تأويلات أهل السنّة - ج ٢

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة - ج ٢

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٧٣

والصبية فيها معى. قالت : بارك الله لك فيما شريت ، وفيما اشتريت أربيت. فخرجوا منها ، فتركوا ما كانوا اجتنوا منها ، وسلموا الحديقة للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فنزل قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ...) الآية.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله تعالى ـ فى قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) الآية ، فى توجيه الآية إليه : فمنهم من يوجهها إلى جميع المحاسن يؤثرها ويختارها لله ، فله أضعاف ذلك فى الموعود ـ آجلا وعاجلا ـ فالآجل ما وعد ، والعاجل ثناء الناس وجلالة القدر له فى القلوب ، متعارف ذلك للأخيار. وسماه قرضا بما هو اسم المعروف ، ليذكره عظم نعمه عليه ، إن قبله قول المعروف بالشكر له فى ذلك ، وإن كان ذلك حقّا له عليه. والله أعلم.

والثانى : ليعرف الخلق كيفية الصحبة والمعاشرة بينهم. إن الله تعالى عامل عبده فيما هو له معاملة من يستحق الشكر منه بما يسدى (١) إليه من النعم ، ولله حقيقة ذلك ، ليعقل الحكماء أن مثل ذلك فى معاملة الإخوان ، وفيما كان نعمه فى الحقيقة أوجب وأحق ، وليعظموا المعروفين بالمعروف بما أكرمهم الله تعالى بالأسماء الجليلة. ولا قوة إلا بالله.

ومنهم من يوجهها إلى الصدقات خاصة ؛ سماها قرضا لوجوه :

أحدها : أن جعل معاملة الفقراء والتصدق عليهم معاملة الله تفضيلا لهم ، على ما نسب مخادعة المؤمنين إلى الله تعالى تعظيما لهم ، فمثله الصدقة. ثم وعد فيه العوض لتصير الصدقة بمعنى الإقراض ، إذ يرجع فى عوضه ، فيزول وجه الامتنان عن الفقير بما يأخذ منه البدل. وبالله التوفيق.

والثانى : سمى ذلك قرضا بما هو له على ما لم يزل الله تعالى عود به عباده بالذى عرفوا به كرمه وجوده حتى سمى تسليم الذى له فى الحقيقة قرضا كالتسليم إلى من لا حق له فى الحقيقة ، وعلى ذلك أمر الشراء بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة : ١١١] ، والله أعلم.

والثالث : أنه ذكرهم وجه القصد فى الصدقات ، والموقع لها ، ليكون ذلك تبينا لعظيم منه الفقر عليه إذ وصل به إلى الله ذكره وأجل محله عنده ، فيصير عنده أحد الأعوان له والأنصار على عظيم الموعود وجليل القدر عند الله. فيحمده على ذلك ويشكر له دون أن يمن عليه أو يؤذيه. والله الموفق.

__________________

(١) فى أ : بدى.

٢٢١

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٢٤٨)

وقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).

فى هذه الآية والتى قبلها قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) [البقرة : ٢٤٣] ، دلالة إثبات رسالة محمد عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات ؛ لأن القصة فيهم كانت ظاهرة فى أهل الكتاب ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يختلف إلى أحد منهم ، ولا نظر إلى كتبهم ، ثم أخبر على ما كان ، دل أنه إنما عرف ذلك بالله عزوجل.

ثم فيه دلالة : أن كل نبى منهم كان إنما يشاور الأشراف من قومه والرؤساء منهم ، وإليهم يصرف تدبير الأمور ، ولا إلى السفلة منهم والرّذالة.

وفيه دلالة أيضا : أن الأنبياء ، صلوات الله عليهم وسلامه ، لم يكونوا يتولون الجهاد والقتال بأنفسهم ، ولكن الملوك هم الذين يتولون ذلك. ثم الملوك هم الراجعون إلى تدبير الأنبياء والرسل ، عليهم الصلاة والسلام ، فى أمر الدين والآخرة ، حيث سألوا (ملكا) يقاتلون معه عدوهم.

ذكر أن كفار بنى إسرائيل قهروا مؤمنيهم فقتلوهم وسبوهم وأخرجوهم من ديارهم وأبنائهم ، فمضوا زمانا ليس لهم ملك يقاتل عدوهم ، فقال النبى لهم ، وهو من نسل هارون ابن عمران أخى موسى : (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ) عدونا ، فقال لهم نبيهم : (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا) استخبار عن سؤالهم الذى سألوا ، أحق هو أم شىء

٢٢٢

أجروه على ألسنتهم من غير تحقيق ، لئلا يستوجبوا العذاب بتركهم ذلك إذا أجيبوا وأعطوا ما سألوا وتمنوا ؛ لما عرف من شدة القتال مع العدو والجهاد فى سبيل الله ، وكراهية ذلك فى كل قوم إلى أن بينوا أنهم عن حق سألوا لما تبينوا العلة التى حملتهم على ذلك ، وغاية رغبتهم فيها ، وما لأجله كان السؤال ، إن قالوا : (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) من القتل ، وأخذ الأموال وسبى الذرارى.

(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) ، أى : فرض ، (تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) ، فيه دلالة على أنه قد كان فيهم ما كان فى هذه من قوله : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف : ٢] ، من كراهية القتال والجهاد فى سبيل الله.

وقيل : (تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) ، وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر نفرا لم يتولوا عما سألوا. ثم قال لهم نبيهم.

قوله تعالى : (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً).

قيل : سمى «طالوتا» لطوله وقوته.

وقوله : (قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ).

يتوجه مثل هذا الكلام وجهين :

أحدهما : على الإنكار ، فلا يحمل على الإنكار ؛ لأنه كفر.

والثانى : على الاسترشاد وطلب العلم لهم منه فى ذلك عن جهة جعله له ملكا ، لما قد عرفوا أن لا يستوجب الملك ، ولا يولى إلا أحد رجلين : إما بالوراثة من (١) الآباء ، أو بالسعة فى المال ، لذلك قالوا : (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) ، لأنهم كانوا أبناء الملوك وأرباب الأموال.

