تأويلات أهل السنّة - ج ٢

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة - ج ٢

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٧٣

أخبر ـ عزوجل ـ بمعرفتهم أمر أهل الحرب ، وشدة رغبتهم في تعلمهم ما يحتاجون في الحرب والقتال ؛ ولهذا قالوا : إن الله ـ عزوجل ـ علم المؤمنين جميع ما يحتاجون في الحرب من الآداب وغيرها في الكتاب ؛ كقوله : (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) [الأنفال : ٤٥] : أمرهم بالتثبت ، ثم قال : (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) [الأنفال : ١٥] ، وقال : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا) [الأنفال : ٤٦] : فجعل التنازع الواقع بينهم ـ على خلاف بعضهم بعضا ـ سبب الهزيمة ؛ ففيه أمر بالاجتماع ، وجعل التدبير واحدا ، والطاعة لإمامهم.

وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) :

وإنما كان عبرة ؛ لما ذكرنا من خروج المؤمنين بقلة عددهم ، وضعف أبدانهم ، بلا استعداد للحرب والقتال ، إنما هو خروج شبه العير ، وخروج أولئك بالعدة مع قوة أبدانهم ، وكثرة عددهم ، وطمع المدد لهم ، ولم يكن للمسلمين ذلك ؛ ففي مثل غلبة المؤمنين الكافرين ، والظفر بهم ، والنصر لهم عليهم ، على الوصف الذي وصفناهم ـ عبرة ، وآية لأولى الأبصار والعبر.

قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) (١٧)

وقوله : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ)

أي : الشهيات.

(مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ)

وما ذكر ... إلى آخره.

قال الحسن : والله ما زيّنها إلا الشيطان ؛ إذ لا أحد أذم لها ولأهلها من الله تعالى (١) ، وإليه يذهب المعتزلة ، لكن الأصل في هذا وفي أمثاله : أن الله ـ عزوجل ـ زيّن هذه الأشياء ، والتزيين من الله [ـ سبحانه](٢) وتعالى ـ يقع لوجهين ، وكذلك الكراهة ـ

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ١٠٤) رقم (١٧٨) عنه قال : زين لهم الشيطان. وأخرجه الطبري (٦ / ٢٤٣) رقم (٦٦٩٤) ، وابن أبي حاتم (٢ / ١٧٧) ، رقم (١٧٧) عنه قال : من زينها؟ ما أحد أشد لها ذما من خالقها.

(٢) سقط من ب.

٣٢١

أيضا ـ تقع لوجهين :

تزين في الطباع ، والطبع يرغب فيما يتلذذ ويشتهي ، وإن لم يكن في نفسه حسنا.

وتزين في العقل ، فلا يتزين في العقل إلا فيما ثبت حسنه بنفسه ، أو الأمر أو حمد العاقبة ونحو ذلك ، ثم جعل العقل مانعا له ، رادّا عما يرغب إليه الطبع ويميل ؛ لأن الطبع أبدا يميل [ويرغب](١) إلى ما هو ألذّ وأشهى وأخف عليه ، وينفر عما يضره ويؤلمه. والعقل لا ينفر إلا عما هو القبيح في نفسه ، ويرغب فيما هو الحسن في نفسه ؛ وعلى ذلك يخرج قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حفّت الجنّة بالمكاره ، والنّار بالشّهوات» (٢) : ليس على كراهة العقل ، ولا على شهوة العقل ؛ ولكن على كراهة الطبع وشهوته ؛ وكذلك قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢١٦] : ليس على كراهة الاختيار ، ولكن كراهة الطبع ؛ لأن كراهة العقل كراهة الاختيار ، وكذلك رغبة العقول رغبة الاختيار ، وفيها تجري الكلفة (٣) ـ أعني : على اختيار العقل ، لا اختيار الطبع ـ بما يميل ويرغب في الألذّ ، وينفر عن الضارّ ؛ دليله قوله : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء : ٦٥] أخبر أنهم لا يؤمنون ما وجدوا في قضائه حرجا ؛ فدلت الآية أن الخطاب والكلفة إنما يكون على اختيار العقل وكراهيته ، لا على اختيار الطبع ؛ لذلك قلنا : إنه يجوز التزيين في الطبع من الله تعالى ، وكذلك الكراهة في الطبع تكره (٤) من الله تعالى (٥).

فأمّا قولهم (٦) : إن الشيطان هو الذي زينها : فإن عنوا أنه يزينها لهم ، أي : يرغبهم

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) أخرجه أحمد (٣ / ٢٥٤) ، وعبد بن حميد (١١١٣) ، ومسلم في صحيحه (٤ / ٢١٧٤) : كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (١ ـ ٢٨٢٢) ، والترمذي (٤ / ٣١٩) أبواب صفة الجنة : باب ما جاء حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ، (٢٥٥٩) ، وابن حبان في صحيحه رقم (٧١٦ ـ الإحسان) من طريق حماد بن سلمة عن ثابت وحميد عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حفّت الجنة بالمكاره ، وحفّت النار بالشهوات».

وأخرجه أحمد (٢ / ٢٦٠) ، والبخاري في صحيحه (١٣ / ١١٦) : كتاب الرقاق : باب حجبت النار بالشهوات ، (٦٤٨٧) ، ومسلم في الموضع السابق ، وابن حبان (٧١٩) من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به مرفوعا. وعند البخاري «حجبت» مكان «حفت».

(٣) أي : التكاليف ، وهي : إلزام ما فيه كلفة أو توجه الخطاب بالأمر والنهي على المخاطب. انظر : أصول الدين لعبد القاهر البغدادي (٢٠٧).

(٤) في ب : مكره.

(٥) في ب : عزوجل.

(٦) في ب : وقولهم.

٣٢٢

ويدعوهم إليها ، ويريهم زينتها ـ فنعم. وإن عنوا أنّه يزينها بحيث نفّسها لهم ـ فلا ؛ لأن الله ـ تعالى ـ وصف الشيطان بالضعف ، ونفي عنه هذه القدرة بقوله : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) [النساء : ٧٦] ، فلو جعلنا له التزيين لهم على ما قالوا ، لم يكن كيده على ما وصفه ـ عزوجل ـ بالضعف ؛ ولكن كان قويّا ، ولكنه يدعوهم إليها ، ويرغبهم فيها ، ويريهم المزين لهم ، ثم دعاؤه إيّاهم ، وحجّته في ذلك ، وقوته من حيث ما لا يطلع عليه بقوله : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) [الأعراف : ٢٧] ، فالعدو الّذى يرى هو من يعاديه ، ولا يرى هو ـ كان يجب أن يكون أحذر منه ، وأخوف ممن يرى.

ووجه آخر : أن الشهوات التي أضاف التزيين (١) إليها لا خلاف بينهم في أنها مخلوقة لله [تعالى](٢) ، فما بقى للشيطان إلا الدعاء إليها ، والترغيب فيها.

وفيه وجه آخر : أنه لو لم يجعل هذا مزينا من الله تعالى (٣) ، زال موضع استدلال الشاهد على الغائب ، وبالدنيا (٤) على الآخرة. وقد جعل ما في الدنيا نوعين : مستحسنا ومستقبحا.

وجعل ذلك عيارا لما أوعد ووعد ، فلما لم يكونا منه ـ لا يصح موضع التعيير ، لأنه ـ جلّ وعلا ـ بلطفه سخّر كلّ مرغوب في الدّنيا ، ومدعو إليه من جوهره ـ في الآخرة ، وحسنه ؛ ليرغب الناس هذا إلى ما في الجنة بحسنه ولطفه وزينته ، ويدعوهم إلى ترك ما في الدّنيا من الفاني إلى نعيم دائم أبدا ، فلو جعل هذا من تزيين (٥) الشيطان ـ لعنه الله ـ ومصنوعه لهم ، لذهب عظيم موضع الاستدلال الذي ذكرنا ؛ فدلّ أنه مزين منه عزوجل ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.

ثمّ امتحنهم [الله](٦) ـ عزوجل ـ بترك ما زين لهم في الطباع ؛ بما ركب لهم من العقول الوافرة ؛ ليختاروا ما حسن في العقول وتزين ، وعلى ذلك جرت الكلفة والخطاب ، لا بما مالت إليه الطباع ، ونفرت عنه العقول ، وبالله التوفيق.

