مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

وقيل إنّها نزلت في نفر أنفقوا الأموال الطائلة في معاداة الرسول والرسالة ، وتباهوا بذلك.

والجمع بين التفاسير المذكورة جائز ، وإن كان التفسير الأوّل أكثر انسجاماً مع سياق الآيات التالية.

والفعل أهلكت يوحي إبادة الأموال وعدم الحصول على عائد منها.

ولبد : تعني الشيء المتراكم ، وهنا تعني المال الوفير.

(أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ). إنّه غافل عن هذه الحقيقة ... حقيقة اطّلاع الباري تعالى على كل الامور وعلى ظواهر الأعمال ، بل على ما يختلج في أعماق النفس والقلب ، وما يدور في الخلد والنية ... عليم بالطريق غير المشروع للحصول على هذه الأموال ، وعليم بأهداف الرياء والذاتية في إنفاق هذه الأموال.

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (١٠)

نعمة العين واللسان والهداية : استتباعاً للآيات السابقة وما دار فيها من حديث عن الغرور والغفلة في حالات الطاغين ، تذكر هذه الآيات الكريمة جانباً من أهم ما أنعم الله به على الإنسان من نعم مادية ومعنوية ... كي تكسر فيه روح الغرور ، وتدفعه إلى التفكير في خالق هذه النعم ، وتحرّك روح الشكر في نفس الكائن البشري ومن ثم تسوقه إلى معرفة الخالق : (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنهُ النَّجْدَيْنِ).

ويكفي أن نذكر في النعم السابقة أنّ :

العين : أهم وسيلة لإرتباط الإنسان بالعالم الخارجي ، عجائب العين تدفع الإنسان حقّاً إلى الخضوع أمام خالقه ، الطبقات السبع للعين وهي المسماة بالقرنية ، والمشيمية ، والعنبية ، والجلدية ، والزلالية ، والزجاجية ، والشبكية ، لكل منها تركيب عجيب دقيق مدهش ، روعيت فيها القوانين الفزيائية والكيمياوية المتعلقة بالنور وانعكاساته على أدق وجه ، حتى إن أعقد أجهزة التصوير تعتبر تافهة مقارنة بهذا العضو.

لو لم يكن في الكون سوى الإنسان ، ولم يكن من وجود الإنسان سوى العين ، لكانت مطالعة هذا العضو كافية وحدها لمعرفة علم الله الواسع وقدرته الجبارة جلّ وعلا.

واللسان : فهو أهم وسائل إرتباط الإنسان بغيره من أبناء جلدته ، ونقل المعلومات وتبادلها بين أبناء البشر في الجيل الواحد وفي الأجيال المتعاقبة ، وبدون هذه الوسيلة الهامّة

٤٦١

من وسائل الإرتباط ما كان بامكان الإنسان اطلاقاً أن يرتقي إلى ما ارتقى إليه في العلم والمعرفة.

والشفتان : تلعبان أوّلاً دوراً هامّاً في النطق ، إذ أنّ الشفتين مخرج لكثير من الحروف ، والشفتان تقومان بدور أيضاً في هضم الطعام والمحافظة على رطوبة الفم ، وشرب الماء ، ترى لو انعدمت الشفتان فماذا كان وضع الإنسان في أكله وشربه ونطقه والمحافظة على ماء فمه وحتى جمال وجهه وشكله؟!

وحقّاً ما قاله أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في نهج البلاغة : اعجبوا لهذا الإنسان ينظر بشحم ويتكلم بلحم ، ويسمع بعظم ، ويتنفس من خرم!.

عبارة (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) إضافة لما لها من مدلول على مسألة الإختيار وحرية الإنسان ، تدلّ أيضاً على ما يتطلبه طريق الخير من جهد وعناء ، لأنّ النجد مكان مرتفع وتسلق المكان المرتفع يتطلب كداً وسعياً وجهداً ، غير أنّ طريق الشرّ له مشاكله ومصاعبه أيضاً ، فأولى بالإنسان أن يبذل الجهد والسعي على طريق الخير.

مع ذلك ، فانتخاب الطريق بيد الإنسان ... الإنسان هو الذي يتحكم في عينه ولسانه فيم يستعملها ... في الحلال أو الحرام ، وهو الذي يختار إحدى الجادتين الخير أو الشر.

وفي تفسير مجمع البيان عن أبي حازم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ الله تعالى يقول : يابن آدم! إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك ، فقد أعنتك عليه بطبقتين ، فأطبق. وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرمت عليك ، فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق ....

وهذه الهداية يحصل عليها الإنسان من ثلاثة طرق : من الإدراكات العقلية والإستدلال ، ومن طريق الفطرة والوجدان دون الحاجة إلى الإستدلال ، ومن طريق الوحي وتعاليم الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ، وكل ما يحتاجه البشر ليطوي مسيرة تكامله قد بيّنه الله سبحانه له بواحد من هذه الطرق أو في كثير من الحالات بالطرق الثلاثة معاً.

