تأويلات أهل السنّة - ج ٢

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة - ج ٢

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٧٣

إيمان تقليد : فلم يكن إيمانه إيمان حقيقة ، فمثله يصد عنه ، إلا أن من يمن الله عليه فيشرح صدره ؛ حتى يكون على نور منه ، وذلك أحد وجوه اللطف.

والمقلد غير معذور ؛ لما معه [ما](١) لو استعمله لأوضح له الطريق ، وأراه قبح ما آثر من التقليد ، ولا قوة إلا بالله (٢).

ويحتمل قوله : (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ) ، أي : لم تقصدون قصد صدهم عن سبيل الله ، وهم لا يرجعون إلى دينكم ، أيأس منه إياهم عن أن يرجعوا عن دينهم الذي عليه ؛ كقوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة : ٣] فيه إياس الكفرة عن رجوع المسلمين إلى دينهم.

وقيل (٣) : كانوا يصرفون المؤمنين عن الحجج (٤).

وقوله : (تَبْغُونَها عِوَجاً) ، والعوج : هو غير طريق الحق ، وهو الزيغ والتعوج عن الحق.

وقوله : (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ ، وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) : واحد ، وفي حرف حفصة ـ رضي الله عنها ـ : «وأنتم شهداء على الناس».

وقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) : هو حرف وعيد وتنبيه ؛ لأن من علم أن عليه رقيبا وحافظا ، يكون أحذر وأخوف ممن لم يكن عليه ذلك.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : وفيه أنه لا غفلة بالذي يكون منكم خلقكم ، ولكن على علم ؛ لتعلموا أنه لا للحاجة خلقكم ؛ بل لإظهار الغنى والسلطان ، جلّ جلاله ، وعم نواله.

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) الآية.

الآية تحتمل وجوها :

أحدها : معلوم أن المؤمنين لا يطيعون الكفار بحال في الكفر ، ولكن معناه ـ والله

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ب : والله الموفق.

(٣) أخرجه ابن جرير (٢ / ٥٧) (٧٥٢٥) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٤٣٣ ، ٤٣٤) (١٠٥٤) عن السدي ، وعن قتادة أخرجه ابن جرير (٧٥٢٦) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٤٣٣) (١٠٥٢) ، وابن جرير (٧٥٢٧) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٠٤).

(٤) وقيل : يصدون عن محمد ويمنعون من اتباعه المؤمنين به ، بكتمانهم صفته التي يجدونها في كتبهم.

ومحمد على هذا القول هو السبيل ، و (تَبْغُونَها عِوَجاً)[آل عمران : ٩٩] يبغون محمدا هلاكا.

ينظر : تفسير الطبري (٧ / ٥٧ ـ ٥٨).

٤٤١

أعلم ـ أن يدعوهم إلى شيء لا يعلمون أن في ذلك كفرا ، نهاهم أن يطيعوهم ، وفي كل ما يدعوكم إليه كفر وأنتم لا تعلمون.

ويحتمل : النهي عن طاعتهم ، نهاهم عن أن يطيعوهم ، وإن كان يعلم أنهم لا يطيعونهم ؛ كما نهي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غير آي من القرآن ، كقوله : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٤] ، (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [الأنعام : ١١٤] ؛ فكذلك هذا.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : ويشبه أن تكون الآية في عرض أمور عظام ترغب فيها النفس ليكفر بها ؛ فحذر عن ذلك بما بين من الاعتناد والخسار في آية أخرى ؛ ليعلموا أن ذلك تجارة مخسرة ، وقد كانت لهم ولأهل كل دين ومذهب هذا الاعتناد (١) ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(١٠٣)

وعلى ذلك قوله : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ).

على أن الذي أراكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألذّ للعقول ، وأروح للأبدان مما وعدوه مع سوء المآب ، والله أعلم.

وقوله : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ) :

وهو على وجه التعجب ظاهر ، ولكنه على طلب الحجة في كفرهم.

(وَفِيكُمْ رَسُولُهُ)

يدفع عنكم الشبهة التي عرضت لكم بإلقاء الكفار إليكم.

(وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ) :

أي : من جعل الله ـ عزوجل ـ ملجأ له ، ومفزعا إليه عند الشبه والإشكال.

(فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

أي : يحفظه عن الشبه ، ويرشده إلى صراط مستقيم ، والله أعلم.

ويحتمل : (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ) : يتمسك بالذي جاء من القرآن ، (فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ

__________________

(١) في ب : الاستثناء.

٤٤٢

مُسْتَقِيمٍ).

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) :

روي عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : (حَقَّ تُقاتِهِ) : أن يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر (١) ، ويذكر فلا ينسى» (٢) ، وأراد : حق تقاته ؛ مما يحتمل وسع الخلق.

وروي في حرف حفصة : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) أي : اعبدوا الله حق عبادته (٣) ، وهذا في اعتقاد التوحيد. وروي عن أنس ـ رضي الله عنه ـ يقول : «لا يتقي الله أحد حق تقاته حتى يخزن من لسانه ، ويعد كلامه من عمله» (٤).

وقيل (اتَّقُوا اللهَ) : أطيعوا الله حق طاعته.

وقيل : إن هذا نسخها قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(٥) الآية [التغابن : ١٦] ؛ لكن لا يحتمل أن يأمر الخلق بشيء ليس في وسعهم القيام به ، ثم ينسخ ذلك بما يستطاع ، ولكن أصله ما روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ لله على عباده حقّا ، ولعباده عليه حقّا ، وحقّ الله على عبده : أن يعبد الله ، ولا يشرك غيره فيه. وحقّ العبد على الله : أن يدخله (٦)

__________________

(١) زاد في ب : أي : لا يغفل.

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ٦٥) (٧٥٣٦ ، ٧٥٣٧) وابن أبي حاتم (٢ / ٤٤٦) (١٠٧٩) ، وابن المبارك في «الزهد» (ص ٨) ، وسفيان الثوري في «تفسيره» (ص ٣٨) ، وابن أبي شيبة في مصنفه (١٣ / ٢٩٧) رقم (١٦٤٠٠) ، والحاكم (٢ / ٢٩٤) ، والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص ٨٨) ، والطبراني في «الكبير» (٨٥٠١) عن ابن مسعود ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٠٥) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد والفريابي وابن المنذر. وينظر تفسير البغوي (١ / ٣٣٣). وهو قول مرة الهمدانى ، والربيع بن خثيم وعمرو بن ميمون والحسن وطاوس وقتادة وإبراهيم التيمي وأبي سنان والسدي. وينظر : تفسير ابن أبي حاتم (٢ / ٤٤٦ ، ٤٤٧) (١٠٨٠ ـ ١٠٨٨) وتفسير الطبري (٧ / ٦٥ ـ ٦٧) (٧٥٣٨ ـ ٧٥٥١).

(٣) ينظر : البحر المحيط (٢ / ٢٠) ، وزاد في ب : وهذا في اعتقادته ، وهذا في اعتقادته.

(٤) أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٤٤٨) (١٠٨٩) من طريق عطاء الواسطي عن أنس. وعطاء هو ابن عجلان متروك وكذبه ابن معين والفلاس وغيرهما. ينظر : التقريب (٢ / ٢٢). وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٠٥) وعزاه لابن أبي حاتم فقط.

