تأويلات أهل السنّة - ج ٢

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة - ج ٢

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٧٣

والجن ؛ ألا ترى أن البشر لا يرونهم؟! فإذا كان كذلك بعثوا منهم ؛ ليعرفوهم ولتظهر لهم الحجة ، والله أعلم.

ثم المنة الثانية : حيث بعثهم من نسبهم وجنسهم وحسبهم لم يبعثهم من غيرهم ؛ وذلك أنهم إذا بعثوا من غير قبيلهم وجنسهم لم يظهر لهم صدقهم ولا أمانتهم فيما ادعوا من الرسالة ، فبعثهم منهم (١) ؛ ليظهر صدقهم وأمانتهم ، لمّا ظهر صدقهم وأمانتهم في غير ذلك ؛ فيدلّ ذلك لهم أنهم لما لم يكذبوا بشيء قط ولا خانوا في أمانة ـ لا يكذبون على الله تعالى.

والثاني : أنهم إذا كانوا من غير نسبهم فلعلهم إذا أتوا بآية أو براهين يقولون : إنما كان ذلك بتعليم من أحد ، واختلاف إلى أحد ممن يفتعل بمثل هذا ، بعثهم الله منهم ؛ ليعلموا أنهم إذا لم يتعلموا من أحد ، ولا اختلفوا فيه ـ أنهم إنما علموا ذلك بالله ـ تعالى ـ لا بأحد من البشر ، والله أعلم.

ألا ترى أن ما أتى به موسى ـ صلوات الله عليه ـ من الآيات من نحو : العصا ، واليد البيضاء وغير ذلك لو كان سحرا في الحقيقة لكان من أعظم آيات رسالته : لأنه لم يعرف أنه اختلف إلى أحد في تعلم السحر قط ، وقد نشأ بين أظهرهم ، فكيف ولم يكن سحرا؟! فدل أن لله على خلقه منة عظيمة ؛ فيما بعث الرسل من نسبهم وقرابتهم ، وممن نشأ بين أظهرهم لمعنى الذي وصفنا ، والله أعلم.

وقيل : قوله : (رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ، أي : من العرب معروف النسب أميّا (٢) ؛ ليعلموا أنه إنما أتى به ما أتى سماويّا وحيا ، وألا يرتابوا في رسالته وفيما يقوله ، كقوله : (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) الآية [العنكبوت : ٤٨].

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) :

يحتمل : إعلام رسالته ونبوته ، ويحتمل الآيات الحجج والبراهين ، هما واحد ، ويحتمل : آيات القرآن.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيُزَكِّيهِمْ) :

يحتمل : التزكية من الزكاء والنماء ، وهو أن أظهر ذكرهم ، وأفشى شرفهم ومذاهبهم ؛ حتى صاروا أئمة يذكرون ويقتدون بهم بعد موتهم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها)

__________________

(١) في ب : منة.

(٢) أخرجه بنحوه البيهقي في الشعب (٢ / ٢٣٢) عن عائشة موقوفا ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٦٥) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن عائشة.

٥٢١

[الشمس : ٩] : أظهره ولم يخمل ذكرهم ؛ ألا ترى أنه قال : (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [الشمس : ١٠] أي : أخفاها وأخملها؟! ويحتمل : (وَيُزَكِّيهِمْ) ، أي : يطهرهم بالتوحيد ، وقيل : (وَيُزَكِّيهِمْ) ، أي : يأخذ منهم الزكاة ؛ ليطهرهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ)

أن ينصرف إلى وجوه ، وقد ذكرناه في غير موضع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) :

وقد ذكرنا الضلال أنه يتوجه إلى وجوه : إلى الهلاك ، وإلى الحيرة ، وإلى خمول الذكر وغيره.

قوله تعالى : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١٦٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) :

يوم أحد ؛ حيث قتل منكم سبعون.

(قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها)

يوم بدر : قتلتم سبعين وأسرتم سبعين.

وقيل : إن ذلك كله يوم أحد كانت الدائرة (١) والهزيمة على المشركين في البداية (٢) ، ثم هزم المؤمنون ، يقول (٣) : إن أصابكم في آخره ما أصاب ، فقد أصابهم ـ أيضا ـ مثلاها ؛ يذكر هذا لهم ـ والله أعلم ـ على التسلى بما أصيبوا ؛ ليتسلى ذلك عنهم ، أو يذكرهم نعمه عليهم بما أصيب المشركون مثلى ذلك ؛ ليشكروا له عليها ، وليعلموا أنهم لم يخصّوا هم بذلك (٤).

__________________

(١) في ب : الدبرة.

(٢) في ب : ابتدائهم.

(٣) في ب : يقولون.

(٤) وهذا اختيار الزجاج ، وطعن الواحدي في هذا الوجه ، فقال : كما أن المسلمين نالوا من المشركين يوم بدر ، فكذلك المشركون نالوا من المسلمين يوم أحد ، ولكنهم ما هزموا المسلمين البتة. أما يوم أحد فالمسلمون هزموا المشركين أولا ثم انقلب الأمر. قاله الرازي في مفاتيح الغيب (٩ / ٦٦).

٥٢٢

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) :

كأنه يعاتبهم ـ والله أعلم ـ بقولهم : (أَنَّى هذا) ؛ فقال (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) : يعاتبهم بتركهم الاشتغال بالتوبة عما ارتكبوا من عصيان ربهم ، والخلاف لنبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ إذ مثل ذلك الكلام لا يكون إلا ممن كان متبرئا عن ارتكاب المنهي والخلاف لأمره ، فأما من كان منه ارتكاب المناهي والخلاف لربه ؛ فلا يسع ذلك أو كان ما أصابهم إنما أصاب محنة منه ، ولله أن يمتحن عباده بأنواع المحن على يدي من شاء (١) ؛ إذ كلهم عبيده ، فعاتبهم لما لم يعرفوا محنه ، و (قُلْتُمْ أَنَّى هذا) ، ونحن مسلمون [نقاتل](٢) في سبيل الله ، وهم مشركون؟! فقال : (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) ، يقول : بمعصيتكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبترككم ما أمركم به من حفظ المركز وغيره ؛ كقوله : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء : ٧٩].

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في قوله ـ تعالى ـ : (قُلْتُمْ أَنَّى هذا) : يخرج إن كان من أهل النفاق مخرج الاستهزاء ، أي : لو كان ما يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النصر له والرسالة (٣) حقّا ؛ فمن أين بلى بهذا؟! وذلك كقولهم : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) [آل عمران : ١٥٤] ، وقولهم يوم الخندق : (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) [الأحزاب : ١٢] ، وغير ذلك مما عليه معتمدهم في إظهار الإسلام ، والله أعلم.

