مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

إنّهم عندما يلقون فيها بمنتهى الذلّ والحقارة تقترن حالة إلقائهم بصدور صوت مرعب وشديد من جهنم ، حيث يسيطر الرعب والخوف على جميع وجودهم.

ثم يضيف تعالى مستعرضاً شدّة غضب (جهنم) وشدّة هيجانها وإنزعاجها بقوله تعالى : (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) (١).

إنّها حرارة هائلة جدّاً ونار حارقة مزمجرة كما لو وضعنا إناء كبير على نار محتدمة فإنّه لا يلبث أن يفور ويغلي بشكل يكاد فيه أن يتلاشى ويذوب.

ثم يستمرّ تعالى بقوله : (كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ).

فلماذا إذن أوقعتم أنفسكم في هذا المصير البائس ، وهذا البلاء العظيم والساعة الرهيبة ، إنّ الملائكة (خزنة جهنم) يستغربون ويكادون أن يصعقوا لما أصابكم وما أوقعتم به أنفسكم ، في مثل هذه الداهية مع الوعي الذي حباكم به الله سبحانه وما تفضّل به عليكم من نعمة الرسل الإلهيين والقادة من الأنبياء والمرسلين ... فكيف اخترتم لأنفسكم مقرّاً كهذا؟

(قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِن شَىْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِى ضَللٍ كَبِيرٍ).

وهكذا يأتي الإعتراف : نعم قد جاءنا الرسل إلّاأنّنا كذّبناهم ولم نسمع نداءهم المحيي للنفوس بل خالفناهم وعارضناهم واعتبرناهم ضالّين ، وأخرجناهم من بين صفوفنا ، وأبعدناهم عنّا ..

ثم يذكر القرآن الدليل الأصلي على شقائهم وتعاستهم ولكن على لسانهم فيقول : (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ). أجل هكذا يأتي إعترافهم بذنوبهم بعد فوات الأوان : (فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لّاَصْحَابِ السَّعِيرِ).

فمن جهة أعطاهم الله تعالى الاذن السامعة والعقل ، ومن جهة اخرى بعث إليهم الرسل والأنبياء بالدلائل الواضحة فلو اقترن هذان الأمران فالنتيجة هي ضمان سعادة الإنسان.

«سحق : على وزن (قفل) وهي في الأصل بمعنى طحن الشيء وجعله ناعماً كما تطلق على الملابس القديمة ، إلّاأنّها هنا بمعنى البعد عن رحمة الله. وبناءً على هذا فإنّ مفهوم قوله تعالى (فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ) هو : فبعداً لأصحاب النار عن رحمة الله ، ولأنّ لعنة وغضب الله تعالى يكون توأماً مع التجسيد الخارجي له ، فإنّ هذه الجملة بمثابة الدليل على أنّ هذه المجموعة بعيدة عن رحمة الله بشكل كلي.

__________________

(١) تميّز : بمعنى التلاشي والتشتّت وكانت في الأصل (تتميّز).

٢٢١

ملاحظة

المقام السامي للعقل : ليست هذه هي المرّة الاولى التي يشير فيها القرآن الكريم إلى مقام العقل السامي ، كما أنّها ليست المرّة الاولى التي يصرّح فيها بأنّ العامل الأساسي لتعاسة الإنسان ودخوله عوالم الخسران والضياع والعاقبة التعيسة ، وسقوطه وفي وحل الذنوب وجهنم ... هو عدم الاستفادة من هذه القوة الإلهية العظيمة ، وإغفال هذه القدرة الجبارة ، وعدم استثمار هذه الجوهرة والنعمة الربانية. فإنّ الإسلام قد وضع أساس معرفة الله تعالى وسلوك طريق السعادة والنجاة ، ضمن مسؤولية العقل.

لذا فإنّ القرآن الكريم يوجّه نداءاته بصورة مستمرّة وفي كل مكان إلى (اولوا الألباب) و (اولوا الأبصار) وأصحاب الفكر من العلماء والمتعمّقين في شؤون المعرفة.

في الكافي عن الإمام علي عليه‌السلام قال : هبط جبرئيل على آدم عليه‌السلام ، فقال : يا آدم! إنّي امرت أن اخيّرك واحدة من ثلاث فاخترها ودع إثنين ، فقال له آدم : يا جبرئيل وما الثلاث؟ فقال : العقل والحياء والدين. فقال آدم : إنّي قد اخترت العقل ، فقال جبرئيل للحياء والدين : إنصرفا ودعاه. فقالا : يا جبرئيل ، إنّا امرنا أن نكون مع العقل حيث كان ، قال : فشأنكما وعرج.

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٤)

بعد ما بيّنا ـ في الأبحاث التي تناولتها الآيات السابقة ـ مصير الكفار يوم القيامة ، فإنّ القرآن الكريم يتناول في الآيات مورد البحث حالة المؤمنين وجزاءهم العظيم عند الله سبحانه .. يقول في البداية : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ).

«الغيب هنا إشارة لمعرفة الله تعالى غير المرئية ، أو الإشارة إلى المعاد غير المشاهد ، أو يقصد به الأمران معاً.

