تأويلات أهل السنّة - ج ٢

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة - ج ٢

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٧٣

وقوله تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ).

قيل : (الْحِكْمَةَ) فى هذا الموضع معرفة القرآن وتفسيره. وهو قول ابن عباس (١) ـ رضى الله تعالى عنه ـ وكذا روى مرفوعا (٢).

وقيل (٣) : (الْحِكْمَةَ) الفهم فى القرآن.

وقيل (٤) : الفقه.

وقيل (٥) : (الْحِكْمَةَ) النبوة.

وقيل (٦) : (الْحِكْمَةَ) هى الإصابة. وفيه دليل جواز الاجتهاد ، وأنه مصيب فى اجتهاده.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله تعالى ـ فى قوله : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) : اختلف فى تأويل (الْحِكْمَةَ) فى هذا :

قال قوم (٧) : (الْحِكْمَةَ) هى القرآن ، وهو على ما وصفه (نُورٍأَ) [الأنعام : ٩١] و (هُدىً) [الأنعام : ٩١] ، و (رُوحاً) [الشورى : ٥٢] ، و (وَشِفاءٌ) [يونس : ٥٧] والنور : هو الذى يبصر به حقائق الأشياء ، وبالهدى يدرك كل شىء ويتقى كل تلف ، وبالروح يحيى كل ذى روح ، وبالشفاء يبرأ كل سقيم ويزال كل آفة. والذى هذا وصفه فهو الخير.

وبالله التوفيق.

وقال قوم (٨) : (الْحِكْمَةَ) هى الإصابة لحقيقة كل شىء ، وبها يتقى كل شر ، وينال كل خير ، وذلك هو الخير الكثير ، وبالله العصمة.

وقال بعضهم : (الْحِكْمَةَ) ، هى السنة ، كأنه أكرم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالذى من سلكه نجا ،

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٦١٧٦) ، وابن المنذر وابن أبى حاتم والنحاس فى ناسخه كما فى الدر المنثور (١ / ٦١٦).

(٢) أخرجه ابن مردويه من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس كما فى الدر المنثور (١ / ٦١٦).

(٣) قاله أبو العالية وإبراهيم ، أخرجه ابن جرير عنهما (٦١٧٩ ، ٦١٨٨) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٦١٦).

(٤) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٦١٧٧ ، ٦١٧٨) ، وعن مجاهد (٦١٨٠) ، وعن ابن عباس (٦١٨١).

(٥) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن المنذر عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٦١٦) ، وعن السدى أخرجه ابن جرير (٦١٩٠).

(٦) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٦١٨٢ ، ٦١٨٣ ، ٦١٨٤).

(٧) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن الضرير عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٦١٦).

(٨) قاله مجاهد ، أخرجه عبد بن حميد عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٦١٦).

٢٦١

ومن حاد عنه غوى.

وقيل : فى الأصل الحكمة فى التحقيق وضع كل شىء موضعه ، ودفع كل حق إلى مستحقه [ولهذا قال بعض الفلاسفة فى حد الحكمة : إنه العلم والعمل بالعلم فى وضع الأشياء مواضعها ، والعمل فى إيصال كل ذى حق إلى مستحقه](١).

وقيل : هى من إحكام الأمور وإتقانها. وذلك مقارب ؛ لما يضاد الحكمة السفه ، وهو التفاوت فى العقل والاضطراب فى الأمور. والله أعلم.

وقال قوم : الحكمة فى القرآن : هى فهم الحدود والسرائر ، وهو الذى به يدرك الموافقة والمخالفة من طريق الحقائق ، لا من طريق الظواهر. وذلك عمل الحكماء ورعاة الدين. ولا قوة إلا بالله.

وقال قوم : الحكمة : هى الفقه ، والفقه : معرفة الشىء بمعناه الدال على نظيره ، وهو الذى به يوصل إلى معرفة الغائب بالشاهد ، والغامض بالظاهر ، والفرع بالأصل. ولا قوة إلا بالله.

وأى هذه الوجوه كانت الحكمة فذلك الوجه يجمع (٢) خير الدارين ، لو حفظ حقه ، والذى هذا وصفه فهو الخير الكثير. وبالله المعونة.

وفى الآية دلالة أن الله تعالى لا يؤتى كلّا الحكمة ، وأن الحكمة وإن كانت فعلا للحكيم فبعطاء الله تعالى نالها ، وأنه لا يجوز أن يعطيها أحدا ثم لا ينالها المعطى. وهذه الوجوه كلها تخالف رأى المعتزلة.

وقوله تعالى : (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) ، من حفظ النفس فى الدنيا عن جميع الآفات ، وفى الآخرة عن دفع العقوبات.

وقوله تعالى : (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) يعنى : وما يتعظ بما ذكر إلا ذو الفهم والعقل.

وفى الآية نقض على المعتزلة ؛ لأنه قال : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) ، ثم قال : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) ، ولا كل أحد يؤتى الحكمة ، إنما يؤتى بعضا دون بعض. فلو كان على الله تعالى أن يعطى الأصلح فى الدين لكان قد آتى الكل ، وبطل التفضل. ومن قال : يؤتى غيرها ، فكان خلاف ما فى الكتاب.

وقوله : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط فى أ ، ط.

(٢) فى أ : بجميع.

٢٦٢

أَنْصارٍ).

يحتمل : نفقة المحارم.

ويحتمل : النفقات التى تجرى بين الخلق.

ويحتمل : المفروض من الصدقات.

ويحتمل غيرها.

ثم روى عن ابن عباس ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى قوله تعالى : (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) قال : «من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذرا فى معصية فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذرا أطاقه فليوف به» (١).

فيه تنبيه وتذكير أن الله تعالى يعلم صدقهم ونذرهم ؛ ليحتسبوا فى النفقة ويخلصوا ، وفى النذر يوفوا به.

وقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ).

قيل : يقبله.

وقيل : يأمر بوفائه.

ويحتمل قوله : (يَعْلَمُهُ) أى : يعلم ما وفيتم منه ؛ فيجزيكم على ذلك.

ويحتمل : (يَعْلَمُهُ) : ما أردتم بصدقاتكم ونذوركم ؛ فيكون فيه ترغيب للناس فى أداء الفرائض.

وقوله تعالى : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ).

فى الآخرة ، يعنى مجير يجيرهم من العذاب.

وقيل : ما للظالمين من شفيع يشفع لهم ، ولا نصير ينصرهم ؛ لأنه ما من ظالم إلا وله فى الدنيا ظهير.

وقوله : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

قال بعضهم (٢) : هى الفريضة.

وقال آخرون (٣) : هى التطوع. وهو أوجه.

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٣٣٢٢) ، وابن ماجه (٢١٢٨).