وإن كان ذلك من أهل الإيمان فهو سؤال تعريف الوجه الذي بلوا به ، وهم أنصار دين الله ، وقد وعد لأنصار دينه النصر ، وإن الذي ينصره الله لا يغلبه شيء ، وكان قد وعدوا إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم ، أو بما كانوا رأوا الدّبرة (٤) عليهم والهزيمة من الأعداء ، فيقولون : بم انقلب علينا الأمر ؛ فبين أنه بما قد عصوا ومالوا عن الله ، وإن كان ذلك عن بعضهم لا عن كلهم (٥) : فجائز ذلك بحق المحنة ؛ إذ قد يجوز الابتداء به مع ما يكون ذلك عن المعاصي أزجر ، وللاجتماع على الطاعة أدعى ؛ إذ المحنة بمثله تدعو كلا إلى اتقاء الخلاف ، ومنع إخوانه ـ أيضا ـ عن ذلك ؛ فيكون به التآلف وصلاح ذات البين ، والله أعلم

__________________

(١) في ب : يشاء.

(٢) سقط من ب.

(٣) في ب : أو الرسالة.

(٤) الدبرة : نقيض الدولة ، والعاقبة ، والهزيمة في القتال. ينظر : القاموس المحيط ص (٣٥١ ، ٣٥٢) (دبر).

(٥) في ب : جلهم.

٥٢٣

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) :

من النصر والهزيمة ، ولكن ما أصابكم إنما أصاب بمعصيتكم ربكم ، وخلافكم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو أصابكم ؛ محنة منه إياكم.

وقوله : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) :

جمع المؤمنين ، وجمع المشركين.

(فَبِإِذْنِ اللهِ) :

قيل (١) : فبمشيئة الله وإرادته ، وقيل : (فَبِإِذْنِ اللهِ)(٢) : فبتخلية الله إياكم لما لعلهم رأوا النصر والغلبة بالكثرة ، أو بالقوة والعدة ؛ فخلاهم الله بينهم وبين عدوهم ؛ ليعلموا أن أمثالهم مع قلتهم وضعفهم لا ينتصرون من أمثال أولئك مع كثرة عددهم ، وقوّة أبدانهم (٣) ، وعدتهم في سلاحهم ، ولكن بالله ينتصرون منهم ، ويتغلبون عليهم.

وقيل (٤) : (فَبِإِذْنِ اللهِ) : بعلم الله ، أي : يعلم الله ما يصيبكم من خير أو شرّ ، ليس عن سهو وغفلة منه يصيبكم (٥).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) :

كما ذكرنا فيما تقدم ؛ ليعلم ما قد علم أنهم يؤمنون ، ويصبرون على البلايا والقتال مؤمنين صابرين محتسبين ؛ وكذلك ليعلم ما قد علم أنهم ينافقون ، ويصيرون منافقين ، غير صابرين ، ولا محتسبين (٦).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا) :

قوله : (أَوِ ادْفَعُوا) : يحتمل : (أَوِ ادْفَعُوا) ، أي : كثّروا السواد ؛ لأن المشركين إذا

__________________

(١) ذكره الرازي في تفسيره (٩ / ٦٨) ، وابن عادل في تفسيره (٦ / ٣٩).

(٢) ذكره الرازي في تفسيره (٩ / ٦٨) ، وابن عادل (٦ / ٣٩).

(٣) في ب : أمانهم.

(٤) ذكره الرازي (٩ / ٦٨) ، وابن عادل في اللباب (٦ / ٣٩) ،.

(٥) وقيل : إن المراد من الإذن الأمر ؛ بدليل قوله : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) [آل عمران : ١٥٢] ، والمعنى : أنه ـ تعالى ـ لما أمر بالمحاربة ، ثم صارت تلك المحاربة مؤدية إلى ذلك الانهزام ـ صح على سبيل المجاز أن يقال : حصل ذلك بأمره.

وقيل : إن المراد من الإذن : قضاء الله بذلك وحكمه به ، وهو المنقول عن ابن عباس. وهذا أولى ؛ لأن الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم ، والتسلية إنما تحصل إذا قيل : إن ذلك وقع بقضاء الله وقدره ؛ فحينئذ يرضون بما قضى الله. أفاده الرازي في مفاتيح الغيب (٩ / ٦٨).

(٦) والعلم هنا علم عيان ورؤية يتميز به أحد الفريقين عن الآخر تميزا ظاهرا. أفاده القاسمي في محاسن التأويل (٤ / ٢٨٧).

٥٢٤

رأوا سواد المؤمنين [كثيرا](١) يرهبهم ذلك ويخوفهم ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) [الأنفال : ٦٠](٢).

ويحتمل : أو ادفعوا العدو عن أنفسكم ؛ لما لعلهم يقصدون أنفس المؤمنين المقاتلين ، أو ادفعوا عن أموالكم وذراريكم ويقصدون ذلك ، أو ادفعوا عن دينكم إذا قصدوا دينكم ، وقد يقصدون ذلك ، أو أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا) ـ واحدا ، أي : قاتلوا في سبيل الله وادفعوا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ)

يعني : المنافقين ، قيل : قال المنافقون الذين تخلفوا في المدينة (٣) لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : قال ذلك غيرهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) :

يعني : المنافقين ، أخبر أنهم إلى الكفر أقرب من الإيمان للكفر وإلى الكفر من الكفر ، كل ذلك لغة ، وفي حرف حفصة : هم «إلى الكفر أقرب» ، وتأويله ـ والله أعلم ـ : أن المنافقين كانوا لا يعرفون الله ـ عزوجل ـ ولا كانوا يعبدونه ؛ فإنما هم عباد النعمة ، يميلون إلى حيث مالت النعمة : إن كانت مع المؤمنين ؛ فيظهرون من أنفسهم الوفاق لهم ، وإن كانت مع المشركين فمعهم ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ..). الآية [النساء : ١٤١] ، وكقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ ..). الآية [الحج : ١١] ، وأما الكفار : فإنهم كانوا يعرفون الله ، لكنهم كانوا يعبدون الأصنام والأوثان لوجهين :

أحدهما : لما اتخذوها أربابا.

والثاني : يطلبون بذلك تقربهم إلى الله زلفى ؛ كقولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، لكنهم إذا أصابتهم الشدة ، ولم يروا فيما عبدوا الفرج عن ذلك ـ فزعوا إلى الله عزوجل ، كقوله ـ تعالى ـ : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) ومن أجمل ما يروى في هذا : ما ذكره القرطبي في تفسيره (٤ / ١٧٠) قال : وقال أنس بن مالك : رأيت يوم القادسية عبد الله بن أم مكتوم الأعمى وعليه درع يجر أطرافها ، وبيده راية سوداء ؛ فقيل له : أليس قد أنزل الله عذرك؟ قال : بلى ، ولكني أكثر سواد المسلمين بنفسي. وروي عنه أنه قال : فكيف بسوادي في سبيل الله؟!