ثم في الآية دلالة وجوب الحق (٧) في كل ما ذكر في الآية من المال ، وكذلك الخيل ،

__________________

(١) في ب : التزين.

(٢) سقط من ب.

(٣) في ب : عزوجل.

(٤) في ب : الدنيا.

(٥) في ب : تزين.

(٦) سقط من ب.

(٧) الحق : هو الزكاة. روت فاطمة بنت قيس أنها قالت : «سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الزكاة ، فقال : إن في المال لحقّا سوى الزكاة». ـ

٣٢٣

وأمّا في النساء والبنين : فلما متّعوا بهم ـ أوجب عليهم النفقة (١) كذلك. وقوله ـ عزوجل ـ (وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) : أوجب في النساء عليهم النفقة ، وكذلك البنين ، وأوجب في الذهب والفضّة حقا (٢) ، ثم ذكر الخيل

__________________

 ـ أخرجه الترمذي (٣ / ٤٨) كتاب الزكاة ، باب ما جاء أن في المال حقّا سوى الزكاة ، رقم (٦٥٩) وابن ماجه (١ / ٥٧٠) كتاب الزكاة : باب ما أدى زكاته ليس بكنز ، حديث (١٧٨٩).

قال أبو عيسى : هذا حديث إسناده ليس بالقوى ، وأبو حمزة ميمون الأعور ضعيف ، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله : «إن في هذا المال حقّا سوى الزكاة» ، وهذا أصح.

(١) النفقة : قال الجوهري في الصحاح : «نفق البيع نفاقا ، بالفتح أي : راج ، والنّفاق بالكسر : فعل المنافق. والنّفاق أيضا. جمع النفقة من الدراهم» ـ ثم قال : «وقد أنفقت الدراهم من النفقة». ا ه.

وقال صاحب القاموس : «النّفقة ، ما تنفقه من الدراهم ونحوها» ، ثم قال : «وأنفق : افتقر ، وأنفق ماله : أنفده ، كاستنفقه». ا ه.

وقال ابن منظور في لسان العرب : «أنفق المال : صرفه ، وفي التنزيل : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ)[يس : ٤٧] أي : أنفقوا في سبيل الله وأطعموا ، وتصدقوا. واستنفقه : أذهبه. والنّفقة : ما أنفق والجمع ، نفاق» ـ ثم قال : «وقد أنفقت الدراهم ، من النّفقة» ، والنّفقة : ما أنفقت ، واستنفقت على العيال ، وعلى نفسك». ا ه.

ويستفاد من هذه النصوص ، أن النفقة اسم لما تصرفه من الدراهم أو نحوها على نفسك أو غيرك ، واصطلاحا : عند الحنفية : في «تنوير الأبصار مع شرح الدر المختار» : هي الطعام والكسوة والسكنى ، وعرفا : هي الطعام.

وعند المالكية : في «شرح الخرشي على مختصر خليل» : النفقة مطلقا ما به قوام معتاد حال الآدمي دون سرف.

وعند الشافعية : قال الشرقاوي في حاشيته على «شرح التحرير» : النفقة : طعام مقدر لزوجة وخادمها على زوج ، ولغيرهما من أصل وفرع ، ورقيق ، وحيوان ما يكفيه.

وعند الحنابلة : في «الإقناع والمنتهى» : هي كفاية من يمونه ، خبزا ، وأدما وكسوة ، ومسكنا ، وتوابعها.

ينظر : الصحاح (٤ / ٥٦٠) (نفق) ، والمغرب (٢ / ٣١٩) ، وترتيب القاموس المحيط (٣ / ٢٩٦) (نفق) ، وأنيس الفقهاء للقونوي ص ١٦٨ ، ودرر الحكام لملا خسرو (١ / ٤١٢).

(٢) أجمع الفقهاء على وجوب الزكاة في الذهب والفضة لقوله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ ...) [التوبة : ٣٤ ، ٣٥] مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقا إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم ، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره ...» الحديث ، أخرجه مسلم (٢ / ٦٨٠) : كتاب الزكاة : باب إثم مانع الزكاة ، رقم (٩٨٧).

ونصاب الذهب عند الجمهور : عشرون مثقالا ، والمثقال يساوى ٢٥ / ٤ جراما ، وفيه ربع العشر.

ونصاب الفضة مائتي درهم بالإجماع والدرهم ثلاثة جرامات تقريبا وفيه ربع العشر.

ينظر : فتح القدير للكمال بن الهمام (١ / ٥٢٤) ، المبسوط للسرخسي (٢ / ١٩٠) ، حاشية ـ

٣٢٤

المسوّمة (١) : إن كان المراد منه جعلها سائمة ؛ لذلك قال أبو حنيفة (٢) [رضي الله عنه](٣) : إنّ فى الخيل صدقة (٤) ، ثم اختلف في المسوّمة ؛ قال بعضهم : هي المسيّبة الراعية (٥).

__________________

 ـ الدسوقي مع الشرح الكبير (١ / ٤٥٥) ، شرح المهذب للنووي (٥ / ٤٩٠) ، المغني لابن قدامة (٢ / ٣١٩) ، المحلى لابن حزم (٤ / ١٨٤).

(١) السوم هو إرسال الماشية في الأرض ترعى فيها ، يقال : سامت الماشية وأسامها مالكها ، وسامت تسوم سوما : إذا رعت فهي سائمة.

ينظر : النظم المستعذب لابن بطال (١ / ١٤١).

(٢) هو النعمان بن ثابت الفقيه الإمام بالعراق والكوفة وإمام المذهب الحنفي الأول ، أعلم أهل زمانه ، قال ابن المبارك : ما رأيت في الفقه مثل أبي حنيفة. مات سنة ١٥٠ ه‍.

تنظر ترجمته في : تهذيب الكمال للمزي (٧ / ٣٣٩) ، تقريب التهذيب لابن حجرت (٧٢٠٣) ، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال للخزرجي (٣ / ٩٥) ، سير أعلام النبلاء للذهبي (٦ / ٣٩٠) رقم (١٦٣).

(٣) سقط من ب.

(٤) اختلف الفقهاء في زكاة الخيل على رأيين :

الأول : الخيل التي ليست للتجارة لا زكاة فيها ولو كانت سائمة واتخذت للنماء وسواء كانت عاملة أو غير عاملة ، وهذا رأي جمهور الفقهاء مالك والشافعى وأحمد ومحمد وأبي يوسف صاحبي أبي حنيفة ، ويروى عن عمر وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز. ومما استدل به الجمهور قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس على المسلم في فرسه وغلامه صدقة» الحديث أخرجه البخاري (٣ / ٣٨٣) كتاب الزكاة : باب ليس على المسلم في عبده صدقة ، ومسلم (٢ / ٦٧٥) كتاب الزكاة : باب لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه رقم (٩٨٢).

الثاني : الخيل إذا كانت سائمة ذكورا وإناثا فيها الزكاة ، وذهب إلى هذا الرأي أبو حنيفة وزفر وليس في ذكورها ولا إناثها منفردة زكاة ؛ لأنها لا تتناسل ، وفي رواية أثبت الزكاة في الإناث المنفردات إذ إنها تتناسل بالفحل المستعار ، ورواية أخرى أنها تجب في الذكور المنفردات.

واستدل أصحاب هذا الرأي بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هي لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر فأما الذي هي له أجر ، فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها مرج أو روضة ، فما أصابت في طيلها ذلك من المرج والروضة كانت له حسنات ، فلو أنها قطعت طيلها ذلك ، فاستنت شرفا أو شرفين ، كانت آثارها وأرواثها حسنات له ، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ، ولم يرد أن يسقي به كان ذلك له حسنات ، فهي لذلك أجر ، ورجل ربطها تغنيا وتعففا ، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها ، فهي لذلك ستر ، ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام ، فهي على ذلك وزر».

أخرجه البخاري (٦ / ٧٥) كتاب الجهاد ، باب الخيل ثلاثة ... ، رقم (٢٨٦٠) ، ومسلم (٢ / ٦٨٠) كتاب الزكاة ، باب إثم مانع الزكاة ، رقم (٩٨٧) ، من حديث أبي هريرة.

