مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

وهكذا فإنّ الإنسجام الظاهري للعناصر غير المؤمنة والإتفاقيات العسكرية والاقتصادية يجب ألّا تخدعنا أبداً ، لأنّ وراءها قلوب متناحرة متنافرة ، ودليلها واضح وهو إنهماك كل منهم بمنافعه المادية بشكل شديد ، وبما أنّ المنافع غالباً ما تكون متعارضة ، فعندئذ تبرز الاختلافات والشحناء فيما بينهم ، ولن تغني عن ذلك العهود والإتفاقيات وشعارات الوحدة والانسجام الظاهري. في الوقت الذي تكون فيه وحدة وانسجام المؤمنين على قواعد واصول ربانية كأصل الإيمان والتوحيد والقيم الإلهية.

(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (١٦) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (١٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (١٩) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) (٢٠)

يستمرّ البحث في هذه الآيات حول قصة بني النضير والمنافقين ورسم خصوصية كل منهم في تشبيهين رائعين : يقول سبحانه في البداية : (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

تحدّثنا هذه الآية عن ضرورة الاعتبار بما جرى لبني النضير والقوم الذين كانوا من قبلهم وما جرى لهم.

ويعتقد كثير من المفسرين أنّ المقصود بقوله (الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) هو إشارة إلى قصة يهود بني قينقاع ، التي حدثت بعد غزوة بدر ، وانتهت بإخراجهم من المدينة ، لأنّ يهود بني قينقاع كيهود بني النضير كانوا ذوي ثراء ومغرورين بقدرتهم القتالية ، يهدّدون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين بقوّتهم وقدرتهم العسكرية إلّاأنّ العاقبة لم تكن غير حصاد التيه والتعاسة في الدنيا والعذاب في الآخرة.

١٤١

«وبال : بمعنى (عاقبة الشؤم والمرارة) وهي في الأصل مأخوذة من وابل بمعنى المطر الغزير ، لأنّ المطر الغزير غالباً ما يكون مخيفاً.

ثم يستعرض القرآن الكريم تشبيهاً للمنافقين حيث يقول سبحانه : (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِىءٌ مّنكَ إِنّى أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ).

والمقصود ب الإنسان في هذه الآية هو مطلق الإنسان الذي يقع تحت تأثير الشيطان ، وينخدع بأحابيله ووعوده الكاذبة ، ويسير به في طريق الكفر والضلال ، ثم إنّ الشيطان يتركه ويتبرّأ منهم.

نعم ، هكذا حال المنافقين حيث يدفعون بحلفائهم من خلال الوعود الكاذبة والمكر والحيلة إلى اتون المعارك والمشاكل ثم يتركونهم لوحدهم ، ويتخلّون عنهم ، لأنّ الوفاء لا يجتمع والنفاق.

وتتحدث الآية اللاحقة عن مصير هاتين الجماعتين (الشيطان وأتباعه ، والمنافقين وحلفائهم من أهل الكفر) وعاقبتهما البائسة ، حيث النار خالدين فيها ، فيقول سبحانه عنهم : (فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ جَزَاؤُا الظَّالِمِينَ).

وهذا أصل كلّي فإنّ عاقبة تعاون الكفر والنفاق ، والشيطان وحزبه ، هو الهزيمة والخذلان ، وعدم الموفّقية ، وعذاب الدنيا والآخرة ، في الوقت الذي تكون ثمره تعاون المؤمنين وأصدقائهم تعاون وثيق وبنّاء ، وعاقبته الخير ونهايته الانتصار والتمتع بالرحمة الإلهية الواسعة في عالم الدنيا والآخرة.

وتوجّه الآية اللاحقة حديثها للمؤمنين بعنوان استنتاج من حالة الشؤم والبؤس التي اعترت المنافقين وبني النضير والشياطين ، حيث يقول تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لَغَدٍ).

إنّ هذه الذخيرة الاخروية تمثّل أكبر رأسمال حقيقي للإنسان في مشهد يوم القيامة ، لذا فإنّ هذا النوع من الأعمال الصالحة يلزم إعداده وتهيئته وإرساله مسبقاً ، وإلّا فلا أحد يهتمّ له بعد وفاته وإنقضاء أجله ، وإذا ارسل شيئاً فليس له شأن يذكر.

ثم يضيف تعالى مرّة اخرى للتأكيد بقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).

نعم ، التقوى والخوف من الله يدعوان الإنسان للتفكير بيوم غده (القيامة) بالإضافة إلى السعي إلى تنقية وتخليص وتطهير أعماله.

١٤٢

وأكّدت الآية اللاحقة بعد الأمر بالتقوى والتوجّه إلى يوم القيامة على ذكر الله سبحانه ، حيث يقول تعالى : (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ).

وأساساً فإنّ جوهر التقوى شيئان : ذكر الله تعالى ، وذلك بالتوجّه والإنشداد إليه من خلال المراقبة الدائمة منه واستشعار حضوره في كل مكان وفي كل الأحوال ، والخشية من محكمة عدله ودقّة حسابه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّاأحصاها في صحيفة أعمالنا ... ولذا فإنّ التوجّه إلى هذين الأساسين (المبدأ والمعاد) كان على رأس البرامج التربوية للأنبياء والأولياء ، وذلك لتأثيرها العميق في تطهير الفرد والمجتمع.