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ٣٧٨ ـ ٣٨٠) (٨١٩٣) عن الزهري وغيره ، (٨١٩٤) عن ابن إسحاق (٨١٩٥) ، عن السدي ، (٨١٩٦) عن عكرمة ، ذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٦٧).

٥٢٥

الدِّينَ) [العنكبوت : ٦٥] ، فإذا ذهب ذلك عنهم عادوا إلى دينهم الأول ، وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) الآية [الزمر : ٨] ، وأمّا المؤمنون : فهم في جميع أحوالهم : في حال الرخاء والشدة ، والضراء والسراء ـ مخلصون لله صابرون على مصائبهم وشدائدهم قائلون : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ١٥٦].

وقوله ـ عزوجل ـ : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) : يحتمل هذا وجوها : قيل : إنما كانوا كذا ؛ لأنهم كانوا يقولون للمؤمنين : (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) وإن كان للكافرين نصيب قالوا : (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ١٤١] : ذكروا كونهم مع المؤمنين ، وذكروا في الكافرين استحواذهم عليهم ، ومنعهم من المؤمنين ؛ فذلك آية الأقرب منهم.

ويحتمل : أقرب منهم للإيمان ؛ لأن ما أظهروا من الإيمان كذب ، والكفر نفسه كذب ؛ فما أظهروا من الإيمان فهو كذب إلى الكذب الذي هم عليه أقرب ، وهو الكفر.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) قال : «هم يومئذ يسرون الكفر ، ويظهرون الإيمان ، وسرّ العبد أولى من علانيته ، وفعله أولى من قوله» (١).

(يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) :

وهو قولهم ، وقيل : وهم منهم أقرب ؛ لأنهم كانوا في الحقيقة كفارا على دينهم.

وفي قوله ـ تعالى ـ : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) ـ يحتمل الذم ، وقيل : كقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها) [الأحزاب : ١٤] ؛ فيكون الوصف بالقرب على الوقوع والوجوب ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] ، أي : هي لهم ـ وبالله التوفيق ـ وذلك لأنهم كانوا أهل نفاق ، والكفر لم يكن يفارق قلوبهم ، وما كان من إيمانهم كان بظاهر اللسان ، [ثم](٢) قد يفارقها في أكثر أوقاتهم ، والله أعلم.

وقد يكون على القرب من حيث كانوا شاكّين في الأمر ، والشاك في أمر الكفر والإيمان تارك للإيمان ؛ إذ حقيقته تصديق عن معرفة ، ولم يكن لهم معرفة ، والكفر قد يكون بالتكذيب ؛ كأن له بما يكذب علم بالكذب أولا ؛ فلذلك كان الكفر أقرب إليهم ، ويحتمل : أقرب إليهم : أولى بهم ، وهم به أحق أن يعرفوا ؛ بما جعل الله لهم من إعلام

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ٣٧٩) (٨١٩٤) عن ابن إسحاق ، وذكره الرازي في تفسيره (٩ / ٧٠).

(٢) سقط من ب.

٥٢٦

ذلك في لحن القول (١) ، ثم في أفعال الخير ، ثمّ في أحوال الجهاد ، ومما يظهر منهم من آثار الكفر في الأقوال والأفعال مما جاء به القرآن ، والله أعلم.

فإن قيل في قوله : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) ـ : كيف عم هؤلاء بالعقوبة ، وإنما كان العصيان والخلاف في الأمر من بعضهم لا من الكل ، قيل : لما خرج لهم ذلك مخرج الامتحان والابتلاء ، لا مخرج الجزاء لفعلهم ، ولله أن يمتحن عباده ابتداء بأنواع المحن من غير أن يسبق منهم خلاف في الأمر أو عصيان ، وكل عقوبة خرجت مخرج جزاء عصيان أو خلاف في أمر ـ لم يؤاخذ غير مرتكبها ؛ لقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الإسراء : ١٥] ، وما خرج مخرج الامتحان جاز أن يعمهم ؛ لما ذكرنا أن له ابتداء امتحان ، أو إن كان ما كان منهم بمعونة غيرهم ؛ فعمهم لذلك بذلك ، كقطّاع الطريق وكسرّاق أن تعمهم العقوبة جميعا : من أخذ ومن لم يأخذ ، ومن تولى ومن لم يتولّ ؛ فكذلك هذا ، أو كانوا جميعا كنفس واحدة ؛ فعمهم بذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ)

قيل : لإخوانهم في الدين ، ومعارفهم من المنافقين :

(لَوْ أَطاعُونا)

ولم يخرجوا إلى الجهاد

(ما قُتِلُوا).

وقيل : لإخوانهم في النسب والقرابة ، وليسوا بإخوانهم في الدين والولاية ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) [الأعراف : ٧٣] ليس بأخيهم في الدين [ولا] في الولاية ؛ ولكن كان أخاهم في النسب والقرابة.

(لَوْ أَطاعُونا)

وقعدوا عن الخروج في الجهاد (ما قُتِلُوا) في الغزو.

ثم قال ـ عزوجل ـ لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن قل لهم : (قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ)

أي : ادفعوا عن أنفسكم الموت

(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

بأنهم لو قعدوا في بيوتهم ما قتلوا ؛ فمعناه ـ والله أعلم ـ : أن من قتل في سبيل الله

__________________

(١) يقال : لحن له : قال له قولا يفهمه عنه ، ويخفى على غيره ، وألحنه القول : أفهمه إياه. ينظر : القاموس المحيط ص (١١٠٨) (لحن).

٥٢٧

فمكتوب ذلك عليه ، ومن مات في بيته فمكتوب ذلك عليه ، فإذا لم تقدروا دفع ما كتب عليكم من الموت ؛ كيف زعمتم أنهم لو قعدوا ما قتلوا ، وهو مكتوب عليهم كالموت؟!.

وهذه الآية ترد على المعتزلة قولهم ؛ لأنهم يقولون : إن من قتل مات قبل أجله ، أو قبل أن يستوفي أجله (١) ؛ فهم واليهود فيما أنكر الله عليهم قولهم لو أطاعونا وقعدوا ما قتلوا ـ سواء بقوله : (قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)(١٧١)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) :

قيل فيه بوجوه ، قيل : إن المنافقين قالوا للذين قتلوا بأحد وببدر : إنهم ماتوا ؛ فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) بأحد وبدر (أَمْواتاً) كسائر الموتى ؛ بل هم أحياء عند ربهم.

