مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

والكلام هنا عن النعم والآلاء من أجل ما ذكرنا من اللطف في الآية السابقة.

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (٤٥)

تكملة للآيات السابقة يتحدث القرآن الكريم عن بعض مشاهد يوم القيامة ، والآيات أعلاه تذكر خصوصيات من مشاهد ذلك اليوم الموعود ، وعن كيفية الحساب والجزاء والعقاب. يقول سبحانه في بداية الحديث : (فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدّهَانِ).

ويستفاد من مجموع آيات القيامة بصورة واضحة أنّ النظام الحالي للعالم سوف يتغير ويضطرب وتقع حوادث مرعبة جدّاً في كل الوجود ، فتتغير الكواكب والسيارات والأرض والسماء ، وتحصل تغيّرات يصعب تصورها ، ومن جملتها ما ذكر في الآية أعلاه ، وهي إنشقاق وتناثر الكرات السماوية ، حيث يصبح لونها أحمر بصورة مذابة كالدهن.

ولأنّ الإخبار بوقوع هذه الحوادث المرعبة في يوم القيامة ـ أو قبلها ـ تنبيه وإنذار للمؤمنين والمجرمين على السواء ، ولطف من ألطاف الله سبحانه ، يتكرر هذا السؤال : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

وفي الآية اللاحقة ينتقل الحديث من الحوادث الكونية ليوم القيامة إلى حالة الإنسان المذنب في ذلك اليوم ، حيث يقول سبحانه : (فَيَوْمَئِذٍ لَّايُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ).

وكل شيء واضح ، وكل شيء يُقرأ في وجه الإنسان.

إنّ يوم القيامة يوم طويل جدّاً ، وعلى الإنسان أن يجتاز محطّات ومواقف متعددة فيه ، حيث لابد من التوقف في كل محطّة مدة زمنية.

إنّ في بعض هذه المواقف لا يسأل الإنسان إطلاقاً ، كما أنّ بعض المواقف الاخرى لا يسمح له بالكلام ، حيث تشهد عليه أعضاء بدنه. قال تعالى : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ

٦١

وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (١).

كما أنّ في بعض المحطّات يُسأل الإنسان وبدقة متناهية عن كافة أعماله.

ومرّة اخرى يخاطب سبحانه عباده ، حيث يقول : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

نعم ، إنّه لا يسأل حيث (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ).

ثم يضيف سبحانه : (فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالْأَقْدَامِ).

«النواصي : جمع ناصية وفي الأصل بمعنى الشعر وما يكون بمقدمة الرأس ، من مادة (نصأ) وتعني الإتصال والإرتباط ، وأخذ بناصيته بمعنى أخذه من شعره الذي في مقدمة رأسه ، كما تأتي أحياناً كناية عن الغلبة الكاملة على الشيء.

والمعنى الحقيقي للآية المباركة هو أنّ الملائكة تأخذ المجرمين في يوم القيامة من نواصيهم وأرجلهم ، ويرفعونهم من الأرض بمنتهى الذلة ويلقونهم في جهنم ، أو أنّه كناية عن منتهى ضعف المجرمين وعجزهم أمام ملائكة الرحمن ، حيث يقذفونهم في نار جهنم بذلة تامة.

ومرّة اخرى يضيف سبحانه : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ). لأنّ التذكير بيوم القيامة هو لطف منه تعالى.

ثم يقول سبحانه : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ).

ويضيف سبحانه في وصف جهنم وعذابها المؤلم الشديد حيث يقول : (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍءَانٍ).

«آن وآني هنا بمعنى الماء المغلي وفي منتهى الحرارة والإحراق.

فإنّ المجرمين يحترقون وسط هذا اللهيب الحارق لنار جهنم ، ويظمأون ويستغيثون للحصول على ماء يروي ظمأهم ، حيث يعطى لهم ماء مغلي (أو يصبّ عليهم) مما يزيد ويضاعف عذابهم المؤلم.

ويستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ (عين حميم) الحارقة تكون بجنب جهنم ، ويلقى فيها من يستحق عذابها ثم في النار يسجرون. قال تعالى : (يُسْحَبُونَ * فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ) (١).

__________________

(١) سورة يس / ٦٥.

٦٢

ومرّة اخرى بعد هذا التنبيه والتحذير الشديد الموقظ ، الذي هو لطف من الله يقول الباريء عزوجل : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

(وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٧) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٩) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥١) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (٥٥)

الجنّتان اللتان اعدّتا للخائفين : يترك القرآن الكريم وصفه لأهل النار وحالاتهم البائسة لينقلنا إلى صفحة جديدة من صفحات يوم القيامة ، ويحدثنا فيها عن الجنة وأهلها ، وما أعدّ لهم من النعم فيها ، والتي يصوّرها سبحانه بشكل مشوّق ومثير ينفذ إلى أعماق القلوب في عملية مقارنة لما عليه العاصون من عذاب شديد يحيط بهم والتي تحدثت عنها الآيات السابقة ، وما ينتظر المؤمنين من جنّات وعيون وقصور وحور في الآيات أعلاه ، يقول سبحانه : (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ).

وللخوف من الله أسباب مختلفة ، فأحياناً يكون بسبب قبح الأعمال وانحراف الأفكار ، واخرى بسبب القرب من الذات الإلهية حيث الشعور بالخوف والقلق من الغفلة والتقصير في مجال طاعة الله ، وأحياناً اخرى لمجرد تصورهم لعظمة الله اللامتناهية وذاته اللامحدودة فينتابهم الشعور بالخوف والضعة أمام قدسيته العظيمة ... وهذا النوع من الخوف يحصل من غاية المعرفة لله سبحانه ، ويكون خاصاً بالعارفين والمخلصين لحضرته.