وأساساً فإنّ النسيان ـ بحدّ ذاته ـ من أكبر مظاهر تعاسة الإنسان وشقائه ، لأنّ قيمة الإنسان في قابلياته ولياقاته الذاتية وطبيعة خلقه التي تميّزه عن الكثير من المخلوقات ، وإذا نسيها فهذا يعني نسيان إنسانيته ، وفي مثل هذه الحالة يسقط الإنسان في وحل الحيوانية ، ويصبح همّه الأكل والشرب والنوم والشهوات.

وهذه كلّها عامل أساس للفسق والفجور ، بل إنّ نسيان الذات هو من أسوأ مصاديق الفسق والخروج عن طاعة الله ، ولهذا يقول سبحانه : (أُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يستعرض سبحانه مقارنة بين هاتين الجماعتين : الجماعة المؤمنة المتّقية السائرة باتّجاه المبدأ والمعاد ، والجماعة الغافلة عن ذكر الله ، التي ابتليت كنتيجة للغفلة عن الله بنسيان ذاتها ، حيث يقول سبحانه : (لَايَسْتَوِى أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ).

ليس في الدنيا ، ولا في المعتقدات ، وليس في طريقة التفكير والمنهج ، وليس في طريقة الحياة الفردية والاجتماعية للإنسان وأهدافه ، ولا في المحصّلة الاخروية والجزاء الإلهي ... إذ إنّ خطّ كل مجموعة من هاتين المجموعتين في اتّجاه متعارض ... متعارض في كل شيء وكل مكان وكل هدف ... إحداهما تؤكّد على ذكر الله والقيامة وإحياء القيم الإنسانية الرفيعة ، والقيام بالأعمال الصالحة كذخيرة ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ... والاخرى غارقة في الشهوات واللذات المادية ، وأسيرة الأهواء ومبتلية بالنسيان .. وبهذا فإنّ الإنسان على مفترق طريقين ، إمّا أن يرتبط بالقسم الأوّل ، أو بالقسم الثاني ، وليس غيرهما من سبيل آخر.

وفي نهاية الآية نلاحظ حكماً قاطعاً حيث يضيف سبحانه : (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ).

١٤٣

فليس في الدار الآخرة فقط يوجد (فائزون وخاسرون) بل في هذه الدنيا أيضاً ، حيث يكون الإنتصار والنجاة والسكينة من نصيب المؤمنين المتقين ، كما أنّ الهزيمة والخسران في الدارين تكون من نصيب الغافلين.

(لَوْ أَنْزَلْنَا هذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٤)

لو نزل القرآن على جبل : تكملة للآيات السابقة التي كانت تهدف إلى تحريك النفوس والقلوب الإنسانية ، وخاصة عن طريق التذكير بالنهاية التي يكون عليها الإنسان ، والمصير الذي ينتظره ، والذي يجدر أن يهيّئه في أبهى وأفضل صورة ... تأتي هذه الآيات المباركات التي هي آخر آيات سورة الحشر ، والتي تأخذ بنظر الاعتبار مجمل ما ورد من آيات هذه السورة ، لتوضّح حقيقة اخرى حول القرآن الكريم ، وهي : أنّ هذا الكتاب المبارك له تأثير عميق جدّاً حتى على الجمادات ، حيث إنّه لو نزل على الجبال لهزّها وحرّكها وجعلها في وضع من الإضطراب المقترن بالخشوع إلّا أنّه ـ مع الأسف ـ هذا الإنسان القاسي القلب يسمع آيات الله تتلى عليه ولا تتحرّك روحه ولا يخشع قلبه. يقول سبحانه : (لَوْ أَنزَلْنَا هذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدّعًا مّنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (١).

وقد حملها البعض الآخر على ظاهرها وقالوا : إنّ كل الموجودات في هذا العالم ـ ومن جملتها الجبال ـ لها نوع من الإدراك والشعور الخاصّ بها ، وإذا نزلت هذه الآيات عليها فإنّها

__________________

(١) متصدّع : من مادة صدع ، بمعنى شقّ الأشياء القوية ، كالحديد والزجاج ، وإذا قيل لوجع الرأس : صداع ، فإنّه بسبب شعور الإنسان أنّ رأسه يريد أن يتشقّق من الألم.

١٤٤

ستتلاشى ، ودليل هذا ما ورد في الآية (٧٤) من سورة البقرة في وصف جماعة من اليهود. قال تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذلِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِن خَشْيَةِ اللهِ).

الآيات اللاحقة تستعرض قسماً مهمّاً من صفات جمال وجلال الله سبحانه ، التي لكل واحدة منها الأثر العميق في تربية النفوس وتهذيب القلوب ، وتحوي الآيات القرآنية الثلاثة خمسة عشر وصفاً لله سبحانه. أو بتعبير آخر : فإنّ ثماني عشرة صفة من صفاته العظيمة تذكرها ثلاث آيات ، وكل منها تتعلّق ببيان التوحيد الإلهي والاسم المقدس ، وتوضّح للإنسان طريق الهداية إلى العالم النوراني لأسماء وصفات الحق سبحانه. يقول تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِى لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ).

هنا وقبل كل شيء يؤكّد على مسألة التوحيد ، التي هي أصل لجميع صفات الجمال والجلال ، وهي الأصل والأساس في المعرفة الإلهية ، ثم يذكر علمه بالنسبة للغيب والشهود.