كما يحتمل أن يكون إشارة إلى الخوف من الله تعالى بسبب ما عمل الإنسان من خطايا وذنوب في السرّ ، ذلك أنّ الإنسان إذا لم يقترف ذنوباً في السرّ ، فإنّه لن يجرأ عليها في العلانية.

ويحتمل أن يكون هذا التعبير إشارة إلى خلوص النيّة في الإبتعاد عن الذنوب والمعاصي ، والالتزام بالأوامر الإلهية ، إذ إنّ العمل السرّي يكون أبعد عن الرياء.

كما لا مانع من الجمع بين هذه الآراء.

٢٢٢

ثم يضيف للتأكيد : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).

قال ابن عباس : نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيخبره جبرائيل بما قالوا فيقول بعضهم (أسرّوا قولكم) ، حتى لا يسمع إله محمّد. فأنزل الله هذه الآية (١) [فقيل لهم أسروا ذلك أو اجهروا به فإنّ الله يعلمه وأسرار الأقوال واعلانها مستويان عنده تعالى في تعلق علمه].

وتأتي الآية اللاحقة دليلاً وتأكيداً على ما ورد في الآية السابقة ، حيث يقول تعالى : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).

«اللطيف : مأخوذ في الأصل من (اللطف) ويعني كل موضوع دقيق وظريف ، وكل حركة سريعة وجسم لطيف ، وبناءً على هذا فإنّ وصف الله تعالى ب (اللطيف) إشارة إلى علمه عزوجل بالأسرار الدقيقة للخلق.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) (١٨)

بعد الأبحاث التي إستعرضناها في الآيات السابقة بالنسبة لأصحاب النار وأصحاب الجنة ، والكافرين والمؤمنين ، يشير تعالى في الآيات مورد البحث إلى بعض النعم الإلهية ، ثم إلى أنواع من عذابه ، وذلك للترغيب والتشويق بالجنة لأهل الطاعة ، والإنذار بالنار لأهل المعصية. يقول تعالى : (هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً). (فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ).

«ذلول : بمعنى (مطيع) وهو أجمل تعبير يمكن أن يطلق على الأرض ، لأنّ هذا المركب السريع السير جدّاً ، مع حركته المتعددة ، يلاحظ هادئاً إلى حدّ يبدو وكأنّه ساكناً بصورة مطلقة.

يقول بعض العلماء : إنّ للأرض أربع عشرة حركة مختلفة ، ثلاث منها هي :

__________________

(١) زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي ٨ / ٦٠ ، والتفسير الكبير ٣٠ / ٦٦.

٢٢٣

الاولى : حركتها حول نفسها.

والثانية : حول الشمس.

والثالثة : مع مجموعة المنظومة الشمسية في وسط المجرّة.

هذه الحركات التي تكون سرعتها عظيمة ، هي من التناسب والانسجام إلى حدّ لم يكن ليصدق أحد أنّ للأرض حركة لولا إقامة البراهين القطعية على حركتها.

ومن جهة اخرى ، فإنّ قشرة الأرض ليست قويّة وقاسية إلى حدّ لا يمكن معه العيش فوقها ، ولا ضعيفة ليّنة لا قرار لها ولا هدوء ، وبذلك فإنّها مناسبة لحياة البشر تماماً.

ومن جهة ثالثة فإنّ بعدها عن الشمس ليس هو بالقريب منها إلى حدّ يؤدّي بحرارة الشمس إلى أن تحرق كل شيء على وجهها ، ولا هو ببعيد عنها بحيث يتجمّد كل شيء على سطحها.

وكذلك بالنسبة لضغط الهواء على الكرة الأرضية ، فإنّه متناسب بما يؤدّي إلى هدوء الإنسان وراحته.

والأمر نفسه يقال في الجاذبية الأرضية ، هي ليست شديدة إلى حدّ تتهشّم فيها عظام الإنسان ، ولا بالضعيفة التي يكون فيها معلّقاً لا يستطيع الاستقرار في مكان.

والخلاصة : إنّ الأرض (ذلول) ومطيعة ومسخّرة لخدمة الإنسان في جميع المجالات.

كما تحمل في نفس الوقت إشارة إلى ضرورة السعي في الأرض في طلب الرزق والحصول عليه ، وإلّا فسيكون الحرمان نصيب القاعدين والمتخلفين عن السعي.

ويجب الالتفات إلى أنّ هذا ليس هو الهدف الأساس لخلقكم ، إذ إنّ كل ذلك وسائل في طريق (نشوركم) وبعثكم وحياتكم الأبدية.

وبعد هذا الترغيب والتشويق يستعرض تعالى اسلوب التهديد والإنذار فيقول سبحانه : (ءَأَمِنتُم مَّن فِى السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ).

إنّ الباريء تعالى إذا أمر أو أراد فإنّ هذه الأرض الذلول الهادئة تكون في حالة هيجان وطغيان كدابة جموح ، تبدأ بالزلازل ، وتتشقّق وتدفنكم وبيوتكم ومدنكم تحت ترابها وحجرها ، وتبقى راجفة مضطربة مزمجرة بعد أن تقضي عليكم وعلى مساكنكم التي متّعتم فيها برهة من الزمن.

