تأويلات أهل السنّة - ج ٢

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة - ج ٢

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٧٣

وقوله : (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ).

أي : لن يرد ذلك عليكم ؛ بل يقبل ؛ بل تجزون به في الآخرة.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : أي : كيف يكفره ، وهو الشكور الذي يقبل اليسير ، ويعطي الجزيل؟!.

وهو في حرف حفصة : «فلن تتركوه» : أي : لن تتركوه دون أن تجزوا عليه ؛ وإن قل ذلك ؛ كقوله : (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) [النساء : ٤٠] معناه ـ والله أعلم ـ ما ذكر ، (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) [محمد : ٣٥].

وقيل : لن يظلمكم.

وقيل : لن ينقصكم.

وقيل : فلن يضل عنكم ؛ بل يشكر ذلك لهم ، يعني : فلن يضيع ذلك عند الله ، والله أعلم.

(وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) : ظاهر.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(١١٧)

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) :

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : فهو ـ والله أعلم ـ أن بمثله يكون التناصر في الدّنيا ، لكن الذي كان فيها لا ينفع في الآخرة ، بل يكون كما قال الله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ ..). الآية [عبس : ٣٤] ، ثم لا مال له ، ثم ولا لو كان فينفع ؛ وذلك أنهم ظنوا أن كثرة الأموال والأولاد تمنعهم من عذاب الله ؛ كقولهم : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ : ٣٥] ، فأخبر الله ـ عزوجل ـ : أن كثرة الأموال والأولاد لا تغني عنهم من عذاب الله شيئا.

وقوله (١) : (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) :

ضرب مثل نفقة الكفار التي أنفقوها بريح فيها صر أصابت حرث قوم ، وذلك ـ والله أعلم ـ أنهم كانوا ينفقون ويعملون جميع الأعمال : من عبادة الأصنام والأوثان ، ويقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ظنوا أن تلك الأعمال والنفقات

__________________

(١) في ب : وقوله ـ عزوجل.

٤٦١

التي أنفقوها في صد الناس ـ تنفعهم في الآخرة ، وتقربهم إلى الله ، فأخبر أنها لا تنفع ، فكان كالريح التي فيها صرّ وبرد ، ظنوا أن فيها رحمة ، وشيئا ينفع زروعهم ، وينمو بها ، فإذا فيها نار أحرقت حرثهم ؛ كما طمعوا من أعمالهم ونفقاتهم التي في الدنيا ـ بالآخرة ؛ قربة وزلفة إليه ، فإذا هي مهلكة لأبدانهم ؛ كالريح التي فيها صرّ كانت مهلكة ؛ محرقة لزروعهم وحرثهم ، والله أعلم.

والصرّ : هو البرد الشديد. وقيل : الصر : الصوت ؛ كقوله : (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها)(١) [الذاريات : ٢٩].

قيل : هي الصوت.

قيل : مثل ما ينفقون في الصدّ عن سبيل الله ، وفي قتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا ..). الآية [الأنفال : ٣٦] ، أي : يتأسفون على ما أنفقوا تأسف صاحب الزرع على ما كان أنفق فيه (٢) ، والله أعلم.

وقوله : (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) : والظلم : ما ذكرنا : هو وضع الشيء في غير موضعه ، فهو ـ والله أعلم ـ قال : هم الذين وضعوا أنفسهم في غير موضعها ، لا أن وضع الله أنفسهم ذلك الموضع ؛ لأنهم عبدوا غير الله ، ولم يجعلوا أنفسهم خالصين سالمين لله ، فهم الذين ظلموا أنفسهم ؛ حيث أسلموها لغير الله ، وعبدوا دونه ، فذلك وضعها في غير موضعها ؛ لأن وضعها موضعها هو أن يجعلوها خالصة لله ، سالمة له.

وقيل : ما ضروا الله بعبادتهم غيره وبكفرهم به ، إنما ضروا أنفسهم ؛ إذ لا حاجة له إلى عبادتهم (٣) ، والله الموفق.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : تقديم وتأخير ، وأصل ذلك أن الله قد وضع كل نفس الخلقة بموضع العبودية ، فجعلوها عبدة غيره.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ

__________________

(١) قاله ابن الأنباريّ كما في تفسير الفخر الرازي (٨ / ١٧١) وقال البغوي : وأكثر المفسرين قالوا : فيها برد شديد. معالم التنزيل (١ / ٣٤٤).

(٢) قال بنحوه السدي أخرجه عنه الطبري (٧ / ١٣٥ ، ١٣٦) (٧٦٦٨) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٤٩٦) (١٢٦٠).

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (٢ / ٤٩٧) (١٢٦٣) عن ابن عباس ، وذكره بمعناه ابن جرير في تفسيره من قوله (٧ / ١٣٧ ، ١٣٨).

٤٦٢

الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)(١٢٠)

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) :

اختلف فيه :

قيل : نهى الله المؤمنين أن يستدخلوا المنافقين ، أو يؤاخوهم ، أو يتولوهم دون المؤمنين (١).

وقيل في حرف حفصة : «لا تتخذوا بطانة من دون أنفسكم» (٢) ، يعنى : من دون المؤمنين.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : «نهى الله المؤمنين أن يتخذوا اليهود [والنصارى](٣) والمنافقين ـ بطانة دون إخوانهم من المؤمنين ، فيحدثوهم ويفشوا إليهم سرّهم دون المؤمنين» (٤).

والبطانة : قيل : هم الإخوان ، ويجعلونهم موضع إفشاء سرّهم (٥).

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : والنهي عن اتخاذ الكافر بطانة لوجهين :

أحدهما : العرف به ؛ إذ كل يعرف بمن يصحبه.

والثاني : الميل إليه بما يريه عدوه أنه حسن العشرة وحسن الصحبة ، مع ما فيه الإسقاط عما به يستعان على أمر الدين ، والإغفال عن حقه.

وقوله : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) : يقولون : لا يتركون عهدهم في إفشاء أمركم.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٤١) (٧٦٨٢) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٤٩٨) (١٢٦٧) عن قتادة ، وعن الربيع ابن أنس أخرجه ابن جرير (٧ / ١٤١ ، ١٤٢) (٧٦٨٤) وعن مقاتل بن حيان. أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٥٠١) (١٢٧٥) ، وعن ابن جريج أخرجه ابن جرير (٧٦٨٧) ، وعن مجاهد بن جبر أخرجه ابن جرير (٧ / ١٤١) (٧٦٨١) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٤٩٧) (١٢٦٦) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١١٨) ، وزاد نسبته لابن المنذر.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٥٠٠) (١٢٧٤) عن عمر بن الخطاب ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١١٨) ، ونسبه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب.

(٣) سقط من ب.

(٤) أخرجه بمعناه ابن جرير (٧ / ١٤١) (٧٦٨٠) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٤٩٩) (١٢٧٣) ، من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١١٨) ، ونسبه إليهم وإلى ابن المنذر عن ابن عباس.

(٥) ذكره بمعناه ابن جرير من قوله (٧ / ١٣٨) ، وكذا الرازي في تفسيره (٨ / ١٧٢).