(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ) (٢٠)

٤٦٢

العقبة : بعد ذكر النعم الكبيرة في الآيات السابقة ، تنحي هذه الآيات باللائمة على اولئك الذين يكفرون بهذه النعم ، ولا يسخرونها على طريق النجاة ، يقول سبحانه : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ).

وما المقصود من العقبة؟ الآيات التالية تفسّرها : (وَمَا أَدْرَيكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ).

من هنا فالعقبة التي لم يتهيأ الكافرون لاجتيازها هي : فك رقبة عبد وتحريره من الرقّ ، أو إطعام في يوم الضائقة الإقتصادية والمجاعة ، يتيماً ذا قربى أو فقيراً قد لصق بالتراب من شدّة فقره ، العقبة هي مجموعة أعمال الخير التي تتجه لخدمة الناس والأخذ بيد الضعفاء والمعوزين ، كما إنّها أيضاً مجموعة من المعتقدات الصحيحة الخالصة تشير إليها الآيات التالية. نعم ، إن اجتياز هذه العقبة ليس بالأمر اليسير لما لأغلب الناس من التصاق بالمال والثروة.

١ ـ اقتحم : من الإقتحام وهو الدخول في عمل صعب مخيف (مفردات الراغب) ، أو الولوج والعبور بشدّة ومشقّة (تفسير الكشّاف) وهذا يعني أنّ إجتياز هذه العقبة ليس بالأمر اليسير ، كما أنّه تأكيد على ما ورد في أوّل السورة بشأن ما يكابد الإنسان في حياته : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسنَ فِى كَبَدٍ).

٢ ـ المسغبة : من سغب على وزن (غضب) وهو الجوع ؛ ويوم ذي مسغبة أي وقت المجاعة ، والجياع موجودون في المجتمع عادة ، والآية إنّما تؤكّد على إطعامهم في زمان المجاعة لأهمية الموضوع ، وإلّا فإنّ اشباع الجياع هو دائماً من أفضل الأعمال.

٣ ـ المقربة : بمعنى القرابة والرحم ، والتأكيد على الأقرباء من اليتامى في الآية إنّما هو لمراعاة الاولوية وللتأكيد على تصاعد المسؤولية تجاههم ، لا لحصر الإطعام بهذا القسم من اليتامى.

٤ ـ المتربة : مصدر ميمي من ترب وساكن التراب من شدّة فقره هو ذو المتربة ، والتأكيد على هذا النمط من المساكين لأولويتهم أيضاً.

وفي الكافي عن معمر بن خلاد قال : كان أبوالحسن الرضا عليه‌السلام إذا أكل أتى بصفحة فتوضع بقرب مائدته ، فيعمد إلى أطيب الطعام مما يؤتى به فيأخذ من كل شيء شيئاً فيضع في تلك الصفحة ثم يأمر بها للمساكين ، ثم يتلو هذه الآية : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ). ثم يقول : علم الله

٤٦٣

عزوجل أنّه ليس كل إنسان يقدر على عتق رقبة فجعل لهم السبيل إلى الجنة.

ثم تواصل الآية التالية بيان طبيعة هذه العقبة ، وسبل اجتيازها فتقول : (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَءَامَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ).

فالقادرون على اجتياز هذه العقبة متحلون بالإيمان ومتواصون بالصبر والإستقامة على الطريق ، ومتواصون بالرحمة والعطف.

وبهذا السياق القرآني لبيان طبيعة العقبة نفهم أنّ القادرين على اجتيازها هم المتحلون بالإيمان والخلق الكريم كالتواصي بالصبر والرحمة ، وذوو أعمال البرّ والإحسان كتحرير العبيد وإطعام الأيتام والمساكين ، إنّهم بعبارة اولئك الذين يلجون ميادين الإيمان والأخلاق والعمل ويخرجون منها ظافرين منتصرين.

وفي خاتمة هذه الأوصاف تذكر السورة مكانة المتحلين بها فتقول : (أُولئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ).

ثم تتعرض الآية لتصوير حالة الفاشلين في إجتياز العقبة فتقول : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَايَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ).

والمشئمة : من الشؤم تقابل الميمنة من اليُمن. أي إنّ هؤلاء الكافرين مشؤومون لا يُمن فيهم ولا بركة ، بل هم عامل شقاء لأنفسهم ولمجتمعهم ثم إنّ علامة شؤم الفرد يوم القيامة تسلّمه صحيفة أعماله بيده اليسرى ، ومن هنا ذهب بعض المفسرين إلى أنّ المشئمة هي اليسار مقابل اليمين. أي إنّ الذين كفروا بآيات الله الذين يتسلمون صحائف أعمالهم بيدهم اليسرى خاصة وأنّ مادة شؤم جاءت في اللغة بمعنى اليسار أيضاً.

وفي الآية الأخيرة من السورة إشارة قصيرة ذات دلالة عميقة إلى جزاء هذه الفئة الأخيرة : (عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ).