ثم يضيف سبحانه : (أَمْ أَمِنتُم مَّن فِى السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا). فلا يلزم حتماً

٢٢٤

حدوث زلزلة لتدميركم ، بل يكفي أن نأمر عاصفة رملية لتدفنكم تحت رمالها ... وحينئذ ستعلمون حقيقة إنذاري وتهديدي : (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ).

إنّ الآيات أعلاه تؤكّد أنّ عذاب العاصين والمجرمين لا ينحصر في يوم القيامة فقط ، حيث يستطيع الباريء عزوجل أن يقضي على حياتهم في هذه الدنيا بحركة بسيطة للأرض ، أو بحركة الرياح ، وإنّ أفضل دليل على هذه الإمكانية الإلهية هو وقوع مثل هذه الامور في الامم السابقة.

لذا فإنّ الله تعالى يقول في آخر آية من هذه الآيات : (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) (١).

نعم ، فلقد عاقبنا قسماً من هؤلاء بالزلازل المدمّرة ، وأقواماً آخرين بالصواعق ، وبالطوفان ، وبالرياح ... وبقيت مدنهم المدمّرة موضع درس واعتبار لمن كان له قلب واع.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) (٢١)

انظروا إلى الطير فوقكم : في الآيات الاولى لهذه السورة كان البحث عن قدرة الله سبحانه ومالكيته ، وعن السماوات السبع والنجوم والكواكب ... ويستمرّ هذا اللون من الحديث في أوّل آية ـ مورد البحث ـ وذلك بذكر مفردة اخرى من كائنات هذا الوجود ، والتي تبدو في ظاهرها صغيرة ويقول تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ).

هذه الأجسام بالرغم من قانون الجاذبية الأرضية تنطلق من الأرض وتحلّق ساعات في السماء بكل راحة ، وأحياناً أيّاماً وأسابيع وشهوراً ، وتستمر بحركتها السريعة المرنة وبدون أي مشاكل.

فمن يا ترى خلق أجسام هذه الطيور بهذه الصورة التي جعلها تستطيع السير في الهواء بكل سهولة وراحة؟

__________________

(١) نكير : بمعنى (الإنكار) وجاءت هنا كناية عن العقوبة ، لأنّ إنكار الله تعالى مقابل أفعال هؤلاء القوم جاءت عن طريق مجازاتهم.

٢٢٥

لذا يقول في ختام الآية : (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلّ شَىْءٍ بَصِيرٌ).

إنّه الله تعالى الذي وضع باختيارها الوسائل والقوى والإمكانات المختلفة للطيران ، وحافظ عليها في السماء ، هو بذاته المقدسة يحفظ الأرض والكائنات الاخرى ، وعندما يشاء غير ذلك فلن يكون عندئذ للطيور قدرة الطيران ولا للأرض حالة الهدوء والاستقرار.

ثم يشير تعالى في الآية اللاحقة إلى أنّ الكافرين ليس لهم أي عون أو مدد مقابل قدرة الله عزوجل حيث يقول : (أَمَّنْ هذَا الَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مّن دُونِ الرَّحْمنِ).

إنّ هؤلاء الذين هم (جند لكم) ليسوا عاجزين عن مساعدتكم ونصرتكم فحسب ، بل إذا شاء الرحمن جعلها سبب عذابكم ودماركم.

ألا (إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِى غُرُورٍ). فلقد أعمت عقولهم حجب الجهل والغرور ، ولا يعتبرون أو يتّعظون بما حصل للأقوام البائدة السابقة ، ولا لما يصيب الآخرين في حياتنا المعاصرة.

ثم يضيف سبحانه مؤكّداً ما سبق : (أَمَّنْ هذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ).

فإذا أمر الله السماء أن تمتنع عن المطر ، والأرض عن الإنبات ، وأمر الآفات الزراعية بالفتك بالمحاصيل ... فمن القادر غيره أن يطعمكم الطعام؟

وإذا ما قطع الله الرزق المعنوي عنكم والوحي السماوي من الوصول إليكم ، فمن القادر غيره على إرشادكم وإنقاذكم من براثن الضلال؟ إنّها لحقائق واضحة وأدلة دامغة ، إلّاأنّ العناد هو الذي يشكّل حجاباً للإدراك وللشعور الحق : (بَل لَّجُّوا فِى عُتُوٍّ وَنُفُورٍ).

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) (٢٧)

السائر سويّاً على جادة التوحيد : تعقيباً لما ورد في الآيات السابقة بالنسبة إلى

٢٢٦

الكافرين والمؤمنين ، فإنّ الله تعالى يصوّر لنا ـ في أوّل آية من هذه الآيات ـ حالة هاتين المجموعتين ضمن تصوير رائع ولطيف ، حيث يقول تعالى : (أَفَمَن يَمْشِى مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِى سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).

فهنا شبه المعاندين والمغرورين كمن يسير في جادّة متعرّجة غير مستوية كثيرة المنعطفات وقد وقع على وجهه ، يحرّك يديه ورجليه للإهتداء إلى سبيله ، لأنّه لا يبصر طريقه جيّداً ، وليس بقادر على السيطرة على نفسه ، ولا بمطّلع على العقبات والموانع ، وليست لديه القوّة للسير سريعاً ، وبذلك يتعثّر في سيره ... يمشي قليلاً ثم يتوقّف حائراً.