٤٦٣

وقوله : (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) : أي : يودون ويتمنون ما أثمتم.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : أي : ودوا أن تشاركوهم في أشياء تؤثمكم ويبعثكم عليه.

وقيل : العنت : الضيق (١) ؛ أي : ذلك قصدهم ؛ كالآية التي تتلوها. وقوله : (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) :

من قال : إن أول الآية في المنافقين يقول : قوله : (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) ما ذكر في آية أخرى : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد : ٣٠] أنهم كانوا يعرفون المنافق في لحن كلامه.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في قوله : (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) : ما كان من التفريق بقوله : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [آل عمران : ١٧٣] ، وإظهار السرور بنكبتهم ، كقوله : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ..). الآية [النساء : ٧٢].

وقوله (٢) : (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) : وذلك أنهم كانوا يظهرون الموافقة لهم ، ويضمرون العداوة والخلاف لهم ، والسعي في هلاكهم فما كانوا يضمرون أكثر ما [كانوا](٣) يظهرون.

ومن قال بأن الآية في الكفار ـ فهو ظاهر.

وقوله : (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) : من الشتيمة والعداوة ، ويضمرون أكثر من ذلك من الفساد والشرور ، والله أعلم.

وقوله : (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) :

يحتمل قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) البينات ، ويحتمل قوله : إن كنتم تنتفعون بعقولكم ؛ لأنه ـ عزوجل ـ ذكر في غير آي من القرآن أنهم لا يعقلون ، قد كان لهم عقول لكنهم لم ينتفعوا بعقولهم ، فإذا لم ينتفعوا نفي عنهم العقل رأسا.

وقوله : (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ) : من قال : إن أول الآية في المنافقين (٤) فهذا يدل له ويشهد ؛ لأنه قال : (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا ..). الآية. يقول : ها أنتم يا هؤلاء

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٤ / ٣٦٠) (٤٢١٠) عن ابن عباس ، وعن السدي بمعناه (٤ / ٢٥٩) (٤٢٠٧) ، وعن ابن زيد بمعناه (٤٢٠٨) ، وذكره ابن كثير في عمدة التفاسير (٣ / ٢٨).

(٢) في ب : قوله.

(٣) سقط من ب.

(٤) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٥١) (٧٦٩٨) عن مجاهد بن جبر ، وعن الربيع بن أنس أخرجه ابن جرير (٧ / ١٤٥) (٧٦٩٢) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٥٠٢) برقم (١٢٧٩).

٤٦٤

المسلمون تحبونهم ـ يعنى : المنافقين ـ ولا يحبونكم على دينكم (١).

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : وفي الآية بيان أن أولئك قوم يحبهم المؤمنون ، إمّا بظاهر الإيمان أو بظاهر الحال ، منهم من طلب مودتهم ، فأطلع الله المؤمنين على سرّهم ؛ لئلا يغترّوا بظاهرهم ، وليكون حجة لهم ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أطلعه الله على ما أسرّوا ، والله أعلم.

ومن قال : إن أوّل الآية في الكفار ـ يجعل قوله : (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ) على الابتداء ، والقطع من الأوّل ؛ لأنه وصفهم بصفة المنافقين ، ووسمهم (٢) بسمتهم وليس في الأول ذلك.

وقوله : (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ)

هو على التمثيل ، يقال عند شدة الغضب : فلان يعض أنامله على فلان ، وذلك إذا بلغ الغضب غايته.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في قوله : (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) : إنما كان يغيظهم ما كان للمسلمين من السعة ، والنصر ، والتكثر ، والعز ؛ فيكون في ذلك دعاء لهم بتمام ذلك ، حتى لا يروا فيهم الغير ، والله أعلم.

وفي حرف حفصة : «قل موتوا بغيظكم لن تضرونا شيئا إن الله عليم بذات الصدور» على الوعيد.

وقوله : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ).

قال : ليس هذا وصف المنافقين في الظاهر ؛ لأنهم كانوا يطمئنون عند الخيرات ، لكنّه يحتمل أنهم كانوا يطمئنون بخيرات تكون لهم لا للمؤمنين : (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها) ذكر في القصة أنهم إذا رأوا للمسلمين الظفر على عدوهم والغنيمة ـ يسوءهم ذلك ، وإذا رأوا القتل والهزيمة عليهم ـ يفرحون به ويسرّون.

وقيل : إذا رأوا للمؤمنين الخصب والسعة ـ ساءهم ، وإذا رأوا لهم القحط (٣) والجدب وغلاء السعر ـ فرحوا به (٤) ، لكن هذا يحتمل في كل خير رأوا لهم ـ اهتموا لذلك ، وفي

__________________

(١) أخرجه بمعناه ابن أبي حاتم (٢ / ٥٠٣) (١٢٨٤) ، عن الحسن البصري ، وعن قتادة أخرجه ابن جرير (٧ / ١٥١) (٧٦٩٦) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٥٠٣) (١٢٨٥)

(٢) وسمهم : علّمهم. ينظر : اللسان (٦ / ٤٨٣٨) (وسم).

(٣) القحط : احتباس المطر. ينظر : القاموس المحيط (ص ٦١٣) (قحط).

(٤) أخرجه بمعناه ابن جرير (٧ / ١٥٥) (٧٧٠٥) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٥٠٧ ، ٥٠٨) (١٣٠٤) ، (١٣٠٦) عن قتادة ، وعن مقاتل بن حيان أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٥٠٨) (١٣٠٥) ، (١٣٠٧). وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١١٩).

٤٦٥

كل مصيبة ونكبة (١) رأوا لهم ـ فرحوا بها.

وقوله : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً)

وعد النصر بشرط : (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) أخبر أن المؤمنين إذا اتقوا وصبروا لا يضرهم كيدهم شيئا ، حتى يعلم أن ما يصيب المؤمنين إنما يصيب بما كسبت أيديهم.

قوله : (إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) على الوعيد.

قوله تعالى : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(١٢٢)

وقوله : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ).

قوله : (تُبَوِّئُ) : قيل : تهيئ للمؤمنين أمكنة القتال (٢).

وقيل : (تُبَوِّئُ) : تنزل المؤمنين (٣).

وقيل : (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ) : تتخذ للمؤمنين مقاعد لقتال المشركين (٤).

وقيل : (تُبَوِّئُ) : توطن (٥).

وقيل : تستعد للقتال.

كله يرجع إلى واحد.

ثم اختلف في أي حرب كان ، وأي يوم؟ قال أكثر أهل التفسير : كان ذلك يوم أحد (٦).

وقيل : إنه كان يوم الخندق (٧).

وقيل : كان يوم الأحزاب (٨) ؛ فلا يعلم ذلك إلا بخبر يصح أنه كان يوم كذا ، لكن في ذلك أن الأئمة هم الذين يتولون أمر العساكر ، ويختارون لهم المقاعد ، وعليهم تعاهد إخوانهم ، ودفع الخلل والضياع عنهم ما احتمل وسعهم ، وعليهم طاعة الأئمة ، وقبول

__________________

(١) النكبة : المصيبة من مصائب الدهر. اللسان (٦ / ٤٥٣٥) (نكب).

(٢) ينظر : تفسير أبي حيان ، البحر المحيط (٣ / ٤٩).