والإيصاد : إحكام الغلق ، وواضح أنّ الإنسان ـ حين يكون في غرفة حارّة الجوّ ـ يتوق إلى فتح أبوابها ، ليهبّ عليه نسيم يلطف الهواء ، فما بالك إذا كان في محرقة جهنم والأبواب كلّها موصدة عليه؟!

نهاية تفسير سورة البلد

* * *

٤٦٤

٩١

سورة الشمس

محتوى السورة : هذه السورة هي في الواقع سورة تهذيب النفس ، وتطهير القلوب من الأدران ، ومعانيها تدور حول هذا الهدف ، وفي مقدمتها قَسم بأحد عشر مظهراً من مظاهر الخليقة وبذات الباري سبحانه ، من أجل التأكيد على أنّ فلاح الإنسان يتوقف على تزكية نفسه ، والسورة فيها من القَسم ما لم يجتمع في سورة اخرى.

وفي المقطع الأخير من السورة ذكر لقوم ثمود باعتبارهم نموذجاً من أقوام طغت وتمردت ، وانحدرت ـ بسبب ترك تزكية نفسها ـ إلى هاوية الشقاء الأبدي ، والعقاب الإلهي الشديد.

فضيلة تلاوة السورة : في المجمع ابي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من قرأها فكأنّما تصدّق بكلّ شيء طلعت عليه الشمس والقمر.

ومن المؤكّد أنّ هذه الفضيلة الكبرى لا ينالها إلّامن استوعب محتواها بكل وجوده ، ووضع مهمّة تهذيب النفس نصب عينيه دائماً.

* * *

٤٦٥

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (١) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (٢) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (٣) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (٤) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (٥) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (٦) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (١٠)

أكبر عدد من القَسم القرآني تتضمّنه هذه السورة ، هو في حساب أحد عشر ، وفي حساب آخر سبعة أقسام ... ويبيّن أنّ السورة تتعرض لموضوع خطير هام .. موضوع عظيم كعظمة السماء والأرض والشمس والقمر ... موضوع حياتي مصيري.

لنبدأ أوّلاً بشرح ما جاء في السورة من قَسم ، لنتعرض بعد ذلك إلى موضوع الآية الاولى تقول : (وَالشَّمْسِ وَضُحهَا).

ولقد ذكرنا آنفاً أنّ القسم في القرآن يستهدف مقصدين :

الأوّل : بيان أهميّة ما جاء القَسم من أجله.

والثاني : أهمية ما أقسم به القرآن ، لأنّ القسم عادة يكون بالمهم من الامور.

«الشمس : ذات دور هام وبنّاء جدّاً في الموجودات الحية على ظهر البسيطة فهي إضافة إلى كونها مصدراً للنور والحرارة ـ وهما عاملان أساسيان في حياة الإنسان ـ تعتبر مصدراً لغيرهما من المظاهر الحياتية ، حركة الرياح ، وهطول الأمطار ، ونمو النباتات ، وجريان الأنهار والشلالات ، بل حتى نشوء مصادر الطاقة مثل النفط والفحم الحجري ... كل واحد منها يرتبط ـ بنظرة دقيقة ـ بنور الشمس.

ولو قُدر لهذا المصباح الحياتي أن ينطفيء يوماً لساد الظلام والسكوت والموت في كل مكان.

«الضحى : في الأصل انتشار نور الشمس ، وهذا ما يحدث حين يرتفع قرص الشمس عن الافق ويغمر النور كل مكان ، ثم يطلق على تلك البرهة من اليوم اسم الضحى.

والقسم الثالث بالقمر : (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلهَا). وهذا التعبير إشارة إلى القمر حين يكتمل ويكون بدراً كاملاً في ليلة الرابع عشر من كل شهر ، ففي هذه الليلة يطل القمر من افق المشرق متزامناً مع غروب الشمس. فيسطع بجماله النّير ويهيمن على جوّ السماء ، ولجماله

٤٦٦

وبهائه في هذه الليلة أكثر من أيّة ليلة اخرى جاء القسم به في الآية الكريمة.

والقسم الرابع بالنهار : (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلهَا). والتجلية : هي الإظهار والإبراز.

والقسم بهذه الظاهرة السماوية الهامة ، يبيّن أهميتها الكبرى في حياة البشر وفي جميع الأحياء ، فالنهار رمز الحركة والحياة ، وكل الفعاليات والنشاطات ومساعي الحياة تتمّ عادة في ضوء النهار.

والقَسم الخامس بالليل : (وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشهَا).

بالليل بكل ما فيه من بركة وعطاء ... إذ هو يخفّف من حرارة شمس النهار ، ثم هو مبعث راحة جميع الموجودات الحية واستقرارها.

وفي القسمين السادس والسابع تحلّق بنا الآية إلى السماوات وخالق السماوات : (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنهَا).

أصل خلقة السماوات بما فيها من عظمة مدهشة من أعظم عجائب الخليقة.