(٢) قاله يزيد بن أبى حبيب ، أخرجه ابن جرير عنه (٦١٩٧ ، ٦١٩٨) ، والبغوى فى تفسيره (١ / ٢٥٨).

(٣) قاله ابن عباس وقتادة والربيع وسفيان ، أخرجه ابن جرير عنهم (٦١٩٣ ، ٦١٩٤ ، ٦١٩٥ ، ٦١٩٦) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٦٢٥).

٢٦٣

وقال غيرهم : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) هى الفريضة ، (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ) هى التطوع.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله تعالى ـ : لا يحتمل الإخفاء فى التطوع ، والإبداء فى الفرض ؛ لما أخبر فى الإخفاء أنه خير ، ولا يكون التطوع خيرا من الفريضة. ومن حمله على الفريضة يستحب أن يظهروا الزكاة المفروضة ليقتدوا به ويرغبوا الناس عليها. ومنهم من يستحب الإخفاء أيضا ، ويقولون : فى الإبداء شيئان : الصدقة نفسها ، والاقتداء ، وفى الإخفاء وجوه :

أحدها : الصدقة.

والآخر : ترك المراءاة وسلامتها.

والثالث : الكف عن المن والأذى.

ومنهم من حمل قوله : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) على الفريضة ، و (وَإِنْ تُخْفُوها) على التطوع ، وذهب إلى أن الفريضة ليس فيها الرياء ؛ لأنه لا شىء عليه ، فسواء فيها الإبداء والإخفاء ، وأما التطوع ففيه الرياء ؛ لأنه معروف ليس عليه ، والإخفاء له أسلم. والله أعلم.

وقال ابن عباس (١) ـ رضى الله تعالى عنه ـ فى قوله : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ..). الآية ، جعل الله ـ تعالى ـ صدقة (٢) السر فى التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا ، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا ، وكذلك جميع الفرائض والنوافل فى الأشياء كلها.

وفى بعض الأخبار عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «صدقة السر تطفئ غضب الرب ، وصنائع المعروف تقى (٣) مصارع السوء ، وصلة الرحم تزيد فى العمر» (٤).

وعن الحسن ، قال : الإبقاء على العمل أشد من العمل ؛ وذلك أن العبد ليعمل العمل سرّا فيكتب له عمل السر ، فلا يزال به الشيطان حتى ينسخ من عمل السر إلى عمل العلانية ، ثم لا يزال به الشيطان حتى يحب أن يحمد ، حتى يكتب من عمل العلانية فى الرياء.

__________________

(١) تقدم.

(٢) فى أ ، ط : كلمة.

(٣) فى أ ، ب : تدفع.

(٤) تقدم.

٢٦٤

وقوله تعالى : (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) :

فيه دليل أن من السيئات ما يكفرها الصدقة ، ومنها ما لا يكفر.

وقيل : إن «من» هاهنا صلة ، ففيه إطماع تكفير السيئات كلها بالصدقة ، كقوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود : ١١٤].

وهو نقض على المعتزلة ؛ لأنهم لا يرون تكفير الكبائر بغير التوبة عنها ، ولا التعذيب على الصغائر. فأما إن كانت الآية فى الكبائر ـ فبطل قولهم : لا يكفر بغير التوبة ، أو فى الصغائر فيبطل قولهم : إنها مغفورة ؛ إذ وعدت بالصدقة ؛ لأنهم يخلدون صاحب الكبائر فى النار ، والله تعالى أطمع له تكفير السيئات كلها بالصدقة. والله الموفق.

وقوله تعالى : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) :

فيه وعيد وتحذير ، أنه يعلم ما تسرون وما تعلنون فى الصدقة.

ويحتمل : (تَعْمَلُونَ) ، من جزائكم للصدقة.

قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٢٧٤)

وقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ).

أخبر أنه ليس عليه هداهم ، وعليه البيان والتبليغ ؛ فدل أن هناك فضل هدى ، لا يملك هو ذلك ، وهو التوفيق على الهدى والتحقيق له.

وهذا يرد على المعتزلة ويكذبهم أن كل الهدى : البيان ؛ إذ لو كان كل الهدى بيانا لكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يملك ذلك ، إذ عليه البيان ، فدل أنه لا يملك الهدى المراد فى الآية ؛ فهو على ما ذكرنا من التوفيق.

ويحتمل قوله : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) أى : حساب ترك اهتدائهم ، كقوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٥٢] ، و (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) [آل عمران : ٢٠].

٢٦٥

وقوله تعالى : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) :

(مِنْ خَيْرٍ) ، أى : مال ، (فَلِأَنْفُسِكُمْ) ، يعنى : فلأنفسكم الثواب.

[و] قيل قوله : (فَلِأَنْفُسِكُمْ) ، يعنى : منفعته لكم.

وفى قوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) دلالة على أنهم كانوا يتحرجون بالتصدق على أقربائهم من الكفار خشية ما يقع من التعاون على ما اعتمدوا من الدين ؛ إذ المكاسب لكل أهل دين إنما تقع من العقلاء مكان ما ينفقون به لأجل الدين ؛ فبين جل وعلا : أن ذلك يقع لكم ولأنفسكم ، وتكفير ما ارتكبتم.

ثم فى الآية دلالة جواز الصدقة على الكفار ، ودليل جواز دفع الكفارات إليهم بقوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) ؛ فهو دليل لأصحابنا ؛ لأنه جعل هذه الصدقة مكفرة.

وقوله تعالى : (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) ، يعنى : يوفر عليكم ثواب صدقاتكم ، وإن كان التصدق على الكفرة.

وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) ، فى حرمان الثواب والجزاء.

وقوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ).

قيل : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) قيل : (فِي سَبِيلِ اللهِ) أى : من سبيل الله ، يعنى : حبسوا بالفقر عن الجهاد ، وهو كقوله : (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ) [التوبة : ٩١]. والعرب تستعمل حروف الخفض بعضها فى موضع بعض.

ويحتمل قوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ، أى : حبسوا أنفسهم فى طاعة الله ، لا يجدون ما يتجرون ، ولا ما يحترفون ، ولا ما يكتسبون.

وقوله تعالى : (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) : للتجارة.

وقوله تعالى : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) يحتمل وجهين :

يحتمل : لا يظهرون السؤال ، أى : لا يسألون ؛ كقوله تعالى : (وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) [البقرة : ١٢٣] ، أى : لا يشفع لهم.

ويحتمل : فإن كان على السؤال فإنهم إذا سألوا لم يلحفوا ، دليله قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من فتح على نفسه بابا من المسألة ، فتح الله عليه سبعين بابا من الفقر» (١). ثم ذكر فى الخبر : «من

__________________

(١) طرف من حديث أبى كبشة الأنمارى.