وانظر تفصيل هذه المسألة في : تبيين الحقائق للزيلعي (١ / ٢٦٥) ، مجمع الأنهر لشيخى زاده (١ / ٢٠٠) ، المنتقى شرح الموطأ للزرقاني (٢ / ١٨٥) ، شرح المهذب (٥ / ٣١١) ، المحلى لابن حزم (٤ / ٣٤) ، قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام (٢ / ١٧١).

(٥) قاله سعيد بن جبير ، أخرجه عنه الطبري (٦ / ٢٥١ ـ ٢٥٢) رقم (٦٧٢٩) ، وابن أبي حاتم (٢ / ١٢٣) ، رقم (٢٠٣).

وقال بذلك أيضا مجاهد ، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى ، والحسن ، والربيع عند الطبري. ـ

٣٢٥

وقال آخرون : هي المعلمة (١) ، وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : «المسوّمة الرّاعية» (٢).

وقال غيرهم : المطهّمة (٣) ، وهي المحسّنة (٤).

ثم أخبر أن ما ذكر في الآية (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) ، وأمرهم بترك ذلك ، وأخبر أن لهم عنده : (حُسْنُ الْمَآبِ) إن هم تركوا مما امتحنوا [به] ، ثم قال : إن من اتقى في الدنيا [له خير](٥) من ذلك بقوله :

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ..). إلى آخره.

ثم اختلف في (وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ) منهم من قال (٦) : ألف ومائتا أوقية (٧).

__________________

 ـ قال الواحدي في الوسيط (١ / ٤١٩) : يقال : أسمت الماشية وسومتها : إذا رعيتها ، فهي مسامة ومسوّمة. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (فِيهِ تُسِيمُونَ)[النحل : ١٠].

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه عنه ابن جرير الطبري (٦ / ٢٥٤) رقم (٦٧٤٦) ، وكذلك قاله قتادة أخرجه عنه الطبري (٦٧٤٧ ، ٦٧٤٨) ، وابن أبي حاتم (٢ / ١٢٦) رقم (٢١١) ، وقال الواحدي في الوسيط (١ / ٤١٩) : من السيما التي هي العلامة.

(٢) أخرجه الطبري (٦ / ٢٥٢) ، رقم (٦٧٣٤) وابن المنذر كما في الدر المنثور (١ / ١٩).

(٣) المطهم : الجميل التام الخلق من الناس والأفراس.

ينظر : معجم مقاييس اللغة لابن فارس ص (٦٢٦) (طهم).

(٤) قاله ابن عباس ، أخرجه عنه ابن أبي حاتم (٢ / ١٢٢) ، رقم (٢٠٢). وقاله أيضا مجاهد وعكرمة.

ينظر : تفسير الطبري (٦ / ٢٥٣).

(٥) في ب : خير له.

(٦) ورد في ذلك حديث مرفوع أخرجه الطبري (٦ / ٢٤٥) رقم (٦٧٠٢) عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية». وهذا حديث منكر. والأقرب أن يكون موقوفا على أبي بن كعب.

قلت : وقد ورد عن جماعة من الصحابة موقوفا منهم :

معاذ بن جبل : أخرجه عنه الطبري (٦ / ٢٤٤) ، رقم (٦٦٩٦) ، والبيهقي في السنن (٧ / ٢٣٣) ، وابن أبي حاتم (٢ / ١٠٨) ، رقم (١٨٢) ، وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (٢ / ١٨).

وأبو هريرة : أخرجه الطبري (٦ / ٢٤٤) (٦٧٠٠) ، والبيهقي (٧ / ٢٣٣) ، وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (٢ / ١٨). ومنهم كذلك ابن عمر : أخرجه الطبري (٦ / ٢٤٣) (٦٦٩٨).

(٧) الأوقية ـ بضم الهمزة وتشديد الياء ـ عند العرب : أربعون درهما ، وقال ابن منظور : الأوقية زنة سبعة مثاقيل. وكانت الأوقية قديما أربعين درهما ، وهي في غير الحديث نصف سدس الرطل ، وهو جزء من اثنى عشر جزءا ، وهي تختلف تبعا لم يصطلح عليه أهل كل بلد ، لذلك فقد اختلف تقديرها باختلاف العصور ، فقدرها الخوارزمي بزنة عشرة دراهم وخمسة أسباع درهم ، وفي الدهن بعشرة دراهم ، وقدرها الجوهري بسبعة مثاقيل أو زنة أربعين درهما.

وفي الاصطلاح : هي من أكثر الموازين التي كانت سائدة في الجزيرة العربية شهرة.

ينظر : لسان العرب (٦ / ٤٩٠٣) (وقى) ، المعجم الكبير (١ / ٦١٥) (وقى) ، الأكيال والموازين للمقريزي (ص : ٢٢ ، ٢٣).

٣٢٦

ومنهم من قال (١) : اثنا عشر ألفا (٢).

ومنهم من يقول (٣) : سبعون ألف دينار (٤).

ومنهم من يقول : هو بلسان الروميّة : ملء مسك ثور ذهبا أو فضة (٥).

ومنهم من يقول : كل مائة قنطار من كل شيء ، وهو اسم المال العظيم الكثير لا يدرى ما مقداره (٦) ، وليس لنا إلى معرفة قدره حاجة ولا فائدة ؛ إنما الحاجة إلى معرفة الرغبة فيما كثر من المال ؛ إذ ليس قدر أحق بأن يحمل عليه الرغبة من الآخر ، والله أعلم.

وقوله : (خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ).

قيل : مطهرة : من الآفات كلها (٧) ، من الأخلاق السيئة ، والأقذار والعيوب كلها ، وقد

__________________

(١) في ب : يقول.

(٢) ورد في ذلك حديث مرفوع ، عن أبي هريرة. أخرجه أحمد (٢ / ٣٦٣ ، ٥٠٩) ، وابن ماجه (٥ / ٢٥٠) كتاب الأدب : باب بر الوالدين ، (٣٦٥٩) من طريق حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «القنطار اثنا عشر ألف أوقية ...» الحديث.

وأخرجه البيهقي (٧ / ٢٣٣) من طريق حماد بن زيد عن عاصم ، به ، وأخرجه الطبري (٦ / ٢٤٦) ، رقم (٦٧٠٦) ، والبيهقي (٧ / ٢٣٣) عن ابن عباس قال : القنطار اثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار.

(٣) قاله عبد الله بن عمر بن الخطاب ، أخرجه عنه الطبري (٦ / ٢٤٨) ، رقم (٦٧٢١) ، وابن أبي حاتم (٢ / ١١٧) ، رقم (١٩٤).

وقاله مجاهد ، أخرجه عنه أيضا الطبري (٦ / ٢٤٨) (٦٧١٩ ، ٦٧٢٠) ، وابن أبي حاتم (٢ / ١١٨) (١٩٥).

(٤) الدينار لغة : أصله دنّار بالتضعيف فأبدل حرف علة للتخفيف ، ويستخدم للتعامل كعملة.

واصطلاحا : هو اسم لوحدة ذهبية من وحدات النقد التي كان العرب يتعاملون بها ، مضروبة كانت أم غير مضروبة.

ينظر : المصباح المنير (١ / ٢٠٠) (دنر) ، المقادير الشرعية والأحكام الفقهية المتعلقة بها ، للدكتور محمد نجم الكردي ص (٤٦).

(٥) قاله أبو سعيد الخدري أخرجه عنه ابن أبي حاتم (٢ / ١١٥) ، رقم (١٩٠) ، والدارمي (٢ / ٤٦٦) ، والبيهقي (٧ / ٢٣٣) ولفظه : ملء مسك الثور ذهبا.

ومسك الثور [بفتح الميم وسكون السين] : جلد الثور ، كما في النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (مسك).

(٦) قاله الربيع بن أنس أخرجه عنه الطبري (٦ / ٦٧٢٤) ، ثم قال الطبري : وقد ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب : أن العرب لا تحد القنطار بمقدار معلوم من الوزن. ولكنها تقول : «هو قدر وزن» وقد ينبغي أن يكون ذلك كذلك ؛ لأن ذلك لو كان محدودا قدره عندها ، لم يكن بين متقدمي أهل التأويل فيه كل هذا الاختلاف .. فالصواب أن يقال : هو المال الكثير. ا ه.