وبناء كل هذه الكواكب والأجرام السماوية وما يحكمها من أنظمة أعجوبة اخرى ... وأهم من كل ذلك ... خالق هذه السماوات.

القَسم الثامن والتاسع بالأرض وخالق الأرض : (وَالْأَرْضِ وَمَا طَحهَا). بالأرض التي تحتضن حياة الإنسان وجميع الموجودات الحيّة ... الأرض بجميع عجائبها : بجبالها ، وبحارها ، وسهولها ، ووديانها ، وغاباتها ، وعيونها ، وأنهارها ، ومناجمها ، وذخائرها ... وبكلّ ما فيها من ظواهر يكفي كل واحد منها لأن يكون آية من آيات الله ودلالة على عظمته.

وأعظم من الأرض وأسمى منها خالقها الذي طحاها والطحو بمعنى البسط والفرش ، وبمعنى الذهاب بالشيء وإبعاده أيضاً. وهنا بمعنى البسط ، لأنّ الأرض كانت مغمورة بالماء ، ثم غاض الماء في منخفضات الأرض ، وبرزت اليابسة ، وانبسطت ، ويعبّر عن ذلك أيضاً بدحو الأرض.

وأخيراً القسم الحادي عشر والقسم الثاني عشر بالنفس الإنسانية وبارئها : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّيهَا).

قيل إنّ المراد بالنفس هنا روح الإنسان ، وقيل إنّه جسمه وروحه معاً.

ولو كان المراد من النفس الروح فقط ، فإنّ سوّاها تعني إذن نظّمها وعدّل قواها ابتداء من الحواس الظاهرة وحتى قوّة الإدراك ، والذاكرة ، والإنتقال ، والتخيل ، والإبتكار ،

٤٦٧

والعشق ، والإرادة ، والعزم ونظائرها من الظواهر المندرجة في إطار علم النفس.

ولو كان المراد من النفس الروح والجسم معاً ، فالتسوية تشمل أيضاً ما في البدن من أنظمة وأجهزة يدرسها علم التشريح وعلم الفسلجة.

وفي القرآن الكريم وردت نفس بكلا المعنيين.

والأنسب هنا أن يكون معنى النفس هنا شاملاً للمعنيين لأنّ قدرة الله سبحانه تتجلى في الإثنين معاً.

الآية التالية تتناول أهم ظاهرة في الخليقة وتقول : (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَيهَا).

إنّ الله سبحانه قد منح الإنسان قدرة التشخيص والعقل ، والضمير اليقظ بحيث يستطيع أن يميّز بين الفجور والتقوى عن طريق العقل والفطرة.

نعم ، حين اكتملت خلقة الإنسان وتحقق وجوده ، علّمه الله سبحانه الواجبات والمحظورات. وبذلك أصبح كائناً مزيجاً في خلقته من الحمأ المسنون ونفخة من روح الله ، ومزيجاً في تعليمه من الفجور والتقوى. أصبح بالتالي كائناً يستطيع أن يتسلق سلّم الكمال الإنساني ليفوق الملائكة ، ومن الممكن أن ينحط لينحدر عن مستوى الأنعام ويبلغ مرحلة (بَلْ هُمْ أَضَلُّ). وهذا يرتبط بالمسير الذي يختاره الإنسان عن إرادة.

«ألهمها : من الإلهام ، وهو في الأصل بمعنى البلع والشرب ، ثم استعمل في إلقاء الشيء في روع الإنسان من قِبل الله تعالى.

«الفجور : من مادة فجر وتعني الشق الواسع ؛ ولمّا كانت الذنوب تهتك ستار الدين فإنّها سمّيت بالفجور.

المقصود بالفجور في الآية طبعاً الأسباب والعوامل والطرق المؤدية إلى الذنوب.

والتقوى : من الوقاية وهي الحفظ ، وتعني أن يصون الإنسان نفسه من القبائح والآثام والسيئات والذنوب.

بعد هذه الأقسام المهمّة المتتالية يخلص السياق القرآني إلى النتيجة فيقول : (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكهَا).

والتزكية : تعني النمو ، والزكاة في الأصل بمعنى النمو والبركة ؛ ثم استعملت الكلمة بمعنى التطهير ، وقد يعود ذلك إلى أنّ التطهير من الآثام يؤدّي إلى النمو والبركة ، والآية الكريمة تحتمل المعنيين.

٤٦٨

نعم ، الفلاح لمن ربّى نفسه ونمّاها ، وطهّرها من التلوّث بالخصائل الشيطانية وبالذنوب والكفر والعصيان.

والمسألة الأساسية في حياة الإنسان هي هذه التزكية ، فإن حصلت سعد الإنسان وإلّا شقى وكان من البائسين.

ثم يعرج السياق القرآني على المجموعة المخالفة فيقول : (وَقَدْ خَابَ مَن دَسهَا).