(٣) ينظر : تفسير أبي حيان ، البحر المحيط (٣ / ٤٨) ، تفسير البغوي (١ / ٣٤٦).

(٤) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٦٠) (٧٧٠٩) عن قتادة ، وعن الربيع بن أنس أخرجه عنه ابن جرير (٧٧١٠) ، وعن الحسن البصري أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٥١١) (١٣١٧).

(٥) أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٥٠٩) (١٣١٢) عن سعيد بن جبير ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٢٠) ، وعزاه للطستي عن ابن عباس.

(٦) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٦٠) (٧٧٠٩) عن قتادة ، وعن ابن عباس (٧ / ١٦٠) برقم (٧٧١١) ، وعن السدي برقم (٧٧١٢) ، وعن ابن إسحاق (٧٧١٣) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٢٠).

(٧) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٦٠) (٧٧١٤) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٥١١) (١٣١٧) ، عن الحسن البصري وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٢٠).

(٨) ينظر : التخريج السابق.

٤٦٦

الإشارة من الإمام ، وذلك في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء : ٥٩] ذكر مقاعد القتال في هذه الآية ، لكن الذي لزم من ذلك في آية أخرى ـ ذكر الصف بقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) [الصف : ٤] ، وذكر في آية أخرى الثبات بقوله ـ عزوجل ـ : (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) [الأنفال : ٤٥] والأصل أنهم أمروا بالثبات ، فالأحسن أن يختار لهم أمكنة لهم بها معونة على الثبات ، والله أعلم ، فيحتمل أن يكون أراد بالمقاعد القعود ، وذلك أثبت للقتال وأدفع للعدو ، وفيما ذكر الصف ذكر للجملة عليه بقوله ـ عزوجل ـ : (إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ* وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) [الأنفال : ١٥ ، ١٦] فيه رخصة الحملة على العدو ، وباجتهاد إن كان فيها تولى الأدبار.

ويحتمل أن يكون أراد بالمقاعد : الأماكن والمواطن للقتال والحرب ، والله أعلم.

وقوله (١) : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

يحتمل : سميع لمقالتكم ؛ عليم بسرائركم.

ويحتمل : سميع بذكركم الله والدعاء له ؛ لأنهم أمروا بالذكر لله ، والثبات للعدوّ بقوله ـ عزوجل ـ : (فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) [الأنفال : ٤٥] ، وعليم بثوابكم.

ويحتمل قوله : (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) : البشارة من الله ـ عزوجل ـ بالنصر لهم ، والأمن من ضرر يلحقهم ؛ كقوله ـ تعالى ـ لموسى وهارون : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى * قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) ثم قال ـ عزوجل ـ : (قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [طه : ٤٤ ـ ٤٦] أمّنهما من عدوهما بقوله ـ عزوجل ـ : (أَسْمَعُ وَأَرى) ، فعلى ذلك يحتمل ذا في قوله ـ عزوجل ـ : (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، ويكون سميع : أي : أسمع دعاءكم ؛ بمعنى : أجيب ، وأعلم ما به نصركم وظفركم ، والله أعلم.

وقوله (٢) : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا).

قوله : (هَمَّتْ) :

يحتمل : أن همّوا همّ خطر.

ويحتمل : أن همّوا همّ عزم ، وكذلك هذا التأويل في قوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) [يوسف : ٢٤] همت هي همّ عزم ، وهمّ هو بها همّ خطر ، وهمّ الخطر يقع من غير صنع من صاحبه ، وهمّ العزم يكون بالعزيمة والقصد.

__________________

(١) في ب : وقوله ـ عزوجل.

(٢) في ب : وقوله ـ عزوجل.

٤٦٧

وقوله : (هَمَّتْ ... أَنْ تَفْشَلا) والفشل ليس مما ينهي عنه ؛ لأنه يقع من غير فعله ، لكنه ـ والله أعلم ـ همّوا أن يفعلوا فعل القتل والجبن (١) وذكر في القصة أن الطائفتين : إحداهما كانت من بنى كذا ، والأخرى من بنى كذا ، فلا يجب أن يذكر إلا أن يقروا هم بذلك.

وقيل : إنهم كانوا أقروا بذلك ، وقالوا : نحن كنا فعلنا ، وما نحب ألا يكون في قوله : (وَاللهُ وَلِيُّهُما) ظهر لنا ولاية الله ، ولو لم يكن لم يظهر.

وقوله (وَاللهُ وَلِيُّهُما).

قد ذكرنا هذا في غير موضع :

أن «الولي» : قيل : هو الناصر (٢) ، وقيل : هو (٣) الحافظ ، وقيل : إنه أولى بهم.

وقوله : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : المؤمن من يعلم ـ علم اليقين ـ أن من نصره الله لا يغلبه شيء ، ومن يخذله الله لا ينصره شيء.

حق على المؤمنين ألا يتوكلوا ولا يثنوا إلا على الله ، عزوجل.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : فتوكل : أي اعتمد على ما وعد ، واجتهد في الوفاء بما عهده ، وفوض كل أمره إلى الله ؛ إذ علم أنه ـ بكليته ـ لله ، وإليه مرجعه ، وبهذه الجملة عهد أن ينصر دينه ، ولا يولّي عدوّه دبره ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ)(١٢٧)

وقوله : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ)

يذكرهم ـ عزوجل ـ ألا يتكلوا إلى أنفسهم لكثرتهم ولقوتهم ولعدّتهم ، ولا يثقوا

__________________

(١) الجبن : ضد الشجاعة ، والجبان من الرجال : الذي يهاب التقدم على كل شيء ، ليلا كان أو نهارا.

ينظر : اللسان (١ / ٥٣٩) (جبن).

(٢) ذكره الطبري في تفسيره من قوله (٦ / ٤٩٧) ، وينظر : تفسير أبي حيان (٣ / ٥٠) ، وتفسير الرازي (٨ / ١٨١).

(٣) في ب : إنه هو.

٤٦٨

بأحد سواه ، بل على الله يتوكلون ، وإليه يكلون ، وبه يثقون ؛ لأنه أخبر أنهم كانوا أذلة ضعفاء فنصرهم ، وأمدّ لهم بالملائكة حتى قهر عدوهم ـ مع ضعفهم ، وقلة عددهم ـ يوم بدر. ويوم أحد : كانوا أقوياء كثيري العدد ؛ فوكلوا إلى أنفسهم ، فكانت الهزيمة عليهم.

وقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ)

يعني : اتقوا معاصيه

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

فيه دلالة أن الشكر إنما يكون في طاعته ، واتقاء معاصيه ، وأن المحنة إنما تكون في الشكر لما أنعم عليه ، والتكفير لما سبق منه من الجفاء والغفلة ، والله أعلم.

وقوله : (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) وذكر في سورة الأنفال : (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال : ٩]

فاختلف فيه :

قيل : كانوا عشرة آلاف (١) ؛ لأنه ذكر مرة :

ثلاثة آلاف ، ومرة :

خمسة آلاف.

ومرة : ألفا ـ مردفين ؛ فيكون ألفان ، فذلك عشرة آلاف.

وقيل : كانوا تسعة آلاف (٢) : ثلاثة آلاف وخمسة آلاف ، وألف

وقيل : كانوا كلهم خمسة آلاف (٣) : ثلاثة آلاف ؛ وألفان مدد لهم.