(٧) وأخرج الحاكم وابن مردويه ، وصححه ، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) [البقرة : ٢٥] قال : «من الحيض والغائط والنخامة والبزاق»

ينظر : الدر المنثور (١ / ٨٣).

٣٢٧

ذكرنا فيما تقدم في صدر السورة ؛ قال : وكل أهل الجنة مطهر من جميع المعايب ؛ لأن العيوب في الأشياء علم الفناء ، وهم خلقوا للبقاء ، إلا أن الذّكر جرى للنساء ؛ لما ظهر في الدنيا [فيهن] من فضل المعايب والأذى.

وقوله : (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا ..)] الآية.

قد رضي [منهم](١) بهذا القول ، وفيه تزكية لهم ، ولو كان الإيمان : جميع الطاعات ـ لم يرض منهم [التزكية بها ، وقد أخبر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن للذين اتقوا عند ربهم في الجنة خيرا من هذا الذي زيّن](٢) للناس في الدنيا من النساء ، وما ذكر إلى آخره.

وقوله : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) : يحتمل : اتقوا الشرك. ويحتمل : للذين اتقوا الفواحش والمعاصى كلها.

وقوله : (الصَّابِرِينَ). قيل : الصّابرين على طاعة الله (٣).

وقيل : [الصابرين](٤) على أداء الفرائض (٥).

وقيل : الصّابرين على المرازئ (٦) والمصائب والشدائد (٧).

والصبر : هو حبس النفس عن جميع ما تهوى وتشتهي.

وقوله : (وَالصَّادِقِينَ). قيل : في إيمانهم (٨).

وقيل : الصّادقين بما وعدوا.

وقيل : الصادقين في جميع ما يقولون ويخبرون (٩).

(وَالْمُنْفِقِينَ). يحتمل الإنفاق : ما لزم من أموالهم من الزكاة والصدقات (١٠).

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٣) قاله قتادة أخرجه عنه الطبري (٦ / ٢٦٤) رقم (٦٧٥٢) ، وابن أبي حاتم (٢ / ١٣٩) ، رقم (٢٣١) ، وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (٢ / ٢٠).

(٤) سقط من ب.

(٥) ينظر : تفسير الرازي (٧ / ١٧٥).

(٦) الرزايا : أي المصائب ، يقال : رزأه رزءا ومرزئة : أصابه برزء ، ويقال : رزأته رزيئة : أصابته مصيبة ، ورزأه ماله : أصاب منه شيئا فنقصه.

ينظر : المعجم الوسيط (١ / ٣٤١) (رزأ).

(٧) ينظر : تفسير الرازي (٧ / ١٧٥).

(٨) قاله سعيد بن جبير أخرجه عنه ابن أبي حاتم (٢ / ١٤٠) ، رقم (٢٣٢).

(٩) قال نحوه قتادة أخرجه عنه ابن أبي حاتم (٢ / ١٤٠) ، رقم (٢٣٣).

(١٠) قال القاسمي : والمنفقون أموالهم في سبيل الله ـ تعالى ـ من الأرحام والقرابات ، وسد الخلات ، ومواساة ذوي الحاجات.

ينظر : محاسن التأويل (٤ / ٦٤).

٣٢٨

ويحتمل : المنفقين المؤدين حقوق بعضهم بعضا من حق القرابة والصلة.

(وَالْقانِتِينَ). قيل : القانت : الخاضع (١).

وقيل : القانت : المطيع (٢).

وقيل : الخاشع (٣) ، وكله يرجع إلى واحد ، وأصله : القيام ، وكل من قام لآخر كان مطيعا وخاشعا وخاضعا ومقرا.

وقيل : القانت : المقرّ (٤) كقوله : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) [البقرة : ١١٦] ، أي : مقرون.

وقال قتادة (٥) : (الصَّابِرِينَ) : الذين صبروا على طاعة الله ، وصبروا عن محارمه. (وَالصَّادِقِينَ) : الذين صدقت نياتهم ، واستقامت قلوبهم وألسنتهم ، وصدقوا في السّر والعلانية (وَالْقانِتِينَ) : المطيعين. (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ ، وَالْمُنْفِقِينَ) : يعني : نفقة أموالهم في سبيل الله (٦)

(وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) : قيل : المصلين بالأسحار (٧).

وقيل : المصلين في أوّل الليل ، والمستغفرين في آخره (٨).

وأصل الاستغفار : طلب المغفرة مما ارتكب من المآثم ، على ندامة القلب ، والعزيمة على ترك العود إلى مثله أبدا ، ليس كقول الناس : نستغفر الله ، على غير ندامة القلب ، وأصل الاستغفار في الحقيقة : طلب المغفرة بأسبابها ، ليس أن يقول بلسانه : اغفر لي ؛ كقول نوح [عليه‌السلام](٩) : لقومه : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) [نوح : ١٠] أمرهم بالتوحيد ، ثم أخبر ـ عزوجل ـ أن الجنة هي للصابرين والصادقين إلى آخر ما ذكرنا ، والله أعلم.

__________________

(١) راجع الدر المنثور للسيوطي (١ / ٥٤٤).

(٢) قاله سعيد بن جبير ، أخرجه عنه ابن أبي حاتم (٢ / ١٤٣) ، رقم (٢٣٦) ، وقاله أيضا قتادة ، أخرجه عنه الطبري (٦ / ٢٦٤) ، رقم (٦٧٥٢).

(٣) الدر المنثور (١ / ٥٤٤) ، (٢ / ٢٠).

(٤) قاله ابن عباس ، أخرجه الطستى في مسائله عنه. كما في الدر المنثور (١ / ٢٠٨).

(٥) هو قتادة بن دعامة السدوسي ، أبو الخطاب البصري ، أحد الأئمة الأعلام ، روى عن أنس وسعيد بن المسيب ، ومحمد بن سيرين ، وغيرهم ، وروى عنه أيوب وحميد وحسين المعلم ، قيل : قتادة أحفظ الناس. توفي سنة ١١٧ ه‍.

راجع ترجمته في : تقريب التهذيب (ترجمة : ٥٥٥٣) ، تهذيب الكمال (٦ / ٩٩) ، خلاصة الخزرجي (٢ / ٣٥٠) ، سير أعلام النبلاء (٥ / ٢٦٩) رقم (١٣٢).

(٦) أخرجه الطبري (٦ / ٢٦٤ ، ٢٦٥) ، رقم (٦٧٥٢) ، وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (٢ / ٢٠).

(٧) قاله قتادة أخرجه عنه الطبري (٦ / ٢٦٥) ، رقم (٦٧٥٤).

(٨) قال نحوه جعفر بن محمد أخرجه عنه الطبري (٦ / ٢٦٦) ، رقم (٦٧٥٨).

(٩) سقط من ب.

٣٢٩

قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ)(٢٠)

وقوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)

قيل فيه بوجوه (١) :

قيل : شهد الله شهادة ذاتية ، أي : هو بذاته ، (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ؛ إذ في ذاته ما تليق الشهادة بمثله له من الألوهية والربوبية ، وليس ذلك في ذات غيره ، وبالله العصمة.

وقيل : شهد الله بما خلق من الخلائق أنه لا إله إلا هو ، أي : خلق من الخلائق ما يشهد خلقه كل أحد على وحدانيته وإلهيته ، لو نظروا في خلقتهم وتدبروا فيها ؛ وكذلك الملائكة ، وأولو العلم شهدوا أنه لا إله إلا هو ، على تأويل الأول. وعلى تأويل الثاني : أن خلقه الملائكة ـ وأولي العلم ـ يشهد على وحدانيته ؛ فشهدوا على ذلك ، إلا الجهّال ؛ فإنهم لم يتأمّلوا في أنفسهم ، ولا تفكروا في أنفسهم ؛ فلم يشهدوا به ؛ لأنه أمر الرسل والأنبياء بأن يقولوا : لا إله إلا الله ، فقوله وأمره به ـ شهادة منه ، ويحتمل شهادة القول ؛ كقوله : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) [الأحزاب : ٥٦] ، وذلك من الله : الربوبية ، ومن الخلق : العبودية له ؛ فيجب أن تعرف الربوبية من العبودية ؛ ففيه دلالة خلق الإيمان ؛ فمن قال : إنه غير مخلوق ـ لم يعرف ذا من ذاك (٢) ، وبالله التوفيق.

