ [من](٢) بين أظهرهم ، دعاهم إلى ترك التقليد في الدين ، واتباع الحجج التي لا يبلغها أهل الحجاج بعقولهم دون أن يكون لهم المعونة من علم الوحي ، وما فيه من حكمة الربوبية ؛ فكيف والقوم أصحاب التقليد؟! إمّا ثقة بأئمتهم الذين ادعوا علم الكتب المنزلة ، وإما ثقة وإيمانا بآبائهم فيما نشئوا عليه : أن الحق لا يشذ

__________________

(١) التقليد : هو العمل بقول الغير من غير حجة.

وذهب الأشاعرة إلى أنه لا يكتفى بالتقليد في العقائد الدينية بل لا بد من اعتقاد جازم عن دليل إذ الإيمان في المسائل الأصولية وهي قليلة يمكن الإحاطة بها وتكفي فيها المعرفة إجمالا ولا يشترط الاقتدار على التعبير عن ذلك.

يقول العلامة البغدادي في أصول الدين له : إن معتقد الحق قد خرج باعتقاده عن الكفر ؛ لأن الكفر واعتقاد الحق في التوحيد والنبوات ضدان لا يجتمعان غير أنه لا يستحق اسم المؤمن إلا إذا عرف الحق في حدوث العالم وتوحيد صانعه ...» إلى أن قال : «وهذا اختيار الأشعري وهو عنده ليس مشركا ولا كافرا ؛ وإن لم يسمه على الإطلاق مؤمنا وقياس أصله يقتضي جواز المغفرة له ؛ لأنه غير مشرك ولا كافر.

وذهب الماتريدية وعلى رأسهم المصنف إلى صحة إيمان المقلد ؛ وذلك لأن إيمان المقلد معه تصديق ، والتصديق أصل الإيمان يقول أبو منصور الماتريدي : ليس الشرط أن يعرف كل المسائل بالدليل العقلي ولكن إذا بنى اعتقاده على قول الرسول ، بعد معرفته بدلالة المعجزة أنه صادق فهذا القدر كاف لصحة إيمانه.

انظر تفصيل هذه المسألة في : أصول الدين للبغدادي (٢٥٥) ، نهاية الإقدام للشهرستاني (٤٧٢ ـ ٤٧٤) ، شرح المقاصد للتفتازاني (٢ / ١٩٤) ، أبو منصور الماتريدي وآراؤه الكلامية (٣٨٧) ، عبد الفتاح بركة ، وشرح جوهرة التوحيد للبيجوري (٣٤) ، ونظم الفرائد وجمع الفوائد لشيخى زاده (٤١ ، ٤٢) ، والبرهان (٢ / ١٣٥٧ ـ ١٣٥٩) ، والمحصول للرازي (٢ ـ ق ٣ / ١٢٥) ، والإحكام للآمدى (٣ / ٢٤٦) ، وجمع الجوامع (٢ / ٤٠٢) ، وفواتح الرحموت (٢ / ٤٠١) ، وإرشاد الفحول للشوكاني (٢٦٦).

(٢) سقط من ب.

٣٩٨

عنهم ، على ما في ذلك من الاختلاف الذي يمنعهم الأمرين جميعا ، لكنهم (١) إذا لم يكونوا أهل نظر في الدّين ومحاجة فيه ، لم يعرفوا أن ذلك يمنعهم التقليد ؛ فأظهر لهم الحجج ، وأنبأهم بالمودع من حجاج أنبيائهم في كتبهم ، وألزمهم أن في آبائهم من يلزم التقليد ، كانوا أحق بذلك بما كان عندهم أن آباءهم كانوا على دينهم بما بيّن من تغييرهم (٢) وتبديلهم ، وترك (٣) الواجب عليهم من حق الاتباع ، والله أعلم.

والثاني : أن أظهر فيهم الاختلاف في أئمتهم ، على ادعاء كل منهم أن ذلك هو الذي كان عليه الأنبياء والرسل في أهل الكتاب ؛ وحاجات غيرهم بما ليس عندهم إلا آراء ليس عندهم فضل على القول ، ثم كان معلوما عند الاختلاف والتفرق ؛ فصارت الحاجة قد عمتهم ، والعلم بهم في لزوم الأحكام إلى من يدلهم على الحجة (٤) ويعرفهم الحق الذي قد تقرر عندهم ؛ فبعث الله بفضله من أظهر لهم بما أنطق به لسانه من الحجاج ، وأراهم من علمه مما غيروا حفظ ما كان عليه أوائلهم ؛ فكان ذلك أظهر البيان ، وأولى ما يعرف من أفضال الله عليهم بالإغاثة ، والامتنان عليهم بالفرج مما قد مستهم إليه الحاجة ، ودفعتهم إلى العلم به الفاقة ، والله الموفق.