«خاب : من الخيبة ، وهي فوت الطلب ، كما يقول الراغب في المفردات والحرمان والخسران.

«دسّاها : من مادة دس وهي في الأصل بمعنى إدخال الشيء قسراً.

وبهذا المعيار يتمّ تمييز الفائزين عن الفاشلين في ساحة الحياة : تزكية النفس وتنميتها بروح التقوى وطاعة الله أو تلوثها بأنواع المعاصي والذنوب.

في المجمع : وجاءت الرواية عن سعيد بن أبي هلال قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا قرأ هذه الآية (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكهَا) وقف ثم قال : اللهمّ آت نفسي تقواها ، أنت وليّها ومولاها ، وزكّها وأنت خير من زكّاها.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (١٢) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (١٤) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا) (١٥)

عاقبة مرّة للطغاة : عقب التحذير الذي اطلقته الآية السابقة بشأن عاقبة من ألقى بنفسه في أوحال العصيان ، قدمت هذه الآيات مصداقاً تاريخياً واضحاً لهذه السنّة الإلهية ، وتحدثت عن مصير قوم ثمود بعبارات قصيرة قاطعة ذات مدلول عميق.

«الطغوى والطغيان بمعنى واحد وهو تجاوز الحد ، وفي الآية تجاوز الحدود الإلهية والعصيان أمام أوامره.

«قوم ثمود من أقدم الأقوام التي سكنت منطقة جبلية بين الحجاز والشام. كانت لهم حياة رغدة مرفهة ، وأرض خصبة ، وقصور فخمة ، غير أنّهم لم يؤدوا شكر هذه النعم ، بل طغوا وكذبوا نبيّهم صالحاً ، واستهزأوا بآيات الله ، فكان عاقبة أمرهم أن أبيدوا بصاعقة سماوية.

٤٦٩

ثم تستعرض السورة مقطعاً بارزاً من طغيان القوم وتقول : (إِذِ انبَعَثَ أَشْقهَا).

وأشقى ثمود ، هو الذي عقر الناقة التي ظهرت باعتبارها معجزة بين القوم.

وفي المجمع : عن عثمان بن صهيب عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام : «من أشقى الأوّلين؟ قال : عاقر الناقة. قال : صدقت. فمن أشقى الآخرين؟ قال : قلت لا أعلم يا رسول الله. قال : الذي يضربك على هذه ـ وأشار إلى يافوخه ـ.

وثمّة تشابه بين قاتل ناقة صالح ، قدار بن سالف ، وقاتل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، عبد الرحمن بن ملجم المرادي ؛ لم يكن الإثنان يحملان عداءً شخصياً ، بل كان هدف الإثنين اطفاء نور الله والقضاء على معجزة وآية من آيات الله.

في الآية التالية تفاصيل أكثر عن طغيان قوم ثمود : (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيهَا).

المقصود من رسول الله نبي قوم ثمود صالح عليه‌السلام ؛ وعبارة ناقة الله إشارة إلى أنّ هذه الناقة لم تكن عادية ، بل كانت معجزة ، تثبت صدق نبوّة صالح ، ومن خصائصها ـ كما في الرواية المشهورة ـ أنّها خرجت من قلب صخرة في جبل لتكون حجة على المنكرين.

الآية التالية تقول : (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا). والعقر : ـ على وزن كفر ـ معناه الأساس والأصل والجذر ؛ وعقر الناقة قطع أساسها وإهلاكها

ويلاحظ أنّ قاتل الناقة شخص واحد أشارت إليه الآية بأشقاها ، بينما نسب العقر إلى كل طغاة قوم ثمود : فعقروها ، وهذا يعني أنّ كل هؤلاء القوم كانوا مشاركين في الجريمة.

وعقب هذا التكذيب أنزل الله عليهم العقاب فلم يترك لهم أثراً : (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّيهَا).

«دمدم : تعني أهلك ، وتأتي أحياناً بمعنى عذّب وعاقب وأحياناً بمعنى سحق واستأصل ، وبمعنى سخط أو أحاط.

وسوّاها : من التسوية وهي تسوية الأبنية بالأرض نتيجة صيحة عظيمة وصاعقة وزلزلة ، أو بمعنى إنهاء حالة هؤلاء القوم ، أو تسويتهم جميعاً في العقاب والعذاب ، حتى لم يسلم أحد منهم.

ومن الممكن أيضاً الجمع بين هذه المعاني.

وتختتم السورة الحديث عن هؤلاء القوم بتحذير قارع لكل الذين يتجهون في نفس هذه

٤٧٠

المسيرة المنحرفة فتقول : (وَلَا يَخَافُ عُقْبهَا).