كما شبّه المؤمنين برجال منتصبي القامات ، يسيرون في جادّة مستوية ومستقيمة ليس فيها تعرّجات واعوجاج ، ويمشون فيها بسرعة ووضوح وقدرة ووعي وعلم وراحة تامّة.

إنّه ـ حقّاً ـ لتشبيه لطيف فذّ ، حيث إنّ آثار هذين السبيلين واضحة تماماً ، وإنعكاساتها جليّة في حياة هذين الفريقين ، وذلك ما نلاحظه بامّ أعيننا.

ثم يوجّه الله تعالى الخطاب إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في الآية اللاحقة فيقول : (قُلْ هُوَ الَّذِى أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ).

إنّ الله تعالى جعل لكم وسيلة للمشاهدة والإبصار (العين) وكذلك وسيلة وقناة للإطّلاع على أفكار الآخرين ومعرفة وجهات نظرهم من خلال الاستماع (الإذن) ثم وسيلة اخرى للتفكر والتدبر في العلوم والمحسوسات واللامحسوسات (القلب).

وخلاصة الأمر إنّ الله تعالى قد وضع جميع الوسائل اللازمة لكم لتتعرفوا على العلوم العقلية والنقلية ، إلّاأنّ القليل من الأشخاص من يدرك هذه النعم العظيمة ويشكر الله المنعم ، حيث إنّ شكر النعمة الحقيقي يتجسّد بتوجيه النعمة نحو الهدف الذي خلقت من أجله ، تُرى من هو المستفيد من هذه الحواس (العين والاذن والعقل) بصورة صحيحة في هذا الطريق؟

ثم يخاطب الرسول مرّة اخرى حيث يقول تعالى : (قُلْ هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

إنّ الآيات أعلاه يؤكّد على أنّ السير يجب أن يكون في الطريق المستقيم ، والصراط الواضح المتمثّل بالإسلام والإيمان ، وبذل الجهد للاستفادة من جميع وسائل المعرفة بهذا الإتّجاه ، والتحرّك نحو الحياة الخالدة.

٢٢٧

ثم يستعرض سبحانه قول المشركين في هذا المجال والردّ عليهم ، فيقول تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).

ويجيبهم الله سبحانه على تساؤلهم هذا بقوله تعالى : (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ).

ولابدّ أن يكون الجواب بهذه الصورة ، حيث إنّ تحديد تأريخ يوم القيامة إن كان بعيداً فإنّ الناس سيغرقون بالغفلة ، وإن كان قريباً فإنّهم سيعيشون حالة الهلع والاضطراب ، وعلى كل حال فإنّ الأهداف التربوية تتعطّل في الحالتين.

ويضيف في آخر آية من هذه الآيات بأنّ الكافرين حينما يرون العذاب والوعد الإلهي من قريب تسودّ وجوههم : (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا). فسيماهم طافحة بآثار الحزن والندم : (وَقِيلَ هذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ).

«تدّعون : من مادة دعاء يعني أنّكم كنتم تدعون وتطلبون دائماً أن يجيء يوم القيامة ، وها هو قد حان موعده ، ولا سبيل للفرار منه.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) (٣٠)

إنّ الآيات أعلاه ، التي هي آخر آيات سورة الملك ، تبدأ جميعها بكلمة (قل) مخاطبة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث أنّها تمثّل استمراراً للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة حول الكفار ، وتعكس هذه الآيات الكريمة جوانب اخرى من البحث.

يخاطب الباريء عزوجل ـ في البداية ـ الأشخاص الذين يرتقبون وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه ، ويتصوّرون أنّ بوفاته سوف يمحى دين الإسلام وينتهي كل شيء ، وهذا الشعور كثيراً ما ينتاب الأعداء المخذولين إزاء القيادات القويّة والمؤثّرة. يقول تعالى مخاطباً إيّاهم : (قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ اللهُ وَمَن مَّعِىَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ).

ورد في بعض الروايات أنّ كفّار مكة ، كانوا دائماً يسبّون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين ، وكانوا يتمنّون موته ظنّاً منهم أنّ رحيله سينهي دعوته كذلك ، لذا جاءت الآية أعلاه ردّاً عليهم.

٢٢٨

واستمراراً لهذا البحث ، يضيف تعالى : (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُءَامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ).

وهذا يعني أنّنا إذا آمنّا بالله ، واتّخذناه وليّاً ووكيلاً لنا ، فإنّ ذلك دليل واضح على أنّه الربّ الرحمن ، شملت رحمته الواسعة كل شيء ، وغمر فيض ألطافه ونعمه الجميع (المؤمن والكافر) ، أمّا الذين تعبدونهم من دون الله فماذا عملوا؟ وماذا صنعوا؟

ويقول تعالى في آخر آية ، عارضاً لمصداق من رحمته الواسعة ، والتي غفل عنها الكثير من الناس : (قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ).

