مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

الأعمال يقول القرآن : (وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى).

وليس الحساب والثواب والجزاء في الآخرة بيد قدرته فحسب ، فإنّ الأسباب والعلل جميعها تنتهي سلسلتها إلى ذاته المقدسة ، وجميع تدبيرات هذا العالم تنشأ من تدبيراته ، وأخيراً فإنّ ابتداء هذا العالم والموجودات وانتهاؤها كلّها منه وإليه ، وتعود إلى ذاته المقدسة.

في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : إذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا وتكلموا فيما دون العرش ، ولا تكلموا فيما فوق العرش. أي لا تتكلّموا في ذات الله فإنّ العقول تحار فيه ولا تصل إلى حدّ فإنّه لا يمكن للعقول المحدودة أن تفكّر في ما هو غير محدود لأنّه مهما فكّرت العقول فتفكيرها محدود وحاشا لله أن يكون محدوداً.

إنّ هذا التفسير لا ينافي ما ذكرناه آنفاً ويمكن الجمع بين المفهومين في الآية.

ثم يضيف القرآن في الآية التالية مبيّناً حاكمية الله في أمر ربوبيته وإنتهاء امور هذا العالم إليه فيقول : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى).

وهذه الآيات الأربع وما قبلها هي بيان جامع وتوضيح طريف لمسألة انتهاء الامور إليه وتدبيره وربوبيته ، لأنّها تقول : إنّ موتكم وحياتكم بيده واستمرار النسل عن طريق الزوجين بيده ، وكل ما يحدث في الحياة فبأمره ، فهو يضحك ، وهو يبكي ، وهو يميت ، وهو يحيي ، وهكذا فإنّ أساس الحياة والمعوّل عليه من البداية حتى النهاية هو ذاته المقدسة.

وقد جاء في بعض الأحاديث ما يوسع مفهوم الضحك والبكاء في هذه الآية ففسّرت بأنّه سبحانه : أبكى السماء بالمطر وأضحك الأرض بالنبات (١).

وبعد ذكر الامور المتعلقة بالربوبية والتدبير من قِبَل الله يتحدث القرآن عن موضوع المعاد فيقول : (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى).

«النشأة : معناها الإيجاد والتربية ، والنشأة الاخرى ليست شيئاً سوى القيامة.

ثم يضيف القرآن في الآية التالية قائلاً : (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى).

فالله سبحانه لم يرفع حاجات الإنسان المادية عنه بلطفه العميم فحسب ، بل أولاه غنى يرفع عنه حاجاته المعنوية من امور التربية والتعليم والتكامل عن طريق إرسال الرسل إليه وإنزال الكتب السماوية وإعطائه المواهب العديدة.

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم القمي ٢ / ٣٣٩.

٢١

«أغنى : فعل مشتق من غني ومعناه عدم الحاجة ؛ وأقنى : فعل مشتق من قنية على وزن جِزية ، ومعناها الأموال التي يدّخرها الإنسان. فيكون معنى الآية على هذا النحو : هو أغنى أي رفع الحاجات الفعلية ، وأقنى معناه إيلاء المواهب التي تدخّر سواء في الامور المادية كالحائط أو البستان والأملاك وما شاكلها ، أو الامور المعنوية كرضا الله سبحانه الذي يُعدّ أكبر رأس مال دائم.

أمّا آخر آية من الآيات محل البحث فتقول : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشّعْرَى).

تخصيص القرآن الشعرى النجم المعروف في السماء بالذكر ، بالإضافة إلى أنّه أكثر النجوم لمعاناً ويطلع عند السحر في مقربة من الجوزاء مما يلفت النظر تماماً ... فإنّ طائفةً من المشركين العرب كانت تعبده ، فالقرآن يشير إلى أنّ الأولى بالعبادة هو الله لأنّه ربّ الشعرى وربّكم.

(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى (٥٠) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (٥٣) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى) (٥٥)

ألا تكفي دروس العبرة هذه : هذه الآيات ـ كالآيات المتقدمة ـ تستكمل المسائل المذكورة في الصحف الاولى وما جاء في صحف إبراهيم وموسى.

وكانت الآيات المتقدمة قد ذكرت عشر مسائل ضمن فصلين :

الأوّل : كان ناظراً إلى مسؤولية كل إنسان عن أعماله.

الثاني : ناظر إلى إنتهاء جميع الخطوط والحوادث إلى الله سبحانه. أمّا الآيات محل البحث فتتحدث عن مسألة واحدة ـ وإن شئت قلت ـ تتحدث عن موضوع واحد ذلك هو مجازاة أربع امم من الامم المنحرفة الظالمة وإهلاكهم ، وفي ذلك إنذار لُاولئك الذين يلوون رؤوسهم عن طاعة الله ولا يؤمنون بالمبدأ والمعاد.

فتبدأ الآية الاولى من الآيات محل البحث فتقول : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى).

وصف عاد ب الاولى إمّا لقدمها حتى أنّ العرب تطلق على كل قديم أنّه عاديّ أو لوجود امّتين في التاريخ باسم عاد والامّة المعروفة التي كانت نبيّها هود عليه‌السلام تُدعى ب عاد الاولى.

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلاً : (وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى).

٢٢

ويقول في شأن قوم نوح : (وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى).

لأنّ نبيّهم نوحاً عاش معهم زماناً طويلاً ، وبذل قصارى جهده في إبلاغهم ونصحهم ، فلم يستجب لدعوته إلّاقليل منهم ، وأصرّوا على شركهم وكفرهم وعتوّهم وإستكبارهم وإيذائهم نبيّهم نوحاً وتكذيبهم إيّاه وعبادة الأوثان بشكل فظيع كما سنعرض تفصيل ذلك في تفسير سورة نوح إن شاء الله.