أخرجه أحمد (٤ / ٢٣١) ، والترمذى (٢٣٢٥) ، وابن ماجه (٤٢٢٨).

٢٦٦

استغنى أغناه الله ، ومن استعف أعفه الله» (١). وإن كان على التعريض ، ففيه إباحة التعريض بين يدى أهل الجود والسخاء.

وقوله تعالى : (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) :

قيل (٢) : (بِسِيماهُمْ) ، يعنى : سيما التخشع.

وقيل (٣) : (بِسِيماهُمْ) : بسيما الفقر عليهم ، و (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) يعنى :

إلحاحا.

وقيل : (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) ، أى : بتجملهم ، (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) أى : إلحاحا ، ولا غير إلحاح.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) :

قيل (٤) : هى النفقة على الخيل المحتبسة للجهاد ، ينفقون ليلا ونهارا ، سرّا وعلانية ، لا رياء فيها ، ولا إضمار.

وعن على وأبى أمامة الباهلى (٥) ـ رضى الله تعالى عنهما ـ : هى النفقة على الخيل فى سبيل الله.

وعن ابن عباس (٦) ـ رضى الله تعالى عنه ـ أنه قال : هى فى علف الخيل والنفقة عليها.

وقيل (٧) : نزلت هذه الآية فى نفقة عبد الرحمن بن عوف (٨) فى جيش العسرة.

__________________

(١) طرف من حديث أبى سعيد الخدرى.

أخرجه البخارى (١٤٦٩) ، ومسلم (١٢٤ / ١٠٥٣) ، وأحمد (٣ / ٩٣) ، والترمذى (٢٠٢٤) ، وأبو داود (١٦٤٤) ، والنسائى (٥ / ٩٥).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٦٢٢٠ ، ٦٢٢١ ، ٦٢٢٢).

(٣) قاله السدى والربيع ، أخرجه ابن جرير عنهما (٦٢٢٣ ، ٦٢٢٤).

(٤) قاله أبو الدرداء ، أخرجه ابن جرير عنه (٦٢٣٠).

(٥) أخرجه ابن عساكر وابن المنذر وابن أبى حاتم والواحدى من طريقين عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٦٤١) وهو : صدىّ بن عجلان الباهلى ، أبو أمامة ، صحابى مشهور ، له مائتا حديث وخمسون حديثا. روى له البخارى خمسة أحاديث ، ومسلم ثلاثة. وعنه شهر بن حوشب ، وخالد بن معدان ، وسالم بن الجعد ، ومحمد بن زياد الألهانى ، وقال : كان لا يمر بصغير ولا كبير إلا سلم عليه. قال أبو اليمان : مات سنة إحدى وثمانين بحمص.

ينظر : الخلاصة (١ / ٤٧٣ ، ٤٧٤) (٣١٢٨) ، تهذيب الكمال (٢ / ٦٠٦) ، الكاشف (٢ / ٢٨) ، تاريخ البخارى الكبير (٤ / ٣٢٦) ، الجرح والتعديل (٤ / ٢٠٠٤) ..

(٦) أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم والواحدى كما فى الدر المنثور (١ / ٦٤١).

(٧) أخرجه ابن المنذر عن سعيد بن المسيب كما فى الدر المنثور (١ / ٦٤٢).

(٨) عبد الرحمن بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة الزهرى أبو محمد المدنى ، شهد ـ

٢٦٧

وقيل (١) : نزلت فى على بن أبى طالب ـ رضى الله تعالى عنه ـ أنه لم يكن يملك من المال غير أربعة دراهم ، وتصدق بدرهم ليلا ، وبدرهم نهارا ، وبدرهم سرّا ، وبدرهم علانية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما الذى حملك على هذا؟» قال : حملنى أن أستوجب على الله الذى وعدنى ؛ فنزلت فيه هذه الآية.

وقيل : نزلت فى ثابت بن قيس بن شماس الأنصارى (٢).

فلا ندرى فيمن نزلت ، وليس لنا إلى معرفة المنزل [فى] شأنه حاجة سوى أنه وصفهم بالجود والسخاء ، ونفقتهم على الناس ليلا ونهارا سرّا وعلانية ، لا رياء فيها ، ولا منّ ، ولا أذى.

وفيه نفى الرياء عن نفقتهم ؛ لأن من عود نفسه الفعل فى جميع الأوقات لم يراء.

وقوله تعالى : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ؛ لأن نعيم الدنيا مشوب بالحزن والخوف ، فأخبر عزوجل أن نعيم الآخرة لا يشوبه حزن ولا خوف ؛ لذلك كان ما ذكر. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ

__________________

 ـ بدرا والمشاهد. وهو أحد العشرة ، وهاجر الهجرتين. وأحد الستة وروى عنه بنوه إبراهيم وحميد وأبو سلمة ومصعب وغيرهم. قال الزهرى : تصدق على عهد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأربعة آلاف ثم بأربعين ، ثم حمل على خمسمائة فرس ، ثم على خمسمائة راحلة. وأوصى لنساء النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحديقة قومت بأربعمائة ألف. قال خليفة مات سنة اثنتين وثلاثين ، وقيل سنة ثلاث ، ودفن بالبقيع. وزاد بعضهم وهو ابن خمس وسبعين سنة. ينظر الخلاصة (٢ / ١٤٧) (٤٢٠٩).

(١) أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبرانى وابن عساكر عن ابن عباس كما فى الدر المنثور (١ / ٦٤٢).

(٢) هو : ثابت بن قيس بن شماس الأنصارى الخزرجى الخطيب من كبار الصحابة وصح فى مسلم أنه من أهل الجنة. انفرد له البخارى بحديث. وعنه ابنه إسماعيل ومحمد بن قيس وأنس. شهد أحدا وما بعدها ، وقتل يوم اليمامة ونفذت وصيته بعد موته بمنام رآه خالد بن الوليد. له عند البخارى حديث واحد. ينظر الخلاصة (١ / ١٥٠) (٩٢٧).

٢٦٨

فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٢٨١)

وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

قال بعضهم : قوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) ، ليس على حقيقة الأكل ، ولكنه كان على الأخذ ، كقوله تعالى : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) [النساء : ١٦١]. فإذا كان هذا على الأخذ فقوله تعالى : (لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) هو على التمثيل ، ليس على التحقيق.

وقال آخرون : هو على نفس الأكل ، وما ذكر من العقوبة ، لما أكلوا من الربا لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم المجنون المنخنق.

وقال غيرهم : ذلك لاستحلالهم الربا ، وتخبيطهم الله عزوجل فى الحكم فى تحريمهم الربا بقولهم : (قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا).