ومرّة اخرى ، وبعد ذكر هذه النعم العظيمة يخاطب الجميع بقوله : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

ثم يضيف سبحانه في وصفه لهاتين الجنتين بقوله : (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ).

وبعد ذكر هذه النعم يكرّر سبحانه السؤال مرّة اخرى فيقول : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

ولأنّ البساتين النضرة والأشجار الزاهية ينبغي أن تكون لها عيون ، أضاف سبحانه في وصفه لهذه الجنة بقوله : (فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ).

ثم يطرح مقابل هذه النعمة الإضافية قوله : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

__________________

(١) سورة غافر / ٧١ و ٧٢.

٦٣

وفي الآية اللاحقة ينتقل البحث إلى فاكهة هاتين الجنّتين حيث يقول سبحانه : (فِيهِمَا مِن كُلّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ).

ثم يضيف سبحانه قوله : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

لقد طرحت في الآيات السابقة ثلاث صفات لهاتين الجنّتين ، وتستعرض الآية التالية الصفة الرابعة حيث يقول تعالى : (مُتَّكِينَ عَلَى فُرُش بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ).

وهذا التعبير يدلّل على الهدوء الكامل والإستقرار التامّ لدى أهل الجنة.

إنّ أثمن قماش يتصور في هذه الدنيا يكون بطانة لتلك الفرش ، إشارة إلى أنّ القسم الظاهر لا يمكننا وصفه من حيث الجمال والجاذبية.

وأخيراً ، وفي خامس نعمة يشير سبحانه إلى كيفية هذه النعم العظيمة ، حيث يقول : (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ). جنى : على وزن (بقى) وتعني الفاكهة التي نضج قطفها ؛ ودان في الأصل (داني) بمعنى قريب.

ومرّة اخرى يخاطب الجميع سبحانه بقوله تعالى : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

(فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٩) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (٦١)

الجنة والزوجات الحسان : في الآيات السابقة ذكرت خمسة أقسام من هبات وخصوصيات الجنتين ، وهنا نتطرّق لذكر النعمة السادسة وهي الزوجات الطاهرات ، حيث يقول سبحانه : (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ). قد قصرن طرفهنّ على أزواجهن ، ولم يردن غيرهم. ثم يضيف تعالى : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ) (١).

في تفسير مجمع البيان : قال أبو ذرّ : إنّها تقول لزوجها : وعزة ربّي ما أرى في الجنة شيئاً أحسن منك فالحمد لله الذي جعلني زوجتك ، وجعلك زوجي.

«طرف : على وزن (حرف) بمعنى جانب العين ، وبما أنّ الإنسان عندما يريد النظر يحرّك

__________________

(١) يطمثهنّ : من مادة طمث ، في الأصل بمعنى دم الدورة الشهرية ، وجاءت بمعنى زوال البكارة ؛ والمراد هنا أنّ النساء الباكرات في الجنة لم يكن لهنّ أزواج قطّ.

٦٤

أجفانه ، لذا فقد استعمل هذا اللفظ كناية عن النظر ، وبناءً على هذا فإنّ التعبير بقاصرات الطرف إشارة إلى النساء اللواتي يقصرن طرفهن على أزواجهن ، ويعني أنّهن يكننّ الحبّ والودّ لأزواجهن فقط ، وهذه هي إحدى ميزات الزوجة التي لا تفكّر بغير زوجها ولا تضمر لسواه الودّ.

وفي التعقيب على نعمة الجنة هذه يكرّر قوله تعالى : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

ثم يتطرق إلى المزيد من وصف الزوجات الموجودات في الجنة ، حيث يقول : (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ).

ومرّة اخرى ، وبعد ذكر هذه النعمة يقول سبحانه : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

وفي نهاية هذا البحث يقول عزوجل : (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ).

وهل ينتظر أن يجازى من عمل عملاً صالحاً في الدنيا بغير الإحسان الإلهي؟

يقول الراغب في المفردات : الإحسان فوق العدل ، وذاك أنّ العدل هو أن يعطي ما عليه ويأخذ ماله ، والإحسان أن يعطي أكثر ممّا عليه ويأخذ أقلّ مما له فالإحسان زائد على العدل ..

ويتكرّر قوله سبحانه مرّة اخرى : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

وذلك لأنّ جزاء الإحسان بالإحسان نعمة كبيرة من قبل الله تعالى ، حيث يؤكّد سبحانه أنّ جزاءه مقابل أعمال عباده مناسب لكرمه ولطفه وليس لأعمالهم ، مضافاً إلى أنّ طاعاتهم وعباداتهم إنّما هي بتوفيق الله ولطفه ، وبركاتها تعود عليهم.

(وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٣) مُدْهَامَّتَانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٥) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٧) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (٦٩)

جنتان بأوصاف عجيبة : بعد بيان صفات جنتي الخائفين وخصوصياتهما المتميزة ، واستمراراً للبحث ينتقل الحديث في الآيات التالية عن جنتين بمرتبة أدنى من السابقتين يكونان لأشخاص أقلّ خوفاً وإيماناً بالله تعالى من الفئة الاولى ، حيث إنّ هدف العرض هو بيان سلسلة درجات ومراتب للجنان تتناسب مع الإيمان والعمل الصالح للأفراد.

يقول سبحانه في البداية : (وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ).

٦٥

في تفسير مجمع البيان : فقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما.

وفي نفس الموضوع ورد في حديث آخر : جنتان من ذهب للمقربين ، وجنتان من ورق لأصحاب اليمين (١). أي من فضة.

ثم يضيف سبحانه : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

ثم ذكر القرآن الخصوصيات الخمس لهاتين الجنتين التي تشبه ـ إلى حد ما ـ ما ذكر حول الجنتين السابقتين ، كما أنّهما تختلفان في بعض الخصوصيات الاخرى حيث يقول سبحانه : (مُدْهَامَّتَانِ).