ثم يعتمد على رحمته العامة التي تشمل جميع الخلائق : (الرحمن) ورحمته الخاصة التي تخصّ المؤمنين ، (والرحيم) لتعطي للإنسان أملاً ، ولتعينه في طريق بناء نفسه والتكامل بأخلاقه وسلوكه بالسير نحو الله.

أمّا في الآية اللاحقة ، فبالإضافة إلى التأكيد على مسألة التوحيد فإنّها تذكر ثمانية صفات اخرى لله سبحانه ، حيث يقول الباريء عزوجل : (هُوَ اللهُ الَّذِى لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ).

(الْمَلِكُ) الحاكم والمالك الحقيقي لجميع الكائنات.

(الْقُدُّوسُ) المنزّه من كل نقص وعيب.

(السَّلمُ) لا يظلم أحد ، وجميع الخلائق في سلامة من جهته.

ثم يضيف سبحانه :

(الْمُؤْمِنُ) يعطي الأمان لأحبّائه ، ويتفضّل عليهم بالإيمان.

(الْمُهَيْمِنُ) الحافظ والمراقب لكل شيء.

(الْعَزِيزُ) القادر الذي لا يقهر.

(الْجَبَّارُ) : مأخوذ من (جبر) وقد ورد هذا المصطلح عشر مرّات في القرآن الكريم ، تسع مرّات حول الأشخاص الظالمين والمستكبرين المتسلّطين على رقاب الامّة والمفسدين في الأرض ومرّة واحدة فقط عن الله القادر المتعال ، حيث ورد بهذا المعنى في الآية مورد البحث.

١٤٥

ثم يضيف سبحانه : (الْمُتَكَبّرُ).

«المتكبّر : من مادة تكبّر وجاءت بمعنيين :

الأوّل : إستعملت صفة المدح ، وقد اطلقت على لفظ الجلالة ، وهو إتّصافه بالعلو والعظمة والسمات الحسنة بصورة عامة.

والثاني : استعملت صفة الذم وهو ما يوصف به غير الله عزوجل.

ولأنّ العظمة وصفات العلو والعزة لا تكون لائقة لغير مقام الله سبحانه ، لذا استعمل هذا المصطلح هنا بمعناه الإيجابي حول الله سبحانه ، وكلّما إستعمل لغير الله أعطى معنى الذم.

وفي نهاية الآية يؤكّد مرّة اخرى مسألة التوحيد التي كان الحديث حولها ابتداءً حيث يقول تعالى : (سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

وفي آخر آية مورد البحث يشير سبحانه إلى ستّ صفات اخرى حيث يقول تعالى :

(هُوَ اللهُ الْخَالِقُ).

(الْبَارِئُ).

(الْمُصَوّرُ).

ولأنّ صفات الله لا تنحصر فقط بالتي ذكرت في هذه الآية فإنّه سبحانه يشير إلى صفة أساسية لذاته المقدسة اللامتناهية ، حيث يقول عزوجل : (لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى).

ولهذا السبب فإنّه سبحانه منزّه ومبرّأ من كل عيب ونقص : (يُسَبّحُ لَهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ). ويعتبرونه تامّاً وكاملاً من كل نقص وعيب.

وأخيراً ـ للتأكيد الأكثر على موضوع نظام الخلقة ـ يشير سبحانه إلى وصفين آخرين من صفاته المقدسة ، التي ذكر أحدهما في السابق بقوله تعالى : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

الاولى دليل كمال قدرته على كل شيء ، وغلبته على كل قوّة.

والثانية إشارة إلى علمه وإطّلاعه ومعرفته ببرامج الخلق وتنظيم الوجود وتدبير الحياة.

إنّ مجموع ما ورد في الآيات الثلاث بالإضافة إلى مسألة التوحيد التي تكرّرت مرّتين ، فإنّ مجموع الصفات المقدسة لله سبحانه تكون سبع عشرة صفة مرتبة بهذا الشكل : ١ ـ عالم الغيب والشهادة ، ٢ ـ الرحمن ، ٣ ـ الرحيم ، ٤ ـ الملك ، ٥ ـ القدوس ، ٦ ـ السلام ، ٧ ـ المؤمن ، ٨ ـ المهيمن ، ٩ ـ العزيز ، ١٠ ـ الجبار ، ١١ ـ المتكبر ، ١٢ ـ الخالق ، ١٣ ـ الباريء ، ١٤ ـ المصور ، ١٥ ـ الحكيم ، ١٦ ـ له الأسماء الحسنى ، ١٧ ـ الموجود الذي تسبّح له كل موجودات العالم.

١٤٦

إنّ هذه الآيات تأخذ بيد السائرين في طريق معرفة الله ، وتقودهم من درجة إلى درجة ومن منزل إلى منزل ، حيث تبدأ الآيات أوّلاً بالحديث عن ذاته المقدسة ، ومن ثم إلى عالم الخلقة ، وتارةً اخرى بالسير نحو الله تعالى ، حيث ترتفع روحيته إلى سمو الواحد الأحد ، فيتطهّر القلب بالأسماء والصفات الإلهية المقدسة ، ويربى في أجواء هذه الأنوار والمعارف ، حيث تنمو براعم التقوى على ظاهر أغصان وجوده ، وتجعله لائقاً لقرب جواره لكي يكون وجوداً منسجماً مع كل ذرّات الوجود ، مردّدين معاً ترانيم التسبيح والتقديس.