ثم اختلف فيه :

قال بعضهم : كان يوم أحد (٤).

وقال آخرون : يوم بدر (٥).

__________________

(١) تفسير الرازي (٨ / ١٨٥ ـ ١٨٦) ، وتفسير أبي حيان (٣ / ٥٢).

(٢) تفسير الرازي (٨ / ١٨٥ ـ ١٨٦) ، وتفسير أبي حيان (٣ / ٥٢).

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٧٣) (٧٧٥٤) عن قتادة ، وعن الربيع بن أنس أخرجه عنه ابن أبي حاتم (٢ / ٥٢١) (١٣٥١) ، وابن جرير (٧ / ١٧٨) (٧٧٥٥) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٢٤) وزاد نسبته لعبد بن حميد ، وابن المنذر.

(٤) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٨٤) (٧٧٧١) عن عكرمة ، وعن مجاهد أخرجه عنه ابن جرير (٧ / ١٨٤) (٧٧٧٣) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٥٥٢) (١٣٥٥) ، وعن الضحاك بن مزاحم أخرجه عنه ابن أبي حاتم (٢ / ٥٢١) (١٣٥٣).

(٥) أخرجه ابن جرير الطبري (٧ / ١٧٤) برقم (٧٧٤٦) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٥٢٠) (١٣٥٠) عن ـ

٤٦٩

وقوله : (فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال : ٩] يوم بدر ، ولا ندري كيف كانت القصة؟ وليس لنا إلى معرفة القصة حاجة ؛ سوى أن فيه بشارة للمؤمنين بالنصر لهم ، والمعونة بقوله : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) جعل في ذلك تسكين قلوب المسلمين.

ثم اختلف في «قتال الملائكة» : قال بعضهم : قاتل الملائكة الكفار.

وقال آخرون : لم يقاتلوا ، ولكن جاءوا بتسكين قلوبهم ما ذكر في الآية ، ولا يحتمل القتال ؛ لأنه ذكر في الآية : (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [الأنفال : ٤٤] ، ولو كانوا يقاتلون لم يكن لما يقلل معنى ؛ ولأن الواحد منهم كاف لجميع المشركين ، ألا ترى أن جبريل ـ عليه‌السلام ـ كيف رفع قريات لوط إلى السماء فقلبها؟! فدلّ (١) لما ذكرنا ، والله أعلم.

وقيل : قاتلوا يوم بدر ، ولم يقاتلوا يوم أحد (٢).

فلا ندري كيف كان الأمر؟ (٣).

وقوله : (مُسَوِّمِينَ) :

قيل : «منزلين» ؛ «ومسوّمين» سواء ، وهو من الإرسال ؛ ومن التسويم.

__________________

 ـ الشعبي ، وعن الحسن أخرجه ابن جرير (٧٧٤٥) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٥٢٤) (١٣٦٥) ، وعن قتادة أخرجه ابن جرير (٧ / ١٧٧) (٧٧٥٤) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٥٢٤) (١٣٦٦) ، وأخرجه أيضا ابن جرير من قول ابن عباس (٧ / ١٧٤) (٧٧٥٠) ، ومن قول الربيع بن أنس (٧ / ١٧٨) (٧٧٥٥) ، ومن قول مجاهد (٧ / ١٧٨) (٧٧٥٧) ، ومن قول عكرمة (٧ / ١٧٩) (٧٧٥٩) ، وقد انتصر لهذا القول العلامة أبو السعود وبيّن ضعف من قال : إنه كان يوم أحد بأوجه وجيهة ، كما في محاسن التأويل (٤ / ٢٢١).

وقال الطبري : فأما في يوم أحد فالدلالة على أنهم لم يمدوا أبين منها في أنهم أمدوا ، وذلك أنهم لو أمدوا لم يهزموا ، وينال منهم ما نيل ؛ فالصواب فيه من القول أن يقال كما قال تعالى ذكره.

ينظر : جامع البيان (٧ / ١٨١).

(١) في ب : فدل أنه.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٧٥) (٧٧٥٠) عن ابن عباس ، وعن مجاهد أخرجه عنه ابن جرير (٧ / ١٧٨) (٧٧٥٧) ، وعن عكرمة أخرجه عنه ابن جرير (٧ / ١٧٩) (٧٧٥٩) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٥٢١) (١٣٥٢) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٢٤).

(٣) ذكر العلامة القاسمي أن الظاهر أن إعانة الملائكة تشمل الأمرين معا : القتال مع المسلمين ، وتكثير سواد المسلمين وتثبيت قلوبهم. ثم قال : وقد سئل السبكي عن الحكمة في قتال الملائكة مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه ، فأجاب بأن ذلك لإرادة أن يكون الفضل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وتكون الملائكة مددا على عادة مدد الجيوش ؛ رعاية لصورة الأسباب التي أجراها الله ـ تعالى ـ في عباده ، والله فاعل الجميع.

ينظر : محاسن التأويل (٤ / ٢٢٢ ـ ٢٢٣).

٤٧٠

وقيل : معلمين بعلامة (١) ، وذلك ـ والله أعلم ـ ليعلم المؤمنين حاجتهم إلى العلامة ، [لا أن](٢) الملائكة يحتاجون إلى العلامة ؛ وكذلك روي عن نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لأصحابه يوم بدر : «تسوّموا ؛ فإنّ الملائكة قد تسوّمت» (٣).

وقوله : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ).

ليعلم أنّ في النصر لطفا من الله لا يوصل إليه بشيء من خلقه ؛ لأنه نفاه عنهم مع مدد الملائكة ؛ ليعلم أن كل منصور على آخر ـ إنما كان ذلك من الله ـ عزوجل.

وقوله : (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ..). [الآية](٤).

قال قتادة : «كان يوم بدر قتل صناديدهم وقادتهم في الشر» (٥).

وقيل : (طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) : جماعة (٦).

وقيل : (طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ ...) : يعني : أهل مكة.

وقوله : (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) :

قيل : يخزيهم (٧).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : «الكبت : الهزيمة» (٨).

وقيل : الكبت : هو الصرع على وجهه (٩).

وقوله : (فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) :

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٨٨) (٧٧٨٥) عن السدي ، وعن مجاهد أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٥٢٧) (١٣٧١) ، (١٣٧٢) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٢٤) وعزاه للطبراني وابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في ب : لأن.

(٣) أخرجه ابن جرير الطبري (٧ / ١٨٦) برقم (٧٧٧٦) عن عمير بن إسحاق ، وذكره ابن الجوزى في زاد المسير (١ / ٤٥٢) ، والسيوطي في الدر (٢ / ١٢٥).

(٤) سقط من ب.

(٥) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٩٢) (٧٧٩٦) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٥٣١) (١٣٨٢) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٢٥) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر.

(٦) أخرجه بمعناه ابن جرير (٧ / ١٩٢) (٧٧٩٨) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٥٣١) (١٣٨١) ، عن الحسن البصري ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٢٦).

(٧) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٩٧) (٧٨٠٢) عن قتادة ، وعن الربيع بن أنس أخرجه عنه ابن جرير (٧ / ١٩٤) (٧٨٠٣) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٥٣١) (١٣٨٤) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٢٦).