وأمّا رابعة الامم فهي قوم لوط المشار إليهم بقوله تعالى : (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى).

والظاهر أنّ زلزلة شديدة أصابت حيّهم وقريتهم فقذفت عماراتهم نحو السماء بعد إقتلاعها من الأرض وقلبتها على الأرض ، وطبقاً لبعض الروايات كان جبرئيل قد إقتلعها بإذن الله وجعل عاليها سافلها ودمّرها تدميراً ... (فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى).

لقد امطروا بحجارة من السماء ، فغشّت حيّهم وعماراتهم المنقلبة ودفنتها عن آخرها.

وفي ختام هذا البحث يشير القرآن إلى مجموع النعم الوارد ذكرها في الآيات المتقدمة ويلمح إليها بصورة استفهام إنكاري قائلاً : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكَ تَتَمَارَى).

فهل تشكّ وتتردّد بنعم الله ، كنعمة الحياة أو أصل نعمة الخلق والإيجاد ، أو نعمة أنّ الله لا يأخذ أحداً بوزر أحد ؛ وما جاء في الصحف الاولى وأكّده القرآن؟!

صحيح أنّ المخاطب بالآية هو شخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّاأنّ مفهومها شامل لجميع المسلمين ، بل الهدف الأصلي من هذه الآية إفهام الآخرين.

(هذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) (٦٢)

تعقيباً على الآيات المتقدمة التي كانت تتحدث عن إهلاك الامم السالفة لظلمهم ، تتوجّه هذه الآيات ـ محل البحث ـ إلى المشركين والكفار ومنكري دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فتخاطبهم بالقول : (هذَا نَذِيرٌ مّنَ النُّذُرِ الْأُولَى). أي النبي أو القرآن نذير كمن سبقه من المنذرين.

وقوله عن القرآن أو النبي هذا نذير من النذر الاولى يعني أنّ رسالة محمّد وكتابه

٢٣

السماوي لم يكن (أي منهما) موضوعاً لم يسبق إليه ، فقد أنذر الله امماً بمثله في ما مضى من القرون ، فعلام يكون ذلك مثار تعجبكم.

ومن أجل أن يلتفت المشركون والكفار إلى الخطر المحدق بهم ويهتّموا به أكثر يضيف القرآن قائلاً : (أَزِفَتِ الْأَزِفَةُ).

والتعبير ب الآزفة عن القيامة هو لإقترابها وضيق وقتها ، لأنّ الكلمة هذه مأخوذة من الأزف على وزن نَجَف ، ومعناه ضيق الوقت ، وبالطبع فإنّ مفهومه يحمل الإقتراب أيضاً.

وتسمية القيامة بالآزفة في القرآن بالإضافة إلى هذه الآية محل البحث ، واردة في الآية (١٨) من سورة غافر أيضاً ... وهو تعبير بليغ وموقظ ، وهذا المعنى جاء بتعبير آخر في الآية (١) من سورة القمر : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ). فإنّ إقتراب القيامة مع الأخذ بنظر الاعتبار عمر الدنيا المحدود والقصير يمكن إدراكه بوضوح ، خاصة ما ورد أنّ من يموت تقوم قيامته الصغرى.

ثم يضيف القرآن قائلاً : أنّ المهمّ هو أنّه لا أحد غير الله بإمكانه إغاثة الناس في ذلك اليوم والكشف عمّا بهم من شدائد : (لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ).

«الكاشفة : هنا معناه مزيحة الشدائد.

فالحاكم والمالك وصاحب القدرة في ذلك الحين وكل حين هو الله سبحانه ، فإذا أردتم النجاة فالتجئوا إليه وإلى لطفه وإذا طلبتم الدّعة والأمان فاستظلّوا بالإيمان به.

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلاً : (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ).

ولعلّ هذه الجملة إشارة إلى القيامة الوارد ذكرها آنفاً ، أو أنّها إشارة إلى القرآن ، لأنّه ورد التعبير عنه ب الحديث في بعض الآيات كما في الآية (٣٤) من سورة الطور ، أو أنّ المراد من الحديث هو ما جاء من القصص عن هلاك الامم السابقة أو جميع هذه المعاني.

ثم يقول مخاطباً : (وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنتُمْ سَامِدُونَ). أي في غفلة مستمرّة ولهو وتكالب على الدنيا ، مع أنّه لا مجال للضحك هنا ولا الغفلة والجهل ، بل ينبغي أن يُبكى على الفرص الفائتة والطاعات المتروكة ، والمعاصي المرتكبة ، وأخيراً فلابد من التوبة والرجوع إلى ظلّ الله ورحمته.

ويقول القرآن في آخر آية من الآيات محل البحث ـ وهي آخر آية من سورة النجم أيضاً

٢٤

ـ بعد أن بيّن أبحاثاً متعددة حول إثبات التوحيد ونفي الشرك : (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) (١).

فإذا أردتم أن تسيروا في الصراط المستقيم والسبيل الحق فاسجدوا لذاته المقدسة فحسب ، إذ لله وحده تنتهى الخطوط في عالم الوجود ، وإذا أردتم النجاة من العواقب الوخيمة التي أصابت الامم السالفة لشركهم وكفرهم فوقعوا في قبضة عذاب الله ، فاعبدوا الله وحده.

الذي يجلب النظر ـ كما جاء في روايات متعددة ـ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما تلا هذه الآية وسمعها المؤمنون والكافرون سجدوا لها جميعاً.

وليست هذه هي المرّة الاولى التي يترك القرآن بها أثره في قلوب المنكرين ويجذبهم إليه دون اختيارهم ، إذ ورد في قصّة الوليد بن المغيرة أنّه لمّا سمع آيات فصّلت وبلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (في قوله) إلى الآية : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ). قام من مجلسه واهتزّ لها وجاء إلى البيت فظنّ جماعة من المشركين أنّه صبا إلى دين محمّد.