جاء في الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام أنّ المراد من الآية الأخيرة من هذه السورة هو ظهور الإمام المهدي عليه‌السلام وعدله الذي سيعمّ العالم.

وممّا يجدر الإنتباه له أنّ هذه الروايات هي من باب (التطبيق).

وبعبارة اخرى : فإنّ ظاهر الآية مرتبط بالماء الجاري ، والذي هو علّة حياة الموجودات الحيّة ، أمّا باطن الآية فإنّه يرتبط بوجود الإمام عليه‌السلام وعلمه وعدالته التي تشمل العالم ، والتي هي الاخرى تكون سبباً لحياة وسعادة المجتمع الإنساني.

نهاية تفسير سورة الملك

* * *

٢٢٩
٢٣٠

٦٨

سورة القلم

محتوى السورة : إنّ نسق السورة ومحتوى آياتها ينسجم تماماً مع السور المكية ، لأنّ المحور الأساسي فيها يدور حول مسألة نبوّة رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ومواجهة الأعداء الذين كانوا ينعتونه بالجنون وغيره ، والتأكيد على الصبر والاستقامة وتحدّي الصعاب ، وإنذار وتهديد المخالفين لهذه الدعوة المباركة بالعذاب الأليم.

وبشكل عام يمكن تلخيص مباحث هذه السورة بسبعة أقسام :

١ ـ في البداية تستعرض السورة بعض الصفات الخاصة لرسول الإنسانية محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وخصوصاً أخلاقه البارّة الرفيعة ، ولتأكيد هذا الأمر يقسِم الباريء عزوجل في هذا الصدد.

٢ ـ ثم تتعرض بعض الآيات الواردة في هذه السورة إلى قسم من الصفات السيئة والأخلاق الذميمة لأعدائه.

٣ ـ كما يبيّن قسم آخر من الآيات الشريفة قصة (أصحاب الجنة) والتي هي بمثابة توجيه إنذار وتهديد للسالكين طريق العناد من المشركين.

٤ ـ ثم ذكرت عدّة امور حول القيامة والعذاب الأليم للكفار في ذلك اليوم.

٥ ـ كما جاء في آيات اخرى جملة إنذارات وتهديدات للمشركين.

٦ ـ ونلاحظ في آيات اخرى من السورة الأمر الإلهي للرسول العظيم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يواجه الأعداء بصبر واستقامة وقوّة وصلابة.

٢٣١

٧ ـ وأخيراً تختتم السورة موضوعاتها بحديث حول عظمة القرآن الكريم ، وطبيعة المؤامرات التي كان يحوكها الأعداء ضدّ الرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

إنتخاب (القلم) اسماً لهذه السورة المباركة ، كان بلحاظ ما ورد في أوّل آية منها.

ويستفاد من بعض الروايات التي وردت في فضيلة هذه السورة أنّ اسمها ن والقلم.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ومن قرأ سورة ن والقلم أعطاه الله ثواب الذين حسن أخلاقهم.

كما عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : من قرأ سورة ن والقلم في فريضة أو نافلة ، آمنه الله أن يصيبه في حياته فقر أبداً ، وأعاذه إذا مات من ضمّة القبر ، إن شاء الله.

وهذا الأجر والجزاء يتناسب تناسباً خاصاً مع محتوى السورة ، والهدف من التأكيد على هذا النوع من الأجر من تلاوة السورة هو أن تكون التلاوة مقرونة بالوعي والمعرفة ومن ثم العمل بمحتواها.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (١) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٧)

هذه السورة هي السورة الوحيدة التي تبدأ بحرف (ن) حيث يقول تعالى : (ن).

ثم يقسم تعالى بموضوعين يعتبران من أهمّ المسائل في حياة الإنسان ، فيقول تعالى : (وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ).

وقد يتصور أنّ القسم هنا يتعلق ظاهراً بمواضيع صغيرة ، أي قطعة من القصب ـ أو شيء يشبه ذلك ـ وبقليل من مادة سوداء ، ثم السطور التي تكتب وتخطّ على صفحة صغيرة من الورق.

إلّا أنّنا حينما نتأمّل قليلاً فيه نجده مصدراً لجميع الحضارات الإنسانية في العالم أجمع ، إنّ تطور وتكامل العلوم والوعي والأفكار وتطور المدارس الدينية والفكرية ، وبلورة الكثير من المفاهيم الحياتية ... كان بفضل ما كُتب من العلوم والمعارف الإنسانية في الحقول المختلفة ،

٢٣٢

ممّا كان له الأثر الكبير في يقظة الامم وهداية الإنسان ... وكان ذلك بواسطة (القلم).

لقد قسّمت حياة الإنسان إلى عصرين : (عصر التاريخ) و (عصر ما قبل التاريخ) وعصر تاريخ البشر يبدأ منذ أن إخترع الإنسان الخطّ واستطاع أن يدوّن قصة حياته وأحداثها على الصفحات.