(٨) ذكره أبو حيان في البحر المحيط (٣ / ٥٥) عن ابن عباس والزجاج ، وابن عادل في تفسيره اللباب (٥ / ٥٢٧) ، وعزاه للكلبي ، والرازي في تفسيره (٨ / ١٨٩).

(٩) ذكره ابن جرير في تفسيره (٧ / ١٩٣) ولم ينسبه لأحد ، وأبو حيان في البحر المحيط (٣ / ٥٥) وعزاه لأبي عبيد واليزيدي ، والرازي في تفسيره (٨ / ١٨٩).

٤٧١

والخائب : هو الذي لم يظفر بحاجته ، أي : رجعوا ولم يصيبوا ما أمّلوا (١).

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : ما ذكر من حضور الملائكة الحرب فهو ـ والله أعلم ـ في حق محنة الملائكة ، ولله أن يمتحنهم بما شاء من الحضور والمعونة ، والكف عن ذلك ، أو الدعاء لأوليائه بالنصر ، وبما شاء الله من الوجوه التي يمتحن بها عباده ، وفيهم من قد امتحنه على الأرزاق والأرواح ، والأمطار والأعمال ، وأنواع الأذكار والأفعال ؛ إذ هم خلق اصطفاهم واختارهم لعبادته وطاعته في جميع ما يأمرهم ؛ ليجل به قدرهم ، ويعلى رتبتهم ، ثم لو أذن لهم بالمعونة أعانوا المؤمنين على قدر الإذن لهم ؛ إذ هم ـ على ما وصفهم الله ـ : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٧].

وقوله : (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) [فصلت : ٣٨] وغير ذلك مما وصفهم بالطاعة له ، والاتباع لأمره ، وما أكرمهم من هيبة جلاله ، وخوف عقابه ، صلوات الله عليهم أجمعين.

ثم كان للمؤمنين في حضورهم أنواع البشارات فيما لم يكن أذن لهم بالقتال ، وأنواع الآيات فيما قد أذن لهم ، على ما ذكر من أمر بدر وغيره ؛ مما أخبر الله ـ عزوجل ـ من إرسال جنوده ، وهزيمة أعدائه ؛ بمنّه وفضله ، من ذلك : ما (٢) قال الله ـ عزوجل ـ : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ..). الآية [الأنفال : ١٢] ، أن يكون الله يؤيّدهم بما به تشجيع قلوب المؤمنين على ما قد أمكن أعداءه من أنواع الوساوس (٣) ، التي لديها تضطرب قلوبهم ، وتزل أقدامهم ، فمثله يمكن أولياءه في تشجيع المؤمنين ، ليسكن قلوبهم ، ويثبت أقدامهم ، والله أعلم.

والثاني : أن يكون الذي جبل عليه الخلق أن يكون كل أحد عند معاينة الحاجة إلى دعائه ، وما يحتمل وسعه من معونة ؛ عليه أقبل وبه أرغب ؛ فيكون للمؤمنين بحضورهم رجاء النصر بدعائهم ، ويخرج قوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا ..). الآية [غافر : ٥١] ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) ، والله أعلم.

أو كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عصرهم يبشرهم بحضورهم ؛ فيكون لهم بذلك فضل ثبات وقرار حياة منهم بما أعلموا اطلاعهم على ذلك ، أو يكون لهم فضل قوة بذلك ، وإقبال

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ١٩٣) (٧٨٠١) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٥٣٢) (١٣٨٦) عن ابن إسحاق ، وذكره أبو حيان في البحر (٣ / ٥٥) وعزاه للمبرد ، وذكره ابن عادل في اللباب (٥ / ٥٢٧).

(٢) في ب : على ما.

(٣) الوساوس : من الوسوسة : وهي حديث النفس ، يقال : وسوست إليه نفسه وسوسة ووسواسا والوسواس : الشيطان. ينظر : اللسان (٦ / ٤٨٣٠) (وسس).

٤٧٢

على الأمر ؛ على ما جبل الخلق من الإقبال على الأمور المهمة ، وإذا كثروا على ذلك قوله : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) [التوبة : ٢٥] ولعلهم ـ أيضا ـ بما يطمعون أنهم لو أطاعوا الله ، وثبتوا لأعدائه ـ أن لهم النصر والدفع ، فكان ذلك بعض ما يستبشرون ؛ وعلى ذلك أكثر ما بلى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالهزيمة ، إنما كان يصرف قلوبهم إلى بعض ما جبل عليه البشر من حبّ الدنيا ، والإعجاب بالكثرة ، ونحو ذلك ، ثم من أعظم الأعلام في ذلك ما قال الله ـ عزوجل ـ : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) فتكون البشارة والطمأنينة بالذي جبل عليه البشر على ما بينت ، ويكون النصر من عند الله ، الذي متى أراد نصر أحد لن يغلب ، قلّت أعوانه أو كثرت ، وذلك لطف من الله العزيز العليم ؛ يريهم النصر من الوجه الذي لا يعلمه إلا هو ، وفي حال الأنفس من أنفسهم أن يقوم لعدوهم ؛ ليعلموا عظيم لطفه الذي بمثله ارتفعت درجات الأخيار ، وشرفت منازلهم ، ولو كان لهم بالإذن ؛ على ما ذكر من قوة جبريل ـ عليه‌السلام ـ في قلب قريات لوط بجناح واحد ، لم يكن يقوم لمثله أهل الأرض ، فضلا عن عدد يسير منهم ، ولكنهم لا يتقدمون بين يدي الله ، والله لم يكن أذن لهم في القتال عند كل مشهد ، والله أعلم.

قوله تعالى : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٢٩)

وقوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ..). الآية.

قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) : إنما أنت عبد مأمور ؛ فليس لك من الأمر ؛ إنما ذلك إلى الواحد القهار ، الذي لا شريك له ولا ندّ ؛ كقوله : (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) [آل عمران : ١٥٤].

وقوله : (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ ..). الآية

فيه : أنه كان من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معنى قولا وفعلا ، حتى ترك قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) ، ولكنا لا نعلم ذلك المعنى ، غير أنه قيل في بعض القصّة : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شج يوم أحد في وجهه ، وكسرت رباعيته ، فدعا عليهم ؛ فنزل قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ)(١).

__________________

(١) أخرجه أحمد (٣ / ٩٩) ، ومسلم (٣ / ١٤١٧) : كتاب الجهاد : باب غزوة أحد (١٠٤ ـ ١٧٩١) ، والترمذي (٥ / ١٠٥) في التفسير : باب سورة آل عمران (٣٠٠٢) ، وقال : حسن صحيح ، وابن ماجه (٥ / ٤٩٥ ، ٤٩٦) كتاب الفتن : باب الصبر على البلاء (٤٠٢٧) ، والطبري في تفسيره (٧ / ١٩٥) (٧٨٠٥) ، (٧ / ١٩٦) (٧٨٠٦) (٧٨٠٧) ، والبغوي في شرح السنة (٣٧٤٨) من حديث أنس.