 

نهاية تفسير سورة النجم

* * *

__________________

(١) ينبغي الإلتفات إلى أنّ هذه الآية هي ثالثة السجدات الواجبة في القرآن الكريم ، وإذا ما تلاها أحد بتمامها ، أو سمعها من آخر فيجب أن يسجد. طبعاً لا يجب فيها الوضوء ، لكن يجب الإحتياط في وضع الجبهة على ما يصحّ السجود عليه.

٢٥
٢٦

٥٤

سورة القمر

محتوى السورة : تحوي هذه السورة خصوصيات السور المكية التي تتناول الأبحاث الأساسية حول المبدأ والمعاد ، وخصوصاً العقوبات التي نزلت بالامم السالفة ، وذلك نتيجة عنادهم ولجاجتهم في طريق الكفر والظلم والفساد .. مما أدّى بها الواحدة تلو الاخرى إلى الإبتلاء بالعذاب الإلهي الشديد ، وسبّب لهم الدمار العظيم.

ونلاحظ في هذه السورة تكرار قوله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) وذلك بعد كل مشهد من مشاهد العذاب الذي يحلّ بالامم لكي يكون درساً وعظة للمسلمين والكفار.

ويمكن تلخيص أبحاث هذه السورة في عدّة أقسام هي :

١ ـ تبدأ السورة بالحديث عن قرب وقوع يوم القيامة ، وموضوع شقّ القمر ، وإصرار وعناد المخالفين في إنكار الآيات الإلهية.

٢ ـ ثم يبحث بتركيز واختصار عن أوّل قوم تمرّدوا على الأوامر الإلهية ، وهم قوم نوح ، وكيفية نزول البلاء عليهم.

٣ ـ ثم يتعرض إلى قصة قوم عاد وأليم العذاب الذي حلّ بهم.

٤ ـ ثم تتحدث الآيات عن قوم ثمود ومعارضتهم لنبيّهم صالح عليه‌السلام وبيان معجزة الناقة ،

٢٧

وأخيراً إبتلاؤهم بالصيحة السماوية.

٥ ـ تتطرق الآيات بعد ذلك إلى الحديث عن قوم لوط ضمن بيان واف لإنحرافهم الأخلاقي ... ثم عن السخط الإلهي عليهم وإبتلائهم بالعقاب الرباني.

٦ ـ ثم تركّز الآيات الكريمة الحديث عن آل فرعون ، وما نزل بهم من العذاب الأليم جزاء كفرهم وضلالهم.

٧ ـ ثم تعرض مقارنة بين هذه الامم ومشركي مكة ومخالفي الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله والمستقبل الخطير الذي ينتظر مشركي مكة فيما إذا استمرّوا على عنادهم وإصرارهم في رفض الدعوة الإلهية.

وتنتهي السورة ببيان صور ومشاهد من معاقبة المشركين ، وجزاء وأجر المؤمنين والمتقين.

وسورة القمر تتميّز آياتها بالقصر والقوّة والحركية.

وقد سمّيت هذه السورة ب (القمر) لأنّ الآية الاولى منها تتحدث عن شقّ القمر.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ومن قرأ سورة اقتربت الساعة في كل غبّ بُعث يوم القيامة ووجهه على صورة القمر ليلة البدر ، ومن قرأها كل ليلة كان أفضل وجاء يوم القيامة ووجهه مسفر على وجوه الخلائق.

ومن الطبيعي أن تكون النورانية التي تتّسم بها هذه الوجوه تعبيراً عن الحالة الإيمانية الراسخة في قلوبهم نتيجة التأمل والتفكر في آيات هذه السورة المباركة والعمل بها بعيداً عن التلاوة السطحية الفارغة من التدبر في آيات الله.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) (٣)

شقّ القمر : يتناول الحديث في الآية الاولى حادثتين مهمّتين :

أحدهما : قرب وقوع يوم القيامة ، والذي يقترن بأعظم تغيير في عالم الخلق ، وبداية لحياة جديدة في عالم آخر ، ذلك العالم الذي يقصر فكرنا عن إدراكه نتيجة محدودية علمنا وإستيعابنا للمعرفة الكونية.

٢٨

والحادثة الثانية التي تتحدث الآية الكريمة عنها هي معجزة إنشقاق القمر العظيمة التي تدلّل على قدرة الباريء عزوجل المطلقة ، وكذلك تدلّ ـ أيضاً ـ على صدق دعوة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله. قال تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ).

وجدير بالذكر أنّ سورة النجم التي أنهت آياتها المباركة بالحديث عن يوم القيامة (أَزِفَتِ الْأَزِفَةُ) تستقبل آيات سورة القمر بهذا المعنى أيضاً ، مما يؤكّد قرب وقوع اليوم الموعود رغم أنّه عندما يقاس بالمقياس الدنيوي فقد يستغرق آلاف السنين ويتوضّح هذا المفهوم ، حينما نتصور مجموع عمر عالمنا هذا من جهة ، ومن جهة اخرى عندما نقارن جميع عمر الدنيا في مقابل عمر الآخرة فإنّها لا تكون سوى لحظة واحدة.

إنّ إقتران ذكر هاتين الحادثتين في الآية الكريمة : إنشقاق القمر واقتراب الساعة دليل على قرب وقوع يوم القيامة ، حيث إنّ ظهور الرسول الأكرم ـ وهو آخر الأنبياء ـ قرينة على قرب وقوع اليوم المشهود.