ثم قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) ، فيه دليل جواز القياس فى العقل ؛ لأنه لو لم يكن فى العقل جوازه لم يكن لقولهم : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) معنى. لكنهم لم يعرفوا معنى المماثلة.

ثم المماثلة على الوجهين : مماثلة أسباب ، ومماثلة أحوال.

فالمماثلة التى هى مماثلة أحوال : هى ابتداء محنة فى الفعل ، لا يقاس على غيره ، نحو أن يقال : اقعد ، أو أن يقال : قم ، لا يقاس القيام على القعود ، ولا القعود على القيام ، إنما هو محنة لا يلزم غير المخاطب به.

وأما مماثلة الأسباب : فهى مماثلة الإيجاب (١) ، نحو أن يقال : حرم الله السكر فى الخمر ، فحيث ما وجد السكر يحرم ؛ لأنه يجنى على العقل ، فكل شىء يجنى عليه فهو محرم التناول منه.

وقوله تعالى : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا).

يقولون : لما جاز أن يباع ثوب يساوى عشرة بأحد عشر ، كيف لا جاز أن يباع عشرة بأحد عشر؟

__________________

(١) فى أ ، ط : الأحوال.

٢٦٩

وقيل : كان الرجل منهم إذا حل ما له على صاحبه طلبه ، فيقول المطلوب للطالب : زدنى فى الأجل وأزيدك على ما لك. فيفضلان على ذلك ويعملان به. فإذا قيل لهما : هذا ربا ، قالا : هما سواء : الزيادة فى البيع ، أو الزيادة عند محل البيع. فأكذبهم الله تعالى فى ذلك وقال : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ، أى : ليس هكذا : البيع كالربا.

ويحتمل : فيه ابتداء حرمة أن حل ما هو بيع لا ما هو ربا.

ثم قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) :

فلقائل أن يقول : إنما يحرم منه قدر الربا ، وأما العقد فإنه يجوز لما ليس فيه ربا.

لكن الأصل عندنا فيه : أن الدرهم الزائد يأخذ كل درهم من العشرة قسطا منه وجزءا من أجزاء كل درهم منه ، فلا سبيل إلى إمضاء العقد لأخذ أجزائه كل درهم من الذى فيه العقد ، وهو ربا.

وفيه وجه آخر : وهو أنه ختم الكلام على قوله : (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) ، ولا يزاد رأس المال فى عقد قد مضى. ثم معرفة الربا من غير الربا ما ليس بإرادة بدل.

ثم فيه دلالة أن حرمة الربا كان ظاهرا عندهم حتى حكوا ، وكان حرمته فيما بينهم كهو فيما بين أهل الإسلام ؛ لذلك قال أبو حنيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ : أن لا يجوز بيع الربا فيما بين أهل الإسلام وبين أهل الذمة. وعلى ذلك خرج الخطاب منه ـ عزوجل ـ بقوله : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً).

وقوله تعالى : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى) :

قيل : (مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ، بيان تحريم الربا.

وقيل : (فَمَنْ جاءَهُ) نهى فى القرآن (مِنْ رَبِّهِ) فى تحريم الربا ، (فَانْتَهى) عن الربا.

ويحتمل : الموعظة ، هى التذكير لما سبق منه ، فيتذكر فيرجع عن صنيعه.

وقوله تعالى : (فَلَهُ ما سَلَفَ) ، قيل فيه بوجهين :

قيل : (ما سَلَفَ) له فى الجاهلية صار مغفورا له ، وهو كقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨].

ويحتمل قوله تعالى : (ما قَدْ سَلَفَ) ، وذلك أن الكافر إذا تاب ورجع عن صنيعه ، يرجع لا أن يعود إلى فعله أبدا ، ويندم على كل سيئة ارتكبها ، فيجعل الله كل سيئة كانت منه حسنة ، وهو كقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان : ٧٠].

وقوله تعالى : (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) ، فى حادث الوقت أن يعصمه.

٢٧٠

وقوله تعالى : (وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

إن المعتزلة استدلوا على الوعيد لأهل الإسلام بما ذكر فيه من العود.

لكن بدء الآية على الاستحلال ، فعلى ذلك العود (١) إليه على جهة الاستحلال ، يدل عليه قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) فأثبت له الكفر بالذى كان منه فى الابتداء ، وهو الاستحلال ؛ فكذلك العود إليه.

وقوله تعالى : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) :

قيل (٢) : (يَمْحَقُ اللهُ) : يهلك.

وقيل : (يَمْحَقُ) : يبطل.

ولكن أصل «المحق» هو رفع البركة ؛ وذلك أن الناس يقصدون بجمع الأموال والشح عليها ، لينتفع أولادهم من بعدهم إشفاقا عليهم ، وكذلك يمتنعون من التصدق على الناس. فأخبر الله تعالى : أن الأموال التى جمعت من جهة الربا ألا ينتفع أولادهم بها ، وهو الأمر الظاهر فى الناس. وأخبر أن الصدقات التى لا يمتنعون من الإنفاق عنها يربى ويخلف أولادهم إذا تصدقوا ، ويمحق الربا ويرفع البركة عنها ؛ حتى لا ينتفع أولادهم بها. وهو ما روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كل متبايعين بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبينا بورك لهما فيه ، وإن كذبا وكتما محققت عنهما البركة» (٣).

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) الآية ظاهرة.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

قيل فيه بوجهين :

قيل : (وَذَرُوا ما بَقِيَ) من عمركم (الرِّبا) إذا صرتم مؤمنين.

وقيل : (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) ، الذى تقبضون (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

وفى الآية دلالة على أن الربا الذى لم يقبض إذا ورد عليه حرمة القبض أفسدته.

لذلك قال أصحابنا ـ رحمهم‌الله تعالى ـ : إن فوت القبض عن المبيع يوجب فساد العقد ، كما كان فوت قبض الربا فى ذلك العقد أوجب منع قبض الربا. والذى يدل عليه قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) ، فأوجب الفسخ فيه حتى أوجب رد

__________________

(١) فى ط : العدو.

(٢) قاله البغوى (١ / ٢٦٣).

(٣) أخرجه البخارى (٢٠٧٩ ، ٢٠٨٢) ، ومسلم (٤٧ / ١٥٣٢).

٢٧١

رأس المال.

وفى الآية دليل وجه آخر : وهو أنه جعل حدوث الحرمة المانعة للقبض ، يرتفع به العقد فى فساد العقد ؛ فعلى ذلك يجعل حدوث شىء فى عقد معقود قبل القبض كالمعقود عليه فى استئجار حصته من الثمن.