وقيل : قالوا : إن من قتل لا يحيا أبدا ولا يبعث ؛ فقال ـ عزوجل ـ : بل يحيون ويبعثون كما يحيا ويبعث غيرهم من الموتى (٢).

وقيل : إن العرب كانت تسمي الميت : من انقطع ذكره إذا مات ولم يذكر ، أي : لم يبق له أحد يذكر به ؛ فقالوا : إذا قتل هؤلاء ماتوا ، أي : لا يذكرون ؛ فأخبر الله ـ عزوجل ـ أنهم مذكورون في الملأ : ملأ الملائكة ، وملأ البشر ، وهو الظاهر المعروف في الخلق أن الشهداء مذكورون عندهم (٣).

وقيل : قوله ـ عزوجل ـ : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ)

أي : يجري أعمالهم بعد قتلهم ، كما كان يجري في حال حياتهم ، فهم كالأحياء فيما يجري لهم ثواب أعمالهم وجزائهم ، ليسوا بأموات.

وقيل : إن حياتهم حياة كلفة ؛ وذلك أنهم أمروا بإحياء أنفسهم في الآخرة ؛ ففعل المؤمنون ذلك : أحيوا أنفسهم في الآخرة ؛ فسموا أحياء لذلك ، والكفار لم يحيوا أنفسهم

__________________

(١) تقدم ذكر هذه المسألة ، وراجع : أصول الدين للبزدوي (ص ١٦٧).

(٢) وهناك أسباب أخرى أخرجها الطبري في تفسيره (٧ / ٣٨٦ ـ ٣٨٧).

(٣) كما قال الشاعر :

موت التقيّ حياة لا فناء لها

قد مات قوم وهم في الناس أحياء

ينظر : تفسير القرطبي (٤ / ١٧٢ ـ ١٧٣).

٥٢٨

بل أماتوها ؛ فسمى أولئك أحياء ، والكفار موتى.

وقيل : سمى هؤلاء أحياء ؛ لأنهم انتفعوا بحياتهم ، وسمى الكفار أمواتا ؛ لما لم ينتفعوا بحياتهم. ألا ترى أنه ـ عزوجل ـ سماهم مرة (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة : ١٨] ؛ لما لم ينتفعوا بسمعهم ولا ببصرهم ولا بلسانهم ، ولم يسم بذلك المؤمنين ؛ لما انتفعوا بذلك كله؟! فعلى ذلك سمى هؤلاء أحياء ؛ لما انتفعوا بحياتهم ، وأولئك الكفرة موتى ؛ لما لم ينتفعوا بحياتهم ، والله أعلم.

وقال الحسن : إن أرواح المؤمنين يعرضون على الجنان ، وأرواح الكفار على النار (١) ؛ فيكون لأرواح الشهداء فضل لذة ما لا يكون لأرواح غيرهم من المؤمنين ذلك ، ويكون لأرواح آل فرعون فضل ألم وشدة ما لا يكون لأرواح غيرهم من الكفرة ذلك ؛ فاستوجبوا بفضل اللذة على غيرهم اسم الحياة. ألا ترى أنه قال ـ تعالى ـ : (يُرْزَقُونَ) : فيها ، (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ).

وقيل (٢) : إن الناس كانوا يقولون فيما بينهم : من قتل ب «بدر» وأحد مات فلان ومات فلان ؛ فقال الله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ) البقرة : ١٥٤](٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) :

روي عن مسروق (٤) ، قال : سألت عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن هذه الآية : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ..). الآية ؛ قال : سألت عن ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فقال : «أرواحهم عند الله فى حواصل طير خضر ، لها قناديل معلّقة بالعرش ، تسرح فى الجنّة فى أيّها شاءت ثمّ تأوى إلى قناديلها ...» (٥) والحديث طويل.

__________________

(١) ذكره ابن عادل بنحوه في اللباب (٦ / ٤٨).

(٢) أخرجه بنحوه ابن جرير (٧ / ٣٩٢) (٨٢٢١) عن الضحاك.

(٣) قال الواحدي : الأصح في حياة الشهداء ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن أرواحهم في أجواف الطير ، وأنهم يرزقون ويأكلون ويتنعمون.

ينظر : محاسن التأويل (٤ / ٢٩٠).

وهذا الخبر المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخرجه أحمد (١ / ٢٦٦) وأبو داود عن ابن عباس مرفوعا.

وقد أطال الفخر الرازي النفس في تفسير حياة الشهداء ، فليراجع مفاتيح الغيب (٩ / ٧٣ ـ ٧٦).

(٤) مسروق بن الأجدع الهمداني أبو عائشة الكوفي الإمام القدوة : ثقة لا يسأل عن مثله ؛ كما قال ابن معين. مات سنة ٦٣ ه‍.

راجع خلاصة الخزرجي (٣ / ٢١) ، سير أعلام النبلاء (٤ / ٦٣) رقم (١٧).

(٥) أخرجه مسلم (١٢١ ـ ١٨٨٧) عن مسروق قال : سألنا عبد الله ـ هو ابن مسعود عن هذه الآية ـ : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران : ١٦٩] قال : أما إنا ـ

٥٢٩

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ ..). الآية :

عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : «تنزل عليهم صحف مكتوب فيها من يلحق بهم من الشّهداء ؛ فبذلك يستبشرون» (١).

وقيل : «يستبشرون» لإخوانهم الذين فارقوهم على دينهم وأمرهم ؛ بما قدموا عليه من الكرامة والفضل والنعم ، الذي أعطاهم الله (٢). وقيل : «يستبشرون» ، يعني : يفرحون (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) ، يعني : من بعدهم من إخوانهم في الدنيا (٣) : رأوا قتالا ؛ استشهدوا ؛ فلحقوا.

وقيل : (لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) :

الذين يدخلون في الإسلام من بعدهم.

والاستبشار : هو الفرح أو طلب البشارة ؛ كأنهم طلبوا البشارة لقومهم ؛ ليعلموا بكرامتهم عند الله ومنزلتهم ؛ كقول من قال : (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) [يس : ٢٦ ـ ٢٧].

وقيل : إن الحياة على ضربين : حياة الطبيعى ، وحياة العرضيّ ، وكذلك الموت على وجهين : موت الطبيعي ، وموت العرضي ، ثم حياة العرضي على وجوه :

أحدها : حياة الدّين والطاعة ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : ١٢٢]. وحياة العلم والبصيرة واليقظة ، يسمي العالم حيّا ، والجاهل ميتا. وحياة الزينة والشرف ، على ما سمى الله ـ تعالى ـ الأرض ميتة في حال يبوستها ، وحية : في حال خروج النبات منها بقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها) [فصلت : ٣٩]. وحياة الذكر واللذة ؛ فجائز أن يكون الله ـ تعالى ـ لما أخبر أنهم أحياء عند ربهم أن يكون لهم حياة من أحد الوجوه التي ذكرنا : حياة ذكر ولذة ، أو حياة زينة وشرف ، أو حياة العلم لهم بأهل الدنيا على ما كان لهم قبل ذلك ، أو حياة دين وعبادة ، أو يجري عليهم أعمالهم على ما كان لهم قبل الشهادة ، وإن كانت أجسادهم في الحقيقة ميتة في أحكام الدنيا عند أهل الدّنيا ، وهذا يقوي قولنا في المرتد : إنه إذا لحق

__________________

 ـ قد سألنا عن ذلك ، فقال : «أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش ...» الحديث.