٤٧٣

وقيل : إن سرية من [أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم](١) خرجوا إلى قتال المشركين يقاتلونهم حتى قتلوا جميعا ، فشق على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه بقتلهم ، فدعا عليهم باللعنة ـ يعني : على المشركين ـ أربعين يوما في صلاة الغداة ؛ فنزل قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ)(٢).

وعن ابن عمر ـ [رضي الله عنه ـ أنه](٣) قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد : «اللهمّ العن أبا سفيان ، اللهمّ العن فلانا ، حتى لعن نفرا منهم» فنزل قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ..). الآية (٤).

وقيل : «إن نفرا من المسلمين انهزموا ، فشق ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزل : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ)(٥) ، فأمره بكف الدعاء عنهم ، والله أعلم بالقصّة في ذلك.

وقوله : (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) :

فإن كانت القصة في الكفار فكأنه طلب التوبة والهدى ، وأفرط في الشفقة فقال : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) فيهديهم لدينه ، (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) على كفرهم ؛ (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) ؛ كقوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص : ٥٦].

فإن كان في المؤمنين فقوله : (يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) عن ذنبهم الذي ارتكبوا ، (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) بذنبهم ، ولا يعفو عنهم ، والله أعلم بذلك.

وقوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ..). الآية.

فيه دلالة ما ذكرنا في قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) إنما الأمر إلى الله ، الذي له ما في السموات وما في الأرض ، هو الذي يغفر لمن يشاء ، ويعذب من يشاء.

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٢) أخرجه البخاري (٣ / ١٨٠) في كتاب الاستسقاء : باب دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رقم (١٠٠٦) ، وطرفاه في : (٢٩٣٢) ، (٣٣٨٦) ، ومسلم في صحيحه (١ / ٤٦٦ ـ ٤٦٨) كتاب المساجد ومواضع الصلاة : باب استحباب القنوت في جميع الصلاة ، إذا نزلت بالمسلمين نازلة برقم (٦٧٥ ـ ٦٧٧) ، وأحمد (٢ / ٢٣٩ ، ٢٥٥ ، ٤٧٠ ، ٥٠٢) ، والدارمي (١٦٠٣) ، وابن خزيمة (٦١٩) ، وابن ماجه (٢ / ٤٠٤ ، ٤٠٥) كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها ، باب ما جاء في القنوت في صلاة الفجر (١٢٤٤) ، والنسائي (٢ / ٥٤٦) كتاب التطبيق ، باب القنوت في صلاة الصبح ، والحميدي (٩٣٩).

(٣) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٤) أخرجه أحمد (٢ / ٩٣) ، والطبري (٧ / ٢٠٠) (٧٨١٩) ، والترمذي (٥ / ١٠٦) كتاب التفسير ، باب ومن سورة آل عمران (٣٠٠٤) ، وعبد الرزاق في مصنفه (٢ / ٤٤٥ ، ٤٤٦) (٤٠٢٧) وفي التفسير (١ / ١٣٢) ، والنسائي (٢ / ٢٠٣) ، وفي سننه الكبرى (٥٧٨) ، وأبو يعلى (٩ / ٤٠٣) ، (٥٥٤٧) ، وابن خزيمة (١ / ٣١٥) (٦٢٢) ، والطحاوي في مشكل الآثار (٥٦٧) ، وفي شرح المعاني (١ / ٢٤٢) ، وابن أبي حاتم في التفسير (٢ / ٥٣٣) (١٣٨٩) ، وابن حبان (١٩٨٧ ـ الإحسان) ، والطبراني في الكبير (١٣١١٣) ، والبيهقي (٢ / ١٩٨) ، والبغوي في التفسير (١ / ٤١٧).

(٥) تقدم قريبا.

٤٧٤

وفي قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) جواز العمل بالاجتهاد ؛ لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ عمل بالاجتهاد لا بالأمر ، حتى منع عنه ، والله أعلم.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) يحتمل أن يكون على أثر أمر مما جبل (١) عليه البشر ما رأى في ذلك صلاح الخلق ، ومما عليه التدبير بحيث الإطلاق فقيل هذا ، وإن كان على ما رأيت فليس لك من أمر هذا شيء ، وإنما الذي إليك الصفح عن ذلك والإعراض ، والله أعلم ما كان.

ويحتمل أن يكون يبتدئ القول به من غير أن يسبق منه ما يعاتب عليه أو يمنع منه ؛ ليكون ـ أبدا ـ متقبلا الإذن له في كل شيء والأمر ، ولا يطمع نفسه في شيء لم يسبق له البشارة به ، على أن النهي والوعيد أمران جائزان ، وإن كان قد عصم عن ركوب المنهي ، ووجوب الوعيد ؛ إذ هنالك تظهر رتبة العصمة ، ولا قوة إلا بالله.

والظاهر أن يكون على إثر أمر استعجل ذلك من : دعاء الإهلاك أو الهداية لقبول الحق والخضوع له ؛ فيقول : ليس لك شيء من ذلك في أحد على الإشارة إليه ، إنما ذلك إلى الله ، يصنع فيهم ما عنده من الثواب أو التعذيب ، على قدر ما يعلم من إقبالهم على الطاعة له أو نفاذهم عنها ، والله أعلم (٢).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(١٣٢)

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً).

قوله : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) ـ كقوله : (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) ففيه نهي عن الأخذ ؛ كقوله : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) [النساء : ١٦١] ؛ فعلى ذلك قوله : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) أي : لا تأخذوا.

وقوله : (أَضْعافاً مُضاعَفَةً)

فإن قيل : ما معنى النهي عن المضاعفة وغير المضاعفة حرام؟! لكنه يحتمل هذا وجوها :

__________________

(١) يقال : جبل الله الخلق يجبلهم ويجبلهم : خلقهم ، وجبله على الشيء : طبعه ، وجبل الإنسان على هذا الأمر ، أي : طبع عليه. اللسان (١ / ٥٣٨) (جبل).

(٢) وفي الاعتراض : أي في قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) تخفيف من حزنه لكفرهم وحرصه على هداهم ؛ كما قال ـ تعالى ـ : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٧٢] ، أفاده العلامة القاسمي.

ينظر : محاسن التأويل (٤ / ٢٢٤).

٤٧٥

يحتمل : أن يكون هذا قبل تحريم الربا (١) ، فنهوا عن أخذ المضاعفة.

ويحتمل قوله : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) : أي : لا تكثروا أموالكم بأخذ المضاعفة.

ويحتمل : (أَضْعافاً مُضاعَفَةً) أي : لا تصرّوا على استحلال الرّبا فتثبتون عليه آخر الأبد.

ويحتمل : (أَضْعافاً مُضاعَفَةً) : تضعيف العذاب.

ويحتمل ما قيل : كان أحدهم يبايع الرجل إلى أجل ، فإذا حل الأجل زاد في الربح ، وزاد الآخر في الأجل ، وذلك كان ربا الجاهلية.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في قوله : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا).

يحتمل الأكل ؛ لأنه نهاية كل كسب.