__________________

(١) تنظر تلك الوجوه في : تفسير مفاتيح الغيب للفخر الرازي (٧ / ١٧٧ ـ ١٧٨).

(٢) تعد مسألة خلق الإيمان من المسائل التي ثار الجدل حولها بين علماء الحنفية فانقسموا إلى فريقين :

الأول : ويمثله أهل سمرقند ، والثاني : أهل بخارى ، فالفريق الأول : يرون أن الإيمان مخلوق وقالوا ذلك نتيجة قول الماتريدية بأن الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وكل من التصديق والإقرار مخلوقة لله ـ تعالى ـ باتفاق بين الأشاعرة والماتريدية ، وإلى هذا مال الإمام أبو حنيفة ، وصرح بنسبة ذلك إليه الكمال بن الهمام في «المسايرة» ، وإلى هذا أيضا ذهب المصنف فقال في كتابه «التوحيد» : «ثم الإيمان حسن وخير وهدى وزين لصاحبه وكل ما ذلك وصفه فهو مخلوق» وقد رجح هذا الرأي العلامة البيجوري في «شرح الجوهرة».

والفريق الثاني : الذين يرون أن الإيمان غير مخلوق ؛ وذلك لأن الإيمان حاصل من الله ـ تعالى ـ للعبد بكلامه الذي ليس بمخلوق فقال ذلك فرارا من القول بخلق كلام الله تعالى ؛ لأنهم لما رأوا من أن القول بخلق الإيمان يلزم عليه القول بخلق كلام الله تعالى ، وإلى هذا ذهب أهل الحديث وعلى رأسهم الإمام أحمد والأشعري.

انظر تفصيل مذاهب هؤلاء في : شرح الفقه الأكبر لملا على القاري ص (٢١٥) ، والمسايرة لابن ـ

٣٣٠

وقيل : «شهد الله» أي : علم الله أنه لا إله إلا هو ، وكذلك علم الملائكة وأولو العلم أنه لا إله إلا هو ، فإن قال لنا ملحد (١) : كيف صح ، وهو دعوى؟!

قيل : لأن دعوى من ظهر صدقه في شهادته إذا شهد ، وهو مقبول ، وهو بما ادعى من الألوهية والربوبية ؛ إذا لم يستقله أحد ـ ظهر صدقه ، وقهر كل مكذب له في دعواه ، وبالله النجاة (٢).

وقوله : (قائِماً بِالْقِسْطِ) :

أي : حافظ ومتولّ ؛ كقوله : (قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣] ، أي : حافظ لها ومتولّ ؛ كما يقال : فلان قائم على أمر فلان ، أي : حافظ لأمره ، ومتعاهد لأسبابه.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : وقيل : هو عادل ، أي : لا يجوز ، لا أن ثم معنى القيام ؛ كقوله : (قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) [النساء : ١٣٥] : مقسطين ، لا أن ثم للقيام فيه معنى يسبق الوهم إليه ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ)

قال قائلون : إن الدّين الذي هو حق [من](٣) بين الأديان ، وهو الإسلام ؛ لأن كل أحد منهم ممن دان دينا يدعي أنّه هو دين الله الذي أمر به.

وقال قوم : إن الدّين الذي أمر به الآمر من عند الله هو دين الإسلام ؛ لأنهم كانوا مع اختلافهم مقرين (٤) بالإيمان ، لكن بعضهم لا يقرون بالإسلام ؛ فأخبر ـ [عزوجل](٥) ـ أن الدّين الذي أمر به وفيه التوحيد هو دين الإسلام ، لا غيره ؛ ألا ترى أنه قال : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً ..). [آل عمران : ٦٧] : أخبر [عز

__________________

 ـ الهمام ص (٥٠) ، التوحيد للماتريدي ص (٢٨٨) ، شرح الجوهرة للبيجوري ص (٤٦).

(١) ألحد فلان : مال عن الحق ، والإلحاد ضربان : إلحاد إلى الشرك بالله ، وإلحاد إلى الشرك بالأسباب ، فالأول : ينافي الإيمان ويبطله ، والثاني : يوهن عراه ولا يبطله.

ينظر : التوقيف على مهمات التعاريف ، للدكتور : محمد رضوان الداية ص (٦١٨).

(٢) قال العلامة القاسمي : قال العارف الشعراني في كتاب «الجواهر والدرر» : سألت أخي أفضل الدين : لم شهد الحق ـ تعالى ـ لنفسه بأنه لا إله إلا هو؟ فقال ـ رضي الله عنه ـ : لينبه عباده على غناه عن توحيدهم له ، وأنه هو الموحد نفسه بنفسه. فقلت له : فلم عطف الملائكة على نفسه دون غيرهم؟ فقال : لأن علمهم بالتوحيد لم يكن حاصلا من النظر في الأدلة كالبشر ، وإنما كان علمهم بذلك حاصلا من التجلي الإلهي. وذلك أقوى العلوم وأصدقها ؛ فلذلك قدموا في الذكر على أولي العلم ، وأيضا فإن الملائكة واسطة بين الحق وبين رسله ؛ فناسب ذكرهم في الوسط ، فاعلم ذلك.

ينظر : محاسن التأويل (٤ / ٦٧).

(٣) سقط من ب.

(٤) في ب : مقرون.

(٥) سقط من ب.

٣٣١

وجل](١) أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ليس على دين سوى دين الإسلام ، والإسلام هو الإخلاص ، على ما ذكرنا فيما تقدم (٢) ، وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : «شهد الله أنّه لا إله إلّا هو ، والملائكة شهدوا وأولو العلم : أنّ الدّين عند الله الإسلام ، وأنّه قائم بالقسط ، والقسط : هو العدل فى جميع القرآن» (٣).

وقوله : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) :

يحتمل وجهين.

يحتمل الاختلاف : التفرق ، أي : تفرقوا في الكفر ؛ كقوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) الآية [آل عمران : ١٠٥]. ويحتمل : الاختلاف : نفس الاختلاف في الدين ؛ كقوله : (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) [البقرة : ٢٥٣] : أخبر أنهم لم يختلفوا عن جهل ؛ ولكن عن علم وبيان ؛ كقوله : (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ).

ثم يحتمل قوله : (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) وجهين : أي : لم يختلفوا إلا من بعد ما علموا وعرفوا.

ويحتمل : أي : لم يختلفوا إلا من بعد ما أوتوا أسباب : ما لو تفكروا وتدبّروا ـ لوقع العلم لهم بذلك والبيان ، لكنهم تعنتوا (٤) وكابروا ؛ فاختلفوا.

ثم في الآية دليل ألا يجوز أن يفسّر قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢] ، وقوله : (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) [البقرة : ٢١٠] ونحوه : بالانتقال من حال إلى حال ، أو من مكان إلى مكان ؛ لأنه ذكر مجىء العلم ، والعلم لا يوصف بالمجيء ولا ذهاب ، وكذلك قوله : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) [الإسراء : ٨١] : ذكر مجىء الحق وزهق الباطل ؛ فهما لا يوصفان بمجيء الأجسام ، وذهابهم بالانتقال والتحول من مكان إلى مكان ، ولا يعرف ذلك ولا يصرف إليه ؛ فعلى ذلك لا جائز أن يصرف قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢] ، (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [يونس : ٣] ، ونحوه ـ إلى المعروف من استواء الخلق ومجيئهم ؛ لتعاليه عن ذلك (٥) ، قال : والمجىء لا يكون عن الانتقال خاصة ؛ بل يكون مرة ذاك وأخرى غيره ،

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) تقدم في سورة البقرة ، الآيات (١٣١ ـ ١٣٣).

(٣) سيأتى تخريجه بعد قليل ، وهذه قراءة ابن عباس فيما حكي الكسائي كما في تفسير القرطبي (٤ / ٢٨).

(٤) العنت : المكابرة عنادا ، واللجاج في العناد ، يقال : جاء فلان متعنّتا ، أي : طالبا زلته. والعنت في كلام العرب : الجور والإثم والأذى.

