مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

أنّ ضوء القمر من الشمس ، وعندما يزول نور الشمس يزول بذلك نور القمر ، وبالتالي تدخل الكرة الأرضية في ظلام دامس وعتمة مرعبة.

وبهذه الطريقة والتحول العظيم ينتهي العالم ، ثم يبدأ بعث البشرية بتحول عظيم آخر (بنفخة الصور الثانية والتي تعتبر نفخة الحياة) ، فيقول الإنسان في ذلك اليوم : (يَقُولُ الْإِنسنُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ).

أجل ، الكفرة والمذنبون الذين كذبوا بيوم الدين يبحثون عن ملجأ في ذلك اليوم لشدّة خجلهم ، ويطلبون سبل الفرار لثقل خطاياهم وخوفهم من العذاب.

ولكن سرعان ما يقال لهم : (كَلَّا لَاوَزَرَ) (١).

فلا ملجأ إلّاإلى الله تعالى : (إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ).

عندئذٍ يضيف في إدامة هذا الحديث : (يُنَبَّؤُا الْإِنسنُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ).

والمراد من هاتين العبارتين هو ما قدم من الأعمال في حياته ، أو الآثار الباقية منه بعد موته ، ممّا ترك بين الناس من السنن الصالحة والسيئة والتي يعملون ويسيرون بها ووصول حسناتها وسيئاتها إليه ، أو الكتب والمؤلفات والأبنية القائمة على الخير والشرّ ، والأولاد الصالحين والطالحين التي تصل آثارهم إليه.

في تفسير علي بن إبراهيم : في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام في قوله (يُنَبَّؤُا الْإِنسنُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) قال : بما قدم من خير وشرّ وما أخر مما سن من سنّة ليستنّ بها من بعده فإن كان شرّاً كان عليه مثل وزرهم ، ولا ينقص من وزرهم شيء ، وإن كان خيراً كان له مثل اجورهم ، ولا ينقص من اجورهم شيء.

ثم يضيف في الآية الاخرى ويقول : إنّ الله وملائكته يطلعون العباد على أعمالهم ، وإن كان لا يحتاج إلى ذلك ، لأنّ نفسه وأعضاءه هم الشهود عليه في ذلك اليوم ، فيقول تعالى : (بَلِ الْإِنسنُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيَرةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ).

سياق هذه الآيات هو نفس سياق الآيات التي تشير إلى شهادة الأعضاء على أعمال الإنسان ، كالآية (٢٠) من سورة فصّلت ، حيث يقول الله تعالى : (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

__________________

(١) وزر : تعني في الأصل الملاجىء الجبلية وأمثالها ، وتعني في هذه الآية كل نوع من الملجأ والمخبأ.

٣٢١

وعلى هذا فإنّ أفضل شاهد على الإنسان في تلك المحكمة الإلهية للقيامة هو نفسه ، لأنّه أعرف بنفسه من غيره.

معاذير : جمع (معذرة) وتعني في الأصل البحث عمّا تمحى به آثار الذنوب ، وقد تكون أحياناً أعذاراً واقعية ، واخرى صورية وظاهرية.

إنّ الآيات مفهومها واسع ، ولذا فإنّها تشمل عالم الدنيا ، وتعلم الناس بأحوال أنفسهم وإنّه كان فيهم من يكتم ويغطي وجهه الحقيقي بالكذب والإحتيال والتظاهر والمراء.

(لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) (١٩)

إنّ علينا جمعه وقرآنه : هذه الآيات بمثابة الجملة الإعتراضية التي تتداخل أحياناً في كلام المتحدث ، حيث يترك الله تعالى الحديث عن القيامة وأحوال المؤمنين والكفرة مؤقتاً ، ليعطي تذكرة مختصرة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حول القرآن فيقول : (لَاتُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ).

في تفسير هذه الآية نقل عن ابن عباس أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا نزل عليه الوحي ليقرأ عليه القرآن ، تعجّل بقراءته ليحفظه وذلك لحبّه الشديد للقرآن ، فنهاه الله عن ذلك وقال : (إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ).

ثم يضيف : (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ).

وبالتالي لا تقلق على جمع القرآن ، نحن نجمعه ونتلوه عليك بواسطة الوحي.

ثم يقول تعالى : (فَإِذَا قَرَأْنهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ). ثم يضيف : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ).

فيكون جمع القرآن وقراءته لك وتبيينه وتفصيل معانيه بعهدتنا ، فلا تقلق على شيء ، فالذي أنزل الوحي هو الذي يحفظه.

وهذه الآيات تبيّن ضمنياً أصالة القرآن ، وحفظه من أي تغيير وتحريف ، لأنّ الله تعالى تعهد بجمعه وقراءته وتبيينه.

(كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) (٢٥)

ترجع هذه الآيات مرّة اخرى لتكمل البحوث المتعلقة بالمعاد ، وخصوصيات اخرى من

٣٢٢

القيامة ، وكذلك تبيّن علل إنكار المعاد فيقول تعالى : (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ). فليس الأمر كما يتصور من أنّ دلائل المعاد خفيّة ولا يمكنكم الاطّلاع عليها ، بل إنّكم عشقتم الدنيا. ولهذا السبب تركتم الآخرة : (وَتَذَرُونَ الْأَخِرَةَ).

إنّ الشك في قدرة الله تعالى وجمع العظام وهي رميم ليس هو الدافع لإنكار المعاد ، بل إنّ حبّكم الشديد للدنيا والشهوات والميول المغرية هي التي تدفعكم إلى رفع الموانع عن طريق ملذاتكم ، وبما أنّ المعاد والشريعة الإلهية توجد موانع وحدوداً كثيرة على هذا الطريق ، لذا تتمسكون بإنكار أصل الموضوع ، وتتركون الآخرة بتمامها.