إنّ الآيات الأخيرة لهذه السورة آيات خارقة وعظيمة وملهمة ، وهي درس تربوي كبير للإنسان.

في تفسير مجمع البيان : روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اسم الله الأعظم في ستّ آيات في آخر سورة حشر.

وعن أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من قرأ آخر سورة الحشر ، غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر.

نهاية تفسير سورة الحشر

* * *

١٤٧
١٤٨

٦٠

سورة الممتحنة

محتوى السورة تتكوّن موضوعات هذه السورة من قسمين :

١ ـ يتحدث عن موضوع الحبّ في الله والبغض في الله ، وينهى عن عقد الولاء والودّ مع المشركين ، ويدعو المسلمين لكي يستلهموا من سيرة الرسول العظيم إبراهيم عليه‌السلام فيما يتعلّق بموقفه من أقرب الأقربين إليه (أبيه آزر) بلحاظ ما يمليه عليه الموقف المبدئي ، كما تذكر بعض الخصوصيات الاخرى في هذا المجال ويتكرّر هذا المعنى في نهاية السورة ، كما في بدايتها.

٢ ـ يتناول هذا القسم مسائل المرأة المهاجرة وضرورة تمحيصها ، كما يبيّن أحكاماً اخرى في هذا الصدد.

واختيار اسم (الممتحنة) لهذه السورة كان بلحاظ حالة التمحيص والإمتحان التي وردت في الآية العاشرة من هذه السورة (١).

كما ذكر اسم آخر لهذه السورة وهو (سورة المودّة) وذلك بلحاظ النهي عن عقد الولاء والودّ مع المشركين ، وقد أكّدت عليه السورة كثيراً.

__________________

(١) قرأها البعض ممتحَنة (بفتح الحاء) وذلك بسبب حالة التمحيص والإمتحان للنسوة المهاجرات ، وقرأها آخرون ممتحِنة (بكسر الحاء) وذلك لأنّ موضوعات السورة ـ أجمع ـ كانت وسيلة للامتحان والتمحيص.

١٤٩

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان : عن ابي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ومن قرأ سورة الممتحنة ، كان المؤمنون والمؤمنات له شفعاء يوم القيامة.

إنّ هذه النعم والألطاف الإلهية تكون للأشخاص الذين لا يكتفون بالتلاوة السطحية الفارغة من محتوى الروح ، والبعيدة عن العلم والعمل.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٣)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، وذلك أنّ سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام ، أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكة إلى المدينة بعد بدر بسنتين ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أمسلمة جئت؟ قالت : لا. قال : أمهاجرة جئت؟ قالت : لا. قال : فما جاء بك؟ قالت : كنتم الأصل والعشيرة والموالي ، وقد ذهب موالي واحتجت حاجة شديدة ، فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني! قال : فأين أنت من شباب مكة؟ وكانت مغنية نائحة. قالت : ما طلب منّي بعد وقعة بدر [وهذا يدلّ على عمق النازلة التي نزلت بمشركي قريش في بدر] ؛ فحثّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليها بني عبدالمطلب ، فكسوها وحملوها ، وأعطوها نفقة. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتجهّز لفتح مكة ، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وكتب معها كتاباً إلى أهل مكة ، وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة وكتب في الكتاب : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة إنّ رسول الله يريدكم فخذوا حذركم! فخرجت سارة ونزل جبرائيل فأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بما فعل ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

١٥٠

علياً وعمّاراً وعمر والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود ، وأبا مرثد وكانوا كلّهم فرساناً وقال لهم : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإنّ بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين ، فخذوه منها. فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي ذكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا لها : أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب ، فنحوها وفتّشوا متاعها فلم يجدوا معها كتاباً ، فهمّوا بالرجوع. فقال علي عليه‌السلام : والله ما كذبنا ولا كُذِبنا ، وسلّ سيفه وقال لها : أخرجي الكتاب وإلّا والله لأضربنّ عنقك! فلمّا رأت الجدّ أخرجته من ذؤابتها قد أخبأته في شعرها. فرجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأرسل إلى حاطب فأتاه ، فقال له : هل تعرف الكتاب؟ قال : نعم. قال : فما حملك على ما صنعت؟ قال : يا رسول الله! والله ما كفرت منذ أسلمت ، ولا غششتك منذ نصحتك ، ولا أحببتهم منذ فارقتهم ، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلّاوله بمكة من يمنع عشيرته وكنت عريراً فيهم [أي غريباً] وكان أهلي بين ظهرانيهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتّخذ عندهم يداً ، وقد علمت أنّ الله ينزل بهم بأسه وأنّ كتابي لا يغني عنهم شيئاً ، فصدقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعذره. فقام عمر بن الخطاب وقال : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وما يدريك يا عمر لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فغفر لهم فقال لهم : إعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.

[وكيفية العلاقة التي يجب أن تتحكّم بين المسلمين من جهة ، والمشركين وأعداء الله من جهة اخرى ، والتأكيد على إلغاء وتجنّب أي ولاء مع أعداء الله].