«مدهامتان : من مادة (أدهيمام) ومن أصل (دهمه) على وزن (تهمه) ومعناها في الأصل السواد وظلمة الليل ، ثم اطلقت على الخضرة الغامقة المعتمة ، ولأنّ مثل هذا اللون يحكي عن غاية النضرة للنباتات والأشجار ، ممّا يعكس منتهى السرور والإنشراح ، لهذا فقد استعمل لهذا المعنى.

ويضيف سبحانه مرّة اخرى : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

وفي الآية اللاحقة يصف الجنة وصفاً إضافياً حيث يقول سبحانه : (فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ). نضّاختان : من مادة (نضخ) بمعنى فوران الماء.

ومرّة اخرى يسأل سبحانه عن الإنس والجن سؤالاً إستنكارياً فيقول : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

وتتحدث الآية التالية حول فاكهة هاتين الجنتين حيث تقول : (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ).

ويكرّر سبحانه السؤال مرّة اخرى : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

(فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٧) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) (٧٨)

__________________

(١) الدرّ المنثور ٦ / ١٤٦. والتعبير بالذهب والفضة يمكن أن يكون إشارة إلى اختلاف درجة هاتين الجنتين.

٦٦

زوجات الجنة ... مرّة اخرى : استمرار لشرح نعم الجنتين التي ذكرت في الآيات السابقة ، تتحدث هذه الآيات عن قسم آخر من هذه النعم التي تزخر بها جنان الله التي أعدّها للصالحين من عباده ، حيث يقول سبحانه في البداية : (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ).

تستعمل كلمة (خير) غالباً للصفات الجيدة والجمال المعنوي ، أمّا حسن فإنّها تستعمل للجمال الظاهر. لذا فإنّ المقصود ب (خَيْرَاتٌ حِسَانٌ) اولئك النسوة اللواتي جمعن بين حسن السيرة ، وحسن الظاهر.

وجاء في الروايات في تفسير هذه الآية أنّ الصفات الحسنة للزوجات في الجنة كثيرة ومن جملتها طيب اللسان والنظافة والطهارة ، وعدم الإيذاء ، وعدم النظر للرجال الأجانب.

ومرّة اخرى يكرّر السؤال نفسه بقوله تعالى : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

ثم يضيف مستمراً في وصف الزوجات في الجنة : (حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِى الْخِيَامِ).

«حور : جمع حوراء وأحور ، وتطلق على الشخص الذي يكون سواد عينه قاتماً وبياضها ناصعاً ، وأحياناً تطلق على النساء اللواتي يكون لون وجوههن أبيض.

والتعبير ب مقصورات إشارة إلى أنّهن مرتبطات ومتعلقات بأزواجهن ومحجوبات عن الآخرين.

ومرّة اخرى يكرّر السؤال نفسه بقوله تعالى : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

ويضيف سبحانه وصفاً آخر لحوريات الجنة ، حيث يقول : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ).

ويستفاد من الآيات القرآنية أنّ الزوجين المؤمنين في هذه الدنيا سيلتحقان في الجنة مع بعضهما ويعيشان في أفضل الحالات.

ويستفاد أيضاً من الروايات أنّ درجة ومقام زوجات المؤمنين الصالحات أعلى وأفضل من حوريات الجنة وذلك بما قمن به في الدنيا من صالح الأعمال وعبادة الله سبحانه.

ثم يضيف تعالى : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

وفي آخر وصف للنعم الموجودة في هذه الجنة يذكر سبحانه تعالى : (مُتَّكِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِىّ حِسَانٍ).

«رفرف : في الأصل بمعنى الأوراق الواسعة للأشجار ، ثم اطلقت على الأقمشة الملوّنة الزاهية التي تشبه مناظر الحدائق.

٦٧

«عبقري : في الأصل بمعنى كل موجود قلّ نظيره.

وحسان : جمع حسن على وزن نسب بمعنى جيّد ولطيف.

فإنّ هذه التعابير حاكية جميعاً عن أنّ كل موجودات الجنة لا نظير له ولا شبيه في نوعه.

وللمرّة الأخيرة وهي (الحادية والثلاثون) يسأل سبحانه جميع مخلوقاته من الجن والإنس هذا السؤال : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

هل النعم المعنوية؟ أم النعم الماديّة؟ أم نعم هذا العالم؟ أم الموجودة في الجنة؟ إنّ كل هذه النعم شملت وجودكم وغمرتكم ... إلّاأنّه ـ مع الأسف ـ قد أنساكم غروركم وغفلتكم هذه الألطاف العظيمة ، ومصدر عطائها وهو الله سبحانه الذي أنتم بحاجة مستمرّة إلى نعمه في الحاضر والمستقبل ... فأيّاً منها تنكرون وتكذّبون؟

ويختم السورة سبحانه بهذه الآية الكريمة : (تَبَارَكَ اسْمُ رَبّكَ ذِى الْجَللِ وَالْإِكْرَامِ).

«تبارك : من أصل (برك) بمعنى صدر البعير ، وذلك لأنّ الجمال حينما تبرك تضع صدرها على الأرض أوّلاً ، ومن هنا استعمل هذا المصطلح بمعنى الثبات والدوام والاستقامة ، لذا فإنّ كلمة (مبارك) تقال للموجودات الكثيرة الفائدة ، وأكرم من تطلق عليه هذه الكلمة هي الذات الإلهية المقدسة باعتبارها مصدراً لجميع الخيرات والبركات.