ويحتمل الأخذ ؛ كقوله : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) [النساء : ١٦١] وقوله : (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٨] ، وقوله : (أَضْعافاً مُضاعَفَةً) : في الأخذ ، أي : لا تأخذوا لتكثّروا أموالكم ، أو تقصدوا بذلك تضاعف أموالكم إلى غير حد ؛ وليس فيه أن القليل ليس بمحرم ، لكن ذلك هو مقصود أكله ؛ فنهوا عن ذلك ، وحرمة القليل بغير ذلك من ليكثّروا أن يكون في نازلة عليها ، خرج النهي لا على الإذن بدون ذلك ، ولو كان على حقيقة الأكل فهو على النهي عن التوسع بالربا أو الأمر بالعود إلى ما لا ربا فيه ، وإن كان

__________________

(١) الربا ـ لغة ـ : الفضل والزيادة ، وهو مقصور على الأشهر ، ويثنى فيقال : ربوان ـ بالواو على الأصل ـ وقد يقال : ربيان ـ على التخفيف ـ وينسب إليه فيقال ربوي. قاله أبو عبيد وغيره.

راجع : المصباح المنير (١ / ٣٣٣) (ربا).

وشرعا : اختلف الفقهاء في تعريف الربا تبعا لاختلاف المذاهب في استنباط علة تحريمه من حديث الأصناف الستة الذي ورد في الربا

وهو ما رواه مسلم في صحيحه (٣ / ١٢١٠) كتاب المساقاة ، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا ، رقم (٨٠ ـ ١٥٨٧) ، وأبو داود (٣ / ٢٤٨) كتاب البيوع ، باب في الصرف ، رقم (٣٣٤٩) ، وغيرهما عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تبيعوا الذهب بالذهب ، ولا الورق بالورق ، ولا البر بالبر ، ولا الشعير بالشعير ، ولا التمر بالتمر ، ولا الملح بالملح ، إلا سواء بسواء ، عينا بعين ، يدا بيد ...» الحديث. فعرفه الحنفية : بأنه فضل شرعي خال عن عوض شرط لأحد المتعاقدين في عقد المعاوضة.

وعرفه المالكية : بأنه عقد معاوضة على نقد أو طعام مخصوص بجنسه مع التفاضل أو مع التأخير مطلقا.

وعرفه الشافعية : بأنه عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما.

وعرفه الحنابلة : بأنه الزيادة في أشياء مخصوصة.

راجع : حاشية ابن عابدين (٤ / ١٩٦ ـ ١٩٧) ، حاشية البجيرمي على الخطيب (٣ / ١٦) ، المغني لابن قدامة (٤ / ١٢٢).

٤٧٦

في ذلك ضيق ، والله أعلم.

ويحتمل أن يكون في الآية إضمار ؛ فيقول : لا تأكلوا الربا ؛ لأنكم إن أكلتموه بعد العلم بالتحريم ـ تضاعفت عليكم المآثم والعقوبات ، وقد جعل الله للربا أعلاما دلت على ما غلظ شأنها ؛ نحو ما وصف من لا يتقيه لا ينفيه بالخروج بحرب الله وحرب رسوله (١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالتخبط يوم القيامة ، وانتفاخ البطن وما جرى في معاقبة اليهود ، وبتحريم أشياء لمكان ذلك ، وقوم شعيب ما حل بهم بلزومهم بتعاطى الربا ، والله أعلم ، (وَاتَّقُوا اللهَ) ولا تأخذوا الربا ولا تستحلوه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٢).

وقوله : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ).

فيه دلالة أنها إنما أعدت للكافرين ، لم تعدّ لغيرهم ، فذلك يرد على المعتزلة ؛ حيث خلدوا صاحب الكبيرة في النار ، والله ـ تعالى ـ يقول : إنها أعدت للكافرين ، وهم يقولون : ولغير الكافرين.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في قوله : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) :

يحتمل : للذين اتقوا الشرك ؛ كقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).

ويحتمل : للذين اتقوا جميع أنواع المعاصى : فإن كان التأويل هو الأول ـ فكل من لم يستحق بفعله اسم الكفر ـ فهو في الآية ؛ إذ قال في النار : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) ، لم يجز أن تكون هي أبدا لغيرهم ؛ لوجهين :

أحدهما : إذ لا يجوز أن تكون الجنة المتخذة للمؤمنين تكون لغيرهم ؛ فكذلك النار المعدة للكافرين ، وهذا أولى بجواز القول في إيجاب الجنة لمن لا يكون منه الإيمان ؛ نحو الذرية ، وفساد القول فيهم بالنار ، والله أعلم.

والثاني : أنها إذا جعلت لغيرهم أو أعدت لغيرهم ـ كان لا يكون للكفر فضل هيبة

__________________

(١) كما ورد في قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ...) [البقرة : ٢٧٨ ، ٢٧٩].

(٢) ومما يعلم به حكمة نظم هذه الآية في سلك قصة أحد : ما رواه أبو داود (٢٥٣٧) عن أبي هريرة أن عمرو بن أقيش كان له ربا في الجاهلية ، فكره أن يسلم حتى يأخذه ، فجاء يوم أحد فقال : أين بنو عمي؟ قالوا : بأحد ، قال : أين فلان؟ قال : بأحد ، قال : فأين فلان؟ قالوا : بأحد. فلبس لأمته وركب فرسه ، ثم توجه قبلهم. فلما رآه المسلمون قالوا : إليك عنا يا عمرو ، قال : إني قد آمنت.

فقاتل حتى جرح ، فحمل إلى أهله جريحا ، فجاءه سعد بن معاذ ، فقال لأخته : سليه : حمية لقومك ـ أو غضبا لهم ـ أم غضبا لله؟ فقال : بل غضبا لله ولرسوله. فمات فدخل الجنة ، وما صلى لله صلاة.

ينظر : محاسن التأويل للقاسمي (٤ / ٢٢٧).

٤٧٧

ولفعله فضل فزع في القلوب بوجود ذلك ، ومعلوم أن ذلك بالعواقب لا بنفس الفعل ـ ثبت أنه لا يجب خلود من ليس بكافر فيها حتى يكون ممن أعدّت له ، ولغير أثر وتحذير لا تحقيق ذلك كله ، والله أعلم.

وإن كان التأويل هو الثاني من اتقاء جميع المعاصى ؛ فيكون لذلك بعد عبارتان :

إحداهما : أن قد ظهر أهل الجنة وأهل النار ، وبينهم قوم لم تبلغ بهم الذنوب الشرك ، فيدخلون في الوعيد بالنار المعدة لهم ، ولا اتقوا جميع المعاصي ؛ فيكونون في الوعد المطلق فيمن أعدت له الجنة ؛ فحقه الوقف فيه حتى يظهر ذلك في قوله : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ١١٦] ، وفي قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) [الأحقاف : ١٦٤] وقوله : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) [التوبة : ١٠٢] الآية ، وغير ذلك من آيات العفو والمغفرة ، وما كان ذلك واجبا في الحكمة ، فيكون القائم به يستحق وصف العدل لا العفو والمغفرة ـ ثبت أن ذلك فيما قد وجب ، أو يكون فيمن يجزيهم جزاءهم ويدخلهم الجنة ؛ إذ أخبر أنه لا يجزي السيئة إلا بمثلها ، وبالتخليد مضاعفة ذلك من وجهين :

أحدهما : أنه عذاب الكفر ، وهذا دونه.