(٥) وهو قول سعيد بن جبير وزيد بن أسلم وأبي العالية وقتادة ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والسدي.

فأخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٤٤٩) (١٠٩١) عن سعيد بن جبير ، وأخرجه الطبري (٧ / ٦٨) (٧٥٥٦) ، والنحاس في الناسخ والمنسوخ ص (٨٨) عن قتادة. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٠٦) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبي داود في ناسخه. وأخرجه الطبري (٧ / ٦٩) (٧٥٥٨) عن الربيع بن أنس ، وأخرجه (٧٥٥٩) عن السدي ، وينظر تفسير ابن أبي حاتم (٢ / ٤٥٠) (١٠٩٢ ـ ١٠٩٧) ، وروي أيضا عن ابن مسعود وابن عباس ، فأخرجه عبد بن حميد كما في «الدر المنثور» (٢ / ١٠٥) من طريق عكرمة عن ابن عباس. وأخرجه ابن مردويه عن ابن مسعود كما في «الدر» (٢ / ١٠٦).

(٦) في ب : يدخل.

٤٤٣

الجنّة ؛ إذا عبده ، ولم يشرك غيره فيه أحدا» (١) ليكون هذا تأويلا للآية أن قوله : (اتَّقُوا اللهَ) ولا تكفروه ؛ فيكون فيه الأمر بالإيمان ، والنهي عن الكفر ؛ لأنه ليس في وسع أحد أن يتقي الله حق تقاته في كل العبادة ؛ ألا ترى إلى ما روي من أمر الملائكة مع ما وصفوا من عبادتهم أنهم (لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء : ٢٠] و (لا يَسْأَمُونَ) [فصلت : ٣٨] ، ثم يقولون : ما عبدناك حق عبادتك؟!. وإذا كان أحد لا يبلغ ذلك فلا يحتمل تكليف مثله ، وجملته : أن ذلك ليس بذي حدّ وغاية ، فلذلك كان ـ والله أعلم ـ الأمر فيه راجع إلى الإسلام ، أو في نفي حق الإشراك خاصّة ، لا في جميع الأحوال والأفعال ، دليله ما ختم به الآية ، وفي وسع الخلق ألا يشركوا أحدا في عبادته ؛ ألا ترى أنه قال : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)؟!.

وفي ظاهر الآية النهي عن الموت إلا مسلما ، وليس في الموت صنع للخلق ، والمعنى ـ والله أعلم ـ : أي : كونوا في حال إذا أدرككم الموت كنتم مسلمين ؛ فالنهي فيه نهي عن الكفر ، والأمر بالإسلام ، حتى إذا أدركه الموت أدركه وهو مسلم ، والله أعلم.

وقد يكون على بيان ألا عذر عند الموت ـ وإن اشتد أمره ـ بالذي ليس بإسلام.

وروي عن أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : «أكثر ما يسلب الإيمان عند الموت ؛ كان الشيطان يطمعه في أمر لو أعطاه ما طلب».

ويحتمل قوله : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) أي : احذروا عذاب الله حق حذره ، واحذروا نقمته ؛ كقوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) بمعنى نقمته.

وقوله : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) : اختلف فيه ؛ قيل : حبل الله ؛ يعني : القرآن ، وهو قول ابن مسعود ، رضي الله عنه (٢).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : «حبل الله : الجماعة ، وإنما هلكت الأمم

__________________

(١) أخرجه البخاري (٩ / ٢٠٤) كتاب التوحيد : باب دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمته ... حديث (٧٣٧٣) ، ومسلم كتاب الإيمان حديث (٥٠) ، وأحمد (٥ / ٢٢٨) ، والترمذي (٢٦٤٣) من حديث معاذ أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«أتدري ما حق الله على العباد ، وما حق العباد على الله» فقلت : الله ورسوله أعلم. قال : «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وحق العباد على الله ألا يعذب من لم يشرك به شيئا».

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ٧٢) (٧٥٦٦) عن ابن مسعود ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٠٧) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن الضريس وابن الأنباري في المصاحف والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب.

وينظر : الوسيط (١ / ٤٧٣) ، وتفسير البغوي (١ / ٣٩١) ، وهو أيضا قول قتادة والسدي والضحاك ، ينظر : تفسير الطبري (٧ / ٧١ ـ ٧٢) (٧٥٦٤ ، ٧٥٦٧ ، ٧٥٧١).

٤٤٤

الخالية بتفرقها» (١) ، أمر بالكون مع الجماعة ، ونهي عن التفرق ؛ لأن أهل الإسلام هم الجماعة ؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام : ١٥٣] وصف أهل دين الإسلام بالجماعة ، وأهل أديان غيرها بالتفرق.

وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أيضا ـ قال : حبل الله : الجماعة (٢).

وروي في بعض الأخبار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من فارق الجماعة قيد شبر ، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» (٣) يعني : حبل الإسلام.

وروي عنه ـ أيضا ـ قال : «إنّ الشيطان ذئب [الإنسان](٤) كذئب الغنم ، يأخذ الشّاذّة (٥) والقاصية (٦) والنّاحية (٧) ، فإيّاكم والشّعاب ، وعليكم بالجماعة والعامّة وهذا المسجد» (٨).

وروي عن علي [بن أبي طالب](٩) ـ رضي الله عنه ـ قال : «دعاني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة ثلاث مرات ، ثم قال : «يكون فى أمّتى اختلاف» ، قلت : كيف نصنع يا رسول الله إذا كان كذلك؟ قال : «عليكم بكتاب الله ؛ فإنّ فيه نبأ من قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وهو حكم فيما بينكم ، من يدعه من جبّار يقصمه (١٠) الله ، ومن طلب الهدى فى غيره يضلّه الله ، وهو حبل الله المتين ، وأمره الحكيم ، وهو الصّراط المستقيم ، وهو الّذي لا تختلف فيه الألسنة ،

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٤٥٥) (١١٠٦) عن ابن عباس ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٠٧) وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ٧١) (٧٥٦٢ ، ٧٥٦٣) ، وسعيد بن منصور (٥٢٠) ، والطبراني (٩٠٣٣) من طريق الشعبي عن ابن مسعود ، وإسناده فيه انقطاع ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٠٧) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) أخرجه الحاكم (١ / ٧٧) من حديث ابن عمر ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي.

(٤) ما بين المعقوفين غير موجود بالأصل ومثبت من مسند أحمد ، وانظر التخريج.

(٥) الشاذة : ما افترق من الغنم. ينظر : اللسان (٤ / ٢٢٢٠) (شذذ).

(٦) القاصية : البعيدة ، وكل شيء تنحى عن شيء ، فقد قصا يقصو قصوا فهو قاص. ينظر : اللسان (٥ / ٣٦٥٧) (قصا).

(٧) الناحية : الجانب ، وأهل المنحاة : القوم البعداء ولعل المراد : الشاة البعيدة عن القطيع. ينظر : اللسان (٦ / ٤٤٤٥) (نحي).