واستعملت هذه المفردة هنا لأنّ جميع النعم الإلهية ـ سواء كانت في الأرض والسماء في الدنيا والآخرة والكون والخلق ـ فهي من فيض الوجود الإلهي المبارك ، لذا فإنّ هذا التعبير من أنسب التعابير المذكورة في الآية لهذا المعنى.

والملفت للنظر هنا أنّ هذه السورة بدأت باسم الله (الرحمن) وانتهت باسم الله ذي الجلال والإكرام) وكلاهما ينسجمان مع مجموعة مواضيع السورة.

نهاية تفسير سورة الرحمن

* * *

٦٨

٥٦

سورة الواقعة

محتوى السورة : إنّ سورة الواقعة نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكانت قبلها سورة (طه) وبعدها (الشعراء) (١).

هذه السورة ـ كما هو واضح من لحنها ، وذكره المفسرون أيضاً ـ نزلت في مكة ، بالرغم من أنّ بعضهم قال : إنّ الآيتين (٨١ و ٨٢) نزلتا في المدينة ، إلّاأنّ هذا الإدعاء ليس له دليل ، كما أنّ محتوى الآيتين الكريمتين لا يساعدان على ذلك أيضاً.

وسورة الواقعة ـ كما هو واضح من إسمها ـ تتحدث عن القيامة وخصوصياتها ، ولذا فإنّ هذا الموضوع هو الأساس في البحث.

إلّا أنّنا نستطيع أن نلخّص موضوعات السورة في ثمانية أقسام :

١ ـ بداية ظهور القيامة والحوادث المرعبة المقترنة بها.

٢ ـ تقسيم أنواع الناس في ذلك اليوم إلى ثلاثة طوائف : (أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، والمقربين).

٣ ـ بحث مفصل حول مقام المقربين ، وأنواع الجزاء لهم في الجنة.

__________________

(١) الفهرست للنديم / ٢٨.

٦٩

٤ ـ بحث مفصل حول القسم الثاني في الناس وهم أصحاب اليمين ، وأنواع الهبات الإلهية الممنوحة لهم.

٥ ـ بحث حول أصحاب الشمال وما ينتظرهم من جزاء مؤلم في نار جهنم.

٦ ـ بيان أدلة مختلفة حول مسألة المعاد من خلال بيان قدرة الله عزوجل ، وخلق الإنسان من نطفة حقيرة ، وظهور الحياة في النباتات ، ونزول المطر ، إشتعال النار.

٧ ـ وصف حالة الاحتضار والإنتقال من هذا العالم إلى حيث العالم الاخروي والتي تعتبر من مقدمات يوم القيامة.

٨ ـ وأخيراً نظرة إجمالية كلية حول جزاء المؤمنين وعقاب الكافرين.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قرأ سورة الواقعة ، كتب ليس من الغافلين. وذلك لأنّ آيات هذه السورة تتّصف بالتحريك والإيقاظ بصورة لا تسمح للإنسان أن يبقى في جوّ الغفلة.

وفي ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : من قرأ في كل ليلة جمعة الواقعة أحبّه الله وأحبّه إلى الناس أجمعين ، ولم ير في الدنيا بؤساً أبداً ولا فقراً ولا فاقة ، ولا آفة من آفات الدنيا ، وكان من رفقاء أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ومن الواضح أنّنا لا نستطيع الحصول على جميع البركات التي وردت لهذه السورة بالقراءة السطحية ، بل ينبغي بعد تلاوتها التفكر والتدبر ، ومن ثم الحركة والعمل.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (٢) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (٣) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً (٤) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً (٥) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً (٦) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً (٧) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (١٤)

الواقعة العظيمة : إنّ الأحداث المرتبطة بالقيامة تذكر غالباً في القرآن الكريم مقترنة بحوادث أساسية عظيمة قاصمة ومدمّرة ، وهذا ما يلاحظ في الكثير من السور القرآنية التي

٧٠

تتحدث عن القيامة ؛ وفي سورة الواقعة ، نجد هذا واضحاً في الآيات الاولى منها ، حيث يبدأ سبحانه بقوله : (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ).

لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ). وذلك لأنّ الحوادث التي تسبقها عظيمة وشديدة بحيث تكون آثارها واضحة في كل ذرات الوجود.

فإنّ الحشر لا يقترن بتغيير الكائنات فحسب ، بل إنّ البشر يتغيّر كذلك كما يقول سبحانه في الآية اللاحقة : (خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ).

أجل ، بعض يسقط إلى قاع جهنم ، وبعض آخر إلى أعلى عليين في الجنة.

وفي الخصال عن الإمام علي بن الحسين عليهما‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : خافضة خفضت والله بأعداء الله في النار ، رافعة رفعت والله أولياء الله إلى الجنة.

ثم يستعرض القرآن الكريم وصفاً أوسع في هذا الجانب حيث يقول : (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا).

يا له من زلزال عظيم وشديد إلى حدّ أنّ الجبال فيه تندكّ وتتلاشى. قال تعالى : (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثًّا).

«رُجّت : من مادة رجّ على وزن (حجّ) بمعنى التحرّك الشديد للشيء وتقال رجرجة للإضطراب ؛ وبُسّت : من مادة بسّ على وزن (حجّ) والأصل بمعنى تليّن الطحين وتعجنه بواسطة الماء ؛ وهباءً : بمعنى غبار ؛ ومنبث : بمعنى منتشر.

وبعد بيان وقوع هذه الظاهرة العظيمة والحشر الكبير يستعرض القرآن المجيد ذكر حالة الناس في ذلك اليوم ، حيث قسّم الناس إلى ثلاثة أقسام بقوله سبحانه : (وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلثَةً).