كثيرون من الحكّام قادرون على انزال العقاب لكنّهم يخشون من تبعات عملهم ، ويخافون ردود الفعل التي قد تحدث نتيجة فعلهم ، ولذلك يكفّون عن المعاقبة. قدرتهم ـ إذن ـ محفوفة بالضعف وعلمهم ممزوج بالجهل. لا يعلمون مدى قدرتهم على مواجهة التبعات. بينما الله سبحانه قادر متعال ، علمه محيط بكل الامور وعواقبها ، وقدرته على مواجهة النتائج لا يشوبها ضعف ، فهو سبحانه وتعالى لا يخاف عقباها ، ولذلك فإنّ مشيئته في العقاب نافذة حازمة.

نهاية تفسير سورة الشّمس

* * *

٤٧١
٤٧٢

٩٢

سورة الليل

محتوى السورة : بعد القسم بثلاث ظواهر في بداية السورة يأتي تقسيم الناس إلى منفقين متّقين ، وبخلاء منكرين ، وتذكر عاقبة كل مجموعة ؛ اليسر والسعادة والهناء للمجموعة الاولى ، والعسر والضنك والشقاء للمجموعة الثانية.

وفي مقطع آخر من السورة إشارة إلى أنّ الهداية من الله سبحانه لعباده هي انذارهم من النار يوم القيامة.

ثم تذكر السورة في نهايتها من يدخل هذه النار ومن ينجو منها ، مع ذكر أوصاف الفريقين.

فضيلة تلاوة السورة : في المجمع ابي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من قرأها أعطاه الله حتى يرضى ، وعافاه من العسر ويسّر له اليسر.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (٢) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (١٠) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) (١١)

٤٧٣

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان روى عن ابن عباس أنّ رجلاً كانت له نخلة فرعها في دار رجل فقير ذي عيال ، وكان الرجل إذا جاء فدخل الدار وصعد النخلة ليأخذ منها التمر ، فربّما سقطت التمرة فيأخذها صبيان الفقير ، فينزل الرجل من النخلة حتى يأخذ التمر من أيديهم ، فإن وجدها في فيّ أحدهم أدخل إصبعه حتى يأخذ التمرة من فيه. فشكا ذلك الرجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخبره بما يلقى من صاحب النخلة. فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذهب. ولقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صاحب النخلة فقال : تعطيني نخلتك المائلة التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة. فقال له الرجل : إنّ لي نخلاً كثيراً ، وما فيه نخلة أعجب إليّ تمرة منها. قال : ثم ذهب الرجل ، فقال رجل كان يسمع الكلام من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا رسول الله! أتعطيني ما أعطيت الرجل نخلة في الجنة إن أنا أخذتها؟ قال : نعم. فذهب الرجل ولقي صاحب النخلة فساومها منه فقال له : أشعرت أنّ محمّداً أعطاني بها نخلة في الجنة فقلت له : يعجبني تمرتها وإنّ لي نخلاً كثيراً فما فيه نخلة أعجب إليّ تمرة منها. فقال له الآخر : أتريد بيعها؟ فقال : لا إلّا أن أعطى ما لا أظنّه اعطى. قال : فما مُناك؟ قال : أربعون نخلة. فقال الرجل : جئت بعظيم ، تطلب بنخلتك المائلة أربعين نخلة؟! ثم سكت عنه. فقال له : أنا أعطيك أربعين نخلة. فقال له : أشهد إن كنت صادقاً ، فمرّ إلى اناس فدعاهم ، فأشهد له بأربعين نخلة ، ثم ذهب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله! إنّ النخلة قد صارت في ملكي ، فهي لك. فذهب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى صاحب الدار ، فقال له : النخلة لك ولعيالك. فأنزل الله تعالى : (وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) السورة وعن عطاء قال : اسم الرجل (أبو الدحداح).

التّفسير

التقوى والإمداد الإلهي : هذه السورة المباركة أيضاً تبتديء بثلاثة أقسام تثير التفكير في المخلوقات وفي الخالق. تقول : (وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى).

فالقَسم الأوّل بالليل حين يغطّي ... يغطّي بظلامه نصف الكرة الأرضية ... أو يغطّي قرص الشمس ، وهذا القسم تأكيد على أهمّية الليل ودوره الفاعل في حياة الأفراد ، من تعديله لحرارة الشمس ، ونشره السكينة على كل الموجودات الحية ، وتوفير الجوّ لعبادة المتهجدين ومناجاة الصالحين.

ويستمر السياق القرآني في القسم بالقول : (وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى).

٤٧٤

والنهار يبدأ من اللحظة التي يطلع فيها الفجر ، فيشقّ قلب ظلام الليل ، ثم يمتدّ ليملاء كل السماء ، ويغمر كل شيء بالنور.

ثم القَسم الأخير في السورة بالخالق المتعال : (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى).

فوجود الجنسين في عالم الإنسان والحيوان والنبات ... والمراحل التي تمرّ بها النطفة منذ انعقادها حتى الولادة ... والخصائص التي يمتاز بها كل جنس متناسبة مع دوره ونشاطه ... والأسرار العميقة المخبوءة في مفهوم الجنسية ... كلّها من دلالات وآيات عالم الخليقة الكبير ... وبها يمكن الوقوف على عظمة الخالق.