وقوله تعالى : (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) ، وقوله : (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) ، فيه دلالة : أن ما جرت بين أهل الإسلام وأهل الحرب من المداينات والمقارضات ثم أسلموا يرد ، وما أخذوا قهرا لا يردون ؛ وذلك أن الربا الذى قبضوا لئلا يرد لم يؤمر برده. فعلى ذلك ما أخذوا قهرا أخذوا لئلا يرد ، لم يجب رده. وأما رأس المال فإنما أخذوا للرد ؛ فعلى ذلك ما أخذ بعضهم من بعض دينا أو قرضا وجب رده. ففيه دليل لقول أصحابنا ـ رحمهم‌الله تعالى ـ على ما ذكرنا. والله أعلم.

وقوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ).

عن ابن عباس (١) ـ رضى الله تعالى عنه ـ قال : فمن كان مقيما على الربا مستحلّا له لا ينزع عنه ، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه : فإن تاب ونزع عنه ، وإلا ضرب عنقه.

وقوله تعالى : (فَأْذَنُوا) ، فيه لغتان : بالقطع ، والوصل.

فمن قرأ بالقطع ، فهو على الأمر بالإعلام لمستحليه أنه يصير حربا له بالاستحلال.

ومن قرأ بالوصل ، فهو على العلم ، كأنه قال للمؤمنين : إنه حرب لنا.

وقوله تعالى : (لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) :

عن ابن عباس ـ رضى الله تعالى عنه ـ قوله : (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) ، أى : (لا تَظْلِمُونَ) فتربون ، (وَلا تُظْلَمُونَ) : فتنقصون.

وقتادة ـ رضى الله تعالى عنه ـ يقول : بطل الربا وبقيت رءوس الأموال.

وقوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) :

عن ابن عباس (٢) ـ رضى الله تعالى عنه ـ : (إِلى مَيْسَرَةٍ) قال : هو المطلوب ، وهو فى الربا.

وفيه دلالة جواز التقلب فى البيع الفاسد ؛ لأنه جعل لأرباب الأموال النظرة إلى ميسرة

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٦٢٧٢).

(٢) أخرجه ابن جرير (٦٢٨٤) ، وابن أبى حاتم كما فى الدر المنثور (١ / ٦٥٠).

٢٧٢

من عليه المال. فلو كان له حق أخذه حيثما وجده بعد ما تناسخت الأيدى ، أو كان له حق تضمين من هو أغنى لم يكن لإنظار المعسر إلى وقت الميسرة معنى. ولكن يحتاج إلى تضمين أيسرهم وأغناهم إذا كان يقدر ، فله خصومته ، وإذا كان شرط سقطت الخصومة ، كما تقول فى الذى يكفل عن معسر أو عمن أجل ، ثم النظرة بالاختيار ممن له الحق ، لا أنه يكون هكذا شاء هو أو أبى. دليله قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لصاحب الحق اليد واللسان» (١). أما اللسان فيتقاضاه ، وأما اليد فيلازمه بها ويحبسه. ولكنه إذا أجل قطع على نفسه حق اللسان واليد إلى أن يمضى ذلك الوقت ، [فإذا مضى ذلك الوقت](٢) ثبت له حق اللسان واليد. والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ، يعنى برءوس الأموال إذا ظهر إعساره. وعن الضحاك (٣) ـ رضى الله تعالى عنه ـ أنه قال فى قوله : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) ، قال : أخذ رأس المال حسن ، وتركه أحسن. وإنما الصدقة على المعسر ، فأما على الموسر فلا.

وفيه دليل جواز صدقة الدين وهبته ممن عليه دين ، وهو الأخير له إذا ظهر إعساره وفقره. والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

قال عامة أهل التأويل : إن هذه الآية آخر ما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكذلك روى عن ابن عباس (٤) ، رضى الله تعالى عنه.

فإن كان ما ذكروا فهو ـ والله أعلم ـ أنه عزوجل رغبهم فى ذكر ذلك اليوم ؛ لما فى ترك ذكره بطول الأمل ، وطول الأمل يورث الحرص ، والحرص يورث البخل ويشغله عن إقامة العبادات والطاعات. فإذا كان كذلك فأحق ما يختم القرآن به هذا ؛ لئلا يتركوا ذكر ذلك اليوم فيسقطوا عن منزلته الثواب والجزاء. والله أعلم.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله تعالى ـ : ويصير كأنه قال : اتقوا وعيده تعالى فى جميع ما يعدكم وما ألزمكم من الحق.

__________________

(١) أخرجه البخارى (٢٦٠٩) ، ومسلم (١٢٠ / ١٦٠١) ، عن أبى هريرة بلفظ : «إن لصاحب الحق مقالا ...».

(٢) سقط فى ط.

(٣) أخرجه ابن جرير (٦٣٠١ ، ٦٣٠٢).

(٤) أخرجه ابن جرير (٦٣٠٨ ، ٦٣٠٩ ، ٦٣١٢).

٢٧٣

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)(٢٨٣)

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

فيه دليل جواز السلم من قوله : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) ؛ لأن المداينة هى فعل اثنين ، وهو السلم نفسه ؛ لأنه دين من الجانبين جميعا ، وعلى ذلك روى عن ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : شهدوا أن المسلم المضمون مما أجازه الله ـ تعالى ـ فى كتاب الكريم ، ثم تلا هذه الآية.

فأما الخبر الذى جاء به نهى عن الدين : فإن ذلك على فوت القبض فيه ، دليله : جواز ما كان دينا بدين إذا قبض أحد الجانبين.

وقال آخرون : قوله : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) ، هو بيع كل دين إلى أجل مسمى ، فهو يسمى

٢٧٤

التداين ، كما يسمى البائع والمشترى : المتبايعين ؛ لأن كل واحد منهما بائع فى وجه ، ومشتر فى وجه. فعلى ذلك المداينة والتداين. والله أعلم.

وقوله تعالى : (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) :

فالعرف فى الإسلاف عند الناس : ألا يخلى عن الأجل ، فصار الأجل بالعرف شرطا فى جواز السلم وإن لم يؤجل ؛ لأن الرجل لا يسلم السلف ليؤديه حالة الإسلاف ؛ لأن الحاجة هى التى تحمله على الإسلاف فهو إنما يسلف ليؤديه فى وقت ثان ؛ لأنه لو كان عنده حاضرا لا يحتاج إلى غيره ، ولكنه يبيعه فيصل إلى حاجته ، ولا يتحمل المؤنة العظيمة ، فصار فى العرف كأنه بأجل ، يفسد لترك بيان الأجل. والله أعلم. وعلى ذلك روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «من أسلف فليسلف فى كيل معلوم ، ووزن معلوم ، إلى أجل معلوم» (١).