وحول القسم الأوّل يحدّثنا القرآن الكريم بقوله : (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ). والمقصود من أصحاب الميمنة هم الأشخاص الذين يعطون صحيفة أعمالهم بأيديهم اليمنى ، وهذا الأمر رمز لأهل النجاة ، ودليل الأمان للمؤمنين والصالحين في يوم القيامة ، كما ذكر هذا مراراً في الآيات القرآنية.

عبارة ما أصحاب الميمنة هو بيان حقيقة السعادة التي ليس لها حدّ ولا يمكن تصوّرها لهؤلاء المؤمنين.

ثم يستعرض الله تعالى المجموعة الثانية بقوله : (وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ

٧١

الْمَشْئَمَةِ). حيث الشؤم والتعاسة ، وإستلام صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى التي هي رمز سوء عاقبتهم وعظيم جرمهم وجنايتهم ، نتيجة عمى البصيرة والسقوط في وحل الضلال. والتعبير ب ما أصحاب المشئمة هو الآخر يعكس نهاية سوء حظّهم وشقاوتهم.

وأخيراً يصف المجموعة الثالثة أيضاً بقوله سبحانه : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ).

(السابقون) ليسوا الذين سبقوا غيرهم بالإيمان فحسب ، بل في أعمال الخير والأخلاق والإخلاص ، فهم اسوة وقدوة وقادة للناس ، ولهذا السبب فهم من المقربين إلى الحضرة الإلهية.

وإذا فسّرت (السابقون) كما في بعض الروايات الإسلامية بأنّها تعني الأشخاص الأربعة وهم هابيل ، ومؤمن آل فرعون ، وحبيب النجار الذين تميّز كل منهم بأسبقيته في قومه ، وكذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي هو أوّل من دخل في الإسلام من الرجال ، فإنّ هذا التفسير هو بيان للمصاديق الواضحة ، وليس تحديداً لمفهوم الآية.

ثم يوضّح المقام العالي للمقربين ، حيث يقول سبحانه : (فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ).

التعبير ب (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) يشمل أنواع النعم المادية والمعنوية.

ويشير في الآية اللاحقة إلى الحالة العددية في الامم السابقة وفي هذه الامة أيضاً حيث يقول سبحانه : (ثُلَّةٌ مّنَ الْأَوَّلِينَ). أي أنّهم جماعة كثيرة في الامم السالفة والأقوام الاولى.

(وَقَلِيلٌ مّنَ الْأَخِرِينَ).

وطبقاً لهاتين الآيتين فإنّ قسماً كبيراً من المقربين هم من الامم السابقة ، وقسم قليل منهم فقط هم من امة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً (٢٥) إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً) (٢٦)

الجنة بإنتظار المقربين : هذه الآيات تتحدث عن أنواع نعم الجنة التي أعدّها الله

٧٢

سبحانه للقسم الثالث من عباده المقربين ، والتي كل واحدة منها أعظم من اختها وأكرم ..

وقد لخّصت هذه النعم بسبعة أقسام :

يقول تعالى في البداية : (عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ * مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ).

«سرر : جمع سرير من مادة (سرور) بمعنى التخت الذي يجلس عليه المنعّمين في مجالس الانس والسرور.

ونلاحظ استمرار الأوصاف الرائعة في القرآن الكريم لسرر الجنة ، ومجالس أهلها ، ومنتديات أحبّتها مما يدل على أنّ من أهم نعم وملذات هؤلاء هي جلسات الانس هذه ..

ثم يتحدث سبحانه عن نعمة اخرى لهم حيث يقول : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ).

التعبير ب يطوف من مادة (طواف) إشارة إلى استمرار خدمة هؤلاء (الطوافين) لضيوفهم.

والتعبير ب مخلّدون إشارة إلى خلود شبابهم ونشاطهم وجمالهم وطراوتهم ، والأصل أنّ جميع أهل الجنة مخلّدون وباقون.

ويضيف القرآن أنّ هؤلاء الولدان يقدّمون لأصحاب الجنة أقداح الخمر وكؤوس الشراب المأخوذ من أنهار الجنة : (بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقٍ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ) (١).

وشرابهم هذا ليس من النوع الذي يأخذ لباب العقل والفكر ، حيث يقول تعالى : (لَّا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ) (٢).

إنّ الحالة التي تنتابهم من النشوة الروحية حين تناولهم لهذا الشراب لا يمكن أن توصف ، إذ تغمر كل وجودهم بلذة ليس لها مثيل.

ثم يشير سبحانه إلى رابع وخامس قسم من النعم المادية التي وهبها الله للمقربين في الجنة ، حيث يقول سبحانه : (وَفَاكِهَةٍ مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ). (وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ).

__________________

(١) أكواب : جمع كوب بمعنى القدح أو الإناء الذي لا عروة له ؛ وأباريق : جمع إبريق وهي في الأصل اخذت من الفارسية (أبريز) بمعنى الأواني ذات اليد من جهة ، ومن الاخرى ذات أنبوب لصبّ السائل ؛ وكأس : تقال للإناء المملوء بالسائل لدرجة يفيض من جوانبه ؛ ومعين من مادة معن بمعنى الجاري.

(٢) يصدّعون : من مادة صداع على وزن (حباب) ، بمعنى وجع الرأس ، وهذا المصطلح في الأصل من (صدع) بمعنى (الإنفلاق) لأنّ الإنسان عندما يصاب بوجع رأس شديد فكأنّ رأسه يريد أن ينفلق من شدّة الألم ، لذا فإنّ هذه الكلمة قد استعملت في هذا المعنى ؛ وينزفون : من أصل نزف بمعنى سحب جميع مياه البئر بصورة تدريجيّة ، وتستعمل أيضاً حول (السُكْرُ) وفقدان العقل.

٧٣

إنّ تقديم الفاكهة على اللحم بلحاظ كون الفاكهة أفضل من الناحية الغذائية بالإضافة إلى نكهتها الخاصة عند أكلها قبل الطعام.

