تأويلات أهل السنّة - ج ٢

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة - ج ٢

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٧٣

قيل : فيه لغات :

أحدها : «قاتل معه» بالألف ، وتأويله : وكم من نبي قاتل معه ربّيون كثير ، فقتل ؛ على الإضمار.

والثاني : «وكم من نبيّ قتل معه ربّيون كثير» ، برفع القاف.

والثالث : «وكم من نبيّ قتل معه ربيون كثير» بالنصب (١).

ومعنى الآية ـ والله أعلم ـ : كم من نبي قتل معه [ربيون كثير] ، فلم ينقلب أتباعه على أعقابهم ؛ بل كانوا بعد وفاتهم أشدّ اتباعا لهم من حال حياتهم ؛ حتى قالوا : لن يبعث الله من بعده رسولا ؛ فما بالكم يخطر ببالكم الانقلاب على أعقابكم ، إذا أخبرتم أنه قتل نبيكم أو مات؟!.

وفي إنباء هذه الأمة قصص الأمم الخالية وأخبارهم ـ وجهان.

أحدهما : دلالة إثبات رسالة [رسولنا](٢) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنهم علموا أنه لم يختلف إلى أحد منهم ممن يعلم هذا ، ثم أخبر بذلك ، فكان ما أخبر ؛ فدل أنه علم ذلك بالله.

والثاني : العمل بشرائعهم وسننهم ، إلا ما ظهر نسخه بشريعتنا ؛ ألا ترى أنه ذكر محاسنهم وخيراتهم ؛ وإنما ذكر لنتبعهم في ذلك ونقتدي بهم ، وذكر مساوئهم وما لحقهم بها ؛ لننتهي عنها ونكون على حذر مما أصابهم بذلك ، والله أعلم.

وقوله : (رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) : اختلف فيه ـ عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : «عالم كثير» ، وعنه ـ أيضا ـ : «الجموع الكثير» (٣).

وعن الحسن ـ رحمه‌الله ـ مثله (٤).

__________________

(١) ذكره ابن جرير في تفسيره (٧ / ٢٦٤) ، والزمخشري في الكشاف (١ / ٤٢٤) ، والرازي في تفسيره (٩ / ٢٢) ، وابن عادل في اللباب (٥ / ٥٨٣ ـ ٥٨٦) ، وقال العلامة القاسمي : قرئ في السبع : «قتل» بالبناء للمجهول ، ونائب الفاعل «ربيون» قطعا ، وأما احتمال أن يكون ضميرا ل «نبي» ومعه «ربيون» حال. أو يكون على معنى التقديم والتأخير ، أي : وكائن من نبي معه ربيون قتل ـ فتكلف ينبو عن سليم الأفهام ، وتعسف يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله ، وإن نقله القفال ، ونصره السهيلي وبالغ فيه ؛ فما كل سوداء تمرة.

ينظر : محاسن التأويل (٤ / ٢٤٦).

(٢) سقط من ب.

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٦٦) (٧٩٦١) ، (٧٩٦٢) (٧٩٦٤) ، (٧ / ٢٦٨) (٧٩٧٩) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٥٨٦) (١٥٦٨) (١٥٧١) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٤٦ ، ١٤٧) ، وزاد نسبته لابن المنذر وابن الأنباري ، والطستي.

(٤) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٦٧) (٧٩٦٦) ، (٧٩٦٨) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٥٨٨) (١٥٨٠) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٤٧) ، وزاد نسبته لابن المنذر ، وعبد بن حميد.

٥٠١

وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : الألوف (١).

وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال في قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) يقول : قاتل ؛ ألا ترى أنه يقول : (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ)؟!.

ثم اختلف في قوله : (فَما وَهَنُوا ، وَما ضَعُفُوا).

قيل : فما وهنوا في الدين ، وما ضعفوا في أنفسهم في قتال عدوهم بذهاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بينهم ؛ فما بالكم تضعفون أنتم (٢)؟! ويحتمل قوله : (فَما وَهَنُوا) ، يعني : فما عجزوا لما نزل بهم من قتل أنبيائهم ، وما ضعفوا في شيء أصابهم في سبيل الله من البلايا.

وقيل : قوله ـ عزوجل ـ : (فَما وَهَنُوا) يرجع إلى : (قاتَلَ) إلى المقاتلين وفي «قتل» إلى الباقين (٣).

وقوله : (وَمَا اسْتَكانُوا) :

قيل : لم يذلّوا في عدو لهم ، ولم يخضعوا لقتل نبيهم ؛ بل قاتلوا بعده على ما قاتلوا معه (٤) ؛ فهلا قاتلتم أنتم على ما قاتل عليه نبيكم ؛ كما قاتلت القرون من قبلكم إذا أصيب أنبياؤهم ، والله أعلم.

(وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) :

على قتال عدوّهم ، وعلى كل مصيبة تصيبهم.

وقوله : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا) :

قيل : وما كان قول الأمم السالفة عند قتل نبيهم ـ إلا أن قالوا : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) الآية (٥) ، يقول : يعلّم الله هذه الأمة ويعاتبهم : هلّا قلتم أنتم حين نعي إليكم نبيكم كما قالوا القوم في الأمم السالفة؟!.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٦٦) (٧٩٥٧) ، (٧٩٥٨) ، (٧٩٥٩) ، (٧٩٦٠) ، (٧٩٦٣) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٥٨٦) (١٥٧٠) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٤٦) ، وزاد نسبته لابن المنذر والفريابي وعبد ابن حميد ، والطبراني.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٧٠) (٧٩٨٣) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٥٩٠) (١٥٨٥) ، (١٥٨٦) ، (١٥٨٩) عن السدي ، وعن الربيع بن أنس أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٧٢) (٧٨٩٢) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٤٧).

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٥٩١) (١٥٩٣) عن قتادة ، وابن جرير الطبري برقم (٧ / ٢٧٠) (٧٩٨١) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٤٧).

(٤) أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٧٠) (٧٩٨٣) عن السدي ، وذكره ابن عادل في اللباب (٥ / ٥٩٠) ، والسيوطي في الدر (٢ / ١٤٧).

(٥) ذكره ابن عادل في اللباب (٥ / ٥٩١).

٥٠٢

وقوله : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) ، قيل : الذنوب : هي المعاصي (١).