ثم بين لهم عزوجل أن جهة الاختيار ليس إليهم ، وأن سبب الملك ليس ما ذكرنا دون غيره ، بل الله عزوجل يختار من يشاء لذلك بأسباب سوى ما ذكروا بفضل علم وبفضل قوة ، حيث قال :

(قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ).

قرر عندهم أن الملك يحتاج إلى فضل علم وفضل قوة.

__________________

(١) فى أ : بالوارث عن.

٢٢٣

ثم يحتمل قوله : (بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ) ، علم الحرب والقتال.

ويحتمل : علم الأشياء الأخر على حفظ الرغبة وغيره.

قال الشيخ ، رحمه‌الله تعالى ، فى قوله : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) : فهو ـ والله أعلم ـ لأى معنى جعل له الملك علينا؟ أو كيف يكون له الملك علينا ، ونحن بظاهر الأسباب التى تحقق الملك أملك ، فنكون بها أحق بالملك منه فبين الله أن المعنى الذى له صار أحق بالملك منهم فى ذلك الأمر. والله أعلم.

والحرف (أنى) وإن كان مما يتعارف فى الإنكار فليس هو كذلك فى الحقيقة ؛ إذ قد أخبرهم من هو نبى عندهم ، ومن تقرر عنده نبوة أحد لا يحتمل تكذيبه إياه فى هذا. والله أعلم.

وقد يحتمل كون أهل النفاق فيهم ، فيكون منهم الإنكار أيضا كما كان أمثال ذلك فى عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤيد سؤالهم الآية حتى قال : (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ) كذا. والله تعالى أعلم. ويؤيد ذلك كثرة مخالفتهم إياه لما امتحنوا بالنهر. والله الموفق.

وفى هذا ونحو ذلك دلالة جواز الآيات بغير الرسل إذا كان فيها تصديق الرسل ، [وكذلك قصة مريم ، وكذلك عمل صاحب سليمان ، وغير ذلك مما جاء به الكتاب ، لكن ذلك يجوز إذا كان منهم تصديق الرسول](١) فيكون فى التحقيق كآيات لهم ظهرت على ألسن غيرهم أو أيديهم. ومن أراد بها ادعاء الرسالة لنفسه فيعجز عن ذلك ، بل لا يكرم الله بها من يعلم أنه يدعو إلى تصديق الكذب ومضاهاة الرسل. وبهذا يجاب لمن يعارض بمن يتعلم القرآن ، ثم يأتى موضعا لا يعرف فيحتج به فى نبوته ، مع ما فى ذلك أوجه تمنع الاحتجاج به من ذلك ، بما فيه من الإخبار عن الأسئلة والأنباء عن أمور لا توجد هنالك ـ والله أعلم ـ وبما لا يعلم أوله أنه من تعلم تقدم منه إلى من هو حجة له ، أو عن وحى إليه ، إذ لم يكن امتحن من قبل. والحجة ما يخرج من المعتاد وحمل الطبيعة ، يكرم بها وقت الدعوة بلا سبب سبق منه فى مثله ولا عناية. ولا قوة إلا بالله. وبعد فإنه قد ظهر فى جميع من لسانه ذلك اللسان ممن لا يطاق الدفع لمثله ولا إنكار وانتشر أمر الآتى به ، فيظهر بذلك كذبه ، ويفتضح عند الدعوى قبل المحنة والتأمل فيما جاء به إلا أن يأتى به من ليس ذلك لسانه ، ولا معنى للاحتجاج به فى أمثالهم. والله الموفق.

وقوله : (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)

(واسِعٌ) أى غنى ، يغنى من يشاء ويعطيه ، (عَلِيمٌ) ، بمن يصلح للملك.

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط فى ط.

٢٢٤

وقوله : (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ)

كأنهم سألوا نبيهم : ما آية ملكه؟

فقال لهم نبيهم : إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت تحمله الملائكة.

ذكر فى القصة : أن التابوت يكون مع الأنبياء ، إذا حضروا قتالا قدموا التابوت من بين أيديهم إلى العدو ، ويستنصرون به على عدوهم. وفيه سكينة ، كأنها رأس هرة فإذا أن ذلك الرأس سمع التابوت أنين ذلك الرأس دف نحو العدو ، وهم يمضون معه ما مضى ، فإذا استقر ثبتوا خلفه. فلما هربت بنو إسرائيل وعصوا الأنبياء سلط الله تعالى عليهم عدوهم ، وأخذوا منه التابوت لما سئموا وملوا ، ثم رد عليهم بعد زمان طويل ، وجعل ذلك آية من آيات ملك طالوت. فلا ندرى كيف كانت القصة.

ثم اختلف فى قوله : (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).

قيل (١) : (سَكِينَةٌ) ، ريح هفافة ، فيها صورة كوجه الإنسان.

وقيل (٢) : السكينة لها وجه كوجه الهرة ، لها جناحان ، فإذا تصوتت عرفوا النصرة.

وقيل (٣) : السكينة : طست من ذهب من الجنة ، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء.

وقيل (٤) : (فِيهِ) ، أى : فى التابوت (سَكِينَةٌ) ، أى طمأنينة من ربكم ، كأن التابوت فى أى مكان كان اطمأنوا إليه وسكنوا.

فلا ندرى ما السكينة؟ سوى أننا عرفنا أن قلوبهم كانت تسكن إليه وتطمئن. فليس لنا إلى معرفة (السكينة) ، وكيفيتها حاجة.

وقوله : (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

قيل (٥) : «البقية» فيه رضاض الألواح ـ وهو كسرها ـ وثياب موسى ، وثياب هارون.

وقيل (٦) : عصا موسى ، وعصا هارون.

__________________

(١) قاله على بن أبى طالب ، أخرجه ابن جرير عنه (٥٦٦٨ ـ ٥٦٧٤) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٥٦٢).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٥٦٧٥ ـ ٥٦٧٨) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٥٦٢).

(٣) قاله ابن عباس ، والسدى ، أخرجه ابن جرير عنهما (٥٦٨٠ ، ٥٦٨١) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٥٦٢).

(٤) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن أبى حاتم وأبو الشيخ كما فى الدر المنثور (١ / ٥٦٢).