(١) أخرجه بنحوه ابن جرير (٧ / ٣٩٧) (٨٢٣١) عن السدي.

(٢) أخرجه بنحوه ابن جرير (٧ / ٣٩٦) (٨٢٢٦) عن قتادة ، وعن ابن جريج (٧ / ٣٩٦) (٨٢٢٧) ، وعن ابن إسحاق (٧ / ٣٩٧) (٨٢٢٩) ، وعن ابن زيد (٧ / ٣٩٧) (٨٢٣٠).

(٣) ينظر : السابق.

٥٣٠

بدار الحرب يحكم في نفسه وماله بحكم الموتى في قسمة المواريث ، وقضاء الديون وغيرها ، وإن كان هو في الحقيقة حيّا على ما حكم في أموال الشهداء وأنفسهم بحكم الموتى في حكم الدنيا ؛ لما لا يعودون إلى الدنيا ، وإن كانوا عند ربّهم أحياء ؛ فعلى ذلك يحكم في نفس المرتد وأمواله بحكم الموتى ؛ لما لا يعود إلى دارنا ، وإن كان هو في الحقيقة حيّا عند الله لما جاز أن يكون حيّا عند الله ، ميتا عندنا ، وجاز أن يكون ميتا عندنا حيّا عند الله ، والله أعلم.

وحياة الطبيعى : هو حياة جوهر ، وما به يقوم النفس ، وموت الطبيعي هو هلاكه ، وفوته [والله أعلم](١).

وموت العرضي : هو جهله ؛ والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) :

يحتمل (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) أي : بدين من الله ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) [آل عمران : ١٠٣] ، قيل : بدينه (٢) ، ويحتمل : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) : الجنة ، (وَفَضْلٍ): زيادات لهم وكرامات من الله ، عزوجل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) :

أي : لا يضيع من حسناتهم وخيراتهم وإن قل وصغر ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) [الأحقاف : ١٦] [وكقوله ـ عزوجل ـ](٣) : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [الزلزلة : ٧] ، كقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ..). [النساء : ٤٠] الآية.

قوله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(١٧٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) :

قيل : أجابوا الله ـ عزوجل ـ والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ما دعاهم إليه (٤) ، وأطاعوا فيما أمرهم

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في ب : ولا قوة إلا بالله.

(٢) ينظر : الوسيط للواحدي (١ / ٤٧٤).

(٣) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٤) أخرجه ابن جرير (٧ / ٤٠١) (٨٢٣٥) عن ابن إسحاق ، وذكره السيوطي (٢ / ١٨٠) ، وعزاه لابن المنذر عن سعيد بن جبير.

٥٣١

به من بعد ما أصابهم القرح ، أي : الجراحة.

قيل : دعاهم إلى بدر الصغرى بعد ما أصابهم بأحد القروح والجراحات ؛ فأجابوه ، فذلك قوله ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ..). الآية (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ) :

في الإجابة له بعد ما أصابتهم الجراحة ، وشهدوا القتال معه.

(وَاتَّقَوْا) :

الخلاف له ، وترك الإجابة ، ويحتمل : اتقوا النار وعقوبته.

(أَجْرٌ عَظِيمٌ) :

في الجنة وثواب جزيل ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ..). الآية : قيل : إن المنافقين قالوا لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ما انهزم كفار مكة وولوا أدبرهم : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) ، يخوفونهم ؛ حتى لا يتبعوهم على أثرهم ، فذلك عادتهم لم تزل ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) [التوبة : ٤٧] أي : فسادا.

وقيل : إنه إنما قال ذلك لهم رجل يقال لهم : نعيم بن مسعود (٢) ، ولا (٣) ندري كيف كانت القصة (٤)؟.

__________________

(١) ذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٧٨) ، وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة.

(٢) هو نعيم بن مسعود الأشجعي ، أبو سلمة ، صحابي أسلم يوم الخندق قتل يوم الجمل مع على.

ينظر : الإصابة ترجمة (٨٨٠٤) ، الخلاصة (٣ / ٩٨).

(٣) في ب : لا.

(٤) أخرجه ابن جرير (٧ / ٤٠٦) (٨٢٤٣) ، وذكره ابن عادل في اللباب (٦ / ٥٧ ، ٥٨) ، والرازي في تفسيره (٩ / ٨٠ ، ٨١) ، وقال الطبري : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : إن الذي قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه من أن الناس قد جمعوا فاخشوهم ، كان في حال خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخروج من خرج معه في أثر أبي سفيان ، ومن كان معه من مشركي قريش منصرفهم عن أحد إلى حمراء الأسد ؛ لأن الله ـ تعالى ذكره ـ إنما مدح الذين وصفهم بقيلهم : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)[آل عمران : ١٧٣] ، لما قيل لهم : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) [آل عمران : ١٧٣] بعد الذي قد كان نالهم من القروح والكلوم بقوله : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) [آل عمران : ١٧٢] ، ولم تكن هذه الصفة إلا صفة من تبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جرحى أصحابه بأحد إلى حمراء الأسد.

وأما الذين خرجوا معه إلى غزوة بدر الصغرى : فإنه لم يكن فيهم جريح إلا جريح قد تقادم اندمال جرحه وبرأ كلمه. وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما خرج إلى بدر الثانية إليها ، لموعد أبي سفيان الذي كان واعده اللقاء بها بعد سنة من غزوة أحد في شعبان سنة أربع من الهجرة. ا ه.

وقال ابن كثير : والصحيح أن الآية نزلت في شأن غزوة حمراء الأسد. ينظر : تفسيره (١ / ٤٣٠).

٥٣٢

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَزادَهُمْ إِيماناً) :

لما وجدوا الأمر على ما قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووعد لهم ، لا على ما قال أولئك ؛ فزادهم ذلك إيمانا ، أي : تصديقا.

زادهم : قيل : جراءة وقوة وصلابة على ما كانوا من قبل في الحرب والقتال ، ويحتمل : زادهم ذلك في إيمانهم قوة وصلابة وتصديقا.