ومن جهة اخرى ، فإنّ إنشقاق القمر دليل على إمكانية إضطراب النظام الكوني ، ونموذج مصغّر للحوادث العظيمة التي تسبق وقوع يوم القيامة في هذا العالم ، حيث إندثار الكواكب والنجوم والأرض يعني حدوث عالم جديد ، استناداً إلى الروايات المشهورة التي ادّعى البعض تواترها.

في تفسير مجمع البيان : قال ابن عباس : اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : إن كنت صادقاً فشقّ لنا القمر فرقتين. فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن فعلت تؤمنون؟ قالوا : نعم. وكانت ليلة بدر فسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ربّه أن يعطيه ما قالوا ، فانشقّ القمر فرقتين ورسول الله ينادي : يا فلان! يا فلان! اشهدوا.

يقول سبحانه : (وَإِن يَرَوْاءَايَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ).

والمراد من قوله تعالى مستمر أنّهم شاهدوا من الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله معجزات عديدة ، وشقّ القمر هو استمرار لهذه المعاجز ، وأنّهم كانوا يبرّرون إعراضهم عن الإيمان وعدم الاستسلام لدعوة الحق وذلك بقولهم : إنّ هذه المعاجز كانت سحر مستمر.

أمّا قوله تعالى : (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ). فإنّه يشير إلى سبب مخالفتهم وعنادهم وسوء العاقبة التي تنتظرهم نتيجة لهذا الإصرار.

إنّ مصدر خلاف هؤلاء وتكذيبهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو تكذيب معاجزه ودلائله ، وكذلك تكذيب يوم القيامة ، هو اتّباع هوى النفس.

٢٩

والمراد من جملة (وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ) ، هو أنّ كل شيء في هذا العالم لا يفنى ولا يزول ، فالأعمال الصالحة أو السيّئة تبقى مع الإنسان حتى يرى جزاء ما فعل. حيث إنّ الحق سيظهر وجهه الناصح مهما حاول المغرضون إطفاءه ، كما أنّ وجه الباطل القبيح سيظهر قبحه كذلك ، وهذه سنّة إلهيّة في عالم الوجود.

(وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) (٨)

تأتي هذه الآيات لتواصل البحث عن الكفار الذين كذّبوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يذعنوا للحقّ حيث أعرضوا عن جميع المعاجز التي شاهدوها.

والآيات أعلاه تشرح حال هؤلاء الأفراد وموضّحة المصير البائس الذي ينتظر هؤلاء المعاندين في يوم القيامة. يقول سبحانه إنّ هؤلاء لم يعدموا الإنذار والإخبار ، بل جاءهم من الأخبار ما يوجب إنزجارهم عن القبائح والذنوب : (وَلَقَدْ جَاءَهُم مّنَ الْأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ). وذلك ليلقي عليهم الحجة.

والقصد من الأنباء الإخبار عن الامم والأقوام السابقة الذين هلكوا بألوان العذاب المدمّر الذي حلّ بهم ، وكذلك أخبار يوم القيامة وجزاء الظالمين والكفار ، حيث اتّضحت كل تلك الأخبار في القرآن الكريم.

ويضيف تعالى : (حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ). فهذه الآيات حكم إلهية بليغة ومواعظ مؤثّرة ، إلّاأنّها لا تفيد أهل العناد (١).

الآية التالية تؤكّد على أنّ هؤلاء ليسوا على إستعداد لقبول الحق ، فاتركهم لحالهم وأعرض عنهم وتذكّر يوم يدعو الداعي الإلهي إلى أمر مخيف ، وهو الدعوة إلى الحساب ،

__________________

(١) نذر : جمع نذير ويعني (المنذرين) والمقصود بالمنذرين هي الآيات القرآنية وأخبار الامم والأنبياء الذين وصل صوتهم إلى أسماع الناس.

٣٠

حيث يقول سبحانه : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَىْءٍ نُّكُرٍ) (١).

أمّا المراد من (شَىْءٍ نُّكُرٍ) فهو الحساب الإلهي الدقيق الذي لم يكن معلوماً من حيث وقته قبل قيام الساعة ، أو العذاب الذي لم يخطر على بالهم ، أو جميع هذه الامور ، ذلك لأنّ يوم القيامة في جميع أحواله حالة غير مألوفة للبشر.

وفي الآية اللاحقة يبيّن الله سبحانه وتعالى توضيحاً أكثر حول هذا الموضوع ويذكر أنّ هؤلاء يخرجون من القبور في حالة : (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ).

نسبة الخشوع هنا للأبصار لأنّ المشهد مرعب ومخيف إلى حدّ لا تستطيع الأنظار رؤيته ، لذلك فإنّها تتحوّل عنه وتطرق نحو الأسفل.

والتشبيه هنا ب (الْجَرَادٌ مُّنتَشِرٌ) لأنّ النشور في يوم الحشر يكون بصورة غير منتظمة لحالة الهول التي تعتري الناس فيه ، كما هي حركة إنتشار الجراد التي تتمثّل فيها الفوضى والاضطراب خلافاً للقسم الأكبر من حركة الطيور التي تطير وفق نظم خاصة في الجو ، مضافاً إلى أنّهم كالجراد من حيث الضعف وعدم القدرة.

إنّ حالة هؤلاء الفاقدين للعلم والبصيرة ، حالة ذهول ووحشة وتخبّط في المسير كالسكارى يرتطم بعضهم ببعض فاقدين للوعي والإرادة.

وأمّا قوله تعالى : (مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) فإنّ كلمة مهطعين : تأتي من مادة اهطاع أي مدّ الرقبة ، والبعض يرجعها إلى النظر بإنتباه أو الركض بسرعة نحو الشيء ، ويحتمل أن تكون كل واحدة من هذه المعاني هي المقصودة ، حيث إنّ بمجرد سماع صوت الداعي الإلهي تمدّ الرقاب إليه ثم يتبعه التوجّه بالنظر نحوه ، ثم الإسراع إليه والحضور في المحكمة الإلهية العادلة عند دعوتهم إليها.