(٥) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٥٦٨٧ ، ٥٦٨٨ ، ٥٦٨٩) ، وعن قتادة (٥٦٩٠ ، ٥٦٩١) ، والسدى (٥٦٩٢) ، وعكرمة (٥٦٩٤ ، ٥٦٩٥).

(٦) قاله أبو صالح ، أخرجه ابن جرير عنه (٥٦٩٦) ، وعن عطية بن سعد (٥٦٩٧) ، وانظر الدر المنثور ـ

٢٢٥

وقيل (١) : (البقية) قفيز من منّ ، وهو الترنجبين الذى كان يأكله بنو إسرائيل فى أرض التيه.

وقيل (٢) : فيه سنة موسى وهارون ، وعلمهما. والله أعلم بذلك.

وفى الآية دليل جرى الآية على أيدى الأولياء ، لما أعطى لطالوت آية لملكه تشبه آيات الأنبياء حيث أخبر أنه كان (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) [هى القوة فى داره ، وهم كانوا لم يمروا ذلك وقت حمل الملائكة](٣) إياه ، لكن تلك الآيات فى الحاصل تكون للأنبياء يجريها الله تعالى على أيدى الأولياء إلا أن يكون للأولياء ذلك. ثم من ادعى من الأولياء بتلك الآيات النبوة لنفسه يعجزه الله تعالى عن ذلك ، ويخرج الآية من أن تصير آية له ، نحو من أتى مدينة من المدائن التى لم يبلغ أهلها هذا القرآن ، ولا عرفوه ولا سمعوا ذلك من أحد قط ، فجعل يقرأ ذلك عليهم عن ظهر قلبه ، وادعى بذلك رسالة لنفسه ، أيسع أهل ذلك البلد أن يصدقوه فيما ادعى ، أم لا؟ فإن لأصحابنا ، رحمهم‌الله تعالى ، جوابان :

أحدهما : بأن فى القران ما يظهر به كذب هذا المدعى فى دعوته من نحو قوله : (يَسْئَلُونَكَ) عن كذا ، ومن نحو الأخبار ، والحكايات ، والقصص التى فيها مما لا يحتمل كونها إلا بتقدم أسباب فيكذبه ذلك ، فلم يلزمهم تصديقه. وبالله العصمة.

والثانى : قالوا : إذا ادعى ذلك به يعجزه الله عزوجل عن تلاوته ، وإجرائه على لسانه ، وادعاء ما ادعى بذلك. وكأن هذا أقرب. والله أعلم.

قوله تعالى : (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)(٢٥٢)

__________________

 ـ (١ / ٥٦٣).

(١) قاله الثورى ، أخرجه ابن جرير عنه (٥٦٩٨).

(٢) قاله عطاء بن أبى رباح ، أخرجه ابن جرير عنه (٥٧٠١).

(٣) ما بين المعقوفين سقط فى ط.

٢٢٦

وقوله : (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ)

أى : من المدينة.

قيل (١) : هم سبعون ألفا.

وقيل : كانوا مائة ألف ، سار بهم فى حر شديد ، فنزلوا فى قفرة من الأرض ، فأصابهم عطش شديد ، فسألوا طالوت الماء ، فقال لهم طالوت :

(إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ)

قيل (٢) : نهر بين الأردن وفلسطين.

وقيل (٣) : هو نهر فلسطين.

[وقيل : إنما قال لهم : إن الله مبتليكم بنهر نبيهم.

وقوله : (فَمَنْ شَرِبَ) غرفة كفاه ، ومن شرب أكثر منه لم يروه ؛ لأنهم عصوه.

وقيل](٤)

(فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي).

أى : ليس معى على عدوى ، أى : لا يخرج معى.

ويجوز (فَلَيْسَ مِنِّي) من أتباعى وشيعتى.

وجائز أن يكون به ظهور النفاق والصدق (منى) فى الدين.

(وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي).

يقول : (منى) أى معى على عدوى.

فيه دليل أن يسمى الشراب باسم الطعام ، والطعام باسمه.

(إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)

استثنى (الغرفة) ، كأنه قال : من شرب منه فليس منى إلا غرفة.

ففيه جواز الثنيا (٥) من الكلام المتقدم وإن كان دخل بين حرف الثنيا (٦) وحرف الأول شىء آخر. وهو يدل لأصحابنا ، رحمهم‌الله تعالى ، حيث قالوا : فيمن أقر ، فقال :

__________________

(١) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ٢٣٠).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٥٧١٦) ، وعن الربيع (٥٧١٣) ، وقتادة (٥٧١٤ ، ٥٧١٥) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٥٦٤).

(٣) قاله ابن عباس ، والسدى أخرجه ابن جرير عنهما (٥٧١٧ ، ٥٧١٨).

(٤) ما بين المعقوفين سقط فى ط.

(٥) فى أ : للثناء.

(٦) فى أ : الثناء.

٢٢٧

«لفلان على كرّ حنطة وكر شعير إلا نصف كر حنطة» ، أنه يصدق ويلزمه من الحنطة نصف كر. ويحتمل (١) أن يكون الثنيا (٢) على ما يليه قوله : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً).

وقيل : شرب شرب الدواب. و (الغرفة) هى شرب.

وقوله : (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ)

قيل (٣) : (القليل) هم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا اغترفوا غرفة واحدة بأيديهم ، وكانت الغرفة يشرب منها هو وخدمه ودوابه.

وقيل : إنما استثنى الغرفة باليد لئلا يكرعوا كراع الدواب ، ففعل بعضهم ذلك ، فرد طالوت العصاة منهم ، فلم يقطعوا معه ، وقطع معه الثلاثمائة والثلاثة عشر رجلا وهو قوله تعالى :

(فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ).

قيل : هو قول بعضهم لبعض : (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) ؛ لأنهم أكثر منا ، وكانوا مائة ألف ، وهو ثلاثمائة وثلاثة عشر. والله أعلم بذلك العدد.

وقوله : (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ)

قيل (٤) : الذين يعلمون ويقرون بالبعث.

(كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ).

أى : عددهم.

وقيل : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ) ، يعنى يخشون أنهم يقتلون ؛ لأنهم وطنوا أنفسهم على الموت ، فطابت أنفسهم بالموت (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً).