ثم يأتي الهدف النهائي من كل هذه الأقسام بقوله سبحانه : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى).

اتجاهات سعيكم مختلفة ، ونتائجها مختلفة أيضاً ، هذا يعني أنّ أفراد البشر لا يستقرون في حياتهم على حال ... بل هم في سعي مستمر ... وفي استثمار دائم للطاقة التي أودعها الله في نفوسهم ... فانظر أيّها الإنسان في أي مسير تبذل هذه الطاقة التي هي رأس مال وجودك ... في أيّ اتجاه ... وفي سبيل أيّة غاية؟!

حذار من تبديد كل هذه الطاقات في سبيل نتيجة تافهة ... وحذار من بيعها بثمن بخس!

«شتى : جمع شتيت من مادة شتّ أيّ فرّق الجمع ، وهنا بمعنى التفرق والتشعب في المساعي من حيث الكيفية والهدف والنتيجة.

ثم يأتي تقسيم الناس على قسمين ، ويبيّن خصائص كل قِسم. يقول سبحانه : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى).

وأساساً أنّ الإيمان بالمعاد وبثواب الآخرة يهون المشاكل والصعاب ، ويجعل بذل المال بل النفس ميسوراً ، ويخلق الدافع نحو طلب الشهادة في ميادين الجهاد عن رغبة مقرونة باحساس باللذة والنشوة.

وفي الجهة المقابلة تقف المجموعة الاخرى التي تتحدث عنها الآيات التالية : (وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى).

«من بخل في هذه المجموعة مقابل من أعطى في تلك.

«استغنى : أي طلب الغنى ، قد تكون إشارة إلى ذريعتهم لبخلهم ، ووسيلتهم لإكتناز المال.

وهؤلاء البخلاء الخاوون من الإيمان يشقّ عليهم فعل الخير وخاصة الإنفاق ، بينما هو للمجموعة الاولى مقرون باللذة والإنشراح.

٤٧٥

ثم يأتي التحذير لهؤلاء البخلاء المغفلين بالآية : (وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى).

لا يستطيع أن يصطحب ماله من هذه الدنيا ، ولا يستطيع هذا المال ـ إذا اصطحبه ـ أن يقيه من السقوط في نار جهنم.

(إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (١٢) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى (١٤) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (١٩) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضَى) (٢١)

عقب الآيات الكريمة السابقة التي قسمت الناس على مجموعتين : مؤمنة سخية ، وعديمة الإيمان بخيلة ، وبيّنت مصير كل منهما ، تبدأ هذه الطائفة من الآيات بالتأكيد أنّ على الله الهداية لا الإجبار والإلزام ، ويبقى الإنسان هو المسؤول عن اتخاذ القرار اللازم ، وأنّ انتخاب الطريق المستقيم يعود بالنفع على الإنسان نفسه ولا حاجة لله سبحانه بعمل خير يقدمه الفرد. يقول تعالى : (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى). الهدى عن طريق التكوين (الفطرة والعقل) أو عن طريق التشريع (الكتاب والسنة) ... فقد بيّنا ما يلزم وأدينا الأمر حقّه.

وبعد : (وَإِنَّ لَنَا لَلْأَخِرَةَ وَالْأُولَى). فلا حاجة بنا لإيمانكم وطاعتكم ، ولا طاعتكم تجدينا نفعاً ولا معصيتكم تصيبنا ضرّاً ، وكل منهج الهداية لصالحكم أنفسكم.

الإنذار والتحذير من سبل الهداية ، ولذلك قال سبحانه : (فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى).

«تلظى : من اللظى ، وهو الشعلة المتوهجة الخالصة والشعلة الخالصة من الدخان ذات حرارة أكبر ، وتطلق لظى أحياناً على جهنم.

ثم تشير الآية إلى المجموعة التي ترد هذه النار المتلظية الحارقة وتقول : (لَايَصْلهَا إِلَّا الْأَشْقَى).

وفي وصف الأشقى تقول الآية : (الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى).

معيار الشقاء والسعادة ـ إذن ـ هو الكفر والإيمان وما ينبثق عنهما من موقف عملي ، إنّه لشقي حقّاً هذا الذي يعرض عن كل معالم الهداية وعن كل الإمكانات المتاحة للإيمان والتقوى ... بل إنّه أشقى الناس.

ثم تتحدث السورة عن مجموعة قد جُنّبت النار وأبعدت عنها ، تقول الآية : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى).

٤٧٦

ومن هو هذا الأتقى؟ تقول الآية الكريمة : (الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى).

وعبارة يتزكى تشير إلى قصد القربة ، وخلوص النية ، سواء أريد منها معنى النمو الروحي والمعنوي ، أم قصد بها تطهير الأموال ، لأنّ التزكية جاءت بمعنى التنمية ، وبمعنى التطهير.