وهنا يستولي الخوف من الأهوال العظيمة لذلك اليوم على وجود الكفار والظالمين ، لذا يضيف سبحانه معبّراً عن حالة البؤس التي تعتري الكافرين بقوله : (يَقُولُ الْكَافِرُونَ هذَا يَوْمٌ عَسِرٌ).

ويستفاد من هذا التعبير أنّ يوم القيامة يوم غير عسير بالنسبة للمؤمنين.

__________________

(١) نكر : مفرد من مادة نكارة وتعنى الشىء المبهم المخيف.

٣١

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (١٧)

قصة قوم نوح عبرة وعظة : جرت السنّة القرآنية في كثير من الموارد أنّ الله سبحانه يستعرض حالة الأقوام السابقة والعاقبة المؤلمة التي انتهوا إليها إنذاراً وتوضيحاً (للكفار والمجرمين) بأنّ الاستمرار في طريق الضلال سوف لن يؤدي بهم إلّاإلى المصير البائس الذي لاقته الأقوام السابقة.

وفي هذه السورة ، إكمالاً للبحث الذي تناولته الآيات السابقة ، في إثارات وإشارات مختصرة ومعبّرة حول تاريخ خمسة من الأقوام المعاندة ابتداءً من قوم نوح كما في قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ). فمضافاً إلى تكذيبه وإتّهامه بالجنون صبّوا عليه ألوان الأذى والتعذيب ومنعوه من الإستمرار في أداء رسالته.

فتارةً يقولون له مهدّدين ومنذرين : (قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) (١).

وتارةً اخرى يضغطون رقبته بأيديهم حتى يفقد وعيه ، ولكنّه ما أن يفيق إلى وعيه حتى يقول : اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون (٢).

والتعبير ب عبدنا إشارة إلى أنّ هؤلاء القوم المعاندين والمغرورين في الواقع يبارزون الله تعالى لا مجرّد شخص نوح.

ثم يضيف تعالى أنّ نوح عندما يئس من هداية قومه تماماً : (فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ).

«انتصر : طلب العون ، وهنا جاءت بمعنى طلب الإنتقام على أساس العدل والحكمة.

__________________

(١) سورة الشعراء / ١١٦.

(٢) الدرّ المنثور ٣ / ٩٥ ؛ تفسير القرطبي ٨ / ٢٧٣ ؛ وجامع البيان ٢٩ / ١٢٦.

٣٢

ثم يشير هنا إشارة معبّرة وقويّة في كيفية العذاب الذي إبتلوا به وصبّ عليهم حيث يقول سبحانه : (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ).

إنّ تعبير إنفتاح أبواب السماء لتعبير رائع جدّاً ، ويستعمل عادةً عند هطول الأمطار الغزيرة.

«منهمر : من مادة همر على وزن (صبر) وتعني النزول الشديد للدموع أو الماء.

ويذكر أنّ الماء الذي أدّى إلى الطوفان لم يكن من هطول الأمطار فقط ، بل كان من تفجير العيون في الأرض ، حيث يقول تعالى : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا). وهكذا إختلط ماء السماء بماء الأرض بمقدار مقدّر وملأ البسيطة : (فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ).

وتترك الآيات الكريمة مسألة الطوفان ، لأنّ ما قيل فيها من الآيات السابقة يعتبر كافياً فتنتقل إلى سفينة نجاة نوح عليه‌السلام حيث يقول تعالى : (وَحَمَلْنهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ).

«دسر : جمع دِسار بمعنى الإبعاد أو النهر بشدة مقترناً مع حالة عدم الرضا.

فإنّ التعبير القرآني هنا ظريف ، لأنّه كما يقول الباريء عزوجل بأنّنا وفي وسط ذلك الطوفان العظيم ، الذي غمر كل شيء أودعنا أمر نجاة نوح وأصحابه إلى مجموعة من المسامير وقطع من الخشب ، وهكذا تتجلّى القدرة الإلهية العظيمة.

ويشير سبحانه إلى لطف عنايته للسفينة المخصّصة لنجاة نوح عليه‌السلام حيث يقول سبحانه :

(تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا). أي أنّ هذه السفينة تسير بالعلم والمشيئة الإلهية ، وتشقّ الأمواج العالية بقوّة وتستمر في حركتها تحت رعايتنا وحفظنا.

ثم يضيف تعالى : (جَزَاءً لّمَن كَانَ كُفِرَ).

إنّ نوح عليه‌السلام كسائر الأنبياء الإلهيين يعتبر نعمة إلهية عظيمة وموهبة من مواهبه الكبيرة على البشرية ، إلّاأنّ قومه الحمقى كفروا به وبرسالته.

ثم يقول سبحانه وكنتيجة لهذه القصة العظيمة موضع العظّة والاعتبار : (وَلَقَد تَّرَكْنَاهَاءَايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ).

وفي الآية اللاحقة يطرح الله سبحانه سؤالاً معبّراً ومهدّداً للكافرين الذين اتّبعوا نفس المنهج الذي كان عليه قوم نوح حيث يقول سبحانه : (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ).

هل هذه حقيقة واقعة ، أم قصة واسطورة؟

ويضيف مؤكّداً هذه الحقيقة في آخر الآية مورد البحث في قوله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ).