(٨) أخرجه أحمد (٥ / ٢٣٢ ، ٢٤٣) ، وعبد بن حميد (١١٤) من حديث ابن مسعود ، وقال الهيثمي في «المجمع» (٥ / ٢٢٢) : رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات إلا أن العلاء بن زياد قيل : إنه لم يسمع من معاذ.

(٩) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(١٠) يقصمه : يكسره كسرا فيه بينونة. والقصم : كسر الشيء الشديد حتى يبين. ينظر : اللسان (٥ / ٣٦٥٦) (قصم).

٤٤٥

ولا يخلقه كثرة الرّدّ ، ولا تنقضي عجائبه» (١).

وقيل : حبل الله : دين الله (٢).

والحبل : هو العهد (٣) ؛ كأنه أمر بالتمسّك بالعهود التي في القرآن ، والقيام بوفائها ، والحفظ لها ، ونهي عن التفرق كما تفرقت الأمم الخالية ، واختلفت في الأديان.

وقوله : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) : بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤). وقيل : ألّف بين قلوبكم بالإسلام (٥).

وقيل : بالقرآن ، ولم يكن ذلك للدّين نفسه ، ولكن بلطف من الله منّ به على أهل دينه ، وأخبر أن التأليف بين قلوبهم نعمة ؛ لأن التفرق يوجب التباغض ، والتباغض يوجب التقاتل ؛ وفي ذلك التفاني.

وعلى قول المعتزلة : ليس من الله على المسلم من النعمة ، إلا ومثلها يكون على الكافر ؛ لأن الهدى والتوفيق ـ عندهم ـ هو البيان ، فذلك البيان للكافر كهو للمسلم ؛ وعلى قولهم ـ لا يكون من الله على أحد نعمة ؛ لأنهم لا يجعلون لله في الهداية فعلا ، إنما ذلك من الخلق ، وأمّا عندنا : فإنما يكون الإسلام بهدايته إياه ، فذلك من أعظم النعم عليه.

وقوله : (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) :

أي : صرتم بنعمته إخوانا.

وقوله : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) :

__________________

(١) أخرجه أحمد في مسنده (١ / ٩١) ، وابن أبي شيبة (١٠ / ٤٨٢) ، والترمذي (٥ / ٢٩) كتاب فضائل القرآن : باب ما جاء في فضل القرآن (٢٩٠٦) ، والبزار (٨٣٤ ، ٨٣٦ ـ كشف الأستار) ، وأبو يعلى في مسنده (٣٦٧) من طريق الحارث الأعور عن على ، وقال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات وإسناده مجهول وفي حديث الحارث مقال.

(٢) ذكره البغوي في تفسيره (١ / ٣٣٣) عن ابن عباس ، وينظر اللباب في علوم الكتاب (٥ / ٤٣١).

(٣) وهو قول ابن عباس ومجاهد وعطاء وقتادة أخرجه الطبري (٧ / ٧١) (٧٥٦٥) وعبد الرزاق في «تفسيره» (١ / ١٢٩) عن قتادة. وينظر : تفسير البغوي (١ / ٣٣٣) ، واللباب في علوم الكتاب (٥ / ٤٣١).

(٤) وفيه قصة طويلة في الصلح بين الأوس والخزرج ذكرها محمد بن إسحاق وغيره من أهل العلم بالأخبار وينظر تفسير البغوي (١ / ٣٣٣ ـ ٣٣٨) ، واللباب في علوم الكتاب (٥ / ٤٣٩ ـ ٤٤٥) ، والوسيط (١ / ٤٧٤) ، وينظر أيضا تفسير الطبري (٧ / ٧٩ ـ ٨١).

(٥) أخرجه الطبري (٧ / ٨٢) (٧٥٨٨) عن السدي ، وابن أبي حاتم (٢ / ٤٥٧) (١١١٣) ، وروي أيضا عن مجاهد ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس ، وينظر : معاني القرآن للنحاس (١ / ٤٥٤) ، المحرر الوجيز (٣ / ٢٥٠) ، وتفسير ابن أبي حاتم (٢ / ٤٥٧) (١١١٤ ـ ١١١٧) ، والوسيط (١ / ٤٧٤).

٤٤٦

أي : كنتم أشفيتم حفرة من النار ، وهو القريب منها ، لو لا أنه منّ بالإسلام. ويحتمل أن يكون على الكون فيها والوقوع ، لا القرب (١) ؛ كقوله : (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) [التكاثر : ٦] ليس على الرؤية خاصة ؛ ولكن على الوقوع فيها ؛ وكقوله : (فَذُوقُوا الْعَذابَ) [آل عمران : ١٠٦] ليس على البعد منها ؛ ولكن على الكون فيها ، ومثله كثير يترجم على (٢) الوقوع فيها.

وقوله : (حُفْرَةٍ) : كأنه قال : كنتم على شفا درك (٣) من دركات النار ، (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها).

وهذا ـ أيضا ـ على المعتزلة ؛ لأن على قولهم : هم الذين ينقذون أنفسهم ، لا الله ، على ما ذكرنا ، [والله أعلم](٤).

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ نقول : إذا كان الله ـ تعالى ـ عندهم قد جمع بين الكفرة والبررة في بذل الأصلح لهم في الدّين ، وليس منه غير ذلك فلا يجىء أن يمنّ عليهم به يتألف بنعمته ، والتي منه موجود مع التفرق ؛ بل أولئك تألفوا بنعمتهم. وبعد ؛ فإنّ النعمة لو كانت دينا ، فما الذي كان منه حتى يمنّ ، وذلك فعلهم بلا فضل منه فيه؟! والله أعلم.

وفي قوله : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ) الآية : أنه قد يلزم خطاب الإيمان حين الفترة (٥) ؛ لأنهم في ذلك الوقت كانوا قد أنقذوا ، والله الموفق.

وقوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) : إذ كنتم أعداء في الجاهلية والكفر ، متفرقين ، وصرتم إخوانا في الإسلام ؛ كلمتكم واحدة.

(لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) : لكي تعرفوا نعمته ومنته.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : وقد يكون : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) في حادث الأوقات ؛ لتكونوا فيها مهتدين كما اهتديتم ؛ فيكون في ذلك وعد التوفيق والبشارة ، والله أعلم.

__________________

(١) ينظر الوسيط (١ / ٤٧٤) ، ومعاني القرآن للنحاس (١ / ٤٥٥) ، تفسير البغوي (١ / ٣٣٨) ، واللباب في علوم الكتاب (٥ / ٤٤٦ ـ ٤٤٧).

(٢) في ب : عن.

(٣) الدّرك : أقصى قعر الشيء ، وأسفل كل شيء ذى عمق ، كالركية ونحوها. اللسان (٢ / ١٣٦٥) (درك).

(٤) بدل ما بين المعقوفين في ب : والله الموفق.

(٥) الفترة : ما بين النبيين ، كما بين نوح وإدريس وما بين عيسى ونبينا صلى الله عليهم وسلم أجمعين ، مأخوذ من الفتور ، وهو الغفلة ؛ لأنهم تركوا بلا رسول.

ينظر : النشر الطيب على شرح الشيخ الطيب (١ / ٣٨٩).