ثم أمر عزوجل بالكتابة فى التداين بقوله : (فَاكْتُبُوهُ) ، وذلك ـ والله أعلم ـ لأنه وصل إلى حاجته بقبض رأس المال والآخر لم يصل ؛ فلعل ذلك يحمله على إنكار الحق والجحود ؛ فأمر عزوجل بالكتابة ؛ احترازا عن الإنكار وجحود الحق له ؛ لأنه إذا تذكر أنه كتب وأشهد عليه يرتدع عن الإنكار والجحود ؛ فهو كما ذكرنا فى قوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩] ؛ لأنه إذا ذكر أنه يقتل ارتدع عن قتل غيره ؛ فكذلك إذا ذكر أنه مكتوب عليه يمتنع من الإنكار والجحود ؛ لما يخاف ظهور كذبه وفضيحته على الناس ، والله أعلم.

ولا كذلك بيع العين بالعين ؛ لأن كل واحد منهما لا يصل إلى حاجته إلا بما يصل به الآخر ، فليس هنالك للإنكار معنى ؛ لذلك لم يؤمر بالكتابة فى بيع الأعيان ، وأمر فى المداينات. والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه أحمد (١ / ٢٨٢) ، والبخارى (٤ / ٤٢٩) كتاب : السلم ، باب : السلم فى وزن معلوم ، الحديث (٢٢٤٠) ، (٢٢٤١) ، ومسلم (٣ / ١٢٢٦ ـ ١٢٢٧) كتاب : المساقاة ، باب : السلم ، الحديث (١٢٧ / ١٦٠٤) ، وأبو داود (٣ / ٧٤١ ـ ٧٤٢) كتاب : البيوع والتجارات ، باب : فى السلف ، الحديث (٣٤٦٣) ، والترمذى (٣ / ٦٠٢ ـ ٦٠٣) كتاب : البيوع ، باب : ما جاء فى السلف فى الطعام والتمر ، الحديث (١٣١١) ، والنسائى (٧ / ٢٩٠) كتاب : البيوع ، باب : السلف فى الثمار ، وابن ماجه (٢ / ٧٦٥) كتاب : التجارات ، باب : السلف فى كيل معلوم ، الحديث (٢٢٨٠) ، وابن الجارود ص (٢٠٨ ـ ٢٠٩) باب فى السلم ، الحديث (٦١٤) ، (٦١٥) ، والدارمى (٢ / ٢٦٠) كتاب : البيوع ، باب : فى السلف ، والدارقطنى (٣ / ٣) كتاب : البيوع ، رقم (٣) ، والحميدى (١ / ٢٣٧) ، رقم (٥١٠) ، الطبرانى فى الصغير (١ / ٢١٢) ، والشافعى (٢ / ١٦١) ، رقم (٥٥٧) ، والبيهقى (٦ / ١٨) كتاب : البيوع ، باب : جواز السلف المضمون بالصفة ، وفى (٦ / ١٩) باب السلف فى الشىء ، والبغوى فى شرح السنة (٤ / ٣٢٨).

٢٧٥

ويحتمل الأمر بالكتابة فى التداين وجها آخر : وهو أنه يجوز أن ينسى فينكر ذلك ، أو ينسى بعضه ويذكر بعضا ؛ فأمر الله تعالى بالكتابة ؛ لئلا يبطل حق الآخر بترك الكتابة. ولا كذلك بيع العين ؛ لذلك افترقا. والله أعلم.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله تعالى ـ : والنسيان يعقب التنازع ، والمنازعة توجب التخالف ، وفيه الفساد ؛ فأمر بالكتابة لدفع ذلك ، وللوفاء بالحق ، ودفع الخصومات. والله أعلم.

ولا يحتمل أن يفرض الكتابة ، وأكثر ما فيه أن يحفظ الحق ، ولمن له تركه كذلك ألا يقبضه مع ما ليست فى عقد أو فسخ فيكلم فيه بوجوب واختيار ، إنما هى للحق ، فله فعل ذلك. والله أعلم.

ثم اختلف فى الكتابة :

قال بعضهم : هى واجبة لازمة. واستدلوا على وجوبها بقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) أخبر برفع الجناح فى التجارة الحاضرة ، فلو كانت فى المداينة غير واجبة لم يكن لرفع الجناح فيها معنى ؛ فدل أنها لازمة فى المداينة حيث رفع الجناح فى الحاضرة منها.

وأما عندنا : فهى ليست بواجبة ؛ لأنه قال عزوجل : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) ثم أمر ، قال : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) ذكر الرهن بدلا عن الكتابة ، ثم ذكر ترك الرهن بالائتمان. فإذا كان له ترك الرهن بالائتمان ، وهو بدل الكتابة ـ فعلى ذلك له ترك الكتابة بالائتمان ، إن كان أصله مفروضا لم يحتمل ترك بدله بالائتمان. فإذا كان ذلك له دل أنه ليس بمفروض ولا لازم. والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) :

فهذا لأن الكاتب مأمون عليه فيؤدى حق ما اؤتمن فيه ، لا يزيد على ما أملى عليه بالنصيحة وأداء الأمانة. وهكذا الواجب على كل محكم بين اثنين أن يحكم بالعدل والنصيحة وأداء الأمانة ، كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء : ٥٨] وكقوله : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) [المائدة : ٩٥] ، وكقوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق : ٢].

وقوله تعالى : (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ) ، قال بعضهم : هذا وذلك أن الكتبة كانوا فى صدر الاسلام قليلا ، فنهوا عن ترك الكتابة ؛ إذ فى ذلك بطلان حقوق الناس وذهابها. وأما اليوم فلا بأس بالإبقاء عليها ، لم يجد من يكتب له بالأجر ؛

٢٧٦

فلا يبطل حقه.

وفيه وجه آخر : وهو أن قوله ـ تعالى ـ : (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) ، أى : لا يأب الكاتب إذا كتب أن يكتب بالعدل ، أى : له ترك الكتابة ، ولكنه إذا كتب لا يكتب إلا بالعدل. والله أعلم.

وقوله تعالى : (كَما عَلَّمَهُ اللهُ) ، هو نقض على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : يكتب وإن لم يعلمه الله تعالى. والله ـ عزوجل ـ أخبر أنه يكتب بتعليم الله إياه. ولو كان التعليم من الله تعالى إيتاء الأسباب لم يكن لقوله تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) [يس : ٧٠] معنى ؛ لأنه قد أعطى أسبابه.

والعدل ـ ما ذكرنا ـ : ألا يزيد على الحق ، ولا ينقص منه. وأصل العدل : هو وضع الشىء موضعه.

وقوله تعالى : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) : ما عليه ، (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ) : ولا ينقص ، (مِنْهُ شَيْئاً) : [أى : لا يملى على الكاتب أقل من حقه ولا ينقص منه شيئا](١).