وقيل : قوله ـ عزوجل ـ : (فَزادَهُمْ إِيماناً) أي : تصديقا ويقينا بجرأتهم على عدوهم ، ويقينهم بربهم ، واستجابتهم لنبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

فإن قال قائل : ما معنى قوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (فَزادَهُمْ إِيماناً) على أثر قوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً) وقول ذلك قول لا يحتمل أن يزيد الإيمان ، وليس كقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) [الأنفال : ٢] ؛ لأنها حجج ، والحجج تزيد التصديق ، أو تحدث ، أو تدعوا إلى الثبات على ذلك ؛ فيزيد الإيمان ؛ فقولهم (٢) : اخشوهم ، كيف يزيد؟ قيل : يخرج ذلك ـ والله أعلم ـ على وجوه :

أحدها : أنهم إذا علموا أنهم أهل النفاق ، وأنهم يخوفون بذلك ، وقد كان وعدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصنيعهم ، فكذبوهم بذلك ، وأقبلوا نحو أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إجابة لأمره ؛ وتصديقا بوعده ، ومجانبة لاغترارهم بأخبار أعدائه والنزول على قولهم ؛ فكان ذلك منهم ـ عند ذلك ـ زائدا في إيمانهم مع ما في تكذيبهم ؛ ذلك نحو قوله ـ عزوجل ـ : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ..). [التوبة : ١٢٥] الآية : إنه إذا زاد بتكذيب آيات الله رجسا ؛ فمثله تكذيب المكذب بالآيات ؛ لذلك يزيد إيمانا ، والله أعلم.

والثاني : أن يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبرهم بتفرق أعداء الله ، وتشتت أمرهم ، وأخبرهم المنافقون بالاجتماع ؛ فصاروا إلى ما نعتهم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فوجدوا الأمر على ما قال [رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٣) ، وذلك من أنباء الغيب ، [والإنباء عن الغيب](٤) من أعظم آيات النبوة ؛ فزادهم ذلك إيمانا ، والله أعلم ، وذلك ، قوله ـ عزوجل ـ : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ ..). الآية.

والثالث : لم لما يغتروا بقول المنافقين ، ولا قصدوا لذلك ، ولا ضعفوا ؛ فأنزل الله ـ

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط لأبي حبان (٣ / ١٢١ ، ١٢٢).

(٢) في ب : فقوله.

(٣) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٤) بدل ما بين المعقوفين في ب : وأنباء الغيب.

٥٣٣

تعالى ـ سكينته على قلوبهم ؛ ليزيد لهم بذلك إيمانا ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ..). الآية [الفتح : ٤] ، وبالله التوفيق.

ثم معنى زيادة الإيمان يتخرج على وجوه :

أحدها : بحق الابتداء في حادث الوقت ؛ إذ له حكم التجدد في حق الأفعال بما هو للكفر به تارك ؛ وعلى ذلك قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ..). الآية [النساء : ١٣٦] ، فيكون ذلك بحق الزيادة على ما مضى ، وإن كان بحق التجدد في حق الحادث والفرد.

والثاني : أن يكون له الثبات عليه ؛ إذ حجج الشيء توجب لزومه ، والدوام عليه ؛ فسمى ذلك زيادة.

ويحتمل : أن يكون يزداد له في أمره بصيرة ، وعلى (١) ما رغب فيه إقبالا ، ولحوقه مراعاة ؛ فيكون في ذلك زيادة في قوته أو في نوره ، أو بزينته وتمامه ، وذلك أمر معروف.

ويحتمل : أن يكون ذلك داع إلى محافظة حقوق ، والتمسك بأدلته ، والوفاء بشرائطه ؛ فيزيد ذلك فضله ؛ كما عدت صلاة واحدة في التحقيق ألفا ؛ بما في ذلك من حفظ الحقوق ومراعاتها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) :

فزعوا إلى الله ـ تعالى ـ بما رأوا من صدق وعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم وظهور كذب قول المنافقين : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ..). الآية ، أو قالوا ذلك عند قول المنافقين إياهم : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) ؛ فوضوا أمرهم [إلى الله تعالى](٢) ، وسلموا لما رأوا النصر منه ؛ رضاء منهم بكل ما يصيبهم ، كقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ١٥٦] : مدحهم الله ـ عزوجل ـ بما رأوا أنفسهم لله ؛ فكذلك هذا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ).

أي : ذو منّ عظيم ، يدفع المشركين عن المؤمنين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ).

يحتمل النعمة : [نعمة الدين](٣) ، على ما ذكرنا.

__________________

(١) في ب : على.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في ب : إليه.

(٣) ما بين المعقوفين سقط من ب.

٥٣٤

وقيل : انقلبوا بنصر من الله والغنيمة ، ويحتمل : النعمة من الله : الأمن من العدو ؛ لأن المنافقين كانوا يخوفونهم بقولهم : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) ، ويحتمل : النعمة : الجنة ، وفضل الزيادة على ذلك.

وقيل : انصرفوا بأجر من الله وفضل ، وهو ما تشوقوا به من الشوق (١) :

(لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ)

ولا قتل ، ولا هزيمة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ)

أي : اتبعوا العمل الذي به رضوان الله ، ورضاء رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : اتبعوا طاعته ورضاه.

ويحتمل قوله : (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) : الزيادة في الإيمان ، وهو الصلابة والقوة فيه.

وقوله : (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) : مما كانوا يخوفونهم بقوله : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ).

ويحتمل قوله ـ تعالى ـ : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) ، أي : رجعوا بمحمد ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ)

يخوف أولياءه وأعداءه ، لكن أعداءه لا يخافونه ، وأولياؤه يخافونه ؛ كقوله : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) [يس : ١١] : ومن لم يتبع ، لكن من اتبع الذكر كان يقبل إنذاره ، ومن لم يتبع الذكر لا ؛ وإلا [فإنه] كان ينذر الفريقين جميعا ؛ فعلى ذلك الشيطان كان يخوف أولياءه وأعداءه جميعا ، لكن أعداءه لا يخافونه ، وأولياءه يخافونه.

ويحتمل قوله : (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) ، أي : بأوليائه ، وجائز هذا في الكلام ؛ كقوله : (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) [الشورى : ٧] ، أي : بيوم الجمع ؛ ألا ترى أنه قال : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) [الأنعام : ١٢١] ؛ فعلى ذلك قوله : (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) ، أي : بأوليائه ، والله أعلم.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : يخوفكم أولياءه (٢) ، وهذا يؤيد تأويل من يتأول : يخوف بأوليائه ، والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ٤١٤ ، ٤١٥) (٨٢٥١ ، ٨٢٥٢) عن مجاهد ، وعن السدي بمعناه : أخرجه ابن جرير (٧ / ٤١٥) (٨٢٥٥).