والذي يستفاد من بعض الروايات أنّ غصون أشجار الجنة تكون في متناول أيدي أهل الجنة ، بحيث يستطيعون بكل سهولة أن يتناولوا أي نوع من الفاكهة مباشرة ، وهكذا الحال بالنسبة لبقيّة الأغذية الموجودة في الجنة ، إلّاأنّ مما لا شك فيه أنّ تقديم الغذاء من قبل (الولدان المخلّدين) له صفاء خاص ولطف متميز حيث إنّ تقديم الطعام يعبّر عن مزيد الإحترام والإكرام لأهل الجنة.

ثم يشير سبحانه إلى سادس نعمة وهي الزوجات الطاهرات الجميلات ، حيث يقول سبحانه : (وَحُورٌ عِينٌ). (كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُوِ الْمَكْنُونِ).

«حور : جمع حوراء وأحور ، ويقال للشخص الذي يكون سواد عينه شديداً وبياضها شفافاً ؛ وعين : جمع عيناء وأعين ، بمعنى العين الواسعة.

«مكنون : بمعنى مستور ، والمقصود هنا الاستتار في الصدف. أنّهن مستورات عن أعين الآخرين بصورة تامة ، لا يد تصل إليهن ولا عين تقع عليهن.

وبعد الحديث عن هذه المنح ، والعطايا المادية الستّة ، يضيف سبحانه : (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). كي لا يتصور أحد أنّ هذه النعم تعطى جزافاً ، بل إنّ الإيمان والعمل الصالح هو السبيل لنيلها والحصول عليها ، حيث يلزم للإنسان العمل المستمر الخالص حتى تكون هذه الألطاف الإلهية من نصيبه.

ويلاحظ بأنّ (يعملون) فعل مضارع يعطي معنى الإستمرار.

ويتحدث القرآن الكريم عن سابع نعمة من نعم أهل الجنة ، وهي التي تتسّم بالطابع الروحي المعنوي ، حيث يقول تعالى : (لَايَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا).

فالجوّ هناك جوّ نزيه خالص بعيد عن الدنس ، فلا كذب ، ولا تهم ، ولا إفتراءات ، ولااستهزاء ولا غيبة ولا ألفاظ نابية وعبارات لاذعة ... وليس هنالك لغو ولا كلام فارغ.

ثم يضيف سبحانه : (إِلَّا قِيلاً سَلمًا سلمًا).

سلام وتحية من الله ، ومن الملائكة المقربين ، وسلامهم وتحيّتهم لبعضهم البعض في تلك المجالس العامرة المملوءة بالصفاء والتي تفيض بالودّ والاخوّة والصدق.

٧٤

(وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (٣٥) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً (٣٦) عُرُباً أَتْرَاباً (٣٧) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (٤٠)

أصحاب اليمين وهباتهم : بعد بيان الهبات والنعم الماديّة والمعنوية (للمقرّبين) يأتي الدور في الحديث عن (أصحاب اليمين) ، ويشير سبحانه إلى نعم ستّ ، ممّا أنعم به عليهم تمثّل مرحلة أدنى في مقابل سبع نِعم منحها سبحانه إلى المقرّبين من عباده.

تبدأ الآيات في الحديث عنهم أوّلاً من حيث مقامهم العالي ، حيث يقول عزوجل : (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ).

إنّ هذا الوصف هو أروع وصف لهؤلاء ، لأنّ هذا التعبير يستعمل في موارد لا تستطيع الألفاظ التعبير عنه ، وهو تعبير عن المقام العالي لأصحاب اليمين.

وتشير الآية اللاحقة إلى أوّل نعمة منحت لهذه الجماعة ، حيث تقول : (فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ).

وفي تفسير روح المعاني : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقولون : إنّ الله تعالى ينفعنا بالأعراب ومسائلهم ، أقبل أعرابي يوماً ، فقال : يا رسول الله! لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية وما كنت أرى أنّ في الجنة شجرة تؤذي صاحبها؟

قال : وما هي. قال : السدر ، فإنّ له شوكاً.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أليس الله يقول : في سدر مخضود ، خضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة ، وأنّ الثمرة من ثمره تفتق اثنين وسبعين لوناً من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر.

ثم يأتي الحديث عن ثاني هبة لهم حيث يقول سبحانه : (وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ).

«الطلح : شجرة خضراء لطيفة اللون والرائحة ، وذكر البعض أنّها شجرة الموز التي تتميّز بأوراق عريضة وخضراء وجميلة ، وفاكهتها حلوة ولذيذة.

ومنضود : من مادة (نضد) بمعنى متراكم.

وقال بعض المفسرين : بالنظر إلى أنّ أوراق شجر السدر في غاية الصغر ، وأوراق شجر

٧٥

الموز في غاية الكبر فقوله تعالى (فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ) اشارة إلى ما يكون ورقه في غاية الصغر من الأشجار وإلى ما يكون ورقه في غاية الكبر منها فوقعت الإشارة إلى الطرفين جامعة لجميع الأشجار نظراً إلى أوراقها ، والورق أحد مقاصد الشجر (١).

ثم يستعرض سبحانه ذكر النعمة الثالثة من نعم أهل اليمين بقوله : (وَظِلّ مَّمْدُودٍ).

فسّر البعض هذا (الظل الواسع) بحالة شبيهة للظل الذي يكون ما بين الطلوع الفجر إلى طلوع الشمس من حيث إنتشاره في كل مكان ، وقد نقل حديث للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا المعنى في روضة الكافي (٢).

وينتقل الحديث إلى مياه الجنة حيث يقول سبحانه : (وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ).