وقوله : (بِإِذْنِ اللهِ).

قال بعضهم : (بِإِذْنِ اللهِ) ، أى بأمر الله. لكنه لا يحتمل الغلبة بالأمر ، ولكن (بِإِذْنِ اللهِ) ، عندنا : بنصر الله.

وقوله : (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).

بالنصر والمعونة لهم.

__________________

(١) فى أ ، ط : ويجعل.

(٢) فى أ : الثناء.

(٣) قاله البراء بن عازب ، أخرجه البخارى (٣٩٥٧) ، وابن جرير (٥٧٢٦ ـ ٥٧٣١) ، وابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقى فى الدلائل كما فى الدر المنثور (١ / ٥٦٤).

(٤) قاله ابن جرير بنحوه (٢ / ٦٣٧).

٢٢٨

وقوله : (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ)

يعنى لقتالهم.

وقوله : (قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ).

يقول : اصبب. ويقال : أتمم علينا صبرا.

وهكذا الواجب على كل من لقى العدو أن يدعو بمثل هذا.

وعلى قول المعتزلة لا معنى لهذا الدعاء ، لأنه قد كان فعل بهذا الأصلح.

فاستجاب الله دعاءهم ، وهزم عدوهم ؛ وهو قوله تعالى : (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ)

قال بعضهم : (بِإِذْنِ اللهِ) ، بأمر الله. لكن لا يحتمل ؛ لأنهم كانوا يقاتلون بالأمر ، ولا يهزمون بالأمر.

وقال آخرون : (بِإِذْنِ اللهِ) ، بعلم الله ، كان فى علمه فى الأزل أنهم يهزمونهم.

وقيل : (بِإِذْنِ اللهِ) ، بنصر الله. وهو أقرب. والله أعلم.

وقيل فى القصة (١) : إن داود ، عليه‌السلام ، كان راعيا ، وكان له سبعة إخوة مع طالوت خرجوا معه للقتال. ولما أبطأ خبر إخوته على أبيهم أرسل داود إليهم لينظر ما أمرهم ويأتيه بخبرهم. قال : فأتاهم وهم فى الصفوف. فبرز جالوت ، فلم يخرج إليه أحد. فقال : (يا بنى إسرائيل) لو كنتم على حق لخرج إلى بعضكم. فقال داود لإخوته : أما فيكم أحد يخرج إلى هذا الأقلف؟ قال : فقالوا : اسكت. قال : فذهب داود إلى طالوت ، فقال : أيها الملك ، إنى أراكم تعظمون شأن هذا العدو. ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف؟ قال طالوت : أنكحه ابنتى ، وأجعل له نصف ملكى. فقال داود لطالوت : فأنا أخرج إليه. فلما قال داود : (أنا أخرج إليه) ، قال له طالوت : من أنت؟ قال : أنا داود بن فلان. فعرفه طالوت ، ورأى أنه أجلد إخوته. قال : فأعطاه طالوت درعه وسيفه. قال : فلما خرج داود فى الدرع جرها فى الأرض ؛ لأن طالوت كان أطول منه. قال : فأخذ داود العصا ثم خرج إلى جالوت. فمر بثلاثة أحجار ، فقلن : يا داود خذنا معك ، ففينا ميتة جالوت. فأخذها ثم مضى نحوه. وعلى جالوت بيضة هى ثلاثمائة رطل. فقال له جالوت : إما أن ترمينى ، وإما أن أرميك؟ فقال له داود : بل أنا أرميك. فرماه بها ، فأصابه

__________________

(١) أخرج ابن جرير عن ابن إسحاق (٥٧٤٣) نحو هذه القصة.

٢٢٩

فى آخرها ، فوقعت فى صدره ، فنفذته وقتله ، وقتل الحجر بعد ما نفذ جنودا (١) كثيرة ، وهزم الله جنوده. وهو قوله : (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ) ، والقصة طويلة فلا ندرى كيف كانت القصة وليس لنا إلى معرفتها حاجة.

وقوله : (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ).

فالملك يحتمل : علم الحرب ، وسياسة القتال ؛ إذ لم يكونوا يقاتلون إلا تحت أيدى الملوك ، وهو كقوله : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) [ص : ٢٠].

ويحتمل : (الْمُلْكَ) ، بما عقد له من الخلافة ؛ كقوله : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [ص : ٢٦].

وذكر : (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) الأمرين لما كان من قرب زمانه على ما عليه ابتداء الآية أن الملك يكون غير نبى ، فجمعا جميعا له فيكون على ذلك تأويل الحكمة أنها النبوة.

(وَالْحِكْمَةَ) ، قيل : هى الفقه.

وقيل (٢) : هى النبوة. وقد تقدم ذكره.

وقوله : (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ).

قيل (٣) : صنعة الدروع ، كقوله : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) [الأنبياء : ٨٠]

وقيل (٤) : كلام الطير ، وتسبيح الجبال ، كقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) [سبأ : ١٠]. وذلك مما خص به داود دون غيره من الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام.

ويحتمل : (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) ، أشياء أخر.

وقوله : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ)

اختلف فيه :

قال بعضهم : دفع بالكفار بعضهم ببعض شرهم عن المسلمين ، لما شغل بعضهم ببعض ، وجعل بعضهم لبعض أعداء إلى أن لم يتفرغوا عن أنفسهم للمسلمين ، وإلا كان

__________________

(١) فى أ : أناسا.

(٢) قاله السدى ، أخرجه ابن جرير عنه (٥٧٥٠).

(٣) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ٢٣٥).

(٤) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ٢٣٥).

٢٣٠

فى ذلك فساد الأرض.

وقال آخرون : دفع بالرسل والأنبياء شرهم عن المسلمين ، وكفاهم بهم.

وقال غيرهم (١) : دفع بالمؤمنين بعضهم عن بعض ـ دفع بالمجاهدين فى سبيل الله عن القاعدين عن الجهاد ، وإلا لغلب المشركون على الأرض.

وقيل (٢) : بدفع بالمصلى عمن لا يصلى ، وبالمزكى عمن لا يزكى ، وبالحاج عمن لا يحج ، وبالصائم عمن لا يصوم.