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ٤١٦) (٨٢٥٨) ، وعن ابن إسحاق : أخرجه ابن جرير (٧ / ٤١٦) (٨٢٥٩) ، وعن سالم الأفطس (٧ / ٤١٦) (٨٢٦٠).

٥٣٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

أي : لا تخافوه لمخالفتكم إياه ، (وَخافُونِ) ، أي : خافوا مخالفتكم أمري ؛ كقوله : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) [النحل : ٩٩ ـ ١٠٠] أخبر أن ليس له سلطان على الذين آمنوا ؛ إنما سلطانه على الذين يتولونه ؛ لذلك قال : لا تخافوه ؛ لما ليس له عليكم سلطان ، وخافون ؛ لما [لى](١) عليكم سلطان ، وبالله العصمة.

قوله تعالى : (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)(١٧٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ)

يحتمل الآية وجهين :

يحتمل : ولا يحزنك الذين ظاهروا غيرهم من المشركين عليكم ، وقد ظاهر (٢) أهل مكة غيرهم من المشركين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول الله لرسوله : (وَلا يَحْزُنْكَ) مظاهرتهم عليك ؛ فإن الله ينصرك ؛ فيخرج هذا مخرج البشارة له بالنصر على أعدائه والغلبة عليهم.

ويحتمل ـ أيضا ـ وجها آخر : وهو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يشتد عليه كفرهم بالله ، ويحزن لذلك ، كقوله ـ تعالى ـ : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] ؛ فيخرج قوله : (وَلا يَحْزُنْكَ) مخرج تسكين الحزن ، ودفعه عنه ، والتسلّى عن ذلك ، لا مخرج النهي (٣) ؛ إذ الحزن يأخذ الإنسان ، ويأتيه من غير تكلف ولا صنع ، وكقوله ـ تعالى ـ : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة : ٤٠] : هو على مخرج التسكين والدفع عنه ، لا على النهي ؛ فكذلك الأول ـ والله أعلم ـ وكقوله ـ تعالى ـ لأم موسى ـ عليه‌السلام ـ : (وَلا تَحْزَنِي) [القصص : ٧].

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) :

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ب : ظاهروا.

(٣) وقال القرطبي : هؤلاء قوم أسلموا ثم ارتدوا خوفا من المشركين ؛ فاغتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) [آل عمران : ١٧٦] وقال الكلبي : يعني به المنافقين ورؤساء اليهود ؛ كتموا صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الكتاب ؛ فنزلت. ينظر : تفسير القرطبي (٤ / ١٨١).

٥٣٦

يحتمل قوله : (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) أي : لن يضروا أولياء الله ـ عزوجل ـ إنما ضرر ذلك عليهم ، كقوله ـ تعالى ـ : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة : ١٠٥].

ويحتمل : (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) لأنه ليس لله في فعلهم وعملهم نفع ، ولا في ترك ذلك عليه ضرر ؛ إنما المنفعة في عملهم لهم ، والضرر في ترك عملهم عليهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) :

هذه الآية تنقض على المعتزلة قولهم ؛ لأن الله ـ تعالى ـ يقول : أراد ألا يجعل لهم في الآخرة حظا ؛ والمعتزلة يقولون : بل أراد أن يجعل لهم حظّا في الآخرة ؛ إذ يقولون : أراد لهم الإيمان ، وبالإيمان يكون لهم الحظ في الآخرة ، فثبت بالآية أنه لم يكن أراد لهم الإيمان ، والآية في قوم خاص علم الله ـ تعالى ـ أنهم لا يؤمنون أبدا ؛ فأراد ألا يجعل لهم حظّا في الآخرة ، ولو كان على ما تقوله المعتزلة : بأنه أراد أن يجعل لهم حظّا في الآخرة ـ لما أراد لهم أن يؤمنوا ، ولكن لم يؤمنوا لكان حاصل قولهم : أراد الله ألا يجعل لمن أراد يؤمن في الآخرة ، وذلك جور عندهم ، وبالله التوفيق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) :

وذكر مرة : (أَلِيمٌ) [آل عمران : ١٧٧] ومرة : (شَدِيدٌ) [آل عمران : ٤] ؛ لأن التعذيب بالنار أشد العذاب في الشاهد وأعظمه ؛ لذلك أوعد بها في الغائب ، وجعل شرابهم وطعامهم ولباسهم منها ، فنعوذ بالله من ذلك.

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ) :

قد ذكرنا تأويل هذا فيما تقدم.

(لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً)

ما ذكرنا أنه على الوجهين اللذين وصفتهما ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) الآية :

اختلف في قراءتها ، قرأ بعضهم بالياء :

وبعضهم بالتاء (١) : فمن قرأ بالتاء صرف الخطاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : لا تحسبن يا محمد أنما نملي لهم خير لهم ؛ إنما نملى لهم ليزدادوا شرّا.

__________________

(١) قرأ الجمهور بالغيبة ، وقرأ حمزة بالخطاب. ينظر : الحجة لأبي زرعة (٣ / ١٠١) ، حجة القراءات (١٨٢) ، السبعة (٢١٩ ، ٢٢٠) ، الإتحاف (١ / ٤٩٥) ، اللباب (٦ / ٦٨).

٥٣٧

ومن قرأ بالياء : صرف الخطاب إلى الكفرة ، فقال : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ) يكون خيرا لهم ؛ بل إنما نملي لهم ليكون شرّا وإثما لهم ؛ فالآية على المعتزلة ، لكنهم تأولوا بوجهين :

أحدهما : على التقديم والتأخير ؛ كأنه قال : «ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما ؛ إنما نملى لهم خير لأنفسهم» ؛ فيقال [لهم](١) : لو جاز جعل الآية وصرفها على ما حملتم عليه وصرفتم إليه ، جاز حمل جميع الآيات التي فيها وعد للمؤمنين ، وصرفها إلى الكافرين ، وما كان فيها وعيد للكافرين إلى المؤمنين ؛ إذ لا فرق بين هذا وبين جعلكم الخير مكان الإثم ، والإثم مكان الخير ، وبين جعل الوعد في موضع الوعيد ، والوعيد في موضع الوعد.

والوجه الثاني : قالوا : أخبر الله ـ تعالى ـ عما يئول أمرهم في العاقبة ، لا أن كان في الابتداء كذلك ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] ، ومعلوم أنهم لم يلتقطوا ليكون لهم عدوا وحزنا ؛ ولكن إخبار عما آل أمره في العاقبة أن صار لهم عدوا وحزنا ؛ وكذلك يقال للرجل : سرقت لتقطع ، وقتلت لتقتل ، وهو لم يسرق ليقطع ، ولا قتل ليقتل ؛ ولكن إخبار عما آل أمره وحاله في العاقبة ؛ فكذلك هذا ، لكن الإخبار عما يئول الأمر يخرج مخرج التنبيه عن السهو والغفلة في الابتداء ، فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يتعالى عن ذلك ؛ فخرج ذلك مخرج التحقيق في الابتداء ، لا مخرج الإخبار عما يئول الأمر في العاقبة ، وبالله التوفيق.