ينظر : تاج العروس (٥ / ١٤ ، ١٥) (عنت).

(٥) قال الإمام ابن كثير في تفسيره (٢ / ٢٢٦): «للناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدّا ، ليس هذا ـ

٣٣٢

وكذلك الإتيان ، والله أعلم.

وقوله : (بَغْياً بَيْنَهُمْ)

قيل : حسدا بينهم (١) ؛ لأنهم طمعوا أن يبعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بنى إسرائيل ، على ما بعث سائر الرسل بعد إسرائيل منهم ، فلما بعث من غير بنى إسرائيل حسدوه ، وخالفوا دينه الإسلام ، ويحتمل «بغيا» : من البغى ، وهو الجور.

وقوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ)

أي : من المختلفين

(فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) : كأنه على الإضمار ـ أن قل يا محمد : ومن يكفر بآيات الله من بعد ما جاءهم العلم والبيان ، فإن الله سريع الحساب.

وله ثلاثة أوجه ؛ لأن ظاهر الجواب على غير إضمار أن يكون : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ، أي : العذاب ـ والله أعلم ـ سمى به ؛ لأن بعد الحساب عذاب ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من نوقش الحساب عذّب» (٢) ، فجعل الحساب عذابا.

ثم أخبر ـ [عزوجل] ـ (٣) أنه سريع الحساب ، لا كحساب الذي يكون بين الخلق ؛ لأن الخلق تشغلهم أسباب ، وتمنعهم أشياء يحتاجون إلى التفكر والتدبّر ، والله يتعالى عن أن يشغله شيء أو يمنعه معنى ، جلّ الله عن ذلك.

__________________

 ـ موضع بسطها ، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه ، وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا ، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله ، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه ، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير بل الأمر كما قال الأئمة ، منهم : نعيم بن حماد الخزاعي : شيخ البخاري ، قال : من شبه الله بخلقه كفر ، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر ، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه ، فمن أثبت لله ـ تعالى ـ ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله فقد سلك سبل الهدى».

(١) ينظر : تفسير الرازي (٧ / ١٨٢).

(٢) أخرجه أحمد (٦ / ٤٧ ، ١٠٨ ، ١٢٧) ، والبخاري (١ / ٢٦٦) : كتاب العلم : باب من سمع شيئا فراجع حتى يعرفه (١٠٣) ، ومسلم (٤ / ٢٢٠٤) : كتاب الجنة : باب إثبات الحساب ، (٧٩ ـ ٢٨٧٦) ، وأبو داود (٢ / ٢٠١) : كتاب الجنائز : باب عيادة النساء ، (٣٠٩٣) ، والترمذي (٤ / ٢٢٣) : أبواب صفة القيامة ، (٢٤٢٦) من طريق عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة : قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حوسب يوم القيامة عذب» فقلت : أليس قد قال الله ـ عزوجل ـ : (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) [الانشقاق : ٨]. فقال : «ليس ذاك الحساب. إنما ذاك العرض ، من نوقش الحساب يوم القيامة عذّب».

(٣) سقط من ب.

٣٣٣

وقيل : على التقريب حسابه سريع ؛ كأن قد جاء لقربه (١) ، والله أعلم.

قوله (٢) : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : هو شهادة ربوبية ، لا يتوهم له كيفية ، ولا يخطر بالبال له المائية ، ولا يحتمل الوصول إلى حقيقة ذلك بالتفكر ، ولا أن يحتمل بلوغ العقل الوقوف على ذلك ؛ إذ هو خلق قصر عن الإحاطة بمائية نفسه ، وعن إدراك وجه قيامه بالذي ركب أو تجديد من حيث نفسه ، وهو تحت جميع ما ذكرت ؛ إذ هو خلق وحدث جرى عليه التدبير ، ودخل تحت التقدير ؛ فالربوبية أحق أن ينحسر عنها الأوهام ، وتكلّ عن توهم إدراكها الأفهام ؛ وعلى ذلك أمر تكوين الله الأشياء ، على ما شهدت الأشياء ، التي هي تحت التكوين في العبارة ، لا على توهم في التكوين معنى تحتمله الأفهام ، أو تبلغه العقول ؛ وإنما هو عبارة بها جعل لا يقف على العبارات عن المتعالي عن صفات الخلق ، المحقق له الجلال عن جهاتهم إلا من حيث المفهوم في الخلق ؛ للتقريب إلى الأفهام دون تحقيق المفهوم ، مما عن العبارة عنه ـ قدرت العبارات في الإخبار عن الله تعالى (٣) ، عن ذلك وعلى هذا القول الله والرحمن وجميع ما يتعارف الخلق من الأسماء على ما يقرب من الأفهام ـ المراد بها لا تحقيق الحروف ، أو إدخال تحت تركيب الكلام وتأليف العبارة ، وهذا معنى معرفة وحدانيته من جهة ضرورات توجب المعرفة ، على الوصف بالسبحانية له عن معاني جميع المعروفين ، وبالله العصمة والمعونة.

ثم قد يحتمل أن يؤذن في العبارة عن ذلك بما هو ألطف وأدفع للتوهم : توهم ما لعل للقلب عند ذكر الشهادة فضل حيرة ، ليس عند تلك العبارة ، وذلك يخرج على وجوه في الاحتمال ؛ لما يسعه عقولنا دون القطع على شيء مما وقع عندنا يمكن الرجوع إليه ، والله ـ [سبحانه] ـ (٤) أعلم من ذلك بشهادة الخلائق كلهم : ما فيها من آثار الصنعة ، ودلالة الربوبية ، وشهادة الألوهية ؛ لتكون شهادة بالذي ذكر : [بأن](٥) لا إله إلا هو ؛ إذ في كل شيء سواه هذه الشهادة بالصفة التي جعلها هو فيه له ، والله أعلم.

والثاني : أن يكون بذاته متعاليا عن جميع معاني من سواه من المعاني ، التي أدخلتها

__________________

(١) قال نحوه ابن الأنباري. ينظر : الزاهر (١ / ٩٧ ـ ٩٨) ، والبحر لأبي حيان (٢ / ١٠٦) ، والوسيط للواحدي (١ / ٣٠٨).

(٢) زاد في ب : عزوجل.

(٣) في ب : سبحانه.

(٤) سقط من ب.

(٥) سقط من ب.

٣٣٤

اسم مربوب ، وظهر كل شيء في الحقيقة له عند توهم المعبود ، [لا](١) يستحق غيره غير آثار الحدثيّة وجهات المدخلة تحت القدرة والتدبير ، وهو بذاته متعال عن كلية الجهات والمعاني ، التي كانت بها بعد أن لم تكن ، وبها صارت مربوبة عبدا ، وهو متعال أيضا عن الوصف بالجهات والمعاني ؛ بل هو خلق الخلق ، ولا قوة إلا بالله.

ويحتمل : شهد : علم ، وكذلك من شهد الشىء فقد علم مخبره خلقته بإله العالم ، وأنه واحد لا شريك له ، إله الكل وخالقهم ؛ ليعلموا أنما أعلمهم أنه كما أخبر ، وذلك في نقض قول كثير ممن ينفون عن الله ـ [تعالى] ـ (٢) أنه عالم وشاهد كل شيء ، والله الموفق.

[ويحتمل : شهد على الخلائق أن يكون عليهم القول والاعتقاد أنه لا إله غيره ؛ بمعنى : قضى وأمر ، والله الموفق.](٣) وليس فيما جمعه الله بشهادة من ذكر توهم معنى لشهادته بما هو بشهادة من ذكر ، مع ما قد يحتمل لما جمع إلى شهادته شهادة من ذكر وجهان :

أحدهما : فضل من ذكر بما ذكر شهادته عند ذكر شهادتهم ؛ على نحو قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) الآية [الأنفال : ٤١] ؛ ذكر ما له ، وإن كان له الخلق كله ؛ بوجهين :

أحدهما : بما جعل ذلك لوجوه العبادة ؛ كما أضاف إليه المساجد (٤) على أنها وغيرها له ، وذكر في الملائكة الذين عنده في أمر القيامة (٥) ، وإليه المصير ، ونحو ذلك ، إما مخصوص لما ذكر من الأوقات في فضل أو غير جعل له ، أو لما كان [ذلك](٦) لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نسب إليه ، أو كان لكلية المعانى للعبادة ؛ فمثله أمر شهادات من ذكرتها بشهادة الله ؛ تفضلا لأولئك وتخصيصا ، من بين الخلائق ، والله أعلم.