وقوله : (وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا) : والإسراف : هي المجاوزة في الحدّ ، والتعدّي عن أمره.

وقيل : هما واحد.

وقوله : (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا).

يحتمل وجهين :

يحتمل : ثبتنا على الإيمان ، ودين الإسلام ، والقدم كناية ؛ كقوله : (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) [النحل : ٩٤] ، أي : تكفر بعد الإيمان ، [و] كقوله : (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ)؛ وذكر القدم لما بالقدم يثبت.

ويحتمل قوله : (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) في قتال العدوّ ، وفزعوا إلى الله ـ عزوجل ـ بعد ذهاب نبيّهم من بينهم ؛ ليحفظهم على ما كان يحفظهم في حياة نبيهم.

وقوله : (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) :

يحتمل : النصر عليهم بالحجج والبراهين. ويحتمل : النصر بالغلبة والهزيمة عليهم (٢).

وقوله : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا) :

يحتمل ثواب الدنيا : الذكر والثناء الحسن ، وهم كذلك اليوم نتبعهم ونقتدي آثارهم وهم موتى.

ويحتمل ـ : على ما قيل ـ : النصر والغنيمة.

وقوله : (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) :

الدائم ، وذكر في ثواب الآخرة «الحسن» ، ولم يذكر في ثواب الدنيا الحسن ؛ لأن

__________________

(١) ذكره ابن عادل في اللباب (٥ / ٥٩١) ، وبلفظ «خطايانا» أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٧٢) (٧٩٩٢) ، (٧ / ٢٧٢) (٧٩٩١) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٥٩٣) ، (١٥٩٩) عن ابن عباس ، وعن مجاهد أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٧٢) (٧٩٨٧) ، (٧٩٨٨) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٥٩٣) (١٦٠٠) ، وعن الضحاك أخرجه ابن جرير (٧ / ٢٧٢) (٧٩٨٩) ، (٧٩٩٠) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٥٩٥) (١٦٠١).

(٢) قال ابن القيم : لما علم القوم أن العدو إنما يدال عليهم بذنوبهم ، وأن الشيطان إنما يستزلهم ويهزمهم بها ، وأنها نوعان : تقصير في حق ، أو تجاوز لحد. وأن النصر منوط بالطاعة ـ قالوا : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا) [آل عمران : ١٤٧] ، ثم علموا أن ربهم ـ تبارك وتعالى ـ إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم ، لم يقدروا على تثبيت أقدام أنفسهم ونصرها على أعدائهم ؛ فسألوه ما يعلمون أنه بيده دونهم ، وأنه إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم ، لم يثبتوا ولم ينتصروا ، فوفّوا المقامين حقهما : مقام المقتضى : وهو التوحيد والالتجاء إليه سبحانه ، ومقام إزالة المانع من النصرة : وهو الذنوب والإسراف.

ينظر : محاسن التأويل للقاسمي (٤ / ٢٤٧).

٥٠٣

ثواب الآخرة دائم لا يزول أبدا ، وثواب الدنيا قد يزول ، أو أن يشوب في ثواب الدنيا آفات وأحزان ؛ فينقص ذلك ، وليس ثواب الآخرة كذلك ، والله أعلم.

وقوله : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الإحسان يحتمل وجوها ثلاثة :

يحتمل : المحسن : العارف ، كما يقال : فلان يحسن ولا يحسن.

ويحتمل : المعروف من الفعل ـ مما ليس عليه ـ يصنع إلى آخر ؛ تفضلا منه وإحسانا.

ويحتمل : اختيار الحسن من الفعل على القبيح من الفعل والسوء ؛ وكان كقوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) : هذا يختار المحاسن من الأفعال على المساوئ ، والله أعلم.

ويحتمل : المحسنين إلى أنفسهم باستعمالها فيما به نجاتها.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(١٥٢)

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ) :

يحتمل الطاعة لهم : طاعة الدين ، أي : يطيعونهم في كفرهم (١).

ويحتمل : الطاعة لهم في ترك الجهاد مع عدوهم ؛ كقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً) الآية ، وقوله : (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ).

قد ذكرنا ، أي : يردوكم على دينكم الأول ، وهو على التمثيل والكناية ، والله أعلم.

وقوله : (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) :

__________________

(١) اختلف في المقصود بالذين كفروا : فقال القرطبي : يعني مشركي العرب : أبا سفيان وأصحابه.

وقيل : اليهود والنصارى. وقال علي ـ رضي الله عنه ـ يعني المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة : ارجعوا إلى دين آبائكم.

ينظر : تفسير القرطبي (٤ / ١٤٩).

٥٠٤

أي : أولى بكم ، أو ناصركم ، أو حافظكم ، أو وليكم.

(وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) :

أي : خير من ينصر من نصره ؛ فلا يغلب ، كقوله : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) [آل عمران : ١٦٠].

وقوله : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) الآية :

هذه بشارة من الله ـ عزوجل ـ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنصر له ؛ حيث أخبر أنه يلقى في قلوبهم الرعب ، وكذلك روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «نصرت بالرّعب مسيرة شهرين» (١) ، وكان ما ذكر ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأتيهم بعد ذلك ويقصدهم ، لا أنهم أتوه ، وكانوا قبل ذلك يأتون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقصدونه.

[وقوله :](بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) :

أي : بالشرك ما قذف في قلوبهم من الرعب ، من غير أن كان لهم بما أشركوا حجة أو كتاب أو برهان أو عذر ؛ قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : «السلطان في القرآن حجة» (٢).

وقوله : (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) :

أي : مقامهم في النار.

(وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) :

أي : النار بئس مقام الظالمين.

وقوله : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ)

أي : أنجز الله وعده ؛ حيث أخبر أنه يلقي في قلوبهم الرعب ، وقد فعل.

(إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) :

قال أهل التفسير : إذ تضلونهم.

وقوله : (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) :

__________________

(١) أخرجه الطبراني في الكبير (١١ / ٦١) رقم (١١٠٤٧) من حديث ابن عباس مرفوعا : «أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي ...» الحديث ، وفيه : «نصرت بالرعب حتى إن العدو ليخافوني من مسيرة شهر أو شهرين».

والحديث متفق عليه من حديث جابر مرفوعا : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ...». أخرجه البخاري (٣٣٥) ، ومسلم (٣ ـ ٥٢١).