٤٤٧

قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(١٠٩)

وقوله : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).

وقوله : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ)

يحتمل أن يكون هذا خبرا (١) في الحقيقة ، وإن كان في الظاهر أمرا ؛ فإن كان خبرا ففيه دلالة أن جماعة منهم إذا قاموا على الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ـ سقط ذلك عن الآخرين ؛ لأنه ذكر فيه حرف التبعيض ، وهو قوله : (مِنْكُمْ أُمَّةٌ ..). الآية.

ويحتمل أن يكون على الأمر في الظاهر والحقيقة جميعا ، ويكون قوله : (مِنْكُمْ) ـ صلة ، فإن كان على هذا ففيه أن على [كل](٢) أحد أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ، وذلك واجب ؛ كأنه قال : كونوا أمّة (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) الآية ؛ لأنه ذكر ـ جل وعزّ ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في آي كثيرة من كتابه ، منها هذا : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ ..). الآية ، ومنها قوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) ، وذمّ من تركهما بقوله : (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة : ٧٩].

وروي عن عكرمة (٣) أن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال له : «قد أعياني أن أعلم ما

__________________

(١) الخبر ـ لغة ـ : مشتق من الخبار وهي الأرض الرخوة ؛ لأن الخبر يثير الفائدة ؛ كما تثير الأرض الغبار إذا قرعها الحافر ونحوه وهو نوع مخصوص من القول ، وقسم من الكلام اللساني وقد يطلق على الإشارات الخالية والدلائل المعنوية واصطلاحا : هو كلام تام يكون لنسبته خارج تطابقه تلك النسبة أولا تطابقه فإن طابقت النسبة الخارج فتلك المطابقة صدق ، وإلا فكذب. راجع : اللسان (٢ / ١٠٩٠) (خبر). ومذكرة التوحيد للشيخ صالح شرف (ص : ٥٢) ، شرح العضد (٢ / ٤٥) ، حاشية التفتازاني (٢ / ٤٥) ، شرح الأسنوي (١ / ١٩٥ ، ١٩٦) ، مفتاح السعادة (٢ / ٤٨٦ ، ٤٨٧).

(٢) سقط في ب.

(٣) هو عكرمة البربري مولى ابن عباس ، أبو عبد الله أحد الأئمة الأعلام ، روى عن عائشة وأبي هريرة ومعاوية وخلق ، وروى عنه الشعبي وإبراهيم النخعي ، وغيرهما. مات سنة ١٠٥ ه‍.

ينظر : الخلاصة (٢ / ٢٤٠) ، سير أعلام النبلاء (٥ / ١٢) رقم (٩).

٤٤٨

يفعل بمن أمسك عن الوعظ ، فقلت : أنا أعلمك ذلك ، اقرأ الآية الثانية : (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ ..). [الأعراف : ١٦٥] ، فقال لي : أصبت (١).

فاستدل ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ بهذه الآية على أنّ الله أهلك من عمل السوء ، ومن لم ينه عنه من يعمله ، فجعل ـ والله أعلم ـ الممسكين عن نهي الظالمين مع الظالمين في العذاب.

وقد روي عن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ قال : «يا أيها الناس ، إنكم تقرءون هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة : ١٠٥] وإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا رأوا الظّالم ، فلم يأخذوا على يده ـ أوشك أن يعمّهم الله بعقاب» (٢).

وعن جرير (٣) قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنّ الرّجل ليكون فى القوم ، ويعمل فيهم بمعاصي الرّحمن ، وهم أكثر منه وأعزّ ، ولو شاءوا أن يأخذوا على يده لأخذوا على يده ، فيرهبوا له ؛ فيعذّبهم الله به» (٤).

وعن حذيفة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والّذى نفسي بيده ، لتأمرنّ بالمعروف ، ولتنهونّ عن المنكر ، أو ليعمّكم الله بعقاب من عنده ، ثمّ لتدعونه ولا يستجيب لكم» (٥).

__________________

(١) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (٢ / ٢٤٠ ـ ٢٤٢) وسيأتي مفصلا في سورة الأعراف.

(٢) أخرجه أحمد (١ / ٥ ، ٧ ، ٩) ، وأبو داود (٢ / ٥٢٥) كتاب الملاحم : باب الأمر والنهي (٤٣٣٨) ، والترمذي (٤ / ٤٠ ، ٤١) كتاب الفتن ، باب ما جاء في نزول العذاب (٢١٦٨) ، وابن ماجه (٥ / ٤٨١) كتاب الفتن ، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٤٠٠٥) ، وعبد بن حميد (١) ، والحميدي (٣) ، وأبو يعلى (١٢٨ ، ١٣٢) ، وابن حبان (٣٠٤) ، والبزار (٦٥ ، ٦٦ ـ كشف الأستار) ، والطبراني في الأوسط (٢٥٣٢) ، والبيهقي (١٠ / ٩١) من حديث أبي بكر الصديق.

(٣) هو جرير عبد الله بن جابر البجلي ، صحابي أسلم ، وصحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستعمله على اليمن ، وشارك في الفتوحات ، وكان على ميمنة الناس يوم القادسية ، ويلقب بيوسف هذه الأمة. مات سنة ٥١ ه‍ ، وقيل : ٥٤ ه‍.

الخلاصة (١ / ١٦٣) ، سير الأعلام (٢ / ٥٣٠) ، رقم (١٠٨).

(٤) أخرجه أبو داود (٢ / ٥٢٦) كتاب الملاحم ، باب الأمر والنهي (٤٣٣٩) من حديث جرير بن عبد الله البجلي.

(٥) أخرجه أحمد (٥ / ٣٨٨) ، والترمذي (٤ / ٤١ ، ٤٢) أبواب الفتن ، باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٢١٦٩) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (١٥ / ٢٣٤) ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن.

٤٤٩

وعن أبي سعيد الخدرى يذكر أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنّ الله ليسأل العبد يوم القيامة حتّى يقول : ما منعك إذا رأيت منكرا أن تنكره؟ فإذا الله لقّن عبدا حجّته فقال : أي ربّ ، وثقت بك ، وفرقت من النّاس» (١).

وعن أبي هريرة (٢) ـ رضي الله عنه ـ قال : اجتمع نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [فقالوا : يا رسول الله](٣) ، أرأيت إن قلنا بالمعروف حتى لا يبقى من المعروف إلا ما عملنا به ، وانتهينا عن المنكر حتى لا يبقى ، أيسعنا ألا نأمر بالمعروف ولا ننهى عن المنكر؟ فقال : «مروا بالمعروف ، وإن لم تعملوا به كلّه ، وانهوا عن المنكر وإن لم تنهوا عنه» (٤).

ولا ينبغي للرجل أن يقول : لست ممن يعمل (٥) بالمعروف كله ، وينتهي (٦) عن المنكر كله ، حتى آمر غيري وأنهاه ، فإن فعله المعروف واجب عليه ، فلا يجب إذا قصر في واجب أن يقصر في غيره.

وقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).

يحتمل وجوها :

يحتمل : (كُنْتُمْ) : أي : صرتم خير أمّة أظهرت للناس ؛ بما تدعون الخلق إلى النجاة والخير.