٣٣

إنّ هذا الكتاب العظيم الخالي من التعقيد والمجسّد لعناصر التأثير من حيث عذوبة ألفاظه وجاذبيتها ، وطبيعة قصصه الواقعية ذات المحتوى الغزير ... لذا فإنّ القلوب المهيأة لقبول الحق والمتفاعلة مع منطق الفطرة والمستوعبة لمنهج العقل تنجذب بصورة متميّزة ، والشاهد على هذا أنّ التاريخ الإسلامي يذكر لنا قصصاً عديدة عجيبة محيّرة من حالات التأثير العميق الذي يتركه القرآن الكريم على القلوب الخيّرة.

(كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٢٢)

مصير قوم عاد : تستعرض الآيات الكريمة أعلاه نموذج آخر من الكفار والمجرمين بعد قوم نوح ، وهم (قوم عاد) وذلك كتحذير لمن يتنكّب طريق الحق والهداية الإلهية.

وتبدأ فصول أخبارهم بقوله تعالى : (كَذَّبَتْ عَادٌ).

لقد بذل هود عليه‌السلام غاية جهده في توعية قومه وتبليغهم بالحق الذي جاء به من عند الله ، وكان عليه‌السلام كلّما ضاعف سعيه وجهده لإنتشالهم من الكفر والضلال إزدادوا إصراراً ونفوراً ولجاجة في غيّهم وغرورهم الناشىء من الثراء والإمكانات المادية ، بالإضافة إلى غفلتهم نتيجة إنغماسهم في الشهوات ، جعلتهم صمّ الآذان ، عمي العيون ، فجازاهم الله بعقاب أليم ، ولهذا تشير الآية الكريمة باختصار حيث يقول سبحانه : (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ).

كما نلاحظ التفصيل في الآيات اللاحقة بعد هذا الإجمال حيث يقول سبحانه : (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ).

«صرصر : من مادة صرّ على وزن (شرّ) ، وفي الأصل تعني (الإغلاق والإحكام) ويأتي تكرارها في هذا السياق للتأكيد ، ولأنّ الرياح التي عذّبوا بها كانت باردة وشديدة ولاذعة ومصحوبة بالأزيز ، لذا اطلق عليها (صرصر).

«نحس : ففي الأصل معناها (الإحمرار الشديد) الذي يظهر في الافق أحياناً ، كما يطلق العرب أيضاً كلمة (نحاس) على وهج النار الخالية من الدخان ، ثم أطلق هذا المصطلح على كل (شؤم) مقابل (السعد).

«مستمر صفة ل (يوم) أو ل (نحس) ومفهومه في الحالة الاولى هو استمرار حوادث

٣٤

ذلك اليوم كما في الآية (٧) من سورة الحاقة قوله تعالى : (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ).

وتعني في الحالة الثانية إستمرار نحوسة ذلك اليوم حتى هلك الجميع.

ثم يستعرض سبحانه وصف الريح بقوله : (تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ).

«منقعر : من مادة قعر بمعنى أسفل الشيء أو نهايته ، ولذا يستعمل هذا المصطلح بمعنى قلع الشيء من أساسه.

«أعجاز : جمع عجز ـ على وزن رجل ـ بمعنى خَلْفُ أو تحت ، وقد شبّهوا بالقسم الأسفل من النخلة وذلك حسبما يقول البعض لأنّ شدة الريح قطّعت أيديهم ورؤوسهم ودفعتها باتّجاهها ، وبقيت أجسادهم المقطعة الرؤوس والأطراف كالنخيل المقطعة الرؤوس ، ثم قُلعت أجسادهم من الأرض وكانت الريح تتقاذفها.

وللسبب المذكور أعلاه ، يكرّر الله سبحانه وتعالى إنذاره للكفار بقوله : (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ).

فنحن كذلك فعلنا وجازينا الأقوام السالفة التي سلكت سبيل الغي والطغيان والعصيان ، فعليكم أن تتفكروا في مصيركم وأنتم تسلكون نفس الطريق الذي سلكوه.

وفي نهاية القصة يؤكّد قوله سبحانه : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ).

والنقطة الأخيرة الجديرة بالذكر هي تأكيد قوله سبحانه : (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ) حيث تكرّرت مرّتين : الاولى : في بداية الحديث عن قصة قوم عاد ، والثانية : في نهايتها ، ولعل سبب هذا الاختلاف بين قوم عاد والأقوام الاخرى ، أنّ عذاب قوم عاد كان أكثر شدّة وإنتقاماً ، رغم أنّ جميع ألوان العذاب الإلهي شديد.

إنّ مسألة الإهتمام بموضوع (سعد ونحس) الأيام ، وكذلك الحوادث التي وقعت فيها ، بالإضافة إلى أنّها ترشدنا للكثير من الحوادث التأريخية ذات العظة والعبرة ، فإنّها أيضاً عامل للتوسل بالله والتوجّه إلى رحاب عظمته السامقة ، واستمداد العون من ذاته القدسية ، وهذا ما نلاحظه في روايات عديدة.

ففي الأيام النحسة مثلاً نستطيع أن نطمئن نفسياً لممارستنا العملية وبكل تفاؤل وموفّقية ، وذلك حينما ندعو الله ونطلب منه العون ونتصدق على الفقراء ، ونقرأ شيئاً من الآيات القرآنية ونتوكل على الذات الإلهية المقدسة.

٣٥

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٣٢)

العاقبة الأليمة لقوم ثمود : تكملة للأبحاث السابقة ، تتحدث الآيات الكريمة باختصار عن ثالث قوم ذكروا في هذه السورة ، وهم (قوم ثمود) الذين عاشوا في (حجر) الواقعة في شمال الحجاز ، ليستفاد من قصّتهم الدروس والعبر.

لقد بذل نبيّهم صالح عليه‌السلام أقصى الجهد من أجل هدايتهم وإرشادهم ولكن دون جدوى. قال تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ).