(٢) أخرجه بنحوه ابن جرير (٧ / ٢٧٩) (٨٠٠٢) ، وذكره ابن عادل في اللباب (٥ / ٥٩٦) وينظر : معاني القرآن وإعرابه للزجاج (١ / ٤٩٢) ، والوسيط للواحدي (١ / ٥٠٣).

٥٠٥

هو على التقديم والتأخير : «حتى إذا تنازعتم [و] فشلتم» ؛ إذ التنازع هو سبب الفشل [والجبن](١) ؛ كقوله : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا) [الأنفال : ٤٦].

[وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ)

قيل : في القصّة : إن نفرا من رماة أمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكونوا في مكان ، وألا يدعوا موقفهم ، فتركوه ووقعوا في غنائمه ؛ فعوقبوا على ذلك (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) ،](٣) يحتمل : ما أراكم ما تحبون من الهزيمة والغنيمة.

ويحتمل : ما أراكم من النصر لكم على عدوكم ، وإنجاز الوعد لكم.

وقوله : ـ عزوجل ـ (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) : روي عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : «ما كنا نعرف [أن](٤) أحدا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد الدنيا ، حتى نزل قوله : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا)(٥).

وقوله : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ).

روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ في قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) ، يعني : هزم المسلمون ، يقول : صرفوا عن المشركين منهزمين ، بعد إذ كانوا هزموهم ، لكن لما عصوا وتركوا المركز صرفهم الله عن عدوه (٦) :

(لِيَبْتَلِيَكُمْ)

أي : ذلك الصرف كان لكم من الله ابتلاء ومحنة.

وقيل : كان ذلك العصيان ـ الذي منكم كان ـ من الله ابتلاء ؛ ليعلم من قد علم أنه يعصي عاصيا ، والله أعلم.

ودلّ قوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) ـ وإن كان الانصراف فعلهم ـ أن الله

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه البخاري (٣٠٣٩) مطولا من حديث البراء بن عازب.

(٣) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٤) سقط من ب.

(٥) أخرجه الطبري (٧ / ٢٩٥) (٨٠٣٦) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٦٠٦) (١٦٤٩) ، وابن أبي عاصم في الزهد (٩٨ ، ٩٩) ص (٥٦٥) والواحدي في الوسيط (١ / ٥٠٥) ، وذكره الهيثمي في المجمع (٦ / ٣٢٨) ، وقال : رواه الطبراني في «الأوسط» وأحمد ورجال الطبراني ثقات ، وذكره ابن كثير في تفسيره (١ / ٤١٣).

(٦) وروي هذا المعنى عن الحسن ، أخرجه ابن جرير الطبري (٧ / ٢٩٧) (٨٠٤١) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ١٥٣) وعزاه لابن جرير.

٥٠٦

لفعلهم ـ على ما عليه فعلهم ـ خالق ، وأن خلق الشيء ليس هو ذلك الشيء ؛ إذ ذلك الشيء إذا كان انصرافا عن العدو معصية ، وقد تبرأ الله ـ تعالى ـ عن أن تضاف إليه المعاصي ، وقد أضاف انصرافهم إلى فعله وهو الصرف ـ ثبت أنه غير فعلهم ، والله أعلم.

(وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) :

يحتمل وجهين :

يحتمل : (عَفا عَنْكُمْ) ؛ حيث لم يستأصلكم بالقتل.

ويحتمل : (عَفا عَنْكُمْ) ؛ حيث قبل رجوعكم وتوبتكم عن العصيان.

وهذه الآية قوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ) ، وقوله : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران : ١٤٠] ـ ترد على المعتزلة ؛ [وكذلك](١) قوله ـ تعالى ـ : (لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ) [آل عمران : ١٥٤] [إلى آخر](٢) الآية ؛ لأنهم يقولون : هم الذين صرفوا أنفسهم لا الله ، وهم الذين كتبوا عليهم القتل لا الله ، وهم الذين يداولون لا الله ، وقد أضاف ـ عزوجل ـ ذلك إلى نفسه ؛ فعلى ذلك لا يضيف إليه إلا عن فعل وصنع له فيه ؛ ولأنهم يقولون : لا يفعل إلا الأصلح لهم في الدين ، فأيّ صلاح كان لهم في صرفه إياهم عن عدوهم؟! وأيّ صلاح لهم فيما كتب عليهم القتل؟! فدل أن الله قد يفعل بعباده ما ليس ذلك بأصلح لهم في الدّين ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) :

بالعفو عنهم ، وقبول التوبة ؛ حيث عصوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتركوا أمره ، وعلى قول المعتزلة عليه أن يفعل ذلك ؛ فعلى قولهم ليس هو بذي فضل على أحد ، نعوذ بالله من السرف في القول.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : الفائدة في تخصيص المؤمنين بالامتنان عليهم دون جملة من بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم ومنهم ، مع ما ذكر منته بالبعث من أنفسهم ، وقد بيّنا وجه المنة في البعث من جوهر البشر ـ وجهان :

أحدهما : أن من لم يؤمن به لم يكن عرف نعمة من الله ـ تعالى ـ وإن كان ـ في الحقيقة ـ نعمة منه لهم ، ورحمة لهم وللعالمين ، فخص من عرفه ليشكروا له بما ذكرهم ؛ وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) [يس : ١١] ، أي : هم يقبلون ويعرفون حق الإنذار.

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٢) سقط من ب.

٥٠٧

والثاني : أنه صار لهم حجة على جميع الأعداء : أنهم لا يطيعون لمعنى كان منهم ، إلّا وللمؤمنين عليهم وجه دفع ذلك بما كان عليه ما عرفوه به قبل الرسالة ؛ لما فيه لزوم القول بصدقة ؛ فيكون ذلك منة لهم وسرورا ونعمة عظيمة ؛ فاستأداهم الله لشكرها (١) ، ولا قوة إلا بالله.

قوله تعالى : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)(١٥٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ) :

فيه لغتان : «تصعدون» بفتح التاء ، وهو من الصعود أن صعدوا الجبل ، «وتصعدون» بالرفع (٢) ، وهو أن أصعدوا أصحابهم نحو الوادي ؛ لأن المنهزم الأوّل إذا التفت فرأى منهزما آخر اشتدّ.