ثم اختلف فى قوله : (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ)

قيل : لو لم يدفع بعضهم ببعض لقتل بعضهم بعضا ، وأهلك فريق فريقا ، وفى ذلك تفانيهم وفسادهم ، وفى ذلك فساد الأرض.

وقال آخرون : لو لم يدفع لفسدت الأرض ، أراد بفساد الأرض فساد أهلها ؛ لأنه لو لم يدفع لغلب المشركون على أراضى (٣) الإسلام وأهلها. فإذا غلبوا فسد أهلها.

وقال : (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) ، إذا غلب المشركون عليها هدمت المساجد والصوامع ، ففيه فساد الأرض. والله أعلم.

وقوله : (وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ).

وعلى قول المعتزلة : ليس هو بذى فضل على أحد ؛ لأن عليه أن يفعل ذلك ، وأن يدفع ذلك كله عن المسلمين على قولهم ، فإذا كان عليه ذلك لا يصير هو بما يدفع مفضلا ولا ممتنّا. فنعوذ بالله من السرف فى القول.

وقوله : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).

يحتمل قوله : (آياتُ اللهِ) ، ما ذكره من قتل داود جالوت بالأحجار.

ذكر فى القصة مع ضعف داود وقوة جالوت ، على ما قيل : إن قامته كانت قدر ميل ، وإن بيضته كانت ثلاثمائة رطل.

ويحتمل : ما ذكر من قيام القليل للكثير ؛ لأنه قيل : إن جنود جالوت مائة ألف ، وجنود طالوت ثلاثمائة وثلاثة عشر. وذلك من الآيات.

ويحتمل : جميع ما قص الله عليه فى القرآن من خبر الأمم السالفة. والله أعلم.

وفى قتل داود جالوت ، وقتل القليل الكثير ، دليل : أنهم لم يقتلوا (٤) لقوة أنفسهم ،

__________________

(١) قاله مجاهد بنحوه كما فى تفسير البغوى (١ / ٢٣٥).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن أبى حاتم والبيهقى فى الشعب عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٥٦٧).

(٣) فى أ : أرض.

(٤) فى أ : يصلوا.

٢٣١

ولكنهم بالله وبنصره إياهم.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : من آيات وحدانيته : قتل داود جالوت مع ضعف داود وقوة عدوه.

قوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٢٥٤)

وقوله : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ).

قوله : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ)

يحتمل : تفضيل بعضهم على بعض ما ذكر (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) ، ومنهم من اتخذه خليلا ، ومنهم من سخر له الريح والطير ، ما كان فى الأنبياء مثله.

ويحتمل : (بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) ، فى الحجاج ، والحجج على القوم ؛ لأن فيهم من كان أكثر محاجة لقومه وأعظم حججا ، وهو إبراهيم ، صلوات الله عليه وسلامه ، وموسى.

ويحتمل : «التفضيل» التمكين فى الأرض ، مكن لبعضهم ما لم يكن للباقين.

ويحتمل : ذلك فى الآخرة فى الشفاعة ، ورفع الدرجات.

ويحتمل : (بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) ، فى الرسالة ؛ لأن منهم من أرسل إلى الإنس والجن جميعا ، ومنهم من أرسل إلى الإنس خاصة ، [ومنهم من أرسل إلى قومه خاصة](١) ومنهم من أرسل إلى نفر. والله أعلم.

وقد ذكرنا ألا يكون من الله تفضيل لبعض الرسل على بعض على قول المعتزلة ؛ لأنه [فعل](٢) ما عليه أن يفعل ، وكل من فعل ما عليه أن يفعل ، فإنه لا يوصف بالفضل والإفضال ؛ دل أنه ليس على ما يقولون ويذهبون إليه.

__________________

(١) سقط فى أ ، ط.

(٢) سقط فى أ.

٢٣٢

وقوله : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) قد ذكرناه فيما تقدم.

وقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) هذه الآية والآيتان من بعدها ـ قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) ، وقوله : (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) ، على المعتزلة. لأنه أخبر أنه لو شاء ألا يقتتلوا ما اقتتلوا. وهم يقولون : شاء ألا يقتتلوا ، ولكن اقتتلوا. والاقتتال هو فعل اثنين ، وفيهم من اقتتل ظالما ، وفيهم من اقتتل غير ظالم ، دليله قوله : (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) ، ثم قال : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) ، أخبر أنه لو شاء ألا يقتتلوا ما اقتتلوا وأخبر أنه يفعل ما يريد ثبت الفعل فى الإرادة وهم يقولون لا يفعل ما يريد.

وكذلك قوله (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) أخبر أنه لو شاء ما اختلفوا وهم يقولون : شاء ألا يختلفوا ولكن اختلفوا ثم لا يجوز صرف الآية إلى مشيئة القسر والجبر ؛ لأن المشيئة التى ذكرها الله تعالى معروفة فى الناس فلا يجوز صرفها إلى غير المشيئة المعروفة إلا بعد تقدم ذكر أو بيان أنها هى المرادة وقوله : (مَا اقْتَتَلُوا) ولا اختلفوا فجعلهم على أمر واحد ودين واحد كقوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) [هود : ١١٨] والمعتزلة يقولون : شاء أن يصيروا أمة واحدة ولكن لم يصيروا فنعوذ بالله من السرف فى القول والقول فى الله بما لا يليق به.

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) يحتمل الأمر بالإنفاق ، أمر بتقديم الطاعات والمسارعة إلى الخيرات قبل أن يأتى يوم يمنعه ويعجزه عن ذلك وهو الموت.

ويحتمل أمره بالإنفاق من الأموال فى طاعة الله من قبل أن يأتى يوم ، وهو يوم القيامة (لا بَيْعٌ فِيهِ) قيل : لا فداء ، و (وَلا خُلَّةٌ ، وَلا شَفاعَةٌ).

يحتمل قوله : (وَلا خُلَّةٌ) أى لا ينفع خليل خليله كما ينفع فى الدنيا وكذلك لا شفيع تنفع شفاعته كما تنفع فى الدنيا.

ويحتمل : (وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) ، أى : لا ينفع أحد أحدا ، ولا يخال أحد أحدا ، ولا يشفع أحد أحدا.