التّفسير

نتيجة الولاء لأعداء الله : علمنا مما تقدّم أنّ سبب نزول الآيات السابقة هو التصرف المشين الذي صدر من أحد المسلمين (حاطب بن أبي بلتعة) ورغم أنّه لم يكن قاصداً التجسّس إلّاأنّ عمله نوع من إظهار المودّة لأعداء الإسلام ، فجاءت الآيات الكريمة تحذّر المسلمين من تكرار مثل هذه التصرفات مستقبلاً وتنهاهم عنها.

يقول سبحانه في البداية : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَاتَتَّخِذُوا عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ). مؤكّداً أنّ أعداء الله وحدهم هم الذين يضمرون العداء للمؤمنين والحقد عليهم ، ومع هذا التصور فكيف تمدّون يد الصداقة والودّ لهم.

ويضيف تعالى : (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مّنَ الْحَقّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبّكُمْ).

١٥١

إنّهم يخالفونكم في العقيدة ، كما أنّهم شنّوا عليكم الحرب عمليّاً ، ويعتبرون إيمانكم بالله ـ الذي هو أكبر فخر لكم وأعظم قداسة تجلّلكم ـ غاية الجرم وأعظم الذنب ، ومع هذه الأعمال التي مارسوها معكم ، هل من المناسب إظهار المودّة لهم.

ثم يضيف القرآن الكريم موضّحاً : (إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِى سَبِيلِى وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِى). فلا تعقدوا معهم أواصر الولاء والودّ.

فإذا كنتم ممّن تدّعون حبّ الله حقّاً ، وهاجرتم من دياركم لأجله سبحانه وترغبون في الجهاد في سبيله طلباً لرضاه تعالى ، فإنّ هذه الأهداف العظيمة لا يناسبها إظهار الولاء لأعداء الله سبحانه.

ثم يضيف عزوجل للمزيد من الإيضاح فيقول : (تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ).

وبناءً على هذا فما عسى أن يغني الإخفاء وهو واقع بعلم الله في الغيب والشهود؟

وفي نهاية الآية نجد تهديداً شديداً لمن يجانب السبيل الذي أمر به الله سبحانه بقوله : (وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ).

فمن جهة انحرف عن معرفة الله تعالى بظنّه أنّ الله لا يعلم ولا يرى ما يصنع ، وكذلك إنحرف عن طريق الإيمان والإخلاص والتقوى ، حينما يعقد الولاء وتقام أواصر المودّة مع أعداء الله ، وبالإضافة إلى ذلك فإنّه وجّه ضربة قاصمة إلى حياته حينما أفشى أسرار المسلمين إلى الأعداء ، ويمثّل ذلك أقبح الأعمال وأسوأ الممارسات حينما يسقط الشخص المؤمن بهذا الوحل ويقوم بمثل هذه الأعمال المنحرفة بعد بلوغه مرتبة الإيمان والقداسة.

وفي الآية اللاحقة يضيف سبحانه للتوضيح والتأكيد الشديد في تجنّب موالاتهم : (إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ) (١).

أنتم تكنّون لهم الودّ في الوقت الذي يضمرون لكم حقداً وعداوة عميقة ومتأصّلة ، وإذا ما ظفروا بكم فإنّهم لن يتوانوا عن القيام بأي عمل ضدّكم.

والأدهى من ذلك هو سعيهم الحثيث في ردّكم عن دينكم وإسلامكم ، والعمل على تجريدكم من أعظم مكسب وأكبر مفخرة لكم ، وهي حقيقة الإيمان : (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ).

__________________

(١) يثقفوكم : من مادة : ثقف وثقافة ، بمعنى المهارة في تشخيص أو إنجاز شيء ما ، ولهذا السبب تستعمل ـ أيضاً ـ بمعنى الثقافة أو التمكّن والتسلّط المقترن بمهارة على الشيء.

١٥٢

وفي آخر آية من هذه الآيات يستعرض سبحانه الجواب على حاطب بن أبي بلتعة ومن يسايره في منهجه من الأشخاص ، حينما قال في جوابه لرسول الله عن السبب الذي حدا به إلى إفشاء أسرار المسلمين لمشركي مكة ، حيث قال بلتعة : أهلي وعيالي في مكة ، وأردت أن أمنع عنهم الأذى وأصونهم بعملي هذا ، (واتّخذ عند أهلها يداً). يقول تعالى : (لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلدُكُمْ).

وذلك لأنّ الأرحام والأولاد المشركين سوف لن يجلبوا خيراً وعزّة في الدنيا ولا نجاة في الآخرة.

ثم يضيف تعالى : (يَوْمَ الْقِيمَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ).

وهذا تأكيد على أنّ مقام أهل الإيمان هو الجنة ، وأنّ أهل الكفر يساقون إلى جهنم وبئس المصير.

وفي نهاية الآية يحذّر الجميع مرّة اخرى بقوله تعالى : (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

إنّه عالم بنيّاتكم ، وعالم بالأعمال التي تصدر منكم ، سواء كانت في حالة السرّ أو العلن ، وإذا كانت المصلحة الإلهية تقتضي عدم إفشاء أسراركم أحياناً كما في حادثة حاطب بن أبي بلتعة ، فلأنّها لحكمة أو مصلحة يراها سبحانه ، وليس لأنّه لا يعلم بها أو تخفى عليه خافية.