وقيل : الإصعاد هو الإبعاد في الأرض (٣).

وقيل : تصعدون من صعود الجبل ، وتصعدون في الوادى من الجبل (٤).

وقوله : (وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) :

أي : لا تلتفتون على أحد ، ولا ترجعون. (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ).

__________________

(١) في ب : شكرها.

(٢) والجمهور على «تصعدون» بضم التاء وكسر العين من أصعد في الأرض : إذا ذهب فيها ، والهمزة فيه للدخول ، نحو أصبح زيد ، أي : دخل في الصباح ، فالمعنى : إذ تدخلون في الصعود. وقرأ الحسن والسلمي وقتادة : «تصعدون» ـ بفتح التاء والعين ـ من صعد في الجبل ، أي : رقى. وقرأ ابن محيصن ويروى عن ابن كثير : «يصعدون» ـ بياء الغيبة ، على الالتفات.

ينظر : البحر المحيط (٣ / ٨٩) ، الدر المصون (٢ / ٢٣٣) ، المحرر الوجيز (١ / ٥٢٥) ، مختصر الشواذ لابن خالويه (ص : ٣٣).

(٣) ينظر المعنى في : مجاز القرآن لأبي عبيدة (١ / ١٠٥) ، وغريب القرآن لابن قتيبة (١١٤) ، ومعاني القرآن للفراء (١ / ٢٣٩) ، ومعاني القرآن للأخفش (١ / ٤٢٤).

(٤) ينظر : المصادر السابقة.

٥٠٨

أي : الرسول يدعوكم وينادي وراءكم : إلىّ أنا الرسول.

وقيل : يناديكم من بعدكم : إلىّ أنا رسول الله يا معشر المؤمنين (١) ، وكان يصل نداؤه في أخراهم بأولهم بعضهم ببعض ، فلم يرجعوا إليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) :

اختلف فيه ، قيل : غمّ الأول : الهزيمة والنكبة التي أصابتهم ، والغم الآخر : الصوت الذي سمعوا : قتل محمد (٢) ـ عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات ـ فذلك غم على غم.

ويحتمل : (غَمًّا) : بعصيانهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اغتموا ، والغم الآخر : أن كيف يعتذرون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتركهم المركز ، وعصيانهم إياه والخلاف له (٣).

وقيل : قوله ـ عزوجل ـ : (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) : أي : مرة بعد المرة الأولى.

وقيل : (غَمًّا بِغَمٍّ) ، أي : هزيمة بعد هزيمة : أصابتهم هزيمة بعد هزيمة من قتل إخوانهم ، وإصابتهم الجراحات.

وقيل : (فَأَثابَكُمْ غَمًّا) : بعصيانكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (بِغَمٍّ) : الذي أدخلوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بترككم المركز والطاعة له ، وفي قوله ـ عزوجل ـ : (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) وهو غم الهزيمة والنكبة ، بالغم الذي أدخلوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عصيانهم إياه ، وإهمالهم المقعد الذي أمرهم بالمقام فيه.

وقيل : غما بالغم الذي له تركوا المركز (٤) ، وهو أن غمهم اغتنام أصحابهم.

وقيل : غم الاعتذار إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالغم الذي جنوه به ؛ حيث مالوا إلى الدنيا ، وعصوه فيما أمرهم.

وقيل : غما [على](٥) أثر غم ، نحو : القتل ، والهزيمة ، والإرجاف بقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحقيقته : أن يكون أحد الغمين جزاء ، والآخر ابتداء ، وفي ذلك تحقيق الزّلة والجزاء ؛ وذلك كقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى : ٣٠].

__________________

(١) أخرجه الطبري عن ابن عباس (٧ / ٣٠٣) (٨٠٥٤) ، وعن قتادة (٨٠٥٥) ، وعن السدي (٨٠٥٦) ، وعن ابن زيد (٨٠٥٨).

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ٣١١) (٨٠٦٧) (٨٠٦٩).

(٣) ينظر : معاني القرآن وإعرابه للزجاج (١ / ٤٩٣).

(٤) ينظر : فتح القدير للشوكاني (١ / ٣٩٠) ، والوسيط للواحدي (١ / ٥٠٦).

(٥) سقط من ب.

٥٠٩

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ) :

يعني : من الفتح والغنيمة ، ولا ما أصابكم من القتل والهزيمة.

ويحتمل قوله : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) من الدنيا ، (وَلا ما أَصابَكُمْ) : فيها من أنواع الشدائد ؛ بما أدخلتم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغمّ بعصيانكم إيّاه.

(وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) :

على الوعيد.

[وقوله](١) : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) :

قيل فيه بوجهين ؛ قيل : الطائفة التي أتاهم النعاس هم المؤمنون ، سمعوا بانصراف العدو عنهم فصدقوا الخبر فناموا ؛ لأن الخوف إذا غلب يمنع النوم ، وأمّا الطائفة التي قد أهمتهم أنفسهم هم المنافقون ، لم يصدّقوا الخبر فلم يذهب عنهم الخوف ، فلم ينعسوا ؛ وذلك كقوله ـ عزوجل ـ : (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) [الأحزاب : ٢٠] الآية.

وقيل : كانت الطائفتان جميعا من المؤمنين ، لكن إحداهما قد أتاها النعاس ؛ لما أمنوا من العدو ، والأخرى لا ؛ بعصيانهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتركهم أمره منع ذلك النوم عنهم ؛ إذ كيف يلقون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكيف يعتذرون إليه؟ والله أعلم.

وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : «النّعاس فى الصّلاة من الشّيطان ، وفى القتال أمنة من الله» (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) :

قيل : يظنون بالله ألا ينصر محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، ذا في غير المؤمنين.

وقيل : (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِ) نونا كاذبة ، إنما هم أهل شرك وريبة في أمر الله (٣) ، يقولون : (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا).

وقوله : ـ عزوجل ـ : (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) :

قيل : يقولون بعضهم لبعض : (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) ، يعني بالأمر : النصر

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (٢ / ٤٩٩) في كتاب الصلاة : باب الرجل يلتبس عليه القرآن في الصلاة (٤٢١٩) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٦١٦) (١٦٨٤) ، وذكره الهيثمي في المجمع (٦ / ٣٢٨) في التفسير وقال : رواه الطبراني وفيه قيس بن الربيع وثقه شعبة وغيره وضعفه جماعة.