ففيه دلالة على أن القول قوله فى قدر الحق حيث أوعد فيما يملى على الكاتب ألا ينقص من حق الطالب شيئا.

وقوله تعالى : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ) ، قال قائلون : هذا كله واحد : السفيه ، والضعيف ، والذى لا يستطيع (٢) أن يمل.

وقال آخرون (٣) : بل هو مختلف ، السفيه هو الصغير ، فليملل وليه. والضعيف هو المريض الذى لا يقدر أن يملّ. والذى لا يستطيع أن يمل هو الجاهل الذى لا يعرف أن يمل.

ثم اختلف فى الولى :

قال بعضهم (٤) : الولى : هو صاحب الحق ، يملّ بالعدل بين يدى من عليه الحق ؛ لئلا يزيد على ذلك شيئا ، فإن زاده أو نقصه أنكر عليه صاحبه.

وقال آخرون : الولى هو وصى الصغير ، أو ذو النسب منه.

__________________

(١) سقط فى ط.

(٢) فى أ : لا يقدر.

(٣) قاله السدى ، أخرجه ابن جرير عنه (٦٣٤٦) ، وعن الضحاك (٦٣٤٧).

(٤) قاله الربيع ، أخرجه ابن جرير عنه (٦٣٤٨).

٢٧٧

ثم المسألة فى الحجر :

قال أبو حنيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ : الحجر لا يمنع عقوده.

وقال محمد بن الحسن : لا يجوز عقوده ، ولكن الولى هو الذى يتولى ذلك ؛ استدلالا بظاهر قوله : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) ، فإنما جعل الإملاء إلى الولى ، لا إليه. ولو كان يجوز إملاؤه لكان لا معنى لجعل ذلك إلى غيره ؛ دل أنه لا يجوز.

وأما أبو حنيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ فإنه ذهب إلى أنه يجوز بقوله تعالى : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) ، أجاز تداينه ؛ فدل أن الحجر لا يمنع العقد عليه ولا تداينه ، ولأن السفيه لم يستفد الإذن من السلطان ؛ إنما استفاده من الله تعالى ، ولا يجوز حجر من لم يستفد الإذن منه.

وقوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) :

لم يجعل الإشهاد شرطا فى جواز البيع ، ولكنه معطوف على قوله : (فَاكْتُبُوهُ). أمر عزوجل بالإشهاد فى البيع والتداين ؛ للمعنى الذى ذكرنا : أن ترك الإشهاد والكتابة يحمله على الإنكار وجحود الحق ، فإذا كان هنالك شهود وكتاب يمتنع من الإنكار ؛ لخوف ظهور الكذب. ولم يصر شرطا فى جواز التداين ؛ لأن الإشهاد إنما ذكر بعد المداينة والمبايعة. وكذلك الكتابة فهو لما ذكرنا : أن الإنسان من طبعه النسيان والسهو ؛ فأمر بالاستشهاد والكتابة لئلا ينسى ، أو يحمله ترك الإشهاد والكتابة على الإنكار.

وأما الأمر بالإشهاد فى النكاح ـ فى عقد النكاح نفسه ـ دليله قوله ـ عليه‌السلام ـ : «لا نكاح إلا بشهود» ؛ لذلك صار شرطا فى عقد النكاح ، ولم يصر شرطا فى المبايعة.

ووجه آخر : وهو أن الشهادة فى النكاح تدفع تهمة الزنى عنهما ، وقد يحوج إليه فى أول أحواله. والحاجة إلى الشهادة فى البيع إلى ما يتعقب فيه من توهم وقوع التنازع ؛ إذ له بذل ملكه للآخر من غير عقد بيع ، وليس لها بذل فرجها له من غير عقد النكاح ؛ لذلك صار الإشهاد شرطا فى جواز النكاح ، ولم يكن شرطا فى البيع. والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) :

فى الآية دلالة أن من قضى بالشاهد واليمين قضى بخلاف ظاهر الكتاب ، وهو أيضا خلاف السنة ؛ لأن قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا) ، ليس هو الإشهاد ، إنما هو الإحضار للشهادة ؛ إذ العجز لا يقع فى الإشهاد ، إنما يقع عند الاستحضار ، ولو كان بيمينه غنية لم يأمر المرأتين هتك سترهما ؛ ولأن الآية ذكرت حق القضاء فى البياعات (١) الواقعة

__________________

(١) فى ط : المباهات.

٢٧٨

والأحكام إلى سبيلها لزوم الفصل بالقضاء بين أربابها. فمن جعل فصل القضاء بالشاهد واليمين جعل على خلاف ما جعله من له نصب الشرائع والحجج ، وقال الله تعالى : (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) [الكهف : ٢٦].

وأما مخالفة السنة ـ فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : البينة على المدعى ، واليمين على المدعى عليه (١). فإذا أتى بشاهد واحد لم يخرج الآخر من أن يكون مدعى عليه. فإذا كان كذلك ، وقد جعل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حجة المدعى عليه اليمين ، ولم يجعل اليمين حجة للمدعى ؛ فلذلك قلنا : إنه المخالف لظاهر الكتاب والسنة. ولأن الله تعالى جعل المرأتين فى حال الضرورة ، وهو حال عدم الرجل مقام ذلك الرجل ، فلو كان يجوز القضاء بالشاهد واليمين ، لم يحتج إلى أن يكلف النساء من الخروج إلى أبواب القضاء والسلاطين لأداء الشهادة ، وفى ذلك هتك الستر عليهن وكشف عورتهن ، وتكلف القضاة فضل التفحص فى حالهن ومعرفتهن ؛ لذلك بطل القضاء بالشاهد واليمين. والله أعلم.

فإن قيل : روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قضى به (٢).

__________________

(١) أخرجه الدارقطنى (٤ / ٢١٨) ، عن عبد الله بن عمرو وعمر بن الخطاب.

وله شاهد عن عبد الله بن عباس.

أخرجه البخارى (٤٥٥٢) ، ومسلم (١ / ١٧١١).