وتتّضح عظمة هذا القسم بصورة أكثر عندما نلاحظ أنّ هذه الآيات المباركة حينما نزلت لم يكن هنالك كتاب ولا أصحاب قلم ، وإذا كان هنالك أشخاص يعرفون القراءة والكتابة ، فإنّ عددهم في كل مكة ـ التي تمثّل المركز العبادي والسياسي والاقتصادي لأرض الحجاز ـ لم يتجاوز ال (٢٠) شخصاً ، ولذا فإنّ القسم ب (القلم) في مثل ذلك المحيط له عظمة خاصة.

ثم يتطرق سبحانه لذكر الأمر الذي أقسم من أجله فيقول تعالى : (مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ).

إنّ الذين يتّهمون صاحب هذا العقل الجبّار بالجنون هم المجانين في الحقيقة ، إنّ إبتعادهم عن دليل الهداية وموجّه البشرية لهو الحمق بعينه.

ثم يضيف تعالى بعد ذلك : (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ). أي غير منقطع.

«ممنون : من مادة (منّ) بمعنى (القطع) ويعني الأجر والجزاء المستمرّ الذي لا ينقطع أبداً.

وتعرض الآية اللاحقة وصفاً آخر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك بقوله تعالى : (وَإِنَّك لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

تلك الأخلاق التي لا نظير لها ، ويحار العقل في سموّها وعظمتها من صفاء لا يوصف ، ولطف منقطع النظير ، وصبر واستقامة وتحمّل لا مثيل لها ، وتجسيد لمبادىء الخير حيث يبدأ بنفسه أوّلاً فيما يدعو إليه ، ثم يطلب من الناس العمل بما دعا إليه والالتزام به.

عندما دعوت ـ يا رسول الله ـ الناس لعبادة الله ، فقد كنت أعبد الناس جميعاً ، وإذ نهيتهم عن سوء أو منكر فإنّك الممتنع عنه قبل الجميع ، تقابل الأذى بالنصح ، والإساءة بالصفح ، والتضرّع إلى الله بهدايتهم ، وهم يؤلمون بدنك الطاهر رمياً بالحجارة ، واستهزاءاً بالرسالة ، وتقابل وضعهم للرماد الحارّ على رأسك الشريف بدعائك لهم بالرشد.

في تفسير مجمع البيان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّما بعثت لُاتمّم مكارم الأخلاق.

وجاء في حديث آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار.

٢٣٣

«خُلُق : من مادة الخلقة بمعنى الصفات التي لا تنفكّ عن الإنسان ، وهي ملازمة له ، كخلقة الإنسان.

فإنّ تأصّل هذا (الخُلُق العظيم) في شخصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هو دليل واضح على رجاحة العقل وغزارة العلم له ونفي جميع التّهم التي تنسب من قبل الأعداء إليه.

ثم يضيف سبحانه بقوله : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ).

(بِأَييّكُمُ الْمَفْتُونُ). أي : من منكم هو المجنون.

«مفتون : اسم مفعول من (الفتنة) بمعنى الإبتلاء ، وورد هنا بقصد الإبتلاء بالجنون.

كما أنّ مواقفك وتحرّكاتك المستقبلية المقرونة بالتقدّم السريع لانتشار الإسلام ، ستؤكّد بصورة أعمق أنّك منبع العلم والعقل الكبيرين ، وأنّ هؤلاء الأقزام الخفافيش هم المجانين ، لأنّهم تصدّوا لمحاربة نور هذه الشمس العظيمة المتمثّلة بالحق الإلهي والرسالة المحمّدية.

ومن الطبيعي فإنّ هذه الحقائق ستتوضّح أمامهم يوم القيامة بصورة دامغة ، ويخسر هنالك المبطلون ، حيث تتبيّن الامور وتظهر الحقيقة.

وللتأكيد على المفهوم المتقدم يقول سبحانه مرّة اخرى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).

وبلحاظ معرفة الباريء عزوجل بسبيل الحق وبمن سلكه ومن جانبه وتخلّف أو إنحرف عنه ، فإنّه يطمئن رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه والمؤمنون في طريق الهداية والرشد ، أمّا أعداؤه فهم في متاه الضلالة والغواية.

(فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) (١٦)

(اجتنب أصحاب هذه الصفات :) بعد أن تعرّضت الآيات السابقة إلى الأخلاق السامية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، تلتها الآيات أعلاه مستعرضة أخلاق أعدائه ليتّضح لنا الفرق بين الأخلاقيتين ، وذلك من خلال المقارنة بينهما. يقول تعالى في البداية : (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذّبِينَ).

٢٣٤

ثم يشير تعالى إلى جهد هؤلاء المتواصل في إقناع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بمصالحتهم والإعراض عن آلهتهم وضلالهم فيقول : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ).

«يدهنون : من مادة مداهنة مأخوذة في الأصل من (الدهن) وتستعمل الكلمة في مثل هذه الموارد بمعنى إظهار اللين والمرونة ، وفي الغالب يستعمل هذا التعبير في مجال إظهار اللين والميل المذموم كما في حالة النفاق.

ثم ينهى سبحانه مرّة اخرى عن اتّباعهم وطاعتهم ، حيث يسرد الصفات الذميمة لهم ، والتي كل واحدة منها يمكن أن تكون وحدها سبباً للإبتعاد عنهم والصدود عن الإستجابة لهم. يقول تعالى : (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ).