(٣) روي هذا عن قتادة الطبري في تفسيره (٧ / ٣٢٠) (٨٠٨٧) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٦١٩) (١٦٩١) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٥٥) وعزاه لابن جرير الطبري عن قتادة والربيع.

٥١٠

والغنيمة.

وقيل : قالوا ذلك للمؤمنين.

(قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ)

يعنى النصر والفتح كلّه بيد الله.

(يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) :

والذين يخفون قولهم : لو أقمنا في منازلنا ما قتلنا هاهنا ، وقيل : يقولون : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) ، [قالوا : ليس لنا](١) من الأمر من شيء ؛ إنما الأمر إلى محمد ، ولو كان الأمر لنا ما خرجنا إلى هؤلاء حتى قتلنا هاهنا.

قال الله ـ تعالى ـ : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) :

قيل : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) كما يقولون : (لَبَرَزَ) ، يعني : لخرج من البيوت (الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ) ؛ ليقتلوا (٢).

وقيل : من كتب عليه القتل يظهر الذي كتب عليه حيث كان (٣).

وقيل : إذا كتب على أحد القتل لأتاه ، ولو كان في البيت ، وكقوله : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [النساء : ٧٨] ، وقيل : متى كتب الله على قوم القتل فلم يموتوا أبدا؟! وفي هذا بيان أن الآجال المكتوبة هي التي تنقضي بها الأعمار : إن كان قتلا فقتل ، وإن كان موتا فموت ، لا على ما قالت المعتزلة : إن القتل تعجيل عن أجله المكتوب له وعليه (٤) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) :

والابتلاء هو الاستظهار ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) [الطارق : ٩] تبدي وتظهر ، وذلك يكون بوجهين : يظهر بالجزاء مرة ، ومرة بالكتاب ، يعلم الخلق من كانت سريرته حسنة بالجزاء ، وكذلك إذا كانت سيئة ، أو يعلم ذلك بالكتاب.

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في ب : قالوا : لو كان لنا.

(٢) ينظر تفسير الطبري (٧ / ٣٢٤) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٦٢١ ، ١٦٩٨) ، اللباب لابن عادل (٥ / ٦١٨).

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) قال أهل السنة والجماعة : المقتول ميت بأجله ، والقتل سبب الموت كالمرض.

وقالت المعتزلة : إنه قطع أجله ، وما قالوه فاسد ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)[الأعراف : ٣٤] ، ولأن القتل سبب الموت كسائر الأسباب ، والميت بسائر الأسباب ميت بأجله ؛ كذا هذا ؛ وهذا لأن أجله منتهي عمره ، وهذا منتهي عمره.

ينظر : أصول الدين للبزدوي (ص ١٦٧).

٥١١

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) ، أي : ليظهر الله للخلق ما في صدورهم مما (١) مضى ، وليجعله ظاهرا لهم.

(وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ)

من الذنوب.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : «الابتلاء والتمحيص هما واحد» (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) :

يقول : هو عالم بما في صدورهم من سرائرهم ، ولكن يجعلها ظاهرا عندكم.

ويحتمل الابتلاء ـ هاهنا ـ الأمر بالجهاد ؛ ليعلموا المنافق منهم من المؤمن ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) :

يعني : إن الذين انصرفوا عن عدوهم مدبرين منهم منهزمين يوم التقى الجمعان : جمع المؤمنين ، وجمع المشركين.

وقوله : (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) :

أي : إنما انهزموا ولم يثبتوا خوفا أن يقتلوا بالثبات ؛ فيلقوا الله وعليهم عصيان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكرهوا أن يقتلوا وعليهم معصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ خوفا من الله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ)

بما خافوا الله بعصيانهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويحتمل قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) ـ أن اللعين لما رآهم أجابوه إلى ما دعاهم من اشتغالهم بالغنيمة ، وتركهم المركز ، وعصيانهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعاهم إلى الهزيمة ، فانهزموا وتولّوا ـ عدوّهم.

ويحتمل قوله : (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) ، أي : بكسبهم ، قال الله ـ عزوجل ـ : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] ؛ فكذلك هذا ، والله أعلم.

(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ).

قبل توبتكم ، وعفا عنكم ، (حَلِيمٌ) لم يخزكم وقت عصيانكم ، ولا عاقبكم ، أو حليم بتأخير العذاب عنكم.

__________________

(١) في ب : بما.

(٢) ينظر : تفسير ابن عباس (٥٨).

٥١٢

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ)(١٥٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى) الآية.

اختلف في قوله ـ تعالى ـ : (كَالَّذِينَ كَفَرُوا) ، قال بعضهم : نهى المؤمنين أن يكونوا كالذين كفروا في السرّ والعلانية (١).

(وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) يعني : المنافقين ، (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا).

وقيل : لا تكونوا كالمنافقين قالوا لإخوانهم (٢) ـ يعني : لبعضهم ـ : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا.

وقيل : قالوا لإخوانهم ، يعني : المؤمنين الذين تولوا (٣) ، وهم كانوا إخوانهم في النسب ، وإن لم يكونوا إخوانهم في الدين والمذهب.

لا حاجة لنا إلى معرفة قائله من كان ، ولكن المعنى ألا يقولوا مثل قولهم لمن قتل.

وقوله : (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) ، يعني : إذا ضربوا في الأرض تجارا أو «غزى» ، أي : غزاة.

وقيل : قوله : (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) أو كانوا غزاة على إسقاط الألف (٤).

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) :

أي : ليجعل الله ذلك القول الذي قالوا حسرة يتردد في أجوافهم.

ويحتمل قوله : (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً) يوم القيامة ؛ كقوله : (أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) [البقرة : ١٦٧].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ)

أي : والله يحيي من ضرب في الأرض وغزا ، ويميت من أقام ولم يخرج غازيا ، أي :

__________________

(١) ينظر : تفسير ابن جرير الطبري (٧ / ٣٣٠) (٨١١٠) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٦٢٦) (١٧٢٠) ، الوسيط (١ / ٥١٠).

(٢) ينظر : المصادر السابقة.

(٣) ينظر : المصادر السابقة.