ويحتمل : (يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ) ، أنهم يملكون بيع أنفسهم من الله تعالى ما داموا أحياء ، فإذا ماتوا لم يملكوا ، كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة : ١١١]. فأول الآية وإن خرج الخطاب للمؤمنين فالوصف فيها وصف الكافرين ، لكن فيها زجر للمؤمنين مثل صنيع الكفار.

وقوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) قيل : الله هو اسم المعبود ، وكذلك تسمى العرب

٢٣٣

كل معبود إلها ومعناه ـ والله أعلم ـ أن الذى يستحق العبادة ويحق أن يعبد هو الله الذى لا إلا إلا هو لا الذى تعبدونه أنتم من الأوثان والأصنام التى لا تنفعكم عبادتكم إياها ولا يضركم ترككم العبادة لها.

ويحتمل أن يكون على الإضمار : أن قل الله الذى لا إله إلا هو لأنهم كانوا يقرون بالخالق ويقرون بالإله ؛ كقوله عزوجل (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥] وكقوله : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) [المؤمنون : ٨٦ ، ٨٧] وكقوله : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) [المؤمنون : ٨٨ ، ٨٩] فإذا كانوا يقرون به فأخبرهم أن الذى يقرون به ويسمونه هو الله الذى لا إله إلا هو الحى القيوم ويحتمل أن يكون لقوم من أهل الإسلام عرفوا الله تعالى وآمنوا به ، ولم يعرفوا نعته وصفته فعلمهم نعته وصفته أنه الحى القيوم إلى آخره.

قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)(٢٥٥)

وقوله (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) قيل هو الحى بذاته لا بحياة هى غيره كالخلق هم أحياء بحياة هى غيرهم حلت فيهم لا بد من الموت ، والله عزوجل يتعالى عن أن يحل فيه الموت ؛ لأنه حى بذاته وجميع الخلائق أحياء لا بذاتهم ، تعالى الله عزوجل عما يقول فيه الملحدون علوا كبيرا.

والأصل : أن كل من وصف فى الشاهد بالحياة وصف ذلك للعظمة له والجلال والرفعة. يقال : (فلان حى) ، وكذلك الأرض سماها الله تعالى (حية) ، إذا اهتزت وربت وأنبتت ، لرفعتها على أعين الخلق. فعلى ذلك الله سبحانه وتعالى (حى) للعظمة.

وكذلك الأرض سماها الله تعالى : (حية) للعظمة والرفعة ولكثرة ما يكون يذكر فى المواطن كلها ، كما سمى الشهداء (أحياء) ؛ لأنهم مذكورون فى الملأ من الخلق.

ويحتمل : أنه يسمى (حيّا) لما لا يغفل عن شىء ، ولا يسهو ، ولا يذهب عنه شىء ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء. وبالله العصمة.

وقوله : (الْقَيُّومُ) ، القائم على مصالح أعمال الخلق وأرزاقهم.

وقيل : (الْقَيُّومُ) ، هو القائم على كل شىء يحفظه ويعاهده ، كما يقال : (فلان قائم على أمر فلان) ، يعنون أنه يتحفظ أموره حتى لا يذهب عنه شىء.

٢٣٤

وقيل : (هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ، أى لا يغفل عن أحوال الخلق.

وقوله تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ).

قيل (١) : (السنة) ، النعاس.

وقيل (٢) : (السنة) ، هى بين النوم واليقظة ، وسمى (وسنان).

وقيل (٣) : (السنة) ، هى ريح تجىء من قبل الرأس ، فتغشى العينين ، فهو (وسنان) بين النائم واليقظان.

ويحتمل قوله : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) على نفى الغفلة والسهو عنه ؛ إذ لو أخذه ، صار مغلوبا مقهورا ، فيزول عنه وصفه (حى ، قيوم) ، كقوله : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ) [سبأ : ٣]. على نفى الغفلة.

ويحتمل : أنه نفى عن نفسه ذلك ؛ لأن الخلق إنما ينامون وينعسون (٤) طلبا للراحة والمنفعة ـ إما لدفع حزن أو وحشة ـ فأخبر أنه ليس بالذى يحتاج إلى راحة ، وإلى دفع حزن أو وحشة.

وقيل (٥) : لا يفتر ولا ينام.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله تعالى ـ : والنوم والسنة حالان تدلان على غفلة من حلّا به ، وعلى حاجته إلى ما فيه راحته ، وعلى عجزه ، إذ هما يغلبان ويقهران. فوصف الرب نفسه بما يعلو عن الذى دلا عليه من الوجوه.

وقوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

وهو العالى على ذلك ، القاهر له ، لا تأخذه سنة ولا وحشة ، ولا معنى يدل على العجز والحاجة. ولا قوة إلا بالله.

وقوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ، أخبر أن ما فى السموات وما فى الأرض ، عبيده وإماؤه ، ليس كما قالوا : (فلان ابن الله) ، و (الملائكة بنات الله) ، بل كلهم عبيده وإماؤه ، والناس لا يتخذون ولدا من عبيدهم وإمائهم ، فالله أحق ألا يتخذ ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٥٧٧١ ، ٥٧٧٢) ، وعن قتادة والحسن (٥٧٧٣) ، والضحاك (٥٧٧٤ ، ٥٧٧٥ ، ٥٧٧٦) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٥٧٩).

(٢) قاله الربيع ، أخرجه ابن جرير عنه (٥٧٧٨).

(٣) قاله السدى ، أخرجه ابن جرير عنه (٥٧٧٧) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٥٧٩).

(٤) فى ط : ويتغشون.

(٥) قاله عطية ، أخرجه ابن أبى حاتم عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٥٧٩).

٢٣٥

وقوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ، أى : لا أحد يجترئ على الشفاعة إلا بإذنه.

ثم اختلف فى الشفاعة :

قالت المعتزلة : لا تكون الشفاعة إلا لأهل الخيرات خاصة الذين لا ذنب لهم ، أو كان لهم ذنب فتابوا عنه. ذهبوا فى ذلك إلى ما ذكر الله تعالى فى قوله : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) [غافر : ٧] ، أخبر أنهم يستغفرون للذين آمنوا وتابوا واتبعوا. فإذا كان الاستغفار فى الدنيا إنما يكون للذين آمنوا وتابوا واتبعوا ، فعلى ذلك الشفاعة إنما تكون فى الآخرة لهؤلاء.