ويحتمل : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) في الكتب السالفة ؛ بأنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر.

ويحتمل : تكونون خير أمة إن أمرتم بالمعروف ، ونهيتم عن المنكر.

ويحتمل : (كُنْتُمْ) : صرتم خير أمّة ، وكانوا كذلك هم خير ممن تقدمهم من الأمم ؛

__________________

(١) أخرجه أحمد (٣ / ٢٧ ، ٢٩ ، ٧٧) ، وابن ماجه (٥ / ٤٨٩) ، ٤٩٠) كتاب الفتن ، باب قوله تعالى : يا (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ...) [المائدة : ١٠٥] (٤٠١٧) ، والحميدي (٧٣٩) ، وعبد بن حميد (٩٧٤) ، وأبو يعلى (١٠٨٩ ، ١٣٤٤) ، وابن حبان (٧٣٦٨) ، والبيهقي (١٠ / ٩٠) من حديث أبي سعيد الخدري.

(٢) هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي ، الحافظ ، صحابي أكثر من الرواية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولزم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثيرا حتى صار أحفظ الصحابة للحديث وأرواهم له. مات سنة ٥٩ ه‍.

راجع : الخلاصة (٣ / ٢٥٢) ، سير الأعلام (٢ / ٥٧٨) رقم (١٢٦).

(٣) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٤) ذكره الهيثمي في «المجمع» (٧ / ٢٨٠) من حديث أنس وقال : رواه الطبراني في الصغير والأوسط من طريق عبد السلام بن عبد القدوس بن حبيب عن أبيه وهما ضعيفان.

(٥) في ب : يأمر.

(٦) في ب : ينهي.

٤٥٠

بما بذلوا مهجهم لله في نصر دينه ، وإظهار كلمته ، والإشفاق على رسوله ، حتى كان أحبّ إليهم من أنفسهم ؛ ويرونه أولى بهم ، والله الموفق.

ثم اختلف في المعروف والمنكر ، قيل : المعروف : كل مستحسن في العقل فهو معروف ، وكل مستقبح فيه فهو منكر (١).

ويحتمل الأمر بالمعروف : هو الأمر بالإيمان ، والنهي عن المنكر : هو النهي عن الكفر ؛ دليله : قوله : (وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ..). الآية ، يؤمنون هم ، ويأمرون غيرهم بالإيمان ، وينهون عن الكفر.

وقوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) :

لأن التفرق هو سبيل (٢) الشيطان بقوله : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام : ١٥٣].

(مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) : والبينات : هي الحجج التي أتى بها.

ويحتمل : بيان ما في كتابهم من صفة [رسولنا](٣) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعته [الشريف](٤).

ويحتمل : تفرقوا عما نهج لهم الله ، وأوضح لهم الرسل ؛ فأبدعوا لأنفسهم الأديان بالأهواء ، فحذرنا ذلك ، وعرفنا أن الخير كله في اتباع من جعله الله حجة له ، ودليلا عليه ، وداعيا إليه ، ولا قوة إلا بالله.

(وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) :

دلّ هذا أن السبيل هو الذي يدعو الشيطان إليها.

وقوله : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ..). الآية :

وصف الله ـ عزوجل ـ وجوه أهل الجنة بالبياض ؛ لأن البياض هو غاية ما يكون به الصفاء ؛ لأن كل الألوان تظهر في البياض ، ووصف ـ عزوجل ـ وجوه أهل النار بالسواد ؛ لأن السواد هو نهاية ما تكون به الظلمة ؛ إذ الألوان لا تظهر في السواد فهو شبيه بالظلمة.

وقد يحتمل أن يكون المراد من وصف البياض والسواد ـ ليس نفس البياض والسواد ؛ ولكنّ البياض هو كناية عن شدّة السرور والفرح ، والسّواد كناية عن شدة الحزن والأسف ؛

__________________

(١) ينظر : الوسيط (١ / ٤٧٥) ، واللباب في علوم الكتاب (٥ / ٤٥٠ ـ ٤٥١).

(٢) في ب : سبل.

(٣) سقط من ب.

(٤) سقط من ب.

٤٥١

كقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) [عبس : ٣٨ ـ ٣٩] ، ووصف وجوه أهل الجنة بالضحك ، وليس على حقيقة الضحك ؛ ولكن وصف بغاية السرور والفرح ؛ وكذلك وجوه أهل النار وصفها بالغبر والقتر ؛ وهو وصف بشدة الحزن (١) ، والله أعلم.

وقوله : (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) :

يحتمل وجوها :

يحتمل : أكفرتم بألسنتكم بعد ما شهدت خلقتكم بوحدانية الله تعالى ؛ لأن خلقة كل أحد تشهد على وحدانيته.

ويحتمل : أي : كفرتم بعد ما آمنتم بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يبعث بوجودكم ، نعته وصفته في كتابكم (٢) وعلى هذا قال بعض أهل التأويل : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) [الشورى : ١٦] : أي : على استجابة كثير منهم من الأجلّة والكبراء ، الذين لا يعرفون بالتعنت في الدّين ولا بالتقليد ، [والله أعلم](٣).

ويحتمل قوله : أكفرتم أنتم بعد أن آمن منكم فرق؟! ؛ لأن منهم من قد آمن ، ومنهم من كفر ، فقال لمن كفر : أكفرتم أنتم وقد آمن منكم نفر؟! ألا ترى أنه قال : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ) [الأعراف : ١٥٩] والله أعلم ؛ وكقوله : (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ)؟! [الصف : ١٤].

وقيل : أراد بالإيمان ـ الذي قالوا حين أخرجوا من ظهر آدم (٤).

وفي الآية ردّ قول المعتزلة بتخليد أهل الكبائر (٥) في النار ، وإخراجهم إياهم من الإيمان من غير أن أدخلوهم في الكفر (٦) ؛ لأنه ـ عزوجل ـ لم يجعل إلا فريقين : بياض

__________________

(١) ينظر : اللباب في علوم الكتاب (٥ / ٤٥٣ ـ ٤٥٤).

(٢) وهو قول عكرمة. ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١١٢) وعزاه إلى الفريابي وابن المنذر.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في ب : والله الموفق.

(٤) وهو قول ابن جريج ، أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٤٦٦) (١١٤٦).

(٥) الكبائر : جمع كبيرة. قال النووي : «قال بعض العلماء : كل ما نص الله ـ تعالى ـ عليه أو رسوله وتوعد عليه أو رتب عليه حدا أو عقوبة ويلحق به ما في معناه من المفسدة.

ثم قال النووي : واختلف العلماء في حد الكبيرة وتمييزها من الصغيرة ، فجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : كل شيء نهي الله تعالى عنه فهو كبيرة ، وبهذا قال الأستاذ أبو إسحاق الأسفرائيني الفقيه الشافعى ، وحكاه القاضي عياض عن المحققين ، وروي عن ابن عباس أيضا : الكبائر : كل ذنب ختمه الله تعالى بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب أو حد في الدنيا».

راجع : شرح النووي على صحيح مسلم (١ / ٢٧٩ ، ٢٨٠).