والثاني : على كون الشهادة من الإخبار بحق الأمر ، نسبه إليه ؛ كما نسب إليه كتابة الألواح ونفخ جبريل الروح بما كان منه أمر به ؛ فكذا فعله في الإضافة إليه ، والله أعلم.

ثم حق ذلك ـ فيما على التحقيق ـ أن يفهم ما عن الله ربوبيّة وعن العبد عبودية ، على

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط من ب.

(٣) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٤) في قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) [سورة الجن : ١٨].

(٥) انظر من هذا : الآية (٢٣) سورة الرعد ، والآية (٧٥) سورة الزمر ، والآية (٦) سورة التحريم ، والآية (٣٨) سورة النبأ.

(٦) سقط من ب.

٣٣٥

جميع ما يضاف إلى الله أنه يفهم من غير الوجه الذي يضاف إلى الخلق ؛ فمثله أمر الشهادة ، والله أعلم.

وروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : (شَهِدَ اللهُ) إلى قوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) على معنى جعل أنّه صلة في الكلام ، وحقيقته : شهد الله الذي لا إله إلا هو ، والملائكة ، ومن ذكر : أن الدّين عند الله الإسلام (١) ، والإسلام ـ في الحقيقة ـ : جعل كلية الأشياء لله له ، لا شريك له فيها : في ملك ، ولا إنشاء ، ولا تقدير. والإيمان : التصديق بشهادة كلية الأشياء لله تعالى ، بأنه ربّها وخالقها على ما هي عليها ، جلّ عن الشركاء.

وقد قيل : الإسلام : خضوع (٢).

وقيل : الإخلاص (٣) ، وهو يرجع إلى ما بيّنا ، وذلك كقوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ) [الزمر : ٢٩] ، والإيمان : هو التصديق [لله تعالى](٤) بما أخبر أنه ربّ كل شيء ، وأن له الخلق والأمر.

وقيل : هو التصديق بما جاءت به الرسل ، وذلك يرجع إلى ما بينّا ، أيضا. والله أعلم.

وقوله : (قائِماً بِالْقِسْطِ) : قيل : هو عادل لا يجور (٥) ، [لا أن](٦) للقيام معنى في ذلك ؛ كقوله : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) [النساء : ١٣٥] بمعنى : كونوا عادلين مقسطين ، والله أعلم.

وقيل : قيام تولّ وحفظ ، أو كفاية وتدبير (٧) ؛ كما يقال : فلان قائم بأمر كذا ، لا على توهم انتصاب ؛ وعلى ذلك قوله : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣].

وقوله : (فَإِنْ حَاجُّوكَ)

ولم يقل : في ما ذا يحاجوك ؛ فيحتمل ـ والله أعلم ـ أن يكون هذا بعد ما علم الله أنهم لا يؤمنون ولا يقبلون الحجة ـ أمره بترك المحاجّة بقوله : (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) ؛

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز لابن عطية (١ / ٤١٢) ، وتفسير القرطبي (٤ / ٢٨) ، والبحر المحيط (٢ / ٤٢٠).

(٢) قال أبو جعفر النحاس في معاني القرآن (١ / ٣٧١) ؛ الإسلام في اللغة : الخضوع والانقياد ، ومنه استسلم الرجل. فمعنى أسلم : خضع وقبل ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) قاله ابن الأنباري كما في تفسير الفخر الرازي (٧ / ١٨١).

(٤) في ب : بالله.

(٥) قاله الحسن ، أخرجه عنه ابن أبي حاتم (٢ / ١٥١) ، رقم (٢٥٣).

(٦) في ب : لأن.

(٧) قاله البغوي في تفسيره (١ / ٢٨٦) ، ثم قال : فالله ـ تعالى ـ مدبر ورازق ومجاز بالأعمال.

٣٣٦

وكذلك : من اتبعني أسلموا أنفسهم لله ؛ كقوله : (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) [يوسف : ٨٤](فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) [النساء : ٦٤] أيأسه عن إيمانهم ، وأمره بترك المحاجة معهم.

وقوله : (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) :

أي : أخلصت (١).

ثم يحتمل قوله : (وَجْهِيَ لِلَّهِ) ، أي : نفسى لله لا أشرك فيها أحدا ، ولا أجعل لغير الله فيها حقا ، على ما جعل الكفار في أنفسهم شركاء وأربابا (٢).

قال الشيخ ـ [رحمه‌الله] ـ (٣) : وقيل : الإسلام أن يجعل نفسه بكليتها لله ـ [تعالى] ـ (٤) سالمة ، لا شركة (٥) فيها لأحد ؛ كما قال : (وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ) [الزمر : ٢٩] والإيمان : هو التصديق لشهود الربوبية لله من نفسه وغيره ؛ لأنه ما من شيء إلا وفيه شهادة الربوبية.

وقوله : (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) :

أي : ومن (٦) اتبع ديني ، فقد أسلموا أنفسهم لله [تعالى](٧) أيضا ، لم يشركوا فيها شركاء وأربابا.

ويحتمل قوله : (وَجْهِيَ لِلَّهِ) ، أي : أسلمت أمر ديني وعملي لله ؛ وكذلك من اتبعني واتبع ديني ، فقد أسلموا أعمالهم وأمورهم لله (٨) ؛ كقوله ـ [تعالى] ـ (٩) : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) [غافر : ٤٤] ، وفي حرف ابن مسعود [رضي الله عنه](١٠) : «ومن اتبعنى» (١١) أي : ومن معي.

__________________

(١) وهو قول الفراء ولم يشاركه هذا القول غيره كما قال الرازي.

وينظر : تفسير الرازي (٧ / ١٨٤) ، وتفسير البغوي (١ / ٢٨٧) ، والوسيط (١ / ٤٢٤).

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٧ / ١٨٤). وينظر : معاني القرآن لأبي جعفر النحاس (١ / ٣٧٣).

(٣) سقط من ب.

(٤) سقط من ب.

(٥) في ب : شريك.

(٦) في ب : من.

(٧) سقط من ب.

(٨) ذكره الرازي في التفسير (٧ / ١٨٥).

(٩) سقط من ب.

(١٠) سقط من ب.

(١١) وأثبت الياء في «من اتبعني» نافع من السبعة ، وأبو عمرو وخلاد ووصلاً ، وحذفوها وقفا ، وقرأ الباقون بحذفها وقفا ووصلا.

راجع : إتحاف فضلاء البشر (١ / ٤٧٣) ، البحر المحيط (٢ / ٤٢٨) ، حجة القراءات لابن خالويه (ص : ١٥٨) ، الدر المصون للسمين الحلبي (٢ / ٥٠).

٣٣٧

وقوله : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ) : قيل : الذين أوتوا الكتاب : اليهود (١) والنصارى (٢) ، والأميين (٣) : العرب الذين لا يقرءون الكتاب ، ولا لهم كتاب (٤).

(أَأَسْلَمْتُمْ) أنتم لله ؛ كما أسلمت أنا وجهي لله ، ومن اتبعني.

(فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) : وأخلصوا وجوههم لله وأعمالهم.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) : أي : فإن أبوا أن يسلموا فليس عليك إلا البلاغ ؛ كقوله ـ [تعالى] ـ (٥) : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٥٢] ، وكقوله : (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) [الشورى : ٤٨] ، وكقوله : (عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) [الرعد : ٤٠].

وقوله : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) : هو حرف وعيد.

قيل : (بَصِيرٌ) : غير غافل.

وقيل : بصير بجزاء أعمالهم.

وقيل : بصير بما أسرّوا وأعلنوا ، وفي كل وجه وعد ووعيد (٦).

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في قوله : (فَإِنْ حَاجُّوكَ) : ولم يبين في ما ذا ، فقد يجوز ترك الإخبار عن القصة بوجهين :

أحدهما : بعلم أهله.