وأما عندنا : فإن الشفاعة تكون لأهل الذنوب ؛ لأن من لا ذنب له لا حاجة له إلى الشفاعة. وقوله : (لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) ، يكون لهم ذنوب فى أحوال التوبة ، فإنما يغفر لهم الذنوب التى كانت لهم ، فقد ظهر الاستغفار لأهل الذنوب ؛ فعلى ذلك الشفاعة.

فإن قيل : أرأيت رجلا قال لعبده : إن عملت عملا تستوجب به الشفاعة فأنت حر ، فأى عمل يعمله ليستوجب به الشفاعة حتى يعتق عبده : الطاعة ، أو المعصية؟ قيل : الطاعة ، فعلى ذلك الشفاعة ، لا تكون إلا لأهل الطاعة والخير لا لأهل المعصية.

[قيل : إن الشفاعة التى يستوجبها أهل الذنوب إنما يستوجبون بالطاعات التى كانت لهم حالة الشفاعة ؛ لأن أهل الإيمان وإن ارتكبوا مآثم ومعاصى فإن لهم طاعات ، فبتلك الطاعات يستوجبون الشفاعة ، كقوله : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) [التوبة : ١٠٢] ، فالشفاعة فى شره بخيره](١).

وقالوا : لا شفاعة فى الشاهد لأحد فى الآخرة ؛ لأن الشفاعة هى أن يذكر عن مناقب أحد عند أحد وخيراته ، ليس سواء (٢) ، وكذا فى الآخرة.

والجواب لهم من وجهين :

أحدهما : أنه إنما يذكر فى الدنيا خيرات المشفع له لجهالة هذا بأحواله ، فيذكر خيراته ليعرفه بها ، فيشفع فيه. والله تعالى عارف لا يتعرف (٣).

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط فى أ ، ط.

(٢) فى أ : سواء.

(٣) أخرجه ابن جرير (٥٧٨٨ ، ٥٧٨٩) ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم ، والبيهقى فى الأسماء والصفات كما فى الدر المنثور (١ / ٥٨٠).

٢٣٦

والثانى : أن ذكر خيراته لحاجة تقع للمذكور له تكون فى مثلها ، لا تكون فى الآخرة خاصة ، والله ـ تعالى ـ يتعالى عن الحاجة عما بالعباد ؛ لذلك اختلفا. والله أعلم.

فإن قال لنا قائل : إن جميع ما ذكر فى هذه الآية ـ من أولها إلى آخرها ـ كلها دعوى ، فما الدليل على تلك الدعوى؟

قيل : يحتمل أن يكون دليله ما تقدم ذكره من قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ..). الآية [البقرة : ١٦٤].

والثانى : من أنكر الصانع فيتكلم أولا معه فى حدث العالم ، وحاجته إلى محدث ، فإذا ثبت حدث العالم ، فحينئذ يتكلم فى إثبات الصانع ووحدانيته. وبالله التوفيق.

وفى قوله تعالى : (واحد) ، ليس من حيث العدد ؛ لأن كل ذى عدد يحتمل الزيادة والنقصان ، ويحتمل الطول والعرض ، ويحتمل القصر والكسر ، ولكن يقال : ذلك (واحد) من حيث العظمة والجلال والرفعة ، كما يقال : فلان واحد زمانه ، وواحد قومه ، يعنون به رفعته وجلالته فى قومه وسلطانه عليهم ، جائز القول ، فهم لا يعنون من جهة العدد ؛ لأن مثله كثير فيهم من حيث العدد. والله أعلم.

وقوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ).

هذا على المعتزلة ؛ لأنهم لا يصفونه بالعلم ، وقد أخبر أن له العلم.

ثم احتمل : (عِلْمِهِ) ، علم الغيب.

وقال آخرون : علم الأشياء كلها. لا يعلمون إلا ما يعلمهم الله من ذلك ، كقول الملائكة : (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) [البقرة : ٣٢].

ومن قال : علم الغيب ، فهو الذى قال : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦ ، ٢٧].

وقوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ).

قال بعضهم : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) ، وسع علمه. وهو قول ابن عباس (١) ، رضى الله تعالى عنه.

وقال آخرون : (كُرْسِيُّهُ) ، قدرته ، وهو وصف بالقدرة والعظمة.

وقيل : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) ، والكرسى هو أصل الشىء ، يقال : كرسى كذا ، والمراد منه أنه المعتمد والمفزع للخلق. وذلك وصف بالعظمة والقوة.

__________________

(١) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ٢٤٠) ، ولم ينسبه لأحد.

٢٣٧

ويقال : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) ، وهو خلق من خلقه.

وقيل : إن الكرسى هو الكرسى ، لكنه خلقه ليكرم به من يشاء من خلقه.

[ثم لا يجوز أن يفهم من إضافته إليه ما يفهم من الخلق ، كما لم يفهم من قوله : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) ، و (نُورَ اللهِ) ، و «بيت الله» ونحوه ما يفهم من إضافته إلى خلقه](١).

فعلى ذلك لا يفهم من قوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) ، وغيره من الآيات ما يفهم من الخلق بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١].

وقوله تعالى : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما).

قيل : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) لا يشق عليه حفظهما (٢). وهو قول ابن عباس ، رضى الله تعالى عنه ، وروى عنه أيضا أنه قال : لا يثقل عليه (٣).

وقيل : (وَلا يَؤُدُهُ) لا يجهده.

وقيل : لا يعالج بحفظ شىء مثال الخلق.

وقوله تعالى : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ).

(الْعَلِيُ) عن كل موهوم يحتاج إلى عرش أو كرسى ، (الْعَظِيمُ) عن أن يحاط به.

وقال ابن عباس (٤) ـ رضى الله تعالى عنه ـ : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) ، قال : علمه ، ألا ترى إلى قوله : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) كل شىء فى علمه ، لا يئوده حفظ شىء ، والله أعلم.

قال الشيخ : ـ رحمه‌الله تعالى ـ (الْعَلِيُّ) ، عن جميع أحوال الخلق وشبههم ، و (الْعَظِيمُ) القاهر والغالب.