(٦) قالت المعتزلة والخوارج : صاحب الكبيرة إذا لم يتب عنها يخلد في النار ولا يخرج منها أبدا ، واستدلوا على ذلك بالآيات المشتملة على لفظ الخلود في وعيد صاحب الكبيرة ، وأجيب : بأن ـ

٤٥٢

الوجوه ، وسواد الوجوه ، فبياض الوجوه هم المؤمنون ، وسواد الوجوه هم الكافرون ؛ لأنه قال : (أَكَفَرْتُمْ) فأصحاب الكبائر لم يكفروا بارتكابهم الكبيرة ، ولم يجعل الله ـ تعالى ـ فرقة ثالثة ؛ وهم فرقة ثالثة ؛ وكذلك قال ـ عزوجل ـ : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى : ٧] لم يجعل الخلق إلا فريقين ، وهم جعلوا فرقا ؛ وكقوله : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) [التغابن : ٢].

فإن قيل : ذكر في الآية الكفر بعد الإيمان ، ثم لم يكن فيه منع دخول من لم يكفر بعد الإيمان ؛ فامتنع ألا يكون فيه منع دخول صاحب الكبيرة

فجوابنا ما سبق : أن خلقة كل كافر تشهد على [وحدانية الله تعالى](١) ، لكنهم كفروا بألسنتهم ، وذلك كفر بعد الإيمان ؛ فلم يجز أن يدخل في الآية من لم يكن كافرا في حكم الكافر ، وبالله التوفيق.

وقوله : (فَذُوقُوا الْعَذابَ)

في الظاهر أمر ، لكنه في الحقيقة ليس بأمر ؛ لأن العذاب لا يذاق ، وإنما يذوق هو ؛ فكأنه قال : اعلموا أن عليكم العذاب (٢).

وقوله : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ..). [الآية](٣) :

يحتمل : (آياتُ اللهِ) : حجج الله وبراهينه.

ويحتمل : (آياتُ اللهِ) : القرآن (٤).

__________________

 ـ الأحاديث نصت على خروج صاحب الكبيرة من النار ، فالمراد بالخلود بهذا المعنى كثير ، كقولهم : خلد الله ملكه ، والمراد : طول المدة بلا شبهة.

وأما عند أهل السنة : فقالوا : إن الثواب على الطاعة فضل من الله ـ تعالى ـ وعد به فيفي به ؛ لأنه سبحانه لا يخلف الميعاد ، والعقاب على المعصية عدل منه تعالى ، وله العفو عنه ؛ لأن العفو فضل ، ولا يعد الخلف في الوعيد نقصا بل يمدح به عند العقلاء ، وعمل الطاعة دليل على حصول الثواب ، وفعل المعصية علامة العقاب ، فلا يكون الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية واجب على الله تعالى.

وقال أهل السنة أيضا : إن مرتكب الكبيرة لا يخلد في النار ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ)[الزلزلة : ٧] والإيمان خير ، ولا يرى جزاء خيره إلا بعد خروجه من النار. وللأحاديث الدالة على خروج العصاة من النار. وانظر تفصيل هذه المسألة في : نشر الطوالع (ص : ٣٥٩ ، ٣٦٠).

(١) بدل ما بين المعقوفين في ب : وحدانيته.

(٢) ينظر : اللباب لابن عادل (٥ / ٤٥٧).

(٣) سقط من ب.

(٤) أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٤٦٨) (١١٥٣) عن قتادة ، وذكره الواحدي في الوسيط (١ / ٤٧٦) عن ابن عباس.

٤٥٣

(بِالْحَقِّ) : ببيان الحق (١).

ويحتمل : (بِالْحَقِّ) : بالدّين ، والدين هو الحق ، ويحتمل : أن الآيات هي الحق.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : أي : بالأمر بالدعاء إلى الحق.

ويحتمل : الحق الذي لله على عباده ، ولبعضهم على بعض.

وقوله : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) : والظلم : هو وضع الشيء في غير موضعه ، فإذا كان ما في السموات وما في الأرض كله له ، ومن وصف في الخلق بالظلم إنما وصف ؛ لأنه يضع حق بعض في بعض ، ويمنع حق بعض ؛ فيجعل لغير المحق ، فالله يتعالى عن ذلك.

وقوله : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ)

أي : لا يريد أن يظلمهم ، وإن شئت قلت : قلت الإرادة صفة لكل فاعل في الحقيقة ؛ فكأنه قال : لا يظلمهم ، وكيف يظلم؟! وإنما يظلم بنفع تسرّه إليه النفس ، أو ضرر يدفع به ، فالغني بذاته متعال عن ذلك.

وقوله : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)

أي : إليه يرجع أمر كل أحد ، فلا يحتمل الظلم [وجود الظلم منه](٢).

قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (١١٢)

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ في قوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) قال : «خير الناس أنفعهم للناس (٣) و (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) : أي : تأمرونهم ، أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، والإقرار بما أنزل الله ، وتقاتلون عليه ، ولا إله إلا الله هو أعظم المعروف (٤) ،

__________________

(١) ينظر : اللباب في علوم الكتاب (٥ / ٤٦١).

(٢) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١١٤) وعزاه إلى ابن المنذر من طريق عكرمة عن ابن عباس ، وينظر تفسير ابن أبي حاتم (٢ / ٤٧٢) (١١٦٣).

(٤) أخرجه الطبري (٧ / ١٠٥) (٧٦٢٤) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٤٧٤) (١١٧٢) عن ابن عباس. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١١٤) وزاد نسبته إلى ابن المنذر والبيهقي في الأسماء والصفات.

٤٥٤

والمنكر : هو التكذيب ، فهو أنكر المنكر» (١).

وعن علي ـ رضي الله عنه ـ [أنه](٢) قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء» ، قلنا : يا رسول الله ، وما هو؟ قال : «نصرت بالرّعب ، وأعطيت مفاتيح الأرض ، وسمّيت أحمد ، وجعل التّراب لى طهورا ، وجعلت أمّتى خير الأمم» (٣).

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ) له وجهان :

أي : (كُنْتُمْ) على ألسن الرسل في الكتب المتقدمة خير أمة.

ويحتمل : أي : كنتم صرتم بإيمانكم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واتباعكم ما معه ـ خير أمّة على وجه الأرض ؛ لأنهم

آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض.

وقوله : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) : يتوجّه إلى وجوه ثلاثة :

المعروف : هو المعروف في العقول ، [أي](٤) : الذي تستحسنه العقول ، والمنكر : هو الذي قبحته العقول وأنكرته.

ويحتمل أن يكون المعروف : هو الّذى عرف بالآيات والبراهين أنه حسن ، والمنكر : [ما عرف بالحجج ؛ أي : أنه قبيح.

ويحتمل أن المعروف : هو الذي جرى على ألسن الرسل أنه حسن ، والمنكر :](٥) هو الذي أنكروه ونهوا عنه.

فعلى هذه الوجوه يخرج تأويل الآية ، والله أعلم.