تقال كلمة حلّاف على الشخص الكثير الحلف ، والذي يحلف على كل صغيرة وكبيرة.

«مهين : من المهانة بمعنى الحقارة والضّعة.

ثم يضيف عزوجل : (هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ).

«همّاز : من مادة همز ، (على وزن رمز) ويعني : الغيبة وإستقصاء عيوب الآخرين.

«مشّاء بنميم تطلق على الشخص الذي يمشي بين الناس بإيجاد الإفساد والفرقة ، وإيجاد الخصومة والعداء فيما بينهم.

ثم يسرد تعالى أوصافاً اخرى لهم ، حيث يقول في خامس وسادس وسابع صفة ذميمة لأخلاقهم : (مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ).

ومن صفاتهم أيضاً أنّهم ليسوا فقط مجانبين لعمل الخير ، ولا يسعون في سبيله ، ولا يساهمون في إشاعته والعون عليه ... بل إنّهم يقفون سدّاً أمام أي ممارسة تدعو إليه ، ويمنعون كل جهد في الخير للآخرين ، وبالإضافة إلى ذلك فإنّهم متجاوزون لكل السنن والحقوق التي منحها الله عزوجل لكل إنسان ممّا تلطف به من خيرات وبركات عليه.

وفوق هذا فهم مدنسون بالذنوب ، محتطبون للآثام ، بحيث أصبح الذنب والإثم جزءاً من شخصياتهم وطباعهم التي هي منّاعة للخير ، معتدية وآثمة.

وأخيراً يشير إلى ثامن وتاسع صفة لهم حيث يقول تعالى : (عُتُلّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ).

«عتل : تطلق على الشخص الذي يأكل كثيراً ويحاول أن يستحوذ على كل شيء ، ويمنع الآخرين منه.

وفسّر البعض الآخر كلمة (عتلّ) بمعنى الإنسان السيء الطبع والخُلُق ، الذي تتمثّل فيه الخشونة والحقد ، أو الإنسان سيء الخُلُق عديم الحياء.

٢٣٥

«زنيم : تطلق على الشخص المجهول النسب ، والذي ينتسب لقوم لا نسبة له معهم.

والتعبير بشكل عام إشارة إلى أنّ هاتين الصفتين هما أشدّ قبحاً وضعة من الصفات السابقة.

وبهذه الصورة يوضّح لنا أنّ الأشخاص الذين وقفوا بوجه الإسلام والقرآن ، وعارضوا الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا من أخسّ الناس وأكثرهم كذباً وإنحطاطاً وخسّة ، فهم يتتبعون عيوب الآخرين ، نمّامون ، معتدون ، آثمون ، ليس لهم أصل ونسب.

ويحذّر سبحانه في الآية اللاحقة من الإستجابة لهم والتعامل معهم بسبب كثرة أموالهم وأولادهم ، بقوله : (أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ).

وممّا لا شك فيه أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن ليستسلم لهؤلاء أبداً ، وهذه الآيات ما هي إلّا تأكيد على هذا المعنى ، كي يكون خطّه الرسالي وطريقته العملية واضحة للجميع ، ولن تنفع جميع الاغراءات الماديّة في عدوله عن مهمّته الرسالية.

وتوضّح الآية اللاحقة ردود فعل هؤلاء الأشخاص ذوي الصفات الأخلاقية المريضة إزاء الآيات الإلهية ، حيث يقول تعالى : (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

وبهذا المنطق السقيم والحجج الواهية يعرض عن آيات الله عزوجل.

وتوضّح لنا آخر آية ـ من هذه الآيات ـ مفردة من مفردات الجزاء الذي سيلاقيه أمثال هؤلاء فيضيف سبحانه : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ).

وهذا التعبير كاشف ومعبّر عن سوء النهاية المذلّة لهؤلاء ، إذ جاء التعبير أوّلاً بالخرطوم الذي يستعمل للفيل وللخنزير فقط ، وهو دلالة واضحة في تحقيرهم.

وثانياً : أنّ الأنف في لغة العرب غالباً ما يستعمل كناية عن العزّة والعظمة ، كما يقال للفارس حين إذلاله : مرّغوا أنفه بالتراب ، كناية عن زوال عزّته.

وثالثاً : أنّ وضع العلامة تكون عادة للحيوانات فقط ، بل حتى بالنسبة إلى الحيوانات فإنّها لا تعلّم في وجوهها ـ خصوصاً انوفها ـ أضف إلى ذلك أنّ الإسلام قد نهى عن مثل هذا العمل.

ومع كل ما تقدّم تأتي الآية الكريمة ببيان معبّر وافٍ وواضح أنّ الله تعالى سيذلّ هؤلاء الطغاة الذين امتلؤا عجباً بذواتهم ، المتمادين في عنادهم وإصرارهم على الباطل ، وتجاوزهم على الرسول والرسالة ... سيذلّهم بتلك الصورة التي تحدثت عنها الآية ويفضحهم على رؤوس الأشهاد ليكونوا موضع عبرة للجميع.