وللتأكيد على خلوص النيّة في إنفاقهم تقول الآية : (وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَى). فلا أحد قد أنعم على هذا الأتقى ليكون إنفاقه جزاء على هذه النعمة.

بل هدفه رضا الله لا غير : (إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبّهِ الْأَعْلَى).

إنّ إنفاق المؤمنين الأتقياء ليس رياء ولا ردّاً على خدمات سابقة قدمت إليهم ، بل دافعها رضا الله لا غير ، ومن هنا كان إنفاقهم ذا قيمة كبرى.

وفي خاتمة السورة ذكر بعبارة موجزة لما ينتظر هذه المجموعة من أجر عظيم تقول الآية : (وَلَسَوْفَ يَرْضَى).

نعم ، ولسوف يرضى ، فهو قد عمل على كسب رضا الله ، والله سبحانه سوف يرضيه ، إرضاءً واسعاً غير محدود ... إرضاءً عميق المعنى يستوعب كل النعم.

نهاية تفسير سورة الليل

* * *

٤٧٧
٤٧٨

٩٣

سورة الضحى

محتوى السورة : هذه السورة نزلت في مكة ، وحسب بعض الروايات أنّها نزلت حين كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله متألماً بسبب تأخر نزول الوحي ، وتقوّل الأعداء نتيجة هذا الإنقطاع المؤقت ، نزلت السورة كغيث على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

هذه السورة تبدأ بقَسمين ، ثم تبشر النبي بأنّ الله لا يتركه أبداً.

ثم تبشّره بعطاء رباني تجعله راضياً.

ثم تعرض له صوراً من حياته السابقة تتجسّد فيها الرحمة الإلهية التي كانت تشمله دائماً وتحميه وتسنده في أشدّ اللحظات.

وفي نهاية السورة تتكرر الأوامر الإلهية برعاية اليتيم والسائل ، وباظهار النعم الإلهية (شكراً لهذه النعم).

فضيلة تلاوة السورة : في المجمع ابي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ومن قرأها كان ممن يرضاه الله ، ولمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يشفع له ، وله عشر حسنات بعدد كل يتيم وسائل.

وفضيلة التلاوة هذه هي طبعاً من نصيب من يقرأ ويعمل بما يقرأ.

جدير بالذكر أنّ الروايات تذكر هذه السورة والسورة التي تليها : (شرح) على أنّها سورة واحدة ، ولذلك لابدّ من قرائتهما معاً بعد سورة الحمد في الصلاة (لوجوب قراءة سورة كاملة بعد الحمد في الصلاة حسب مذهب أهل البيت عليهم‌السلام).

٤٧٩

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(وَالضُّحَى (١) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (٢) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) (٥)

سبب النّزول

في المجمع : قال ابن عباس : احتبس الوحي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله خمسة عشر يوماً ، فقال المشركون : إنّ محمّداً قد ودعه ربّه وقلاه ، ولو كان أمره من الله تعالى لتتابع عليه. فنزلت السورة.

وروي أنّه لمّا نزلت السورة قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لجبرائيل عليه‌السلام : ما جئت حتى اشتقت إليك! فقال جبرائيل : وأنا كنت أشدّ إليك شوقاً ، ولكنّي عبد مأمور وما نتنزل إلّابأمر ربّك.

التّفسير

في بداية السورة المباركة قسمان : الأوّل بالنور ، والثاني بالظلمة. يقول سبحانه :

(وَالضُّحَى) وهو قسم بالنهار ـ حين تغمر شمسه كل مكان.

(وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى). أي إذا عمّت سكينته كل مكان.

«الضحى : يعني أوائل النهار ، أي حين يرتفع قرص الشمس في كبد السماء ، ويعم نورها الأرض ، وهو أفضل ساعات النهار.

«سجى : من السَّجو أو السُّجو ، أي سكن وهدأ.

والمهم في الليل هدؤه وسكينته ممّا يضفي على روح الإنسان واعصابه هدوءً وارتياحاً ، ويُعدّه لممارسة نشاط يوم غد ، وهو لذلك نعمة مهمّة استحقت القسم بها.

بين القَسمين ومحتوى السورة تشابه كبير وإرتباط وثيق. النهار مثل نزول نور الوحي على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والليل كانقطاع الوحي المؤقت ، وهو أيضاً ضروري في بعض المقاطع الزمنية.

وبعد القسمين ، يأتي جواب القسم ، فيقول سبحانه : (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى).

«قلى : من قلا ـ على وزن صدا ـ وهو شدّة البغض.

في هذا التعبير سكن لقلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتسلّ له ، ليعلم أنّ التأخير في نزول الوحي إنّما يحدث لمصلحة يعلمها الله تعالى ، وليست ـ كما يقول الأعداء ـ لترك الله نبيّه أو لسخطه عليه فهو مشمول دائماً بلطف الله وعنايته الخاصّة ، وهو دائماً في كنف حماية الله سبحانه.

٤٨٠