«مسكوب : من مادة سكب تعني في الأصل الصبّ ، ولأنّ صبّ الماء يكون من الأعلى إلى الأسفل بصورة تيّار أو شلّال فهى إحدى الهبات التي منحها الله لأهل الجنة.

ومن الطبيعي أنّ هذه الجنة المليئة بالأشجار العظيمة ، والمياه الجارية ، لابدّ أن تكون فيها فواكه كثيرة ، وهذا ما ذكرته الآية الكريمة ، حيث يقول سبحانه في ذكر خامس نعمة : (وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَّامَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ).

نعم ، ليست كفواكه الدنيا من حيث محدوديتها في فصول معيّنة من أسابيع أو شهور.

ثم يشير سبحانه إلى نعمة اخرى حيث يقول : (وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ). أي الزوجات الرفيعات القدر والشأن.

«فرش : جمع فراش وتعني في الأصل كل فراش يفرش ولهذا التناسب فإنّها تستعمل في بعض الأحيان كناية عن الزوج (سواء كان رجلاً أو امرأة).

ويصف القرآن الكريم زوجات الجنة بقوله تعالى : (إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً).

وهذه الآية لعلّها تشير إلى الزوجات المؤمنات في هذه الدنيا حيث يمنحهنّ الله سبحانه خلقاً جديداً في يوم القيامة ، ويدخلن الجنة وهنّ في قمّة الحيوية والشباب والجمال والكمال الظاهر والباطن ، وبشكل يتناسب مع كمال الجنة وخلوّها من كل نقص وعيب.

ثم يضيف تعالى : (فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا).

واحتمال أن يكون الوصف مستمرّاً ، كما صرّح كثير من المفسرين بذلك ، واشير له في

__________________

(١) التّفسير الكبير ، الفخر الرازي ٢٩ / ١٦٢.

(٢) روضة الكافي ٨ / ٩٩.

٧٦

الروايات الإسلامية أيضاً ، حيث الزواج لا يغيّر وضعهن ويبقين أبكاراً (١).

ويضيف في وصفهن بوصف آخر فيقول تعالى : (عُرُبًا).

«عُرُباً : جمع عروبة بمعنى المرأة التي يحكي وضع حالها عن مقام عفّتها وطهارتها ، وعمّا تكنّه من المحبة لزوجها ؛ وإعراب : معناه هو نفس مدلول الإظهار ، ويأتي هذا المصطلح أيضاً بمعنى الفصاحة ولطافة الكلام ، ويمكن جمع المعنيين في هذه الآية.

والوصف الآخر لهن : (أَتْرَابًا). أي : أنّها متماثلات في الجمال وأتراب في الظاهر والباطن ، ومتماثلات في العمر مع أزواجهن.

«أتراب : جمع ترب بمعنى المثل والشبيه. إنّ هذا الشبه والتماثل يمكن أن يكون في أعمار الزوجات بالنسبة لأزواجهن ، كي يدركن إحساسات ومشاعر أزواجهن كاملة.

ثم يضيف تعالى : (لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ).

وهذا تأكيد جديد على إختصاص هذه الصفات والنعم الإلهية بهم.

وفي نهاية هذا العرض يقول سبحانه : (ثُلَّةٌ مّنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مّنَ الْأَخِرِينَ).

«ثلّة : في الأصل بمعنى قطعة مجتمعة من الصوف ، ثم اطلقت على كل مجموعة من الناس عظيمة ومتماسكة ، وبهذا الترتيب فإنّ مجموعة عظيمة من أصحاب اليمين هم من الامم السابقة ، ومجموعة عظيمة من الامة الإسلامية ، لأنّ بين المجموعتين كثير من الصالحين والمؤمنين ، بالرغم من أنّ السابقين للإيمان في الامة الإسلامية أقلّ من السابقين للإيمان في الامم السابقة ، وذلك لكثرة تلك الامم وكثرة أنبيائها.

(وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (٥٠)

العقوبات المؤلمة لأصحاب الشمال : بعد الاستعراض الذي مرّ بنا حول النعم والهبات العظيمة التي منحها الله سبحانه للمقربين من عباده ولأصحاب اليمين من أوليائه ، يتطرق

__________________

(١) روح المعاني ٢٧ / ١٤٢.

٧٧

الآن إلى ذكر المجموعة الثالثة (أصحاب الشمال) والعذاب المؤلم والعاقبة السيئة التي حلّت بهم ، في عملية مقارنة لوضع المجموعات الثلاثة ، حيث يقول الباريء : (وَأَصْحَابُ الشّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشّمَالِ).

أصحاب الشمال هم الذين يستلمون صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى إشارة إلى سوء عاقبتهم ، وأنّهم من أهل المعاصي والذنوب.

ثم يشير سبحانه إلى ثلاثة أنواع من العقوبات التي يواجهونها ، الهواء الحارق القاتل من جهة : (فِى سَمُومٍ) ، والماء المغلي المهلك من جهة اخرى : (وَحَمِيمٍ) ، وظل الدخان الخانق الحارّ من جهة ثالثة : (وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ).

هذه الألوان من العذاب تحاصرهم وتطوقهم وتسلب منهم الصبر والقدرة.

ثم يضيف الباريء مؤكّداً فيقول : (لَّابَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ).

المظلة عادةً تحمي الإنسان من الشمس والمطر والهواء ولها منافع اخرى ، والظل المشار إليه في الآية الكريمة ليس له من هذه الفوائد شيء يذكر.

ومن الطبيعي أنّ مظلّة من الدخان الأسود الخانق لا ينتظر منها إلّاالشر والضرر.

وبالرغم من أنّ جزاء أهل النار له أنواع مختلفة مرعبة من العذاب ، إلّاأنّ ذكر الأقسام الثلاثة يكفي لإعطاء فكرة عن بقية الأهوال.