وهاتان الآيتان تؤكّدان ما ورد في الآيات السابقة والتي قال فيها تعالى شأنه : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنسنُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ). وقال أيضاً : (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيمَةِ).

ثم ينتهي إلى تبيان أحوال المؤمنين الصالحين والكفار المسيئين في ذلك اليوم ، فيقول تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ).

«ناضرة : من مادة نضرة وتعني البهجة الخاصة التي يحصل عليها الإنسان عند وفور النعمة والرفاه ، ووفورها يلازم السرور والجمال والنورانية.

هذا من ناحية العطايا المادية ، وأمّا عن العطايا الروحية فيقول تعالى : (إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ). نظرة بعين القلب وعن طريق شهود الباطن ، نظرة تجذبهم إلى الذات الفريدة وإلى ذلك الكمال والجمال المطلقين ، وتهبهم اللذة الروحانية والحال الذي لا يوصف.

في صحيح مسلم عن صهيب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إذا دخل أهل الجنة ، الجنة قال الله تبارك وتعالى : تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون : ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال : فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحبّ إليهم من النظر إلى ربّهم عزوجل.

وفي النقطة المقابلة لهذه الجماعة المؤمنة ، هناك جماعة تكون وجوههم مقطبة. (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ).

فعندما ينظر الكافرون إلى علامات العذاب وصحائف أعمالهم الخالية من الحسنات والمملوءة بالسيئات ، يصيبهم الندم والحسرة والحزن ويعبسون وجوههم لذلك. (تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ).

إنّ هذا التعبير كناية للعقوبات الثقيلة والتي تنتظر هذه الجماعة في جهنم ، لكن إنّ الجماعة السابقة منتظرون لرحمة الله تعالى ومستعدون للقاء المحبوب. هؤلاء لهم أسوأ العذاب. وأولئك لهم أسمى النِعم الجسمانية والمواهب واللذات الروحانية.

٣٢٣

(كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) (٣٠)

إتماماً للأبحاث المرتبطة بالعالم الآخر ومصير المؤمنين والكفار يأتي الحديث في هذه الآيات عن لحظة الموت المؤلمة والتي تعتبر باباً إلى العالم الآخر فيقول تعالى : (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِىَ). أي كلّا إنّه لا يؤمن حتى تصل روحه التراقي.

هو ذلك اليوم الذي تنفتح فيه عينه البرزخية ، وتزال عنها الحجب ، ويرى فيها علامات العذاب والجزاء ، ويوقف على أعماله ، ففي تلك اللحظة يقرّ بالإيمان ولكن إيمانه لا ينفعهُ ولا يفيد حاله أبداً.

«تراقي : جمع ترقوة ، وهي العظام المكتنفة للنحر عن يمين وشمال ، وبلوغ الروح إلى التراقي كناية عن اللحظات الأخيرة من عمر الإنسان.

وفي هذه الفترة يسعى أهله وأصدقائه مستعجلين قلقين لانقاذه. يقول تعالى : (وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ). أي هل هناك من منقذ يأتي لإنقاذ هذا المريض؟

ويقولون هذا الحديث عن وجه العجز واليأس ، والحال أنّهم يعلمون أنّه قد فات الآوان ولا ينفع معه طبيب.

«راق : من مادة رقي على وزن (نهي) و (رقيه) على وزن (خفيه) وهو الصعود ، ولفظة (رقيه) تطلق على الأوراد والأدعية التي تبعث على نجاة المريض.

وفي الآية التالية إشارة إلى اليأس الكامل للمحتضر فيقول تعالى : (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ). أي : في هذه الحالة يصاب باليأس من الحياة واليقين بالفراق. ثم : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ). وهذا الإلتفاف إمّا لشدّة الأذى لخروج الروح ، أو لتوقف عمل اليدين والرجلين وتعطيل الروح منها.

ثم يقول تعالى في آخر آية من آيات البحث : (إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ). أجل ، إلى الله تعالى المرجع حيث يحضر الخلائق عند محكمة العدل الإلهية ، وهكذا ينتهي المطاف إليه ، وهذه الآية أيضاً تأكيد على مسألة المعاد والبعث الشامل للعباد ، ويمكن أن تكون إشارة إلى الحركة التكاملية للخلائق وهي متجهة نحو الذات المقدسة واللامتناهية.

لحظة الموت المؤلمة : يستفاد من القرآن أنّ لحظة الموت لحظة صعبة ومؤلمة ، والمستفاد

٣٢٤

من الروايات أنّ هذه اللحظة سهلة على المؤمنين ، وصعبة ومؤلمة على فاقدي الإيمان.

في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام عن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : قيل للصادق عليه‌السلام : صف لنا الموت. فقال : للمؤمن كأطيب ريح يشمه فينعس لطيبه وينقطع التعب والألم كلّه عنه ، وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب أو أشدّ.

(فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٤) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (٣٧) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) (٤٠)

استمراراً للبحوث المتعلقة (بالموت) الذي يعتبر الخطوة الأولى في السفر إلى الآخرة يتحدث القرآن في هذه الآيات عن خواء أيدي الكفار من الزاد لهذا السفر. فيقول أوّلاً : (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى). أي إنّ هذا الإنسان المنكر للمعاد لم يؤمن اطلاقاً ولم يصدّق بآيات الله ولم يصلّ له.