إنّ نذر جاءت هنا جمع إنذار وهو الكلام الذي يتضمن التهديد ، والذي هو الطابع العام لكلام الأنبياء جميعاً.

ويستعرض سبحانه سبب تكذيبهم (الأنبياء) حيث يقول على لسان قوم ثمود : (فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِى ضَللٍ وَسُعُرٍ).

إنّ الكبرياء والغرور والنظرة المتعالية تجاه الآخرين ، بالإضافة إلى حبّ الذات كانت حاجزاً عن الإستجابة لدعوة الأنبياء عليهم‌السلام ، لقد قالوا : إنّ (صالح) شخص مثلنا وليست له أيّ امتيازات علينا ليصبح زعيماً وقائداً نطيعه ونتّبعه ، كما لا يوجد سبب لإتّباعه.

وهذا هو الإشكال الذي تورده جميع الأقوام الضالة على أنبيائها بأنّهم أشخاص مثلنا ، ولذا لا يستطيع أن يبلغ رسالة سماوية.

وتزداد اللجاجة والعناد في قوم ثمود فيتساءلون : إذا اريد نزول الوحي على إنسان ، فلماذا اختّص بصالح من بيننا : (أَءُلْقِىَ الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا).

وفي الحقيقة أنّ هذه الأقوال لها شبه كبير بأقوال مشركي مكة ، ذلك أنّهم شكّكوا برسالة

٣٦

النبي بأقوال مماثلة : (مَالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا) (١).

ثم تختتم الآية بقوله سبحانه : (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ). وذلك إتّهاماً لصالح عليه‌السلام بالكذب فيما ادّعاه من اختصاص الوحي به وإنذار قومه وأنّه يريد أن يتحكّم علينا ويجعل كل امورنا تحت قبضته ويسيرنا وفق هواه وإرادته ..

«أشر : وصف من مادة أشر على وزن (قمر) بمعنى بطر ومرح زائد عن الحد.

ويردّ الباريء عزوجل عليهم بصورة قاطعة بقوله : (سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ).

وعندما يدركهم العذاب الإلهي ويسوّيهم مع التراب ويحوّلهم رماداً ، وبعد أن يجازيهم الله بأعمالهم في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ... عندئذ سيدركون حقيقة اتّهاماتهم الزائفة التي اتّهموا بها نبي من أنبياء الله المقربين ، وسيعلمون أيضاً أنّ هذه الإفتراءات هي أحق بهم وألصق.

ثم يشير سبحانه إلى قصة الناقة التي ارسلت كمعجزة ودلالة على صدق دعوة صالح عليه‌السلام حيث يقول : (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ).

«الناقة : انثى البعير ، وهي ليست كبقية النوق لما تتصف به من خصوصيات خارقة للعادة ، وطبقاً للروايات المشهورة فإنّ هذه الناقة قد خرجت من بطن صخرة جبل حجة دامغة للمنكرين والمعاندين.

ومن الواضح أنّ قوم ثمود قد جُعلوا أمام إمتحان عسير ، حيث يستعرض سبحانه هذا الإختبار لهم بقوله : (وَنَبّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ). يوم لهم ويوم للناقة.

ومع أنّ القرآن الكريم لم يوافنا بتفاصيل أكثر حول هذا الموضوع ، ولكن كما يذكر الكثير من المفسرين فإنّ ناقة صالح عليه‌السلام كانت تشرب كل الماء يوم يكون شربها ، ويعتقد البعض الآخر أنّ هيئتها ووضعها كانا بشكل يدفع الحيوانات إلى الفرار من الماء عندما تقترب الناقة نحوه ، ولذلك فإنّهم إقترحوا حلاً وهو : أن يكون الماء يوماً لهم وآخر للناقة.

إنّ قوم ثمود المتمردين عقدوا العزم على قتل الناقة ، في الوقت الذي حذّرهم نبيّهم

__________________

(١) سورة الفرقان / ٧.

٣٧

صالح عليه‌السلام من مسّها بسوء ، وأخبرهم بأنّ العذاب الإلهي سيقع عليهم بعد فترة وجيزة إن فعلوا ذلك.

ونظراً لإستخفافهم بهذا التحذير (فقد نادوا أحد أصحابهم حيث تصدّى للناقة وقتلها). يقول الله سبحانه : (فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ).

ويمكن أن يكون المراد ب (صاحب) أحد رؤساء ثمود ، وكان أحد أشرارهم المعروفين ويعرف في التاريخ ب (قدارة بن سالف) (١).

«عَقَرَ : من مادة عقر على وزن (ظلم) وفي الأصل بمعنى الأساس والجذر ، وإذا استعمل هذا المصطلح بخصوص الناقة فإنّه يعني القتل والنحر.

وتأتي الآية اللاحقة مؤكّدة إنذارهم قبل نزول العذاب الشديد عليهم ، حيث يقول سبحانه : (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ). ثم وقع العذاب والسخط الإلهي على هؤلاء المتمردين المعاندين حيث يضيف سبحانه : (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ).

«الهشيم : من مادة هشم على وزن حسم وفي الأصل بمعنى إنكسار الأشياء الضعيفة كالنباتات.

«محتظر : في الأصل من مادة حظر على وزن (حفز) بمعنى المنع ، ولذلك فإنّ إعداد الحظائر للحيوانات والمواشي تكون مانعة لها من الخروج ولدرء المخاطر عنها ، ومفردها (الحظيرة) ، ومحتظر على وزن محتسب ـ هو الشخص الذي يملك مثل هذا المكان.

والإستعراض الذي ذكرته الآية الكريمة حول عذاب قوم ثمود عجيب جدّاً ومعبّر للغاية ، حيث لم يرسل الله لهم جيوشاً من السماء أو الأرض للتنكيل بهم ، وإنّما كان عذابهم بالصيحة السماوية العظيمة ، فكانت صاعقة رهيبة ، أخمدت الأنفاس ، وكان إنفجاراً هائلاً حطّم كل شيء في قريتهم.