وفي الآيات اللاحقة يذكر الأسباب التي أدّت بأصحاب الشمال إلى هذا المصير المخيف والمشؤوم ، وذلك بثلاث جمل : أ) يقول سبحانه وتعالى : (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ).

«مترف : من مادة ترف بمعنى التنعّم ، وتطلق على الشخص الذي ملكته الغفلة وجعلته مغروراً سكراناً ، وجرّته إلى الطغيان.

صحيح أنّ أصحاب الشمال ليسوا جميعاً من زمرة المترفين ، إلّاأنّ المقصودين في القرآن الكريم هم أربابهم وأكابرهم.

ب) ثم يشير سبحانه إلى العامل الذي كان مصدراً وسبباً لعذاب أصحاب الشمال ، فيقول سبحانه : (وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ).

«الحنث : في الأصل يعني كل نوع من الذنوب. فإنّ خصوصية أصحاب الشمال ليس فقط في إرتكاب الذنوب ولكن في الإصرار عليها.

ج) وثالث عمل سبب لهم هذا الويل والعذاب ، هو أنّهم قالوا : (وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ).

٧٨

وعلى هذا فإنّ إنكار القيامة والذي هو بحدّ ذاته مصدر للكثير من الذنوب ، هو وصف آخر لأصحاب الشمال ، ومصدر لشقائهم. وتعبير (كَانُوا يَقُولُونَ) يوضّح لنا أنّهم كانوا يصرّون ويعاندون في إنكار يوم القيامة أيضاً.

إنّ الذنوب الثلاثة التي اشير إليها في الآيات الثلاثة السابقة كانت بمثابة نفي اصول الدين الثلاثة من قبل أصحاب الشمال.

ففي آخر آية تحدّث القرآن الكريم عن تكذيبهم ليوم القيامة ، وفي الآية الثانية عن إنكار التوحيد ، وفي الآية الاولى كان الحديث عن المترفين وهي إشارة إلى تكذيب الأنبياء.

إنّهم لم يكتفوا بما ذكروا وذهبوا إلى أكثر من ذلك حيث قالوا بتعجب : (أَوَءَابَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ).

ثم إنّ القرآن الكريم يأمر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجيبهم : (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْأَخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ).

«ميقات : من مادة وقت بمعنى الزمان الذي يحدّد لعمل ما أو موعد. والمقصود من الميقات هنا هو نفس الوقت المقرر للقيامة.

ويستفاد من التعابير المختلفة التي وردت في الآية السابقة والتأكيدات العديدة حول مسألة الحشر ، أنّ حشر جميع الناس ينجز في يوم واحد.

ولابدّ من الإشارة هنا إلى أنّ معلومية يوم القيامة هي عند الله فقط ، وإلّا فإنّ جميع البشر بما فيهم الأنبياء والمرسلون والمقربون والملائكة ليس لهم علم بتوقيتها.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) (٥٦)

(عقوبات جديدة للمجرمين :) هذه الآيات استمرار للأبحاث المرتبطة بعقوبات أصحاب الشمال ، حيث يخاطبهم بقوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذّبُونَ * لَأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ).

«زقّوم : نبات مرّ نتن الرائحة وطعمه غير مستساغ ، وفيه عصارة إذا دخلت جسم الإنسان يصاب بالتورّم ، وتقال أحياناً لكل نوع من الغذاء المنفّر لأهل النار.

وجملة (فَمَالُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ) إشارة إلى الجوع الشديد الذي يصيبهم بحيث إنّهم

٧٩

يأكلون بنهم وشره من هذا الغذاء النتن وغير المستساغ جدّاً فيملؤون بطونهم.

وعند تناولهم لهذا الغذاء السيء يعطشون ولكن ما هو شرابهم! يتبيّن ذلك في قوله تعالى : (فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ).

إنّ البعير الذي يبتلى بداء العطش فإنّ شدة عطشه تجعله يشرب الماء باستمرار حتى يهلك ، وهذا هو نفس مصير (الضَّالُّونَ الْمُكَذّبُونَ) في يوم القيامة.

وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يشير سبحانه إلى طبيعة مأكلهم ومشربهم في ذلك اليوم حيث يقول : (هذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدّينِ).

ومن الطبيعي أنّ أهل النار ليسوا ضيوفاً ، وأنّ الزقّوم والحميم ليس وسيلة لضيافتهم بل هو نوع من الطعن فيهم ، وأنّه إذا كان كل هذا العذاب هو مجرد استقبال لهم ، فكيف بعد ذلك سيكون حالهم.

(نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْ لَا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْ لَا تَذَكَّرُونَ) (٦٢)

سبعة أدلة على المعاد : بما أنّ الآيات السابقة تحدثت عن تكذيب الضالين ليوم المعاد ، فإنّ الآيات اللاحقة استعرضت سبعة أدلة على هذه المسألة المهمة ، كي يتركّز الإيمان وتطمئن القلوب بالوعود الإلهية التي وردت في الآيات السابقة حول المقربين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال. يقول سبحانه في المرحلة الاولى : (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدّقُونَ). أي لِمَ لا تصدّقون بالمعاد؟! لماذا تتعجبون من الحشر والمعاد الجسمي بعد أن تصبح أجسامكم تراباً؟ ألم نخلقكم من التراب أوّل مرّة؟ أليس حكم الأمثال واحداً؟

وفي الآية اللاحقة يشير البارىء إلى دليل ثان حول هذه المسألة فيقول : (أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ).

وهل أنّ القادر على الخلق المتكرر يعجز عن إحياء الموتى في يوم القيامة؟

ثم يستعرض ذكر الدليل الثالث حيث يقول سبحانه : (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ).

٨٠