وقال تعالى : (وَلكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى).

المراد من جملة (فَلَا صَدَّقَ) عدم التصديق بالقيامة والحساب والجزاء والآيات الإلهية والتوحيد ونبوّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ويضيف تعالى في الآية الاخرى : (ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى).

إنّه يظنّ بعدم اهتمامه للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتكذيبه إيّاه وللآيات الإلهية قد حقق نصراً باهراً ، إنّه كان ثملاً من خمرة الغرور ، واتجه إلى أهله لينقل لهم كالعادة ما كان قد حدث وليفتخر بما صدر منه ، وكان سيره وحركته تشيران إلى الكبر والغرور.

«يتمطى : من مادة مطا وأصله الظهر ، و (تمطى) مدّ الظهر عن غرور ولا مبالاة ، أو عن كسل ، والمراد هنا هو المعنى الأوّل.

ثم يخاطب القرآن أفراداً كهؤلاء ويهددهم فيقول تعالى : (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى).

في المجمع : وجاء الرواية أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ بيد أبي جهل ثم قال له : أولى لك فأولى

٣٢٥

ثم أولى لك فأولى. فقال أبو جهل : بأي شيء تهددني لا تستطيع أنت ولا ربّك أن تفعلا بي شيئاً ، وإنّي أعزّ أهل هذا الوادي ، فأنزل الله سبحانه كما قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثم ينتهي القرآن في هذا البحث إلى استدلالين لطيفين حول المعاد وأحدهما عن طريق (الحكمة الإلهية وهدف الخلقة) ، والآخر عن طريق بيان قدرة الله في تحول وتكامل نطفة الإنسان في المراحل المختلفة لعالم الجنين ، فيقول تعالى عن المرحلة الاولى : (أَيَحْسَبُ الْإِنسنُ أَن يُتْرَكَ سُدًى). سدى : على وزن (هدى) وهو المهمل الذي لا هدف له.

والمراد من (الإنسان) في هذه الآية هو المنكر للمعاد والبعث ، فيكون معنى الآية : كيف يخلق الله هذا العالم العظيم للإنسان ولا يكون له هدف ما؟ كيف يمكن ذلك والحال أنّ كل عضو من أعضاء الإنسان خلق لهدف خاص. ولكن يحسب أن لا هدف في خلق كل ذلك.

ثم إنتهى إلى تبيان الدليل الثاني ، فيضيف تعالى : (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مَّنِىّ يُمْنَى). وبعد هذه المرحلة واستقرار المني في الرحم يتحول إلى قطعة متخثرة من الدم ، وهي العلقة ، ثم إنّ الله تعالى يخلقها بشكل جديد ومتناسب وموزون : (ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى).

ولم يتوقف على ذلك : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى).

أليس من يخلق النطفة الصغيرة القذرة في ظلمة رحم الام ويجعله خلقاً جديداً كل يوم ، ويلبسه من الحياة لباساً جديداً ويهبه شكلاً مستحدثاً ليكون بعد ذلك إنساناً كاملاً ذكراً أو انثى ثم يولد من امّه ، بقادر على إعادته : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِىَ الْمَوْتَى).

وهذا البيان في الواقع هو لمن ينكر المعاد الجسماني ويعده محالاً ، وينفي العودة إلى الحياة بعد الموت والدفن ، ولإثبات ذلك أخذ القرآن بيد الإنسان ليرجعه إلى التفكر ببداية خلقه ، والمراحل العجيبة للجنين ليريه تطورات هذه المراحل ، وليعلم أنّ الله قادر على كل شيء.

نهاية تفسير سورة القيامة

* * *

٣٢٦

٧٦

سورة الإنسان

محتوى السورة : يمكن تقسيم مباحث السورة إلى خمسة أقسام :

١ ـ يتحدث عن إيجاد الإنسان وخلقه من نطفة أمشاج (مختلطة) ، وكذلك عن هدايته وحرية إرادته.

٢ ـ يدور الحديث فيه عن جزاء الأبرار والصالحين ، وسبب النزول الخاص بأهل البيت عليهم‌السلام.

٣ ـ تكرار الحديث عن دلائل استحقاق الصالحين لذلك الثواب في عبارات مؤثرة.

٤ ـ يشير إلى أهمّية القرآن وسبيل إجراء أحكامه ومنهج تربية النفس الشاق.

٥ ـ جاء الحديث فيه عن حاكمية المشيئة الإلهية (مع حاكمية الإنسان).

ولهذه السورة أسماء عديدة ؛ أشهرها : (الإنسان) و (الدهر) و (هل أتى) ، وهذه الكلمات وردت في أوائل السورة ، وإن كانت الروايات الواردة في فضيلتها والتي سوف يأتي ذكرها ، قد ذكرت اسم (هل أتى) لهذه السورة.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على الله جنّة وحريراً.

وقال الإمام الباقر عليه‌السلام : من قرأ سورة هل أتى في كل غداة خميس زوّجه الله من الحور العين مائة عذراء وأربعة آلاف ثيب وكان مع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٣٢٧

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً) (٤)

تتحدث الآيات الاولى عن خلق الإنسان ، بالرغم من أنّ أكثر بحوث هذه السورة هي حول القيامة ونعم الجنان ، فتحدثت في البدء عن خلق الإنسان ، لأنّ التوجه والإلتفات إلى هذا الخلق يهييء الأرضية للتوجه إلى القيامة والبعث كما شرحنا ذلك سابقاً في تفسير سورة القيامة. فيقول تعالى : (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسنِ حِينٌ مّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيًا مَّذْكُورًا).