وفي الفصل الأول بقي حرف لم نذكره ، وهو أن دعاهم إلى الزهد في الدنيا بعد الركون إليها ، وإلى الأخوة في الدين بعد ظهور التفاخر بينهم بتكثير العشائر ، وتقابل القبائل ، والسخاء بجميع ما طبعوا عليه بما قدّر عندهم : ما إليه ترجع عواقب أمرهم ، وقام بذلك على قهر العادة ومخالفة الطبيعة التي يعلم أن ذلك في مثل ذلك العصر آية سماوية خارجة عن وسع البشر ؛ ليكون أقطع لعذرهم ، وأسكن لقلوبهم إليه ؛ فلله الحمد على ذلك.

وقوله : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ ..). الآية.

قيل فيها بأوجه :

أحدها : أنها العدل ، وهي كلمة التوحيد ، وكانت عدلا باتفاق الألسن ؛ إذ سئلوا عمن خلق السموات والأرض في الفزع إليه بالإجابة ، وشهادة الخلقة على وحدانية من له الخلق والأمر ، والله أعلم.

__________________

(١) في ب : لكن.

(٢) في ب : كغيرهم.

(٣) في ب : وتركه.

(٤) في ب : المحجة.

٣٩٩

ومن هذا الوجه أمكن أن يحاج جميع الخلق ، وإن خص به أهل الكتاب ، والله أعلم.

وأخرى : أن يستوي فيها أنها حق وعدل ، وهي عبادة الواحد الذي لم يختلف في أنه معبود ، وأن كل من عبد غيره فعلى أن يكون له العبادة يعبده ، فيرجع إلى حقيقته (١) دون أن يكون بيننا وبينه من يعلم أنه لا يستحق العبادة ، وهذا المعنى يلزم الجمع ، أيضا.

والثالث : أن يكون إلى كلمة ظهر أنها عدل في كتابهم بما جاءت رسلهم ، ونزلت بها كتبهم ، ولا قوة إلا بالله.

قوله تعالى : (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٧١)

وقوله : (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) :

ذكر في القصّة أن المشركين أخذوا عمارا (٢) وحذيفة (٣) ، فقالوا لهم : ديننا أفضل من دينكم ، وأفضل من الأديان كلها ؛ فنزل هذا (٤).

والأشبه أن يكون مثل هذا من رؤساء أهل الكتاب ، وعلماؤهم هم الذين يتولون مثل هذا العمل ، وأمّا الجهّال منهم والرذلة (٥) ، فإنهم لا يفعلون هذا ، والله أعلم.

وقوله : (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) :

الإضلال : قيل فيه بوجوه : قيل : الإضلال هو الإخمال (٦) ؛ أرادوا أن يخمل ذكرهم ، ولا يذكرون بعدهم أبدا ، كما ذكر أولئك.

__________________

(١) في ب : حقيقة.

(٢) هو عمار بن ياسر ، صحابي جليل شهد بدرا والمشاهد وقتل مع على بصفين سنة ٣٧ ه‍. ينظر : الخلاصة (٢ / ٢٦١.

(٣) هو حذيفة بن اليمان (حسيل) أبو عبد الله ، صحابي جليل من السابقين ، وكاتم سر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنافقين ، وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحاديث. مات سنة ٣٦ ه‍.

ينظر : الخلاصة (١ / ٢٠١) ، سير أعلام النبلاء (٢ / ٣٦١) رقم (٧٦).

(٤) ينظر : البحر المحيط (٢ / ٥١٣) ، تفسير البغوي (١ / ٣١٥) ، زاد المسير لابن الجوزي (١ / ٤٠٤) ، واللباب في علوم الكتاب (٥ / ٣١١) ، وقيل : أي لا يعلمون بصحة الإسلام ، وواجب عليهم أن يعلموا ؛ لأن البراهين ظاهرة والحجج باهرة.

ينظر : تفسير القرطبي (٤ / ٧١.

(٥) الرّذلة : الدون من الناس ، وقيل : الدون في منظره وحالاته ، وقيل : هو الدون الخسيس ، وقيل : هو الردىء من كل شيء. ينظر : لسان العرب (٣ / ١٦٣٢) (رذل).

(٦) خامل الذكر : أي : لا يعرف ولا يذكر ويصير مجهولا. كما هو واضح من كلام المصنف. ينظر : لسان العرب : (٣ / ١٦٢٨) (خمل).

٤٠٠