(٤) وغزى : جمع غاز ، وقياسه : غزاة ، ولكنهم حملوا المعتل على الصحيح ، في نحو : ضارب وضرب ، وصائم وصوم. ينظر : اللباب لابن عادل (٦ / ٧).

٥١٣

لا يتقدم الموت بالخروج في الغزو ، ولا يتأخر بالمقام وترك الخروج ، دعاهم إلى التسليم ، إنما هي أنفاس معدودة ، وأرزاق مقسومة ، وآجال مضروبة ، ما لم يفناها واستوفاها وانقضى أجلها : لا يأتيها.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) : وعيد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ) :

أي أن الموت إن كان لا بدّ نازل بكم ؛ فقتلكم أو موتكم في طاعة الله وجهاده خير من أن ينزل بكم في غير طاعة الله وسبيله.

(لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) : من الأموال.

(وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) :

أي : إن متم على فراشكم ، أو قتلتم في سبيل الله ـ فإليه تحشرون ، فمعناه ـ والله أعلم ـ أي : إن لم تقدروا على أن لم تحشروا إليه ، كيف تقدرون ألا ينزل على فراشكم بكم الموت ، وإن أقمتم في بيوتكم؟! والله أعلم.

قوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(١٦٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) :

يحتمل هذا وجهين :

يحتمل : فبرحمة من الله عليك لنت لهم ؛ كقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] ويحتمل قوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) : فيجب أن يكون الإنسان رحيما على خلقه ؛ على ما جاء في الخبر قال لأصحابه : «لن تدخلوا الجنّة حتّى تراحموا» ، فقيل : كلنا نرحم يا رسول الله ، فقال : «ليس تراحم الرّجل ولده أو أخاه ، ولكن يتراحم بعضهم بعضا» أو كلام نحو هذا (١).

وما جاء : «من لم يرحم صغيرنا ، ولم يوقّر كبيرنا ـ فليس منّا» (٢) ، وما جاء : «من لم

__________________

(١) رواه الطبراني كما عزاه له الهيثمي في مجمع الزوائد (٨ / ١٩٠) ، وقال : ورجاله رجال الصحيح ، من حديث أبي موسى الأشعري ، به.

(٢) أخرجه الترمذي (٤ / ٢٨٤) : كتاب البر والصلة : باب ما جاء في رحمة الصبيان (١٩٢١) ، وأحمد (١ / ٢٥٧) ، والبغوي في شرح السنة (٦ / ٤٤٨) رقم (٣٣٤٦) عن ابن عباس.

٥١٤

يرحم أهل الأرض لم يرحمه أهل السّماء» (١) ؛ كما قال الله ـ تعالى ـ : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) [الجاثية : ١٤] الآية ، وقد أمر الله عباده أن يعامل بعضهم بعضا بالرحمة واللين ، إلا عند المعاندة والمكابرة ؛ فحينئذ أمر بالقتال ؛ كقوله لموسى وهارون ـ حيث أرسلهما إلى فرعون ـ فقال : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤] ، وكان اللين في القول أنفذ في القلوب ، وأسرع إلى الإجابة ، وأدعى إلى الطاعة من الخشن من القول ، وذلك ظاهر في الناس ؛ لذلك أمر الله ـ عزوجل ـ رسلهم باللين من المعاملة ، والرحمة على خلقه ، وجعله سبب تأليف القلوب وجمعها ، وجعل الخشن من القول والفظ سبب الفرقة بقوله :

(وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا)

[في القول](٢)

(غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)

أي : لو كنت في الابتداء فظّا غليظا لتفرقوا ولم يجتمعوا عندك (٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاعْفُ عَنْهُمْ) بأذاهم إياك ولا تكافهم ، واستغفر لهم فيما بينهم وبين ربهم.

ويحتمل قوله : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)

بما عصوك ولا تنتصر منهم ، وكذلك أمر الله المؤمنين جملة أن يعفوا عنهم ، وألا ينتصروا منهم بقوله : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) [البقرة : ١٠٩] وكان أرجى للمؤمنين قوله : (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) ؛ كما قال الله ـ تعالى ـ : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ ..). الآية [الجاثية : ١٤] ، وقوله ـ أيضا ـ : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [محمد : ١٩] : لا جائز أن يؤمر بالاستغفار لهم ثم لا يفعل ، وإذا فعل لا يجاب ؛ فدل أنه ما ذكرنا ، والله أعلم.

وكذلك دعاء إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) [إبراهيم : ٤١] ، ودعاء نوح ـ عليه‌السلام ـ : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ

__________________

(١) رواه البخاري (١٠ / ٤٥٢) : كتاب الأدب : باب رحمة الناس والبهائم (٦٠١٣) ، ومسلم (٤ / ١٨٠٩) : كتاب الفضائل : باب رحمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رقم (٢٣١٩) ، ولفظه : «من لا يرحم الناس لا يرحمه‌الله» ، من حديث جرير بن عبد الله.

(٢) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٣) في ب : من عندك.

٥١٥

دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [نوح : ٢٨] لا يجوز أن يدعو هؤلاء الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ ثم لا يجاب لهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) :

أمر الله ـ عزوجل ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يشاور أصحابه في الأمر ؛ ففيه وجوه ثلاثة :

أحدها : أنه لا يجوز له أن يأمره بالمشاورة فيما فيه النص ، وإنما يأمر بها فيما لا نصّ فيه ؛ ففيه دليل جواز العمل بالاجتهاد.

والثاني : لا يخلو أمره بالمشاورة ، إما لعظم قدرهم وعلوّ منزلتهم عند الله ، أو لفضل العقل ورجحان اللب (١) ؛ فكيفما كان فلا يجوز لمن دونهم أن يسووا أنفسهم بهم ، ولا جائز ـ أيضا ـ أن يأمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمشاورة (٢) أصحابه ، ثم لا يعمل برأيهم ؛ دل أنهم إذا اجتمعوا كان الحق لا يشذ عنهم.

وقال بعضهم : إنما أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمشاورتهم في أمر الحرب والقتال ، وعن الحسن ـ رضي الله عنه ـ : «لما أنزل الله ـ تعالى ـ : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله ورسوله غنيّان عن مشاورتكم» ؛ ولكنه أراد أن يكون سنة لأمته» (٣) ، وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يقرأ : «وشاورهم في بعض الأمر» (٤).