والمراد من الإنسان هنا هو نوع الإنسان ، ويشمل بذلك عموم البشر.

ثم يأتي خلق الإنسان بعد هذه المرحلة ، واعتبار ذكره ، فيقول تعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنهُ سَمِيعًا بَصِيرًا).

ولعلّ ذكر خلق الإنسان من النطفة المختلطة إشارة إلى اختلاط ماء الذكور والإناث ، وقد اشير إلى ذلك في روايات المعصومين عليهم‌السلام بصورة إجمالية ؛ أو أنّها إشارة إلى القابليات المختلفة الموجودة داخل النطفة من ناحية العوامل الوراثية عن طريق الجينات ؛ أو أنّها إشارة إلى اختلاط المواد التركيبية المختلفة للنطفة ، لأنّها تتركب من عشرات المواد المختلفة ، أو اختلاط جميع ذلك مع بعضها البعض ، والمعنى الأخير أجمع وأوجه.

«نبتليه : إشارة إلى وصول الإنسان إلى مقام التكليف والتعهد وتحمل المسؤولية والإختبار والإمتحان.

وبما أنّ الإختبار والتكليف لا يتمّ إلّابعد الحصول على المعرفة والعلم فقد أشار في آخر الآية إلى وسائل المعرفة ، العين والاذن التي أودعها سبحانه وتعالى في الإنسان وسخرها له.

إنّ اختبار الإنسان بحاجة إلى عاملين آخرين ، هما : الهداية والإختبار بالإضافة إلى المعرفة ووسائلها ، فقد أشارت الآية التالية إلى ذلك : (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا). إنّ للهداية هنا معنى واسعاً ، فهي تشمل الهداية التكوينية والهداية الفطرية وكذلك الهداية التشريعية وإن كان سياق الآية يؤكّد على الهداية التشريعية.

٣٢٨

وأشارت الآية الأخيرة من آيات البحث إلى الذين سلكوا طريق الكفر والكفران فتقول : (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلسِلَا وَأَغْللاً وَسَعِيرًا).

«سلاسل : جمع (سلسلة) ، وهي القيد الذي يقاد به المجرم ؛ والأغلال : جمع (غل) ، وهي الحلقة التي توضع حول العنق أو اليدين وبعد ذلك يُقفل بالقيد.

إنّ ذكر الأغلال والسلاسل ولهيب النيران المحرقة تبيان للعقوبات التي يعاقب بها المجرمون ، وهو ما اشير إليه في كثير من آيات القرآن ويشمل ذلك العذاب والذل.

(إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) (١١)

سبب النزول

البرهان العظيم على فضيلة أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : قال ابن عباس : إنّ الحسن والحسين مرضا فعادهما الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في ناس معه ، فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك ، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن برئا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا وما كان معهم شيء ، فاستقرض علي عليه‌السلام من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصواع من شعير ، فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم ، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل ، فقال : السلام عليكم ، أهل بيت محمّد ، مسكين من مساكين المسلمين ، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة ، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلّاالماء وأصبحوا صياماً ، فلمّا أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه ، ووقف عليهم أسير في الثالثة عند الغروب ، ففعلوا مثل ذلك ، فلمّا أصبحوا أخذ علي بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع ، قال : ما أشدّ ما يسوؤني ما أرى بكم. وقام فانطلق معهم ، فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها ، وغارت عيناها ، فساءه ذلك ، فنزل جبرئيل وقال : خذها يا محمد ، هنّأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة.

٣٢٩

وقيل : إنّ الذي نزل من الآيات يبدأ من : (إِنَّ الْأَبْرَارَ) حتى (كَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا) ومجموعها (١٨) آية.

ما أوردنا هو نص الحديث الذي جاء في كتاب الغدير بشيء من الإختصار كقدر مشترك وهذا الحديث من بين أحاديث كثيرة نقلت في هذا الباب ، وذكر في الغدير أنّ الرواية المذكورة قد نقلت عن طريق (٣٤) عالماً من علماء أهل السنّة المشهورين.

وعلى هذا ، فإنّ الرواية مشهورة ، بل متواترة عند أهل السنة (١).

واتفق علماء الشيعة على أنّ السورة أو ثمان عشرة آية من السورة قد نزلت في حق علي وفاطمة عليهما‌السلام ، وأوردوا هذه الرواية في كتبهم العديدة واعتبروها من مفاخر الروايات الحاكية عن فضائل أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام.

التّفسير

جزاء الأبرار العظيم : أشارت الآيات السابقة إلى العقوبات التي تنتظر الكافرين بعد تقسيمهم إلى جماعتين وهي الشكور والكفور ، والآيات في هذا المقطع تتحدث المكافآت التي أنعم الله بها على الأبرار وتذكّر بامور ظريفة في هذا الباب. فيقول تعالى : (إِنَّ الْأَبْرَارَ يُشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا).

«الأبرار : جمع (بر) وأصله الإتّساع ، واطلق البر على الصحراء لاتساع مساحتها ، وتطلق هذه المفردة على الصالحين الذين تكون نتائج أعمالهم واسعة في المجتمع.

«كافور : له معان متعددة في اللغة ، وأحد معانيها المعروفة الرائحة الطيبة كالنبتة الطيبة الرائحة.

فإنّ الآية تشير إلى أنّ هذا الشراب الطهور معطّر جدّاً فيلتذ به الإنسان من حيث الذوق والشم.

ثم يشير إلى العين التي يملؤون منها كؤوسهم من الشراب الطهور فيقول : (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيرًا).