(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (٦)

إنّ منهج القرآن (من أجل التأكيد على تعاليمه القيّمة) يعتمد في كثير من الموارد طريقة الاستشهاد بنماذج أساسية في عالم الإنسانية والحياة ، وبعد التشديد السابق الذي مرّ بنا خلال الآيات السابقة في تجنّب عقد الولاء لأعداء الله ، يتحدث القرآن الكريم عن

١٥٣

إبراهيم عليه‌السلام ومنهجه القدوة كنموذج رائد يحظى باحترام جميع الأقوام وخصوصاً العرب منهم. قال تعالى : (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ).

والمراد من تعبير (الَّذِينَ مَعَهُ) هم المؤمنون الذين ساروا برفقته في هذا الطريق بالرغم من قلّة عددهم.

ثم يضيف سبحانه لتوضيح هذا المعنى : (إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاؤُا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ).

ومرّة اخرى يؤكّدون مضيفين : (كَفَرْنَا بِكُمْ). والكفر هنا هو كفر البراءة الذي اشير له في بعض الروايات ضمن ما ورد في تعدّد أقسام الكفر الخمسة.

ويضيفون للمرّة الثالثة مؤكّدين بصورة أشدّ : (وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ).

وبهذا الإصرار وبهذه القاطعية وبدون أي تردّد أو مواربة يعلن المؤمنون انفصالهم وإبتعادهم ونفرتهم من أعداء الله حتى يؤمنوا بالله وحده ، وهم مستمرّون في موقفهم وإلى الأبد ولن يتراجعوا عنه أو يعيدوا النظر فيه إلّاإذا غيّر الكفار مسارهم وتراجعوا عن خطّ الكفر إلى الإيمان.

ولأنّ هذا القانون العام كان له استثناء في حياة إبراهيم عليه‌السلام يتجسّد ذلك بإمكانية هداية بعض المشركين ، حيث يقول سبحانه معقّباً : إنّ هؤلاء قطعوا كل إرتباط لهم مع قومهم الكافرين حتى الكلام الودود والملائم : (إِلَّا قَوْلَ إِبْرهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِن شَىْءٍ). وقد عمل إبراهيم عليه‌السلام بما وعد آزر به.

ويقول عزوجل في بيان هذا المعنى : (وَمَا كَانَ إِسْتِغْفَارُ إِبْرهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌ لِّلَّهِ تَبَّرَأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (١).

إنّ إبراهيم عليه‌السلام وأصحابه كانوا من أشدّ المخالفين والمحاربين للشرك ، ولابدّ لنا من الإقتداء بهم وأخذ الدروس والعبر من سيرتهم ، بما في ذلك ما يتعلق بموقفه من آزر إذا توفّرت لنا نفس الشروط والخصوصيات.

وبما أنّ محاربة أعداء الله ، والصرامة والشدّة معهم ـ خصوصاً مع تمتّعهم بقدرة ظاهرية ـ سوف لن تكون فاعلة إلّابالتوكل على الله تبارك وتعالى ، يضيف سبحانه في نهاية الآية :

__________________

(١) سورة التوبة / ١١٤.

١٥٤

(رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).

وفي الآية اللاحقة يشير القرآن الكريم إلى طلب آخر مهم وحسّاس لإبراهيم عليه‌السلام وأصحابه في هذا المجال ، حيث يقول تعالى : (رَبَّنَا لَاتَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا).

من المحتمل أن يكون ما ورد في الآية إشارة إلى عمل حاطب بن أبي بلتعة واحتمال صدور شبيهه من أشخاص جهلة يكونون سبباً في تقوية الظالمين ، من حيث لا يشعرون ، بل يتصورون أنّهم يعملون لمصلحة الإسلام.

ويضيف في نهاية الآية : (وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

فقدرتك يا الله لا تقهر ، وحكمتك نافذة في كل شيء.

ومرّة اخرى يؤكّد سبحانه في آخر آية من هذه الآيات على نفس الأمر الذي ذكر في أوّل آية ، حيث يقول تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْأَخِرَ).

لقد كانوا لنا اسوة ، ليس فقط في موقفهم ضد منهج الكفر وعبدة الأوثان ، بل هم اسوة لنا في الدعاء بين يدي الباريء عزوجل ، وقدوة لنا في طلب المغفرة منه.

وبدون شك فإنّ هذا التأسّي والإقتداء يرجع نفعه إلى المسلمين أنفسهم قبل الآخرين ، لذا يضيف سبحانه في النهاية قوله : (وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ).

وذلك أنّ عقد الولاء مع أعداء الله يقوّي عودهم وشوكتهم وبالتالي يؤدّي إلى هزيمة المسلمين.

وفي الغالب فإنّ وجود القدوة في حياة البشر مؤثّر في تربيتهم وتوجيههم ، ولهذا السبب فإنّ النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة المعصومين ، وبقية الأنبياء الكرام عليهم‌السلام كانوا موضع هداية البشرية من خلال أعمالهم والتزاماتهم.

(عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٩)

١٥٥

مودّة الكفار غير الحربيين : يستمر الحديث في هذه الآيات المباركات تكملة للموضوعات التي طرحت في الآيات السابقة حول الحبّ في الله والبغض في الله وقطع العلاقة مع المشركين ، بالرغم من أنّ قطع هذه الرابطة يولّد فراغاً عاطفياً بالنسبة للبعض من المسلمين ، فإنّ المؤمنين الصادقين ، وأصحاب رسول الله المخلصين آمنوا بهذا المنهج وثبتوا عليه ، والله تعالى بشّر هؤلاء ألّا يحزنوا ، لأنّ الثواب هو جزاؤهم بالإضافة إلى أنّ هذه الحالة سوف لن تستمرّ طويلاً ، حيث يقول سبحانه : (عَسَى اللهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِّنْهُم مَّوَدَّةً).