والثاني : أن من أراد أمرا يعلم أنه لا يكون فهو لجهل يريد ذلك أو لعبث ، فالله ـ سبحانه ـ يتعالى عن الجهل بالعواقب ، أو العبث في الفعل ؛ دلّ أنه كان على ما أراد ، لا ما لم يرد ، ولو كان الله ـ سبحانه وتعالى ـ لا يفعل بخلقه إلا ما هو أصلح لهم في الدّين وأخير ـ لم يكن لنهي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإعجاب بما أعطى الكفرة من الأموال والأولاد بقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ..). [التوبة : ٥٥] الآية ؛ دلّ أنه قد يعطى ما ليس [هو](٢) بأصلح في الدين ولا أخير ، والله أعلم.

وقال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : في قوله : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) ، وقوله ـ تعالى ـ : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها ..). الآية [التوبة : ٥٥] ، وقوله ـ تعالى ـ : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) سقط من ب.

٥٣٨

مالٍ وَبَنِينَ. نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون : ٥٥ ـ ٥٦] ونحو ذلك من الآيات ـ فيها وجهان على المعتزلة :

أحدهما : قولهم في الأصلح : إن الله ـ تعالى ـ لو فعل بالخلق شيئا غيره أصلح لهم في الدين في حال المحنة ـ كان ذلك جورا ، ومعلوم أن الفعل بهم ؛ ليزدادوا إثما لا يبلغ في الصلاح في الدّين الفعل بهم ؛ ليزدادوا به برّا ، ومعلوم أنه لو كان كذلك لم يكن ليجوز أن يحذر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، فيقول : لا يعجبك كذا ؛ فكأنه قال : لا يعجبك الذي هو صلاح في الدّين ، ثم يؤكد ذلك بأنه جعل لهم ذلك ليعذبهم بها ، ثم شهد على من حسب ما حسبته المعتزلة بأنهم لا يشعرون ؛ فكان ذلك شهادة منه ـ عزوجل ـ على كل من وافق رأيه رأي أولئك الكفرة : أنهم لا يشعرون ، ومعلوم أن الجبابرة والفراعنة لو لم يجعل الله ـ تعالى ـ لهم تلك الحواشي والملك والقوة لم يكن ليجترءوا على دعوى الربوبية ، ويبلغوا في المآثم ما بلغوا ؛ فيكون فوت ذلك أصلح لهم في الدين ، وقد قال الله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ ..). الآية [الزخرف : ٣٣] ، ثم كان معلوما أنه إذا كان بما يجعل ذلك للكفرة يكفرون ، فلو جعل للمؤمنين يؤمنون ، ثم لم يجعل كذلك ، [والله أعلم](١). وأيّد ذلك قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها ..). الآية [التوبة : ٥٥].

والثاني : أن الإرادة إذ هي صفة لكل فاعل مختار في الحقيقة ، وقد أخبر لأي وجه أعطى ؛ ثبت أنه أراد ذلك مع ما كان المتعالم من فعل كل أحد لا يخرج على ما أراده ولا يبلغ به ما لو فعل أنه يكون على جهل أو سفه.

فالأول : يكون فعله على ظن أن يكون ذلك فلا يكون.

والثاني : إذا علم ألا يكون ؛ فيكون له به عابثا سفيها ، جلّ الله ـ تعالى ـ عن الوجهين ؛ ثبت أن فعله لما علم أنه يكون لا لغيره ليلحقه به وصف جهل أو سفه ؛ وبهما سقوط الربوبية.

ثم وجهت المعتزلة الآية إلى وجهين :

أحدهما : على التقديم والتأخير بمعنى : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملى خير لأنفسهم. وذلك فاسد لوجهين :

أحدهما : لو كان جعل الخير شرّا والشرّ خيرا بالتأويل ، وصرف الآية عن سياقها ونظمها ـ لجاز ذلك في كل وعد ووعيد ، وأمر ونهي ، وتحليل وتحريم ؛ فيصير كل أمور

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط من ب.

٥٣٩

الدنيا مقلوبا.

والثاني : أنه لو كان كذلك لكان يجب أن يعجب به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ إذ على كل ذلك معجبا ، ولكانوا فيما حسبوا أن ذلك ضر لهم ـ يشعرون ، لا ألا يشعرون ، مع ما قيل : (وَلا يَحْسَبَنَ) بالياء في بعض القراءة ، ومتى كان يحسب الكفرة ذلك شرّا حتى يعاتبوا على الحسبان؟! والله الموفق.

والثاني : قالوا ذلك خبر عما يئول الأمر إليه ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] ، وهم لا لذلك (١) التقطوا ، وكمن يقول للسارق : سرقت لتقطع يدك ، وكما يقال : [من الوافر]

 ...............................

لدوا للموت وابنوا للخراب (٢)

والذي قالوه إنما هو تنبيه وإيقاظ لقوم لا يذكرون عواقب الأمور ، فيحرصون عليها عن غفلة بالعواقب ، فأمّا الله ـ سبحانه وتعالى ـ فمحال أن يكون أمره على ذلك ليكون فيما يذكره ذلك ؛ ألا ترى أن أحدا لا يقول : ولدت للموت ، أو بنيت للخراب ؛ لأنه لا لذلك يفعل ، وإن كان إليه يئول ، وإنما هو قول الواعظ لهم بما ذكرت ؛ كذلك بطل هذا ، وأمر قوم فرعون لم يقل : ليكون لهم عندهم ؛ إنما هو ليكون لهم عند الله تعالى ، وبما أراد الله ، وكان كذلك ، ولا قوة إلا بالله.

وقد بيّنا ما في الحكمة تحقيقه من طريق الاعتبار ـ ولا قوة إلا بالله ـ والأصل في ذلك أن الله ـ تعالى ـ عالم بمن يؤثر عداوته ويعاند آياته ، فإرادته ألا يكون منه ذلك حاجة إليه في موالاته ، أو إيجاب غلبة عليه في بعض ما يريد ، جل الله عن هذا الوصف.

قوله تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(١٧٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) :

__________________

(١) في ب : كذلك.

(٢) هذا عجز بيت وصدره :

له ملك ينادي كل يوم

 .........................................

وهو للإمام على. ينظر في : ديوانه ص (٣٨) ، خزانة الأدب للبغدادي (٩ / ٥٢٩) وينسب لأبي العتاهية.

٥٤٠