(٢) أخرجه مسلم (٣ / ١٣٣٧) كتاب : الأقضية ، باب : القضاء باليمين والشاهد ، حديث (٣ / ١٧١٢) ، وأبو داود (٤ / ٣٢) كتاب : الأقضية ، باب : القضاء باليمين والشاهد ، حديث (٣٦٠٨) ، والنسائى فى الكبرى (٣ / ٤٩٠) كتاب : القضاء ، باب : الحكم باليمين مع الشاهد الواحد ، حديث (٦٠١١) ، وابن ماجه (٢ / ٧٩٣) كتاب : الأحكام ، باب : القضاء بالشاهد واليمين ، حديث (٢٣٧٠) ، وأحمد (١ / ٢٤٨ ، ٣١٥ ، ٣٢٣) ، والشافعى (٢ / ١٧٨) كتاب : الأقضية ، رقم (٦٢٧ ، ٦٢٨) ، وابن الجارود فى المنتقى رقم (١٠٠٦) ، وأبو يعلى (٤ / ٣٩٠) رقم (٢٥١١) ، والطحاوى فى شرح معانى الآثار (٤ / ١٤٤) كتاب : الأقضية ، باب : القضاء باليمين مع الشاهد ، والبيهقى (١٠ / ١٦٧) كتاب : الشهادات ، باب : القضاء باليمين مع الشاهد ، والبغوى فى شرح السنة (٥ / ٣٤٠) كلهم من طريق قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال : «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى باليمين على الشاهد».

وهذا الحديث قد طعن فيه الطحاوى فقال فى «شرحه» : أما حديث ابن عباس فمنكر ؛ لأن قيس ابن سعد لا نعلمه يحدث عن عمرو بن دينار بشيء فكيف يحتجون به فى مثل هذا. ا ه.

وقد رد عليه البيهقى فقال فى المعرفة (٧ / ٤٠١ ـ ٤٠٢) : ورأيت أبا جعفر الطحاوى ـ رحمنا الله وإياه ـ أنكر واحتج بأنه لا يعلم قيسا يحدث عن عمرو بن دينار بشيء ، والذى يقتضيه مذهب أهل الحفظ والفقه فى قبول الأخبار ، ما كان قيس بن سعد ثقة ، والراوى عنه ثقة ثم يروى عن شيخ يحتمله سنه ، ولقيه ، غير معروف بالتدليس كان ذلك مقبولا ، وقيس بن سعد مكى ، وعمرو بن دينار مكى وقد روى قيس عمن هو أكبر سنا وأقدم موتا من عمرو : عطاء بن أبى رباح ومجاهد بن جبر ، وروى عن عمرو من كان فى قرن قيس وأقدم لقيا منه : أيوب بن أبى تميمة السختيانى فإنه رأى أنس ـ

٢٧٩

__________________

 ـ ابن مالك وروى عن سعيد بن جبير ، ثم روى عن عمرو بن دينار ، فمن أين إنكار رواية قيس عن عمرو؟! ، غير أنه روى عنه ما يخالف مذهب هذا الشيخ ، ولم يمكنه أن يطعن فيه بوجه آخر فزعم أنه منكر.

وقد روى جرير بن حازم وهو من الثقات عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن رجلا وقصته ناقته وهو محرم ... فذكر الحديث ، فقد علمنا قيسا روى عن عمرو ابن دينار غير حديث اليمين مع الشاهد فلا يضرنا جهل غيرنا. ثم تابع قيس بن سعد على روايته هذه عن عمر ومحمد بن مسلم الطائفى ا. ه. قلت : والمتابعة التى أشار إليها البيهقى أخرجها أبو داود (٤ / ٣٢) كتاب : الأقضية ، باب : القضاء باليمين والشاهد ، حديث (٣٦٠٩) ، والبيهقى (١٠ / ١٦٨) كتاب : الشهادات ، باب : القضاء باليمين مع الشاهد ، وفى المعرفة (٧ / ٤٠٢).

وفى الباب عن أبى هريرة ، وزيد بن ثابت ، وجابر ، وسعد بن عبادة.

 ـ حديث أبى هريرة :

أخرجه أبو داود (٤ / ٣٤) كتاب : الأقضية ، باب : القضاء باليمين والشاهد ، حديث (٣٦١٠) ، والترمذى (٣ / ٦٢٧) كتاب : الأحكام ، باب : اليمين مع الشاهد ، حديث (١٣٤٣) ، وابن ماجه (٢ / ٧٩٣) كتاب : الأحكام ، باب : القضاء بالشاهد واليمين ، حديث (٢٣٦٨) ، والشافعى (٢ / ١٧٩) كتاب : الأقضية ، باب (١) حديث (٣٨) ، وابن الجارود فى المنتقى رقم (١٠٠٧) ، وأبو يعلى (١٢ / ٣٦) رقم (٦٦٨٣) ، والدارقطنى (٤ / ٢١٣) كتاب الأقضية والأحكام ، حديث (٣٣) ، والطحاوى فى شرح معانى الآثار (٤ / ١٤٤) كتاب : الأقضية ، باب : القضاء باليمين مع الشاهد ، والبيهقى (١٠ / ١٦٨ ـ ١٦٩) كتاب : الشهادات ، باب : القضاء باليمين مع الشاهد ، والبغوى فى شرح السنة (٥ / ٣٤١) كلهم من طريق ربيعة بن أبى عبد الرحمن عن سهيل بن أبى صالح عن أبيه عن أبى هريرة «أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى باليمين مع الشاهد».

قال الترمذى : حسن غريب.

وقال أبو داود : وزادنى الربيع بن سليمان المؤذن فى هذا الحديث قال : أخبرنى الشافعى عن عبد العزيز قال : فذكرت ذلك لسهيل فقال : أخبرنى ربيعة ـ وهو عندى ثقة ـ أنى حدثته إياه ولا أحفظه ، قال عبد العزيز : وكان قد أصابت سهيلا علة أذهبت بعض عقله ونسى بعض حديثه ؛ فكان سهيل بعد يحدثه عن ربيعة عن أبيه ا ه.

ومنه نعلم أن سهيل بن أبى صالح حدث به ، ونسى ، وهذا لا يضر فى صحة الحديث ، قال الحافظ فى الفتح (٥ / ٢٨٢) : ومنها حديث أبى هريرة «أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى باليمين مع الشاهد» ، وهو عند أصحاب السنن ، ورجاله مدنيون ثقات ، ولا يضره أن سهيل بن أبى صالح نسيه بعد أن حدث به ربيعة ؛ لأنه كان بعد ذلك يرويه عن ربيعة عن نفسه ، وقصته بذلك مشهورة فى سنن أبى داود وغيرها. ا ه.

وللحديث طريق آخر عن أبى هريرة :

أخرجه البيهقى (١٠ / ١٦٩) كتاب : الشهادات ، باب : القضاء باليمين مع الشاهد ، من طريق مغيرة بن عبد الرحمن عن أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى باليمين مع الشاهد».

وأسند البيهقى عن أحمد أنه قال : ليس فى هذا الباب حديث أصح من هذا.

 ـ حديث زيد بن ثابت :

أخرجه الطبرانى فى الكبير (٥ / ١٥٠) رقم (٤٩٠٩) ، والبيهقى (١٠ / ١٧٢) كلاهما من طريق ـ

٢٨٠