ويتحقق هذا الوعد وتصدق البشارة في السنة الثامنة للهجرة حيث منّ الله على المسلمين بفتح مكة ، ودخل أهلها جماعات جماعات في دين الإسلام الحنيف ، مصداقاً لقوله تعالى : (يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا). وعند ذلك تتبدّد غيوم الظلمة والعداء والعناد من سماء حياتهم ، وتشرق نفوسهم بنور الإيمان وحرارة الودّ وأجواء المحبة والصداقة.

وعلى كل حال ، إذا تباعد بعض الناس عن خط الإسلام والمسلمين وكانت تربطهم علاقات إيجابية مع المسلمين ، ففي مثل هذه الحالة لا ينبغي اليأس ، لأنّ الله تعالى قادر على كل شيء ، ويستطيع تغيير ما في قلوبهم ، فهو الذي يغفر الذنوب والخطايا لعباده ، حيث يضيف تعالى في نهاية الآية : (وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

وتبيّن الآيات اللاحقة شارحة وموضّحة طبيعة علاقة المودة مع المشركين ، حيث يقول سبحانه : (لَّايَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

إنّ المستفاد من الآيات الكريمة حول طبيعة وكيفية العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو (أصل كلي) لا يختص بذلك الوقت فقط ، بل يمثّل خطاً عاماً لطبيعة هذه العلاقة في كل الأزمنة سواء اليوم أو غداً ، في حياتنا المعاصرة والمستقبلية.

وواجب المسلمين وفق هذه الاسس أن يقفوا بكل صلابة أمام أية مجموعة ، أو دولة ، تتّخذ موقفاً عدائياً منهم أو تعين من أراد بالإسلام والمسلمين سوءاً ... وقطع كل صلّة قائمة على أساس المحبة والصداقة معهم.

١٥٦

أمّا إذا كان الكفار في موقع محايد إزاء الإسلام والمسلمين ، أو أنّهم متعاطفون معهم ، عندئذ يستطيع المسلمون أن يقيموا علاقات حسنة ويرتبطوا وإياهم بروابط المودة على أن لا تكون بالصورة التي تكون بين المسلمين أنفسهم ، ولا بالشكل الذي يؤدّي إلى تغلغلهم في صفوف المسلمين.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (١١)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : قال ابن عباس : صالح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحديبية مشركي مكة على أنّ من أتاه من أهل مكة ، رده عليهم ، ومن أتى أهل مكة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو لهم ، ولم يردّوه عليه ، وكتبوا بذلك كتاباً ، وختموا عليه. فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية ، مسلمة بعد الفراغ من الكتاب والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحديبية. فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم ، في طلبها ، وكان كافراً. فقال : يا محمّد ، اردد عليّ امرأتي ، فإنّك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك وهذه طينة الكتاب لم تجفّ بعد. فنزلت الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ) من دار الكفر إلى دار الإسلام (فَامْتَحِنُوهُنَّ).

قال ابن عباس : امتحانهن أن يستحلفن ما خرجت من بغض زوج ، ولا رغبة عن أرض إلى أرض ، ولا التماس دنيا ، وما خرجت إلّاحبّاً لله ورسوله. فاستحلفها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فحلفت بالله الذي لا إله إلّاهو على ذلك. فأعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردّها عليه ، فتزوجها عمر بن الخطاب.

فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يرد من جاءه من الرجال ، ويحبس من جاءه من النساء إذا امتحنّ ويعطي أزواجهن مهورهنّ.

١٥٧

التّفسير

تعويض خسائر المسلمين والكفار : إستعرضت الآيات السابقة موضوع البغض في الله وما يترتّب على ذلك من قطع أي صلة مع أعداء الله ... أمّا موضوع هذه الآيات فهو عن الحبّ في الله وعن طبيعة العلاقة مع الذين إنفصلوا عن الكفر وإرتبطوا بالإيمان.

وينصبّ الحديث في الآية الاولى ـ من هذه الآيات المباركات ـ عن النساء المهاجرات ، حيث ضمّت هذه الآية سبع نقاط تتعلق بالنساء المهاجرات ، كما تناولت نقاطاً اخرى تختص بالنساء المشركات.

النقاط التي تختص بالنساء المهاجرات هي :

١ ـ امتحان النساء المهاجرات ، حيث يوجّه سبحانه الحديث إلى المؤمنين فيقول تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ).

إنّ هذا الإمتحان هو أن يستحلفن أنّ هجرتهن لم تكن إلّامن أجل الإسلام.

كما يوجد احتمال آخر حول كيفية امتحان النسوة المهاجرات ، وذلك كما ورد في الآية (١٢) من نفس السورة. قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلدَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

ومن الممكن أن يكون الكذب في الحلف أيضاً ، فيقول البعض خلافاً لما يعتقد به ، إلّاأنّ التزام الكثير من الناس حتى المشركين في ذلك الزمان بمسألة البيعة والحلف بالله كان سبباً في تقليص دائرة غير الصادقين.