وقوله : (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ)

لا شك أن الإيمان خير لهم من الكفر ، ولكن معناه ـ والله أعلم ـ أنهم إنما أبوا الإيمان وتمسكوا بالكفر لوجهين :

أحدهما : أنهم كانوا أهل عزة وشرف فيما بينهم ، وأهل دراية ؛ ينتاب إليهم الناس ، ويختلفون إليهم بحوائجهم ، فخافوا ذهاب ذلك عنهم إذا آمنوا ، فأخبر الله ـ عزوجل ـ أنهم إن آمنوا لكان [خيرا](٦) لهم من الذكر والشرف والعزّ في أهل الإيمان أكثر مما لهم في أهل الكفر ؛ ألا ترى أنّ من آمن منهم من درسة الكتاب وعلمائهم ـ كان لهم من الذكر

__________________

(١) تقدم تخريجه وهو تتمة الأثر السابق.

(٢) سقط من ب.

(٣) أخرجه أحمد (١ / ٩٨) ، وحسنه السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١١٤).

(٤) سقط من ب.

(٥) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٦) سقط من ب.

٤٥٥

والشرف في الإيمان ما لم يكن لأحد مات منهم على الكفر ؛ نحو : عبد الله بن سلام (١) ، ومن أسلم منهم ؛ نحو : كعب (٢) ، وغيره من الأحبار؟! وإنما كانوا من علمائهم لم يكونوا من علماء أهل الإيمان ، فنالوا بالإيمان من الذكر والعزّ والشرف ما لم ينل أحد منهم مات على الكفر ، بل حمل ذكرهم وانتشر في أهلهم ؛ فضلا عن أهل الإيمان والإسلام ، والله أعلم.

والثاني : أنهم كانوا أبوا الإسلام واتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واختاروا المقام على الكفر ؛ خوفا وإشفاقا على ما لهم من المنافع والمنال أن يذهب ذلك عنهم بالإسلام ، فأخبر ـ عزوجل ـ أنهم لو آمنوا لكان خيرا لهم في الآخرة ؛ إذ ذاك (٣) ينقطع ويذهب عن قريب ، والذي لأهل الإيمان في الآخرة باق دائم ، لا يزول أبدا ؛ لما كان الذي ينال بالإيمان غيبا ، وكذلك ما يحلّ بالكفار (٤) من جزاء الكفر ـ غيب اشتد عليهم الفكر والتدبر ، لما يمنعهم عن الشهوات ، وينغص عليهم اللّذات ، فآثروا ما هوته أنفسهم وتلذذوا به على التدبّر ، مع ما كان إدراك الغائب بالشاهد أمر عسير ، لا يوصل إليه إلا بفضل الله ، ولم يكن عليه ذلك لا يسقط معنى الإفضال والإنعام ، ويصير حقّا مع ما كان منهم تقديم الجفاء ، وإيثار زهرة الدنيا وبهجة الغنى على الموعود ، والله أعلم.

وقوله : (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) :

كذلك كانوا : كان المؤمنون أقل ، والكفار أكثر ، [والله أعلم](٥).

وقوله : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ..). الآية :

فيه بشارة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين ، بالأمن لهم عن أذى المشركين وضررهم ، إلا أذى باللسان ؛ وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [آل عمران : ١٨٦] ، وقوله : (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ ..). الآية [الحشر : ١٢] ، ونحوه من الآيات التي فيها بشارة لأهل الإيمان بالنصر لهم على

__________________

(١) عبد الله بن سلام بن الحارث أبو يوسف ، الخزرجي أسلم مقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، وشهد فتح بيت المقدس مع عمر رضي الله عنهم ، وشهد له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنة. مات سنة ٤٣ ه‍. ينظر : الخلاصة (٢ / ٦٤) ، سير الأعلام (٢ / ٤١٣) رقم (٨٤).

(٢) هو كعب بن ماتع الحميري ، تابعى جليل ، كان من علماء اليهود فأسلم ، توفي ٣٢ ه‍. ينظر : تذكرة الحفاظ (١ / ٤٩).

(٣) في ب : ذلك.

(٤) في ب : بالكافر.

(٥) ما بين المعقوفين سقط من ب.

٤٥٦

عدوهم (١).

وفي قوله : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً ..). الآية ـ دلالة إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه أخبر بذلك قبل أن يكون ، فكان على ما أخبر ؛ فدل أنه إنما علم ذلك بالله عزوجل.

وقوله : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ)

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : «ضربت عليهم المسكنة» وليس فيه الذلة ، وفي حرف حفصة : «ضربت عليهم المسكنة والذلة».

ثم اختلف في (الذِّلَّةُ) : قيل : هي الجزية التي ضربت عليهم (٢) ، وهي ذلة ؛ كقوله : (عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة : ٢٩] ؛ لأنهم كانوا يأنفون عنها.

وقوله : (أَيْنَ ما ثُقِفُوا) أي : وجدوا.

(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ)

يعني : بعهد من الله ، وعهد من الناس يكون تحت قوم يؤدّون الجزية ؛ وكذلك تأوّل ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : (بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) أي : بعهد من الله ، وعهد من الناس (٣).

وقال مقاتل (٤) : و «الناس» في هذا الموضع : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصّة.

ويحتمل قوله : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) بكفرهم فيما بين المسلمين ، بعد ما كانوا أهل ذكر وشرف وعز فيما بينهم.

(أَيْنَ ما ثُقِفُوا)

أي : لا يوجدون إلا بحبل من الله وحبل من الناس ـ بالإسلام ، أي : لا يظفرون بهم ولا يوجدون ؛ إلا أن يسلموا لخوفهم على أنفسهم.

وقوله : (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) :

__________________

(١) قال ابن كثير : فإنهم يوم خيبر أذلهم الله وأرغم أنوفهم ، وكذلك من قبلهم من يهود المدينة : بني قينقاع ، وبني النضير ، وبني قريظة ، كلهم أذلهم الله. وكذلك النصارى بالشام كسرهم الصحابة في غير ما موطن وسلبوهم ملك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين ، ولا تزال عصابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم كذلك ويحكم بملة الإسلام وشرع محمد ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام.

ينظر : تفسير ابن كثير (١ / ٣٩٦).

(٢) أخرجه الطبري (١ / ٣١٥) ، وابن أبي حاتم (١ / ١٩٥) (٦٢٧) عن الحسن وقتادة.

(٣) أخرجه الطبري (٤ / ١١٢) (٧٦٣٨) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٤٧٨ ـ ٤٨٠) (١١٨٨ ، ١١٩٧). وابن المنذر كما في الدر المنثور (٢ / ١١٥).

(٤) في ب : ابن مقاتل.

٤٥٧

قيل : استوجبوا غضبا من الله بكفرهم (١).

وقيل : رجعوا (٢).

وقيل : وجب عليهم الغضب.

وقد ذكرنا هذا في غير موضع (٣). والله أعلم.

وقوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) :

وهي الحاجة والفقر ، وهو ما ذكرنا : أنهم ظاهروا المشركين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع قربهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعدهم بالمشركين ؛ فأذلهم الله ـ تعالى ـ بذلك ، وجعلهم أهل حاجة وضعة (٤) فيما بين المسلمين ، بعد ما كانوا أهل عزّ وشرف فيما بينهم ؛ وهو كقوله : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ..). الآية [الأحزاب : ٢٦].