٢٣٦

(إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (١٧) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (٢٣) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) (٢٥)

قصة (أصحاب الجنة) : في الآيات أعلاه يستعرض لنا القرآن الكريم ـ بما يتناسب مع البحث الذي ورد في الآيات السابقة ـ قصة أصحاب الجنة ... فالآيات الكريمة تذكر لنا قصة مجموعة من الأغنياء كانت لهم جنّة (بستان مثمر) إلّاأنّهم فقدوها فجأة. يقول تعالى : (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ).

وموضوع القصة هو : أنّ شيخاً مؤمناً طاعناً في السنّ كان له بستان عامر ، يأخذ من ثمره كفايته ويوزّع ما فضل من ثمرته للفقراء والمعوزين ، وقد ورثه أولاده بعد وفاته ، وقالوا : نحن أحق بحصاد ثمار هذا البستان ، لأنّ لنا عيالاً وأولاداً كثيرين ، ولا طاقة لنا بإتّباع نفس الاسلوب الذي كان أبونا عليه ... ولهذا فقد صمّموا على أن يستأثروا بثمار البستان جميعاً ، ويحرموا المحتاجين من أي عطاء منها ، فكانت عاقبتهم كما تحدّثنا الآيات الكريمة عنه ..

يقول تعالى : (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ).

«يصرمن من مادة صرم بمعنى حصد الفاكهة ، وبمعنى القطع المطلق.

(وَلَا يَسْتَثْنُونَ). أي : لا يتركون منها شيئاً للمحتاجين.

إنّ تصميمهم هذا ناشىء عن البخل وضعف الإيمان ، لأنّ الإنسان مهما اشتدّت حاجته ، فإنّه يستطيع أن يترك للفقراء شيئاً ممّا أعطاه الله.

ثم يضيف تعالى استمراراً لهذا الحديث : (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مّن رَّبّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ).

لقد سلّط الله عليها ناراً حارقة ، وصاعقة مهلكة ، بحيث أنّ جنّتهم صارت متفحّمة سوداء : (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ). ولم يبق منها شيء سوى الرماد.

«طائف : من مادة طواف وهي في الأصل بمعنى الشخص الذي يدور حول شيء معيّن ، كما تستعمل أحياناً كناية عن البلاء والمصيبة التي تحلّ في الليل ، وهذا المعنى هو المقصود هنا.

٢٣٧

«صريم : من مادة صرم بمعنى (القطع) وهنا بمعنى (الليل المظلم) أو (الشجر بدون الثمار) أو (الرماد الأسود). والمقصود بذلك هو : البلاء السماوي الذي تمثّل بصاعقة عظيمة ـ فيما يبدو ـ أحالت البستان إلى فحم ورماد أسود.

فإنّ أصحاب البستان بقوا على تصوّرهم لأشجار جنّتهم المملوءة بالثمر ، جاهزة للقطف : (فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ).

وقالوا : (أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ).

«أغدوا : من مادة غدوة بمعنى بداية اليوم.

وعلى ضوء المقدّمات السابقة : (فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ). (أَن لَّايَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مّسْكِينٌ).

ويرتقب الفقراء يوم الحصاد بفارغ الصبر في مثل هذه الأيّام ، لأنّهم تعوّدوا في كل سنة أن ينالهم شيء من الفاكهة كما كان يفعل ذلك الشيخ المؤمن ، إلّاأنّ تصميم الأبناء البخلاء على حرمان الفقراء من العطاء ، والسريّة التي غلفوا بها تحرّكاتهم ، لم تدع أحداً يتوقّع أنّ وقت الحصاد قد حان ... حيث يطّلع الفقراء على الأمر بعد انتهائه ، وبهذا تكون النتيجة : (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ).

«حرد : على وزن فرد بمعنى الممانعة التي تكون توأماً مع الشدّة والغضب.

(فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لَا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (٣٠) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (٣١) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (٣٣)

الآيات الشريفة ـ أعلاه ـ استمرار لقصّة أصحاب الجنة. يقول القرآن الكريم : (فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ).

ثم أضافوا : (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ). أي أردنا أن نحرم الفقراء والمحتاجين من العطاء إلّا أنّنا حرمنا أكثر من الجميع ، حرمنا من الرزق المادي ، ومن البركات المعنوية التي تحصل عن

٢٣٨

طريق الإنفاق في سبيل الله للفقراء والمحتاجين.

(قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَكُمْ لَوْلَا تُسَبّحُونَ).

ويستفاد مما تقدم أنّ أحدهم كان شخصاً مؤمناً ينهاهم عن البخل والحرص ، إلّاأنّهم كانوا لا يسمعون كلامه.

وتستيقظ ضمائرهم في تلك اللحظة ويعترفون بخطئهم وذنوبهم و (قَالُوا سُبْحَانَ رَبّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ).

إلّا أنّ المسألة لم تنته إلى هذا الحد ، حيث يقول تعالى : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلوَمُونَ).

والملاحظ من منطوق الآية أنّ كل واحد منهم في الوقت الذي يعترف بذنبه ، فإنّه يلقي بأصل الذنب على عاتق الآخر ، ويوبّخه بشدّة.

نعم ، هكذا تكون عاقبة كل الظالمين عندما يصبحون في قبضة العذاب الإلهي ، ومع الإقرار