لذا يضيف سبحانه في العبارة التالية : (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ).

٢ ـ يقول سبحانه في الأمر اللاحق : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ).

٣ ـ في ثالث نقطة التي هي دليل على الحكم السابق يضيف تعالى : (لَاهُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ).

فالإيمان والكفر لا يجتمعان في مكان واحد ، لأنّ عقد الزواج المقدس لا يمكن أن يربط بين محورين وخطّين متضادين (خط الإيمان) من جهة و (الكفر) من جهة اخرى.

٤ ـ كان المتعارف بين العرب أن يدفعوا للمرأة مهرها سلفاً ، ولهذا المعنى أشار سبحانه في قوله في الأمر الرابع : (وَءَاتُوهُمْ مَّا أَنفَقُوا).

١٥٨

بالرغم من أنّ أزواج المؤمنات كفار فلابدّ من إعطائهم ما أنفقوا من مهور على زوجاتهم ، وذلك لأنّ الطلاق والانفصال قد تمّ بمبادرة من المرأة بسبب إيمانها ، لذا توجب العدالة الإسلامية دفع خسارة الزوج.

وطبيعي أنّ دفع المهر يكون لمن عقد معاهدة صلح من الكفار مع المسلمين ، كما في صلح الحديبية.

٥ ـ الحكم الآخر الذي يلي الحكم أعلاه ، فهو قوله تعالى : (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَاءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ).

ومن الضروري ملاحظة أنّ انفصال المرأة المؤمنة عن زوجها الكافر لا يحتاج إلى طلاق ، إلّاأنّه لابدّ من انتهاء العدّة.

٦ ـ أمّا إذا كان الزوج قد آمن بالإسلام ، وبقيت المرأة كافرة ، فهنا تنفصل الرابطة الزوجية ، فتنقطع صلة زواجهما ، كما في قوله تعالى : (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ).

«عصم : جمع عصمة ، وهي في الأصل بمعنى المنع ، وهنا بمعنى النكاح والزوجية.

«الكوافر : جمع كافرة ، بمعنى النساء الكافرات.

٧ ـ أمّا آخر حكم ذكر في الآية الكريمة ، فهو مهور النساء اللواتي ارتددن عن الإسلام والتحقنّ بالكفار فإنّ لكم الحق في المطالبة بمهورهن مثلما للكفار الحق في المطالبة بمهور زوجاتهم اللاتي دخلن دائرة الإسلام والتحقن بالمسلمين ، حيث يقول تعالى : (وَسَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسَلُوا مَا أَنفَقُوا). وهذا ما توجبه العدالة والإحترام المتقابل للحقوق.

وفي نهاية الآية ـ وتأكيداً لما سبق ـ يقول سبحانه : (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

إنّ هذه الأحكام المستلهمة من العلم الإلهي ، الممتزجة بحكمته تعالى.

والإلتفات إلى حقيقة أنّ كون جميع هذه الأحكام إلهية يُعدّ أكبر ضمانة إجرائية لها في قوّة التنفيذ.

وإستعرضت ثاني وآخر آية من هذه الآيات متابعة لما تقدّم ، بعض الامور في هذا الصدد.

يقول تعالى أنّه في كل مرّة ترتدّ امرأة متزوّجة عن الإسلام وتلتحق بالكفار ، ثم حدثت معركة بينكم وبين الكفار وحالفكم النصر عليهم وغنمتم منهم مغانم فاعطوا الذين ذهبت زوجاتهم إلى الكفار : (وَإِن فَاتَكُمْ شَىْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَاتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا).

١٥٩

وتدعو الآية الكريمة في نهايتها جميع المسلمين إلى الالتزام بالتقوى حيث يقول تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ).

والأمر بالتقوى هنا يمكن أن يكون بمراعاة الدقة والعدل في تعيين مقدار مهر الزوجة ، باعتبار أنّ هذا الأمر يعتمد فيه على قول الزوج في الغالب ، ولا يوجد سبيل لإثبات هذا الحق إلّاأقوال الزوجين ، ولاحتمال أن تسبّب الوساوس الشيطانية في الإدعاء بمبلغ أكثر من المقدار الحقيقي للمهر ، لذا يوصي بالتقوى.

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٢)

شروط بيعة النساء : استمراراً للبحث الذي تقدّم في الآيات السابقة والذي استعرضت فيه أحكام النساء المهاجرات ، تتحدث هذه الآية عن تفاصيل وأحكام بيعة النساء المؤمنات مع الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله.

لقد ذكر المفسرون أنّ هذه الآية نزلت يوم فتح مكة لما فرغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من بيعة الرجال وهو على الصفا جاءته النساء يبايعنه فنزلت هذه الآية ، فشرط الله تعالى في مبايعتهم أن يأخذ عليهن هذه الشروط. يقول تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلدَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

وبعد هذه الآية أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله البيعة من النساء المؤمنات.

وروي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا بايع النساء ، دعا بقدح ماء ، فغمس فيه يده ، ثم غمسن أيديهن فيه. وقيل : إنّه كان يبايعهن من وراء الثوب.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) (١٣)

دأت هذه السورة بآية تؤكّد على قطع كل علاقة بأعداء الله ، وتختتم هذه السورة بآية

١٦٠