والثاني : منع لذة الحسنة بكليتها ، بل حق ذلك أن يكون كقوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) الآية [الزلزلة : ٧] أن يجزي بالأمرين جميعا ، ولا قوة إلا بالله.

والثاني : أنه قد جاء بمقابل السيئة من الحسنات ، ومقابل كل أنواع من المعاصي من الطاعات ، وقد وعد على الحسنة عشر أمثالها ؛ فمحال أن يقابل مثل الذي دون الشرك من السيئات ـ الشرك في إحباط العمل ، ولا يقابل مثل الذي دون الإيمان الإيمان في إحباط الذنوب ، ويجب له الجنة ، ثم مع ذلك الإيمان الذي لا أرفع منه ، وهو الذي بعثه على الخوف والرجاء وقت الإساءة ، وعلى أنه لو خشي على نفسه كل بلاء ورجا كل نفع في الكفر بربه ـ لم يؤثر ذلك مع ما وعد على الحسنة عشر أمثالها ، ثم يبطل لذة ذلك كله ، ويلزم الخلق القول فيه بالكرم والعفو والرحمة ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ).

ذكر ـ والله أعلم ـ طاعة الرسول ؛ لأن من الناس من لا يرى طاعة الرسول ؛ فأمر ـ عزوجل ـ بطاعة رسوله ـ لئلا يخالفوا أمر الله ولا أمر رسوله ، وأن من أطاع الله ولم ير طاعة رسوله فهو لم يطع الله في الحقيقة.

ويحتمل : (وَأَطِيعُوا اللهَ) في أمره ونهيه ، وأطيعوا الرسول فيما بين في سننه أو دعا أو

٤٧٨

بلغ ، والقصد في الآية إلى فرض طاعة الرسول ، وأطيعوا الرسول في أمره ونهيه ، كما أطعتم الله في أمره ونهيه.

قوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)(١٣٣)

وقوله : ـ عزوجل ـ (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ).

يحتمل أن يكون هذا موصولا بقوله ـ عزوجل ـ : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) [آل عمران : ١٣٠] أي : لا تأخذوا الربا أضعافا مضاعفة فتكثروا أموالكم ، وحقيقته : وسارعوا إلى ما فيه وعد المغفرة من ربكم : بالإجابة له إلى ما دعا ، والقيام به بحق الوفاء.

وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) في استحلال الربا ؛ لأن من استحل محرما فقد كفر ، وحقيقته : اتقوا ما أوعدكم ربكم عليه النار.

وأصل الطاعة : الائتمار بأمر المطاع في كل أمر ، فمن أطاع الله فيما أمر ، وأطاع رسوله ـ رحمه ربه ، وفي الطاعة رحمة الخلق ؛ على ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لن تدخلوا الجنّة [حتّى] تراحموا ؛ قالوا : كلّنا نرحم يا رسول الله ؛ قال : ليس رحمة الرّجل ولده ؛ ولكنّه رحمة عامّة» (١).

قوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ) في تحريم الربا ، وأطيعوا الرسول : في تبليغه إليكم تحريم الربا والنهي عن أخذه.

(لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) : أي : ارحموا الناس وترحموهم في ترك أخذ الربا ، ترحمون أنتم ، وتنجون من النار ومن (٢) عذاب الله.

ثم قال : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ).

أي : بادروا بالتوبة والرجوع عن استحلال الربا والترك عن أخذه ، والمغفرة هي فعل الله ، لكنه ـ والله أعلم ـ كأنه قال : بادروا إلى الأسباب التي بها تستوجبون المغفرة من ربكم ، والمغفرة : هي الستر في اللغة (٣).

ثم يحتمل وجهين :

يحتمل : ألا يهتك أستاركم في الآخرة إذا تبتم.

__________________

(١) أخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد (٨ / ١٩٠) ورجاله رجال الصحيح ، قاله الهيثمي. وسيذكره المصنف مرة ثانية عند تفسير الآية (١٥٩) من سورة آل عمران.

(٢) في ب : من.

(٣) ينظر : القاموس المحيط (ص : ٤٠٦) (غفر).

٤٧٩

ويحتمل : أن ينسى عليكم سيئاتكم في الجنة ؛ لأن ذكر المساوئ في الجنة تنقص عليهم نعمه ، فأخبر ـ عزوجل ـ أنّه ينسيهم مساوئهم في الجنة ؛ لئلا ينقص ذلك عليهم ، والله أعلم.

وقوله : ـ عزوجل ـ : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) :

وبادروا ـ أيضا ـ بالتوبة عن استحلال الربا إلى جنة عرضها السموات والأرض ، فمعنى ضرب مثل الجنة بضرب السموات والأرض ، وذلك ـ والله أعلم ـ ذكر هو أن للسماوات والأرض أحوالا ليست تلك الأحوال لغيرها من الخلائق ؛ بقوله ـ عزوجل ـ : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر : ٥٧] ؛ وذلك أنهما عندهم من أشد الخلائق وأقواها ، فقال : إن الذي قدر على اتخاذ ما هو أشدّ وأقوى وأصلب ـ لقادر على إنشاء ما هو دونه ، وهو هذا العالم الصغير.

ووصف ـ أيضا ـ السّماوات والأرض بالغلظ والكثافة والشدة ؛ لقوله ـ عزوجل ـ : (سَبْعَ سَماواتٍ* شِداداً)(١) وغلاظا ، ثم أخبر ـ عزوجل ـ أنها مع غلظها وكثافتها تكاد أن تنشق لعظيم ما قالوا بأن لله ولدا وشريكا بقوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا* أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) [مريم : ٩٠ ـ ٩١] ؛ ليعلموا عظيم (٢) القول وقبحه ؛ لئلا يقولوا في الله ما لا يليق به.

ووصف ـ أيضا ـ السّماوات والأرض بالدوام إلى وقت يبعد فناؤهما في أوهام الخلق ، وإن كانا فانيان بقوله ـ عزوجل ـ : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [هود : ١٠٧] ، فإذا كان للسماوات والأرض ما ذكرنا من الأحوال عند الخلق ، ليست تلك الأحوال لغيرها من الخلائق ؛ من شدتها وقوتها ، وصلابتها وكثافتها وسعتها ـ شبه عرض جنته وسعتها بسعة السموات والأرض وعرضهما ؛ لما هما عند الخلق ليسا بذوي نهاية ، وإن كانا ذوي نهاية وغاية ؛ كما وصف أهل الجنة وأهل النّار بالدوام فيهما بدوام السّماوات والأرض ، وإن كانا فيهما غير دائمين أبدا ؛ لبعد فنائهما عن أوهام الخلق ؛ فعلى ذلك الأول ، والله أعلم.

وفيه دلالة أن الجنة ذو نهاية المكان في العرض ، وإن لم تكن بذات نهاية الوقت وغايته ؛ لأنه ذكر العرض لها ، وكل ذي عرض يحتمل نهاية عرضه ـ والله أعلم ـ ولو لم يكن ذا نهاية من حيث العرض ، فكأن الله غير موصوف بالقدرة على الزيادة ، ومن زال عنه

__________________

(١) ورد ذلك في قوله ـ تعالى ـ : (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) [النبأ : ١٢].

(٢) في ب : أعظم.

٤٨٠