__________________

(١) اليهود : اسم أطلق منذ القدم على الشعب الذي هو سليل إبراهيم الخليل من إسحاق ، ويعرفون بالعبرانيين.

وأصل اللفظة : مادة (هود) ، والهود : هو التوبة ، وهاد يهود هودا وتهوّد : بمعنى تاب.

ينظر : لسان العرب (٦ / ٤٧١٨) (هود) ، الملل والنحل للدكتور طلعت محسن ص (٦٩).

(٢) النصارى : هم أتباع عيسى عليه‌السلام. يقول ابن القيم عنهم معرفا بهم : المثلثة أمة الضلال أو عباد الصليب الذين سبوا الله الخالق سبة ما سبه إياها أحد من البشر ، ولم يقروا بأنه الواحد الأحد.

انظر ذلك في : هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن القيم (٢٣٨).

القاموس القويم للقرآن الكريم ، إبراهيم عبد الفتاح (٢ / ٢٧٠).

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (٢ / ١٥٧) ، (٢٦٩) عن ابن جريج. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٣) وعزاه إلى الطبري وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، لكن الذي في تفسير الطبري (٦ / ٢٨٢) (٦٧٧٥) قول ابن عباس في تفسير : الأميين.

(٤) ينظر : معاني القرآن للزجاج (١ / ٣٩١) وتفسير ابن عباس (٤٤) ، أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٨٢) ، (٦٧٧٥) عن ابن عباس ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٣) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وراجع : السابق.

(٥) سقط من ب.

(٦) ينظر : البحر المحيط (١ / ٤٢٣) ، تفسير الرازي (٧ / ١٨٥) ، وتفسير البغوي (١ / ٢٨٧) ، وتفسير القرطبي (٤ / ٣٠).

٣٣٨

والثاني : بما في الجواب ؛ دليله : قوله : (يَسْتَفْتُونَكَ) [النساء : ١٦٧](يَسْئَلُونَكَ) [البقرة : ١٨٩] في غير موضع ، على غير البيان أنه عن ما ذا؟ وهو ـ والله أعلم ـ داخل تحت ذينك الوجهين.

ثم يحتمل أن تكون المحاجة قد كثرت فيما قال : (فَإِنْ حَاجُّوكَ) والحجة قد ظهرت فيه ؛ فكانوا يعودون إليها مرة [بعد مرّة](١) ؛ عود تعنت وعناد ؛ فأكرم الله رسوله بالإعراض عن محاجتهم ، ذلك كمّا ظهر تعنتهم فقال : (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) على الإعراض عن محاجتهم ، والله أعلم.

وعلى ذلك يخرج معنى الأمر بالتولي عنهم في غير موضع.

ويحتمل أن تكون المحاجة في عبادة الواحد القهار والأوثان التي (٢) كانوا يعبدونها من دون الله ؛ فبين ـ جلّ ثناؤه ـ في ذلك بالذي يقول لهم هو ومن اتبعه على ذلك ؛ نحو قوله : (لَكُمْدِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ٦] ، وقوله : (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) الآية [الشورى : ١٥] ، ونحو ذلك ، والله أعلم.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)(٢٢)

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) : قيل : بآيات الله التي في كتابهم : من بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصفته.

وقيل : (بِآياتِ اللهِ) : بالقرآن ، وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣).

(وَيَقْتُلُونَ) : يحتمل قوله : (وَيَقْتُلُونَ) أي : يهمون يريدون قتلهم ؛ كقوله : (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) [البقرة : ١٩١] ، فلو كان على حقيقة القتل ، فإذا قتلونا لم نقدر على قتلهم ؛ وكقوله : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [النحل : ٩٨] أي : إذا أردت أن تقرأ القرآن ؛ وكقوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) [المائدة : ٦] كذا ، أي : إذا أردتم أن تقوموا إلى الصّلاة ؛ لأنه إذا قام إلى الصّلاة لم يقدر على الغسل ؛ فكذلك الأوّل.

ويحتمل أن يريد : الرضا بقتل آبائهم الأنبياء ، فأضاف ذلك إليهم.

وقيل : إنه أراد آباءهم الذين قتلوا الأنبياء.

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) في ب : الذين.

(٣) ذكره البغوي في تفسيره (١ / ٢٨٨).

٣٣٩

وقيل : جاء أنهم كانوا يقتلون ألف نبي كل يوم (١) ، قال [الشيخ] : لا أعرف هذا ، فإن صح فهو على أنهم تمنوا ذلك ، أو قتلوا نبيّا وأنصاره ، فسمّوا أنبياء ؛ لما كان ينبئ بعضهم بعضا (٢) ، والله أعلم.

وقوله : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) : لو كان أراد آباءهم كيف يأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبشارة وهم موتى؟! دل هذا على أن التأويل هو الأوّل : أنهم (٣) هموا بقتلهم ، أو رضوا بصنع آبائهم ، والله أعلم.

والبشارة المطلقة إنما تستعمل في السّرور والخيرات خاصّة ، إلا أن تكون مقيّدة ؛ فحينئذ تجوز في غيرها ؛ كقوله : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) قيدها هنا ؛ لذلك قال أصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ : أن ليست الحقائق (٤) أولى من المجاز (٥) ، ولا الظاهر (٦) أولى

__________________

(١) المعروف أنهم قتلوا ثلاثة وأربعين نبيا في ساعة واحدة.

أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (٢ / ١٦١) (٢٧٦) والطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٨٥) (٦٧٨٠) من حديث أبي عبيدة بن الجراح ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٣) وعزاه لهما.

(٢) قال القاسمي : وقوله تعالى : (بِغَيْرِ حَقٍّ) إشارة إلى أن قتلهم للأنبياء كان بغير حق في اعتقادهم أيضا ؛ فهو أبلغ في التشنيع عليهم.

ينظر : محاسن التأويل (٤ / ٧٣).

(٣) في ب : أن.

(٤) الحقائق : جمع حقيقة ، والحقيقة في اللغة : حقّ الشيء : إذا وجب ، واشتقاقه من الشيء المحقق وهو المحكم. وحقه يحقه حقّا : غلبه.

أما في الاصطلاح : فقد عرفها عبد القاهر الجرجاني بأنها : كل كلمة أريد بها ما وقعت له في وضع واضع وقوعا لا يستند فيه إلى غيره ، أي : الكلام الموضوع موضعه الذي ليس باستعارة ولا تمثيل ولا تقديم ولا تأخير ، كقول القائل : أحمد الله على نعمه وإحسانه. وعرفها الرازي بأنها : كل لفظ أفيد به ما وضع له في أصل الاصطلاح الذي وقع به التخاطب ، لعلاقة بينه وبين الأول.

ينظر : لسان العرب (٢ / ٩٤٠) ، (حقق) ، أسرار البلاغة في علم البيان للجرجاني ، (ص ٢٨٠) ، والمحصول للرازي (١ / ق ٣ / ٣٩٧) ، وميزان الأصول في نتائج العقول في أصول الفقه للسمرقندي (١ / ٥٢٩١).

(٥) المجاز مأخوذ من جاز يجوز : إذا استن ماضيا. يقال : جاز فلان ، وهو الأصل. يقال : جزت مكان كذا ، أي : عبرته.

وفي الاصطلاح : المجاز : هو اللفظ المستعمل في إفادة معنى غير ما وضع له ؛ لكونه مشابها للمتعدى عن المكان في كونه منتقلا عن موضوعه الأصلي. وقيل في تعريفه كذلك بأنه : كل لفظ أفيد به معنى مصطلح عليه غير ما كان في أصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب به.

ينظر : لسان العرب (١ / ٧٢٤) (جوز) ، أسرار البلاغة في علم البيان للجرجاني ، (ص ٢٨٠) ، المحصول للرازي (١ / ق ٣ / ٣٩٧) ، ميزان الأصول في نتائج العقول في أصول الفقه ، للسمرقندى (١ / ٥٢٩).

(٦) أراد بالظاهر : ما ظهر بيانه ، والظاهر ـ لغة ـ : مشتق من الظهور ، وهو الوضوح والانكشاف.

واصطلاحا : هو اللفظ الذي انكشف معناه اللغوي ، واتضح للسامع من أهل اللسان بمجرد ـ

٣٤٠