هذه العين من الشراب الطهور وضعها الله تعالى تحت تصرفهم ، فهي تجري أينما شاءوا ، والظريف هو ما نقل ـ في أمالي الصدوق ـ عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام إذ قال في وصفها : هي

__________________

(١) نقلت هذه الرواية في كتاب الغدير ٣ / ١٠٧ ـ ١١١ ؛ وفي كتاب إحقاق الحق ٣ / ١٥٧ ـ ١٧١ عن (٣٦) نفر من علماء أهل السنّة مع ذكر المأخذ.

٣٣٠

عين في دار النبي تفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين.

نعم ، فكما تتفجر عيون العلم والرحمة من بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتجري إلى قلوب عباد الله الصالحين ، كذلك في الآخرة حيث التجسّم العظيم لهذا المعنى تتفجر عين الشراب الطهور الإلهي من بيت الوحي ، وتنحدر فروعها ، إلى بيوت المؤمنين!

ثم تتناول الآيات الاخرى ذكر أعمال الأبرار وعباد الله مع ذكر خمسة صفات توضّح سبب استحقاقهم لكل هذه النعم الفريدة فيقول تعالى : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا).

جملة (يوفون) و (يخافون) والجمل التي تليها جاءت بصيغة الفعل المضارع وهذا يشير إلى استمرارية وديمومة منهجهم.

وخوفهم من شرّ ذلك اليوم ، وآثار هذا الإيمان ظاهرة في أعمالهم بصورة كاملة.

ثّم يتناول الصفة الثالثة لهم فيقول : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا).

لم يكن مجرد اطعام ، بل اطعام مقرون بالإيثار العظيم عند الحاجة الماسّة للغذاء ، ومن جهة اخرى فهو إطعام في دائرة واسعة حيث يشمل أصناف المحتاجين من المسكين واليتيم والأسير ، ولهذا كانت رحمتهم عامّة وخدمتهم واسعة.

فإنّ ما يستفاد من الآية أنّ أفضل الأعمال إطعام المحرومين والمعوزين ، ولا يقتصر على اطعام الفقراء من المسلمين فحسب بل يشمل حتى الأسرى المشركين أيضاً وقد اعتبر إطعامهم من الخصال الحميدة للأبرار.

والخصلة الرابعة للأبرار هي الإخلاص ، فيقول : (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَانُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا).

إنّ هذا المنهج ليس منحصراً بالإطعام ، إذ إنّ جميع أعمالهم خالصة لوجه الله تعالى ، ولا يتوقعون من الناس شكراً وتقديراً. وأساساً فإنّ قيمة العمل في الإسلام بخلوص النية وإلّا فإنّ العمل إذا كان بدوافع غير الهية ، فليس لذلك ثمن معنوي وإلهي.

ويقول في الوصف الأخير للأبرار : (إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا). (أي الشديد) من المحتمل أن يكون هذا الحديث لسان حال الأبرار ، أو قولهم بألسنتهم.

وجاء التعبير عن يوم القيامة بالعبوس والشديد للإستعارة ، إذ أنّها تستعمل في وصف

٣٣١

الإنسان الذي يقبض وجهه وشكله ليؤكد على هول ذلك اليوم ، أي أنّ حوادث ذلك اليوم تكون شديدة إلى درجة أنّ الإنسان لا يكون فيه عبوساً فحسب ، بل حتى ذلك اليوم يكون عبوساً أيضاً.

وأشارت الآية الأخيرة في هذا البحث إلى النتيجة الإجمالية للأعمال الصالحة والنيّات الطاهرة للأبرار فيقول : (فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا).

«نضرة : بمعنى البهجة وحسن اللون والسرور الخاص الذي يظهر عند وفور النعمة والرفاه على الإنسان. وبما أنّهم كانوا يحسّون بالمسؤولية ويخافون من ذلك اليوم الرهيب ، فإنّ الله تعالى سوف يعوضهم بالسرور وبالبهجة.

(وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (١٥) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) (٢٢)

مكافئات الجنان العظيمة : بعد الإشارة الإجمالية في الآيات السابقة إلى نجاة الأبرار من العذاب الأليم يوم القيامة ، ووصولهم إلى لقاء المحبوب والغرق بالسرور والبهجة ، تتناول هذه الآيات شرح هذه المواهب الإلهية في الجنان ، وعددها في هذه على الأقل خمسة عشرة نعمة ، فتتحدث في البدء عن المسكن والملبس فتقول : (وَجَزَيهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا).

وليس فقط في هذه الآية ، بل صرح بهذه الحقيقة في آيات اخرى من القرآن ، وهو أنّ مكآفات القيامة إنّما تعطى للإنسان لصبره (صبر في الطاعة ، وصبر عن المعصية ، وصبر عند المصائب). فنجد سلام الملائكة لأهل الجنان في الآية (٢٤) من سورة الرعد : (سَلمُ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ).

٣٣٢

ثم يضيف سبحانه في الآية التالية : (مُّتَّكِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَايَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا).

ولا يعني هذا انعدام الشمس والقمر في الجنان ، بل بسبب ظلال أشجار الجنان لا تكون أشعة الشمس مؤذية.

«زمهرير : من مادة زمهر وهو البرد الشديد ، أو شدّة الغضب أو احمرار العين من أثر الغضب ، والمراد هنا هو المعنى الأوّل.

«أرائك : جمع أريكة ، وتطلق في الأصل على الأسرّة التي توضع في غرفة العروس ، والمراد هنا الأسرّة الجميلة والفاخرة.