قوله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٥٧)

وقوله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ).

قيل : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ، أى : لا يكره على الدين. فإن كان التأويل هذا فهو على بعض دون بعض.

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط فى ط.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥٨٠٠ ، ٥٨٠١ ، ٥٨٠٤).

(٣) تقدم.

(٤) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٥٨٢٨ ، ٢٨٢٩ ، ٢٨٣١) ، وعن الضحاك (٥٨٣٠) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٥٨٣).

٢٣٨

وقال بعضهم : نزلت فى المجوس ، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى ، أنه يقبل منهم الجزية ، ولا يكرهون على الإسلام. ليس كمشركى العرب ألا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، ولا يقبل منهم الجزية ، فإن أسلموا وإلا قتلوا. وعلى ذلك روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه كتب إلى المنذر بن فلان (١) : «أما العرب فلا تقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية» (٢). وعلى ذلك نطق به الكتاب (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح : ١٦].

وقال قوم : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) أى : لا دين يقبل بإكراه ، بل ليس ذلك بإيمان.

والثانى : أن (الرُّشْدُ) قد تبين من الغى ، وبين ذلك لكل أحد حتى إذا قبل الدين قبل عن بيان وظهور ، لا عن إكراه.

وقال آخرون : قوله : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ، أى : لا إكراه على هذه الطاعات بعد الإسلام ؛ لأن الله تعالى حبب هذه الطاعات فى قلوب المؤمنين فلا يكرهون على ذلك.

ومعناه : أن فى الأمم المتقدمة الشدائد والمشقة ، ورفع الله عزوجل تلك الشدائد عن هذه الأمة وخففها (٣) عليهم ، دليله قوله تعالى : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) [البقرة : ٢٨٦] ، وقوله : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأنعام : ١٥٧] ، ومثل ذلك كثير ، كانت على الأمم السالفة ثقيلة وعلى هذه الأمة مخففة ، فإذا كانت مخففة عليهم لا يكرهون على ذلك.

وقال آخرون : هو منسوخ بقوله عليه‌السلام : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله» (٤).

__________________

(١) هو : المنذر بن حرملة الطائى القحطانى ، أبو زبيد : شاعر نديم معمر ، من نصارى طيئ. عاش زمنا فى الجاهلية ، وكان يزور الملوك ولا سيما ملوك العجم لعلمه بسيرهم. وأدرك الإسلام ولم يسلم. وكان يدخل مكة متنكرا. واستعمله عمر على صدقات قومه. قال البغدادى : ولم يستعمل نصرانيّا غيره. وكانت إقامته على الأكثر عند أخواله بنى تغلب بالجزيرة الفراتية. وانقطع إلى منادمة الوليد ابن عقبة أيام ولايته الكوفة ، فى عهد عثمان. وكان يفد على عثمان فيقربه ويدنى مجلسه ، لاطلاعه على أخبار من أدركهم من ملوك العرب والعجم. ومات بالكوفة أو فى باديتها ، فى زمن معاوية وقيل : دفن على البليخ إلى جانب قبر الوليد بن عقبة. توفى نحو سنة ٦٢ ه‍.

ينظر : خزانة الأدب للبغدادى (٢ / ١٥٥) ، والشعر والشعراء (١٠١) ، تهذيب ابن عساكر (٤ / ١٠٨) ، الأعلام (٧ / ٢٩٣ ، ٢٩٤).

(٢) انظر نصب الراية للزيلعى (٤ / ٤٢٠).

(٣) فى أ : حفظها.

(٤) تقدم.

٢٣٩

وقال آخرون (١) : إن قوما من الأنصار كانت ترضع لهم اليهود ، فلما جاء الإسلام أسلم الأنصار ، وبقى من عند اليهود من ولد الأنصار على دينهم ، فأرادوا أن يكرهوهم ، فنزلت الآية (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ).

قال الشيخ ـ رحمه‌الله تعالى ـ : ويحتمل (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ما قال فى قوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨].

وقوله تعالى : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ).

يعنى قد تبين الإسلام من الكفر بالله فلا تكرهون على ذلك.

وقوله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ).

اختلف فيه :

قيل (٢) : (بِالطَّاغُوتِ) ، الشياطين.

وقيل (٣) : كل ما يعبد من دون الله فهو طاغوت من الأصنام والأوثان التى تعبد من دون الله.

وقيل (٤) : (بِالطَّاغُوتِ) ، الكهنة الذين يدعون الناس إلى عبادة غير الله بكفر هؤلاء وتكذيبهم.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله تعالى ـ : ومن جملته : ومن يكفر بالذى يدعو إلى عبادة غير الله ، ويكذبه فى ذلك ، ويؤمن بالذى يدعو إلى عبادة الله ، ويصدقه ، أنه داع إلى حق.

وقوله تعالى : (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ).

فيه دلالة : أن الإيمان بالله هو إيمان بالأنبياء والرسل والكتب جميعا ، إذ لم يذكر معه غيره ، والكفر بالذى ذكرت يمنع حقيقة الإيمان بالله ؛ لأنه [فى آخر السورة ذكر (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥] ، على طريق التفضيل ـ](٥) من آمن بالله آمن به وبأمره ونهيه وشرائعه ـ لكن الذى قال : (لا نُفَرِّقُ

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٥٨٢١ ، ٥٨٢٢ ، ٥٨٢٣) ، وعن الحسن (٥٨٢٧) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٥٨٣).

(٢) قاله عمر بن الخطاب ، أخرجه ابن جرير عنه (٥٨٣٥ ، ٥٨٣٦) ، وعن مجاهد (٥٨٣٧) ، والشعبى (٥٨٣٨) ، وغيرهم ، وانظر الدر المنثور (١ / ٥٨٣).

(٣) قاله مالك بن أنس ، أخرجه ابن أبى حاتم عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٥٨٣).

(٤) قاله سعيد بن جبير ورفيع وابن جريج ، أخرجه ابن جرير عنهم (٥٨٤٤ ، ٥٨٤٥ ، ٥٨٤٦) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٥٨٣).

(٥) سقط فى أ ، ب.

٢٤٠