وقيل : أمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور (٥) ، وهو يأتيه وحي السماء ؛ لأنه أطيب لأنفس القوم ، وأن القوم إذا شاورهم بعضهم بعضا فأرادوا بذلك وجه الله ـ عزم الله لهم على أرشده.

وقيل : إن العرب في الجاهلية كانوا إذا أراد سيّدهم أن يقطع أمرا دونهم ، لا يشاورهم في الأمر شق عليهم ؛ فأمر الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يشاورهم في الأمر إذا أراد ؛ فإن ذلك أعطف لهم عليه ، وأذهب لأضغانهم (٦).

وفي بعض الأخبار قيل : «يا رسول الله ، ما العزم؟ قال : «أن تستشير ذا الرأي ، ثم

__________________

(١) اللب : العقل ، واللب : خالص كل شيء ، واللبيب : العاقل. ينظر : القاموس المحيط (ص ١٢٣) (لأب).

(٢) في ب : بتشاوره.

(٣) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (٦ / ٧٦) برقم (٧٥٤٢) ، وقال : بعض هذا المتن يروى عن الحسن البصري من قوله وهو ـ مرفوعا ـ غريب ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ١٥٩) وعزاه لابن عدى والبيهقي وقال : حسن عن ابن عباس.

(٤) ينظر : البحر المحيط (٣ / ١٠٥).

(٥) ذكره الطبري في التفسير (٧ / ٣٤٤) رقم (٨١٢٧) ، والواحدي في الوسيط (١ / ٥١٢) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (١ / ١٥٩) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة.

(٦) ينظر : التفسير الكبير للرازي (٩ / ٥٤) ، واللباب لابن عادل (٦ / ١٩).

٥١٦

تطيعه» (١).

وكان يقال : ما هلك امرؤ عن مشورة ، ولا سعد ثبور ، قيل : الثبور : الذي لا يستشير ويعمل برأيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) :

أي : لا تتكلن إلى نفسك ، ولا تعتمدن على أحد ؛ ولكن اعتمد على الله وكل الأمر إليه.

وقيل : فإذا فرق [ذلك](٢) الأمر بعد المشاورة فامض لأمرك ، فإن كان في أمر الحرب على ما قيل فهو ـ والله أعلم ـ لا تعجبن بالكثرة ، ولا ترينّ النصر به ، ولكن اعتمد بالنصر على الله ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) [التوبة : ٢٥] ، والله أعلم بما أراد ، بذلك ؛ كقوله : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) [آل عمران : ١٢٦].

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) :

صدق الله من كان الله ناصره ؛ فلا يغلبه العدوّ من بعد.

(وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ)

[أي : يترككم](٣)

(فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ) :

والنصر يحتمل وجهين ، يحتمل : المعونة ، ويحتمل : المنع :

كقوله ـ تعالى ـ : (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [آل عمران : ٩١]. قوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ) ، أي : أعانكم الله ؛ فلا يغلبكم العدو ، (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) : [فلم يعنكم] ؛ فمن [ذا](٤) الذي أعانكم سواه؟!

ومن المنع ، أي : إن منع الله عنكم العدوّ ، فلا غالب لكم ، (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) ، ولم يعنكم ، فمن الذي يمنعكم من بعده؟!

والخذلان في الحقيقة هو : ترك المأمول منه ما أمّل منه ، واستعمل في هذا كما استعمل الابتلاء على غير حقيقته.

وقوله : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) :

__________________

(١) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ١٦٠) وعزاه لابن مردويه.

(٢) سقط من ب.

(٣) سقط من ب.

(٤) سقط من ب.

٥١٧

هو على الأمر في الحقيقة كأنه قال : وعلى الله فتوكلوا أيها المؤمنون. والتوكل : هو الاعتماد عليه ، وتفويض الأمر إليه ، لا بالكثرة والأسباب التي يقوم بها ، من نحو : القوة والعدة والنصرة (١) والغلبة ، وفي الشاهد إنما يكون عند الخلق بثلاث : إمّا بالكثرة ، وإمّا بفضل قوّة بطش ، وإمّا بفضل تدبير ورأي في أمر الحرب ، وجميع نصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغلبته على عدوه إنما كان لا بذلك ؛ ولكن بالتوكل عليه وتفويض الأمر إليه ؛ دل أن ذلك كان بالله ـ عزوجل ـ وذلك من آيات نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(١٦٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ)

فيه قراءتان (٢) : «يغل» بنصب الياء ، وبرفع الياء ونصب الغين ، ومن قرأه (٣) بنصب الياء فذلك يحتمل وجهين : يحتمل : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) أي : لم يكن نبي من الأنبياء غلّ قط ، وهو أحق من لا تتهمونه ؛ لعلمكم به ؛ فكيف اتهمتموه هنا بالغلول؟!

وقيل : إن ناسا من المنافقين خشوا ألا يقسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغنيمة بينهم ؛ فطلبوا القسمة (٤) ؛ فنزلت [هذه](٥) الآية.

وقيل : قالوا : اعدل يا محمد في القسمة ؛ فنزل هذا (٦).

ويحتمل قوله : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) أي : قد كنتم عرفتموه من قبل أن يرسل ، فما

__________________

(١) في ب : والنصر.

(٢) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بفتح الياء وضم الغين «يغل» ، وقرأ باقى السبعة «يغلّ».

ينظر : الحجة لأبي زرعة (٣ / ٩٤) ، حجة ابن خالويه (١٧٩ ، ١٨٠) ، السبعة لابن مجاهد (٢١٨) ، إتحاف فضلاء البشر (١ / ٤٩٣) ، اللباب (٦ / ٢٣).

(٣) في ب : قرأ.

(٤) انظر : تفسير اللباب لابن عادل (٦ / ٢٤) ، والرازي في الكبير (٩ / ٥٧).

(٥) سقط من ب.

(٦) أخرجه البخاري (٦ / ٣٦٦) كتاب فرض الخمس : باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين (٣١٣٨) ، ومسلم (٢ / ٧٤٠) في كتاب الزكاة : باب ذكر الخوارج وصفاتهم (١٠٦٣) ، وأحمد (٣ / ٣٥٣ ـ ٣٥٥) ، وابن ماجه (١ / ١٧٦) في المقدمة : باب ذكر الخوارج (١٧٢) ، والبيهقي في الدلائل (٥ / ١٨٥ ـ ١٨٦).