عن ابن عباس : بينا أهل الجنة في الجنة إذ رأوا ضوءاً كضوء الشمس ، وقد أشرقت الجنان به فيقول أهل الجنة يا رضوان ما هذا؟ وقد قال ربّنا (لَايَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا) ، فيقول لهم رضوان : ليس هذا بشمس ، ولا قمر ، ولكن علي وفاطمة ضحكا ، فأشرقت الجنان من نور ثغريهما (١).

وتضيف الآية الاخرى متمّمة لهذه النعم : (وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِللُهَا وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً).

ليست هنا من مشكلة لقطف الثمار ، ولا شوكة لتدخل في اليد ، ولا تحتاج ذلك إلى مشقّة أو حركة.

ثم توضح الآية الاخرى كيفية استضافة أصحاب الجنان ، وأدوات الضيافة ، والمستقبلين لهم ، فيقول : (وَيُطَافُ عَلَيْهِم بَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَا مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا).

تحتوي هذه الآنية على أنواع الأغذية والأشربة المتعددة الأصناف واللذيذة والباعثة على النشاط ، بالقدر الذي يشاؤونه ويحبّونه ، والولدان المخلدون يطوفون عليهم ليعرضوا عليهم الآنية والأكواب المليئة بما وعدهم الله بها.

ثم يضيف تعالى : (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً).

صرح الكثير من المفسرين بأنّ عرب الجاهلية كانوا يتلذذون بالشراب الممزوج بالزنجبيل ، لأنّه كان يعطي قوّة خاصة للشراب.

__________________

(١) روح المعاني ٢٩ / ١٥٩.

٣٣٣

ويتحدث القرآن هنا عن الشراب الطهور الممزوج بالزنجبيل ، ومن البديهي أنّ الفرق بين هذا الشراب وذلك الشراب كالفرق بين الدنيا والآخرة.

ثم يضيف تعالى : (عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً).

«سلسبيلا : هو الشراب الهنيء واللذيذ جدّاً الذي ينحدر بسهولة في الحلق.

ثم يتحدث عن المستقبلين في هذا الحفل البهيج المقام بجوار الله في النعيم الأعلى فيقول تعالى : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا).

إنّهم مخلدون في الجنان ، وطراوة شبابهم ونشاطهم خالد أيضاً ، وكذا استقبالهم للأبرار ، لأنّ عبارة (مخلدون) وعبارة (يطوف عليهم) من جهة اخرى تبيان لهذه الحقيقة.

«لؤلؤاً منثوراً : يراد به الإشارة إلى جمالهم وصفائهم وإشراق وجوههم وكذلك حضورهم في كل مكان من المحفل الإلهي والروحاني.

وبما أنّ من المحال وصف النعم والمواهب للعالم الآخر مهما بلغ الكلام من البيان والبلاغة ، ولذا يقول تعالى في الآية الاخرى كلاماً مطلقاً : (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا).

إلى هنا اشير إلى قسم من نعم الجنان ، وحان الآن دور زينة أهل الجنان فيقول تعالى : (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ).

«سندس : ثوب رقيق من الحرير ؛ والإستبرق : ثوب غليظ من الحرير.

ثم أضاف تعالى : (وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ).

وهي الفضة الشفافة اللامعة كالبلور وأجمل من الياقوت والدر واللؤلؤ.

«اساور : جمع أسورة وهي بدورها جمع (سوار) على وزن (غبار) ، أو سوار على وزن (حوار) وأخذ في الأصل من الكلمة الفارسية ، (دستوار) وعند انتقالها إلى العربية تغيّرت واختصرت وجاءت بصورة (سوار).

ثم يقول تعالى في نهاية الآية مشيراً إلى آخر نعمة وأهمّها من سلسلة النعم : (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا).

في المجمع عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : يطهرهم عن كل شيء سوى الله.

وفي روضة الكافي روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حول عين مطهرة مزكية المستقرة على باب الجنة ، قال : فيسقون منها شربة فيطهر الله بها قلوبهم من الحسد ، ويسقط من أبشارهم الشعر وذلك قول الله عزوجل : (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا).

٣٣٤

وفي آخر آية من آيات البحث يتحدث حديثاً أخيراً في هذا الإطار فيقول : إنّه يقال لهم من قبل ربّ العزّة بأنّ هذه النعم العظيمة ما هي إلّاجزاء أعمالكم في الدنيا : (إِنَّ هذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا). لئلا يتصور أحد أنّ هذا الجزاء وهذه المواهب العظيمة تعطى من دون مقابل ، إنّ كل ذلك جزاء السعي والعمل ، وثمرة الرياضات وجهاد النفس وبناء الذات وترك المعاصي.

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) (٢٦)

خمسة مباديء مهمة في تنفيذ حكم الله : شرعت السورة منذ البداية وحتى هذه الآية في تبيان خلق الإنسان ثم المعاد والبعث ، وفي هذه الآيات مورد البحث يتوجه الخطاب إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله باصدار أوامر مؤكّدة لهداية الناس والصبر والثبات في هذا الطريق ، وفي الواقع إنّ هذه الآيات تشير إلى أنّ نيل كل تلك النعم والمواهب الاخروية لا يتمّ إلّابالتمسك بالقرآن وإتباع النبي واطاعة أوامره. يقول في البدء : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنزِيلاً).

ثم يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمور خمسة ، أوّلها الدعوة إلى الصبر والإستقامة فيقول : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ). أي لا تخف من المشاكل ومن موانع الطريق وكثرة الأعداء وعنادهم واستقم في سيرك على الصراط المستقيم.