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : وقد يحتمل رجوع الآية إلى خاص منهم ، وهم الذين ذكر الله في قوله : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ) الآية ، وغير ذلك مما يصير فيه المسلمون. يعرف حقيقة المراد من شهد النوازل ، وعرف الأسباب التي لها جاءت البشارات.

ويحتمل : أن الله ـ تعالى ـ جعل كل حاجاتهم إلى ما يفنى ؛ وهي (٥) الدنيا التي لا بقاء لها ولا منفعة في الحقيقة ، فهي حاجة ، ثم بما فيهم بالجهل أن ذلك فيهم حاجة.

ويحتمل : أن الله مع ما وسع عليهم الدنيا ـ جعل في قلوبهم خوف الفقر ، وأعظم الحاجات فهي المسكنة.

وقوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) :

وآيات الله : ما ذكرنا في غير موضع (٦).

وقوله : (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) :

يحتمل وجوها :

يحتمل : أن أوائلهم قد قتلوا الأنبياء [بغير حق](٧) ، وهؤلاء رضوا بذلك ، وإن كانوا

__________________

(١) قاله الضحاك أخرجه عنه الطبري (١١٩٣).

(٢) قاله قتادة أخرجه عنه عبد بن حميد كما في الدر المنثور (١ / ١٤٢).

(٣) ينظر : تفسير الآية (٦١) من سورة البقرة.

(٤) الضعة : الانحطاط واللؤم والخسة. القاموس المحيط ص (٦٩٥) (وضع).

(٥) في ب : وهو.

(٦) ينظر مثلا تفسير الآية (١٠٩) من سورة آل عمران.

(٧) ما بين المعقوفين من ب.

٤٥٨

لم يتولوا هم بأنفسهم ؛ فأضاف الله ـ تعالى ـ ذلك إليهم ؛ لأنهم شاركوا في صنيعهم برضاهم ؛ وهو كقوله : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة : ٣٢].

ويحتمل : أن يكونوا [قصدوا قتل](١) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا قصدوا ذلك فكأنهم قصدوا الأنبياء كلهم ، كما ذكرنا في قوله : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً ..). الآية.

ويحتمل : أن يكونوا هموا بقتل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويحتمل : أن يكون عيّرهم بآبائهم ؛ إذ هم قلدوهم في الدّين ، فبين سوء صنيعهم بالأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ ليعرفوا به سفههم وسفه كل من [قصد تقليدهم](٢) ، والله أعلم.

ويحتمل : أن يكونوا قتلوا أتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فأضاف إليه ، وهو كما أضاف إليه مخادعتهم المؤمنين ـ إلى نفسه ؛ وكما أضاف نصر أوليائه إليه ، وإن كان الله لا يخادع ولا ينصر ؛ فعلى ذلك إضافة القتل إليه ؛ لقتلهم الأتباع ، والله أعلم (٣).

قوله تعالى : (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ)(١١٥)

وقوله : (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ ..). الآية :

أي : لا سواء بين من آمن منهم ـ يعني : من أهل الكتاب ـ ومن لم يؤمن منهم ؛ لأن منهم من قد آمن ؛ فصاروا أمّة قائمة ؛ قيل : عادلة (٤) ، كقوله : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف : ١٥٩].

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في ب : قصدوا قصد.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في ب : قلدهم.

(٣) قال العلامة القاسمي : قال برهان الدين البقاعي ـ رحمه‌الله تعالى ـ : والآية دليل على مؤاخذة الابن الراضي بذنب الأب وإن علا ، وذلك طبق ما رأيته في ترجمة التوراة التي بين أيديهم ، لأنه قال في السفر الثاني : وقال الله : جميع هذه الآيات كلها أنا الرب إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق لا يكون لك آلهة ، لا تعملن شيئا من الأصنام والتماثيل التي مما في السماء فوق وفي الأرض من تحت ، ومما في الماء أسفل الأرض لا تسجدن لها ولا تعبدنها ؛ لأني أنا الرب إلهك غيور آخذ الأبناء بذنوب الآباء إلى ثلاثة أحقاب وأربعة خلوف ، وأثبت النعمة إلى ألف حقبة لأحباري وحافظي وصاياي.

ينظر : محاسن التأويل (٤ / ١٩٦).

(٤) قاله مجاهد : أخرجه عنه الطبري (٧ / ١٢٣) (٧٦٥٠) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٤٨٦) (١٢٢٣) ، وعبد ابن حميد كما في الدر المنثور (٢ / ١١٦).

٤٥٩

وقيل : أمة قائمة على حدود الله ، وفرائضه ، وطاعته ، وكتابه ؛ لم يحرفوه (١).

وقيل : أمة قائمة مهتدية ، وهم الذين آمنوا منهم (٢).

وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : (أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ) أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلون ، ولم يكن هذا للأمم السالفة (٣).

وفي حرف حفصة : «ليس أهل الكتاب ليسوا منهم أمة قائمة» ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ. أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ ..). كذا : (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ ..). الآية [السجدة : ١٨ ـ ٢٠].

وقوله : (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) :

يحتمل قوله : (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) : أي : يصلون.

ويحتمل (يَسْجُدُونَ) : يخضعون ، والسجود : هو الخضوع.

(يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) [آل عمران : ١١٤] :

أي : يؤمنون بأنفسهم ، ويأمرون غيرهم بالإيمان ، ويدعون إليه ، (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) ، يعني : الكفر.

ويحتمل (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) : كل معروف ، (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) : كل منكر ، وقد ذكرنا هذا.

(وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) : في الخيرات كلها.

(وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) : وقيل : مع الصالحين في الجنة.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : أي : ومن ذلك فعله ـ فهو صالح.

__________________

(١) قاله الربيع أخرجه عنه الطبري (٧ / ١٢٣) (٧٦٥٢) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٤٨٦) (١٢٢٤).

(٢) قاله ابن عبّاس أخرجه عنه الطبري (٧ / ١٢٣) (٧٦٥٣) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٤٨٥) (١٢٢١) ، ١٢٢٢).

(٣) أخرجه الطبري (٧ / ١٢٧) (٧٦٦٠) ، والبخاري في التاريخ الكبير (٢ / ٣٠٦) ، وابن أبي حاتم (١٢٣٠) والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر كما في الدر المنثور (٢ / ١١٦) ، ولفظ الطبري «صلاة العتمة ، هم يصلّونها ، ومن سواهم من أهل الكتاب لا يصليها» ، وفي قوله ـ تعالى ـ قائِمَةٌ وجوه :

الأول : أنها قائمة في الصلاة ، وعبر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل ؛ كقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً)[الفرقان : ٦٤].

الثاني : أنها ثابتة على التمسك بالدين الحق ، ملازم له غير مضطربة في التمسك به ؛ كقوله : (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) [آل عمران : ٧٥] أي ملازما للاقتضاء ، ثابتا على المطالبة.

الثالث : أنها مستقيمة عادلة ؛ من قولك : أقمت العود فقام ، بمعنى : استقام.

ينظر : محاسن التأويل للعلامة القاسمي (٤ / ١٩٧ ـ ١٩٨) ..

٤٦٠