إنّ إستيعاب هذا اللون من العذاب كان صعباً وعسيراً للأقوام السالفة ، ولكنّه يسير بالنسبة لنا ، وذلك من خلال معرفتنا لتأثير الأمواج الناتجة من الإنفجارات ، حيث إنّها تحطّم كل شيء يقع ضمن دائرة إشعاعاتها.

ومن الطبيعي أنّنا لا نستطيع المقارنة بين الإنفجارات البشرية وصاعقة العذاب الإلهي

__________________

(١) قدارة : على وزن (منارة) ـ كان رجلاً قبيح الشكل والسيرة ، ومن أكثر الأشخاص شؤماً في التاريخ.

٣٨

التي أشاعت الدمار الرهيب في هؤلاء القوم الحمقى المستبدين ، وعلى بيوتهم وقصورهم ، عسى أن يكون عبرة ودرساً للآخرين ، حيث يقول سبحانه : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ).

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٤٠)

المصير الأكثر شؤماً : نلاحظ في هذه الآيات تعبيرات قصيرة وقوية حول قصة قوم لوط والعذاب الشديد الذي حلّ بهم ، وهم المجموعة الرابعة من الأقوام التي اتّصفت بالقبح والضلال والتي استعرضتهم هذه السورة المباركة ... حيث يبدأ الحديث عنهم بقوله سبحانه : (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ).

«نذر : جمع إنذار وتعني التهديد والتخويف. ومن المحتمل أن يكون المراد بها بعد ذكرها بصيغة الجمع هو الإنذارات المتعاقبة من النبي لوط لقومه ، والتي كُذّب بها أجمع ، كما يمكن أن يكون المقصود منها هو إشارة إلى إنذار لوط والأنبياء الذين سبقوه في الدعوة إلى الله ذلك أنّ جميع الأنبياء يسعون من أجل تثبيت حقيقة أساسية واحدة وهي العبودية لله.

وتستعرض الآيات التالية مشاهد من العذاب الذي نزل بقوم لوط وكيفية نجاة عائلته حيث يقول سبحانه : (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا).

«حاصب : تعني الريح الشديدة التي تأتي بالحجارة والحصباء ، والحصباء هي الحصى ، ويكون المقصود : إنّا أمطرناهم بالحجارة والحصباء حتى علت أجسادهم ودفنوا تحتها ؛ (إِلَّاءَالَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ).

وتتحدث الآيات القرآنية الاخرى عن هول العذاب الذي حلّ بقوم لوط حيث الزلازل التي قلبت مدنهم فأصبح عاليها سافلها ، وبذلك اصيبت بكارثة الدمار الماحق ... وتتحدث عن مطر الحجارة والحصى الذي نزل عليهم بشدة ، فيقول سبحانه في ذلك : (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا

٣٩

جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنضُودٍ) (١).

ويضيف الباريء عزوجل بقوله : (نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا كَذلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ).

إنّ لوطاً عليه‌السلام قد أتمّ الحجة على قومه قبل أن ينزل البلاء عليهم ، حيث يوضّح الله سبحانه هذه الحقيقة فيقول تعالى : (وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ).

«بطش : على وزن (فرش) وتعني في الأصل أخذ الشيء بالقوة ، ولأنّ المجرم لا يؤخذ إلّا بالقوة ليلقي جزاءه ، لذلك فإنّها تعني المجازاة.

«تماروا : من تمارى بمعنى محادثة طرفين لإيجاد الشك وإلقاء الشبهة مقابل الحق ، فهؤلاء سعوا بطرق مختلفة إلى إلقاء الشكوك والشبهات بين الناس لإبطال تأثير إنذارات هذا النبي العظيم لوط عليه‌السلام.

ولم يكتف هؤلاء المعاندون بإلقاء الشبهات العقائدية بين الناس ، بل بلغت بهم الوقاحة والصلف وعدم الحياء حدّاً أنّهم تجرّؤوا على ملائكة الرحمن وضيوف النبي الكريم المأمورين بعذاب هؤلاء القوم حينما دخلوا بيت لوط عليه‌السلام بصورة شباب وسيمين ، حيث يقول سبحانه : (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ). أي أنّهم طلبوا منه أن يضع ضيوفه تحت تصرفهم.

لقد بلغ الألم الذي اعترى لوطاً عليه‌السلام حدّاً لا يطاق نتيجة هذا التصرف القبيح والمخجل لقومه ، وطلب بإصرار أن يكفّوا عن هذا السلوك المشين المخجل البعيد عن الشرف والحياء. بل وأبدى إستعداده عليه‌السلام لتزويج بناته لهم ـ إن أعلنوا توبتهم ـ وهذه أعلى حالات المظلومية التي يتعرض لها هذا النبي الكريم من قبل قوم عديمي الحياء والإيمان والقيم الخيرة ، كما في قوله سبحانه : (قَالَ هؤُلَاءِ بَنَاتِى إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ) (٢).

ولم يمض وقت طويل حتى واجهت هذه الفئة المجرمة الباغية الجزاء الأوّلي لعملهم الإجرامي حيث يقول في ذلك سبحانه : (فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُقُوا عَذَابِى وَنُذُرِ).

إنّ يد القدرة الإلهية إمتدّت لتنتقم من هؤلاء القوم المجرمين ، وذلك بأن طمست على أعينهم ، حيث يقول البعض بأنّ جبرائيل قد امر أن يخفق بجناحهم على عيونهم حيث فقدوا

__________________

(١) سورة هود / ٨٢.

(٢) سورة الحجر / ٧١.

٤٠