والأمر الثاني الموجّه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو تحذيره من أي توافق مع المنحرفين ، فيقول تعالى : (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْءَاثِمًا أَوْ كَفُورًا).

في الحقيقة أنّ هذا الحكم هو تأكيد ثان على الحكم الأوّل ، لأنّ جموع الأعداء كانوا يسعون بطرق مختلفة للتوافق مع النبي وجرّه إلى طريق الباطل ، كما نقل أنّ عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة قالا لرسول الله : إن تركت دعوتك ، فإنّنا سنغنيك حتى ترضى ، ونزوّجك أجمل بنات العرب ، وعروض اخرى من هذا القبيل ، فما كان على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هنا باعتباره المرشد الحقيقي والعظيم إلّاأن يقف أمام هذه الوساوس الشيطانية والتهديدات التي صدرت منهم بعد ذلك ، ولا يستسلم للترغيب أو الترهيب.

ولكن بما أنّ الصبر والإستقامة في مقابل هذه المشكلات العظيمة ليس بالأمر اليسير ،

٣٣٥

كان من الضروري لسلوك هذا الطريق التزّود بنوعين من الزاد ، لذا يضيف القرآن في الآية الاخرى : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً). أي في كل صباح ومساء ،.

ويقول تعالى أيضاً : (وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً). لتتوفر لديك في ظل ذلك الذكر وهذا السجود والتسبيح قوّة كافية وقدرة معنوية لمواجهة مشاكل هذا الطريق.

فإنّ هاتين الآيتين تأكيد لضرورة التوجه الدائم والمستمر لذات الله المقدسة.

ويجب هنا الإلتفات إلى أنّ الأوامر الخمسة المذكورة في الآيات أعلاه وإن ذكرت بصورة منهج للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهي في الحقيقة دستوراً يحتذي به كل من يخطو في مسير قيادة المجتمع البشري ، إنّهم يجب أن يعلموا بعد الإيمان الكامل بأهدافهم ورسالتهم بضرورة احتراف الصبر والإستقامة ، وأن لا يستوحشوا من كثرة مشاكل الطريق ، لأنّ هداية المجتمع من المشاكل العظيمة.

وفي المرحلة الاخرى يجب الثبات التام أمام الوساوس الشيطانية والتي تعتبر مصداقاً للآثم والكفور ، والثبات أمام سعيهم في حرف القادة والأئمة بأنواع الحيل والمكائد ، وأن لا ينخدعوا بالتطميع ولا يتأثروا بالتهديد ، ويذكروا الله تعالى في كل المراحل لاكتساب القدرة الروحية وقوّة الإرادة والعزم الراسخ ، والاستمداد من العبادات الليلية ، والمناجات مع الله ، فإذا ما روعيت هذه الامور فالنصر حتمي ، وحتى لو عرضت مصيبة أو هزيمة فإنّه يمكن إصلاحها من خلال هذه الاصول ، ومنهج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلوكه في دعوته نموذج مؤثر لجميع السالكين في هذا الطريق.

(إِنَّ هؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (٣١)

تحذير مع بيان السبيل : رأينا في الآيات السابقة تحذيراً للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لكي لا يقع تحت تأثير كل آثم أو كفور من المجرمين. الآيات اعلاه عرّفت الأعداء بشكل أكثر وقالت : (إِنَّ هؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً).

٣٣٦

لا تتعدى افق أفكارهم دائرة الطعام والنوم والشهوة ، وتمثل هذه اللذائذ المادية الرخيصة أسمى غاية لهم في الحياة. والعجيب أنّهم قاسوا روح النبي العظيمة بهذا المقياس.

الآية التالية تحذرهم من الاغترار بقوّتهم وقدرتهم ، إذ إنّ الله الذي أعطاهم إيّاها قادر على أن يستردها بسرعة متى شاء ، فيقول تعالى : (نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً).

هنا يشير القرآن إلى نقطة حساسة ، وهي جهاز الأعصاب الصغيرة والكبيرة التي تشدّ العضلات فيما بينها كالحبال الحديدية وتربط بعضها بالبعض الآخر ، وحتى المفاصل والعضلات المختلفة وقطع العظام الصغيرة والكبيرة وأعضاء الإنسان بحيث يتكون من مجموع ذلك إنسان كامل الخلقة مهيأ للقيام بأية فعالية ، وعلى كل حال فهذه الجملة كناية عن القدرة والقوّة.

وتوضّح هذه الآية ضمناً استغناء ذات الله المقدسة ، عنهم ، وعن طاعتهم وإيمانهم ، ليعلموا أنّ الإصرار على دعوتهم للايمان في الحقيقة هو من رحمة الله بهم.

ثم أشار تعالى إلى جميع البحوث الواردة في هذه السورة والتي تشكل بمجموعها برنامجاً متكاملاً للحياة السعيدة ، فيقول تعالى : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً).

إنّ علينا إيضاح الطريق ، لا اجباركم على اختيار الطريق ، وعليكم تمييز الحق من الباطل بما لديكم من العقل والإدراك ، واتخاذ القرار بإرادتكم واختياركم ، وهذا تأكيداً على ما جاء في صدر السورة في قوله : (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا).

وقد يتوهّم بعض السذّج من العبارة أعلاه أنّها تعني التفويض المطلق للعباد ، فجاءت الآية التالية لتنفي هذا التصور وتضيف : (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا).