٥١٨

عرفتموه خان قط أو غلّ ؛ فكيف يحتمل الخيانة بعد ما أرسل؟! هذا لا يحتمل.

ومن قرأه بالرفع [أي : يغلّ] فهو ـ أيضا ـ يحتمل وجهين ، أي : يتهم بالغلول (١) في الغنيمة ؛ فهو يرجع إلى تأويل الأول.

ويحتمل قوله : «أن يغلّ» أن يخان في الغنيمة ، لا يخون ولا يحل أن يخان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الغنيمة ؛ فإنه يطلع على ذلك ، يطلع الله ورسوله ، على ما جاء في بعض الأخبار أنّه مرّ بقبر ، فقال : إنه في عذاب ، قيل : بما ذا يا رسول الله؟! فقال : «إنّه كان أخذ من الغنيمة قدر درهمين أو نحوه» (٢).

ويحتمل : خصوص الغنيمة بما يتناول الغالّ حلّه ، بما لا يعرف له صاحب ؛ كالمال الذي لا مالك له ، وربما يباح التناول منه للحاجة والأخذ بغير البدل بوجه لا يحتمل بتلك أكل الحل من ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) :

أي : يؤخذ به يوم القيامة ، وهكذا كل من أخذ من مال غيره بغير إذنه ؛ فإنه يؤخذ به.

وقال بعض الناس : وإنما خص الغنيمة بفضل وعيد ؛ لأن الغلول فيها يجحف بحق الفقراء وأهل الحاجة ، أو يضر ذلك أصناف الخلق ، وسائر الأموال ليس كذا.

وقيل : إنما جاء الوعيد في هذا أنهم كانوا أهل نفاق ، يستحلون الغلول في الغنيمة والأخذ منها ، وهذا كأنه أشبه.

وعن ابن عباس (٣) ـ رضي الله عنه ـ قال : بعث [رسول الله](٤) صلى‌الله‌عليه‌وسلم جيشا فغلوا رأس ذهب ؛ فنزلت [الآية](٥) : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أيضا ـ قال : فقدت قطيفة حمراء يوم بدر مما

__________________

(١) الغلول : الخيانة. ينظر : القاموس (ص : ٩٣٦) (غلل).

(٢) أخرجه الحميدي (٨١٥) ، وأحمد (٤ / ١١٤) ، وعبد بن حميد (٢٧٢) ، وأبو داود (٢٧١٠) ، وابن ماجه (٢٨٤٨) ، والنسائي (٤ / ٦٤) ، وابن الجارود (١٠٨١) ، والحاكم (٢ / ١٢٧) ، والبيهقي (٩ / ١٠) من طرق عن يحيى بن سعيد عن محمد ابن يحيى بن حبان عن أبي عمرة عن زيد بن خالد قال : مات رجل بخيبر فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلوا على صاحبكم ، إنه غلّ في سبيل الله». ففتشنا متاعه فوجدنا فيه خرزا من خرز يهود ما يساوي درهمين.

وأبو عمرة مجهول ، قال الذهبي : ما روى عنه سوى محمد بن يحيى بن حبان. ينظر : الميزان (٧ / ٤٠٨).

(٣) أخرجه بنحوه ابن جرير (٧ / ٣٥٣) ، رقم (٨١٥٢) ، (٨١٥٣) عن قتادة وعن الربيع بن أنس (٨١٥٤) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٦١) ، وعزاه للطبراني عن ابن عباس بسند جيد.

(٤) بدل ما بين المعقوفين في ب : النبي.

(٥) سقط من ب.

٥١٩

أصيب من المشركين ؛ فقال الناس : لعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذها لنفسه ؛ فأنزل الله ـ تعالى ـ : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ)(١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) :

قيل : أفمن لم يغل ، ولم يأخذ من الغنيمة شيئا ـ كمن غلّ وأخذ منها؟! ليسا سواء ؛ رجع أحدهما برضوان الله ، والآخر بسخطه (٢).

ويحتمل : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) : أفمن أطاع الله واتبع أمره ، كمن عصى الله واتبع هواه؟! ليسا بسواء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) :

والدرجات ـ والله أعلم ـ : ما يقصدها أهلها. والدركات : ما تدركهم من غير أن يقصدوها ؛ كالدرك في العقود يدرك من غير قصد.

وقيل : الدرجات : ما يعلو. والدركات : ما يسفل (٣) ، والله أعلم. فهذا في التسمية المعروفة أن سمّيت النار دركات والجنة درجات ، وحقيقة ذلك واحد ، والآية تدل على الأمرين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) :

وجه المنة فيما بعث الرسل عليهم من البشر ، ولم يرسلهم من الملائكة ولا من الجن ـ وجوه :

أحدها : أن كل جوهر يألف بجوهره ، وينضم إليه ما لم يألف بجوهر غيره ، ولا ينضم إلى جنس آخر ، فإذا كان كذلك ، والرسل إنما بعثوا لتأليف قلوب الخلق وجمعهم ، والدعاء إلى دين يوجب الجمع بينهم ، ويدفع الاختلاف من بينهم ـ فإذا كان ما وصفنا بعثوا من جوهرهم وجنسهم ؛ ليألفوا بهم وينضموا إليهم ، والله أعلم.

والثاني : أن الرسل لا بدّ لهم من أن يقيموا آيات وبراهين لرسالتهم ، فإذا كانوا من غير جوهرهم وجنسهم لا يظهر لهم الآيات والبراهين ؛ لما يقع عندهم أنهم إنما يأتون ذلك بطباعهم دون أن يأتوها بغير إعطائهم إياها ذلك.

والثالث : أن ليس في وسع البشر معرفة غير جوهرهم وغير جنسهم من نحو الملائكة

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ٣٤٨ ـ ٣٥٠) (٨١٣٦) ، (٨١٣٨ ـ ٨١٤٢) عن ابن عباس ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٦١) وزاد نسبته لعبد بن حميد ، وابن المنذر والطبراني.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ٣٦٥) (٨١٦٩) عن الضحاك ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٦١) وعزاه لابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير.

(٣) ذكره بمعناه السيوطي في الدر (٢ / ١٦٥) ، وعزاه لابن المنذر عن الضحاك.

٥٢٠