وهذا في الحقيقة إثبات لأصل مشهور هو (الأمر بين الأمرين) ، إذ يقول من جهة : (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ). فعليكم أن تختاروا ما تريدون ، ويضيف من جهة اخرى : (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ). أي ليس لكم الإستقلال الكامل ، بل إنّ قدرتكم واستطاعتكم وحريتكم لا تخرج عن دائرة المشيئة الإلهية ، وهو قادر على أن يسلب هذه القدرة والحرية متى شاء.

من هذا يتّضح أنّه لا جبر ولا تفويض في الأوامر ، بل إنّها حقيقة دقيقة وظريفة بين

٣٣٧

الأمرين. أو بعبارة اخرى : إنّها نوع من الحرية المرتبطة بالمشيئة الإلهية ، إذ يمكن سلبها متى يشاء ليتسنى للعباد تحمل ثقل المسؤولية الذي يعتبر رمزاً للتكامل من جهة ، ومن جهة اخرى أن لا يتوهموا استغنائهم عن الله تعالى.

ولعلّ آخر الآية : (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا). يشير حكمه إلى هذا المعنى ، لأنّ حكمة الله تستوجب إعطاء الحرية للعباد في سلوك طريق التكامل ، وإلّا فإنّ التكامل الإجباري لا يعدّ تكاملاً ، بالإضافة إلى أنّ حكمة الله لا تتفق مع فرض الأعمال الخيرة على اناس وفرض الأعمال الشريرة على اناس آخرين ، ثم إنّه يثيب الجماعة الاولى ويعاقب الثانية.

ثم تشير الآية الاخرى بعد ذلك إلى مصير الصالحين والطالحين ، إذ تقول الآية : (يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).

والظريف أنّ صدر الآية يقول : (يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِى رَحْمَتِهِ) ، ويقول ذيلها : (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) ، وهذا يشير إلى أنّ مشيئته تعالى بعقوبة الإنسان تتبع مشيئة الإنسان للظلم والمعاصي ، وبقرينة المقابلة يتّضح أنّ مشيئته تعالى في الرحمة تتبع إرادة الإنسان في الإيمان والعمل الصالح وإقامة العدل ، ولا يمكن أن يكون هذا الأمر إلّامن حكيم.

نهاية تفسير سورة الإنسان

* * *

٣٣٨

٧٧

سورة المرسلات

محتوى السورة : إنّ أكثر محتويات هذه السورة تدور حول المسائل المرتبطة بالقيامة وتهديد وإنذار المشركين والمنكرين ، ومن خصائص هذه السورة تكرار الآية : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ) عشر مرّات بعد كل موضوع جديد ، وتنبىء السورة بعد ذكر الأقسام عن القيامة والحوادث الصعبة للبعث ، ثم تذكر عقب ذلك هذه الآية : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ).

وتتحدث السورة أوّلاً عن الوقائع المؤسفة للأقوام المذنبين الأوائل.

ثم تتحدث ثانياً عن جانب من خصوصيات خلق الإنسان.

وفي المرحلة الثالثة عن بعض المواهب الإلهية في الأرض.

وفي الرابعة تشرح السورة جانباً من عذاب المكذبين ، وفي كل من هذه المراحل إشارة إلى مواضيع موقظة ومحركة ، ثم تأكيد تلك الآية بعد ذكر كل موضوع من هذه المواضيع ، وحتى أنّه أشار في قسم من ذلك إلى نعم الجنان للمتقين ليمزج الإنذار بالبشارة والترهيب بالترغيب.

فإنّ هذا التكرار يذكر بتكرار بعض الآيات في سورة الرحمن باختلاف أنّ الكلام هناك يدور عن النعم ، أمّا في هذه السورة فغالباً ما تتحدث عن عذاب المكذبين.

٣٣٩

اختيار اسم (المرسلات) لهذه السورة ، هو لتناسبه مع الآية الاولى لهذه السورة.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : من قرأها عرّف الله بينه وبين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

لا شك أنّ الثواب والفضيلة تكون لمن يقرؤها ويتفكر ويعمل بها.

في الخصال للصدوق عن ابن عباس قال : قال أبو بكر : يا رسول الله! أسرع إليك الشيب؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعمّ يتساءلون.

والملاحظ أنّ جميع هذه السور تعكس أحوال القيامة والمسائل المهولة لتلك المحكمة العظيمة ، وهذه هي التي تركت أثراً في روح النبي المقدسة.

من البديهي أنّ القراءة بدون تدبّر وتصميم على العمل لا يمكن أن تترك مثل هذا الأثر.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً (١) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً (٣) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١٥)

ذكرت في صدر السورة ابتداءً خمسة أقسام ، وذلك في خمس آيات. وهناك كلام كثير في تفسير معانيها. يقول تعالى : (وَالْمُرْسَلتِ عُرْفًا) (١). أي قسماً بالتي تُرسل تباعاً.

(فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا) التي تُسرع في حركتها كالعاصفة.

(وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا) ... التي توسّع وتنشر ما وكّلت به.

(فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا) ... التي تفرق وتفصل.

(فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا) التي تلقي بالآيات الموقظة والمذكرّة.

(عُذْرًا أَوْ نُذْرًا) إمّا لاتمام الحجة أو للانذار.

القسم الأوّل والثاني ناظر إلى الرياح والأعاصير ، والقسم الثالث والرابع والخامس

__________________

(١) عرفاً : بمعنى متتابعاً ، وأصله بمعنى (عرف الفرس) المتساقط بعضها على البعض الآخر ، وفُسر أحياناً بالعمل الحسن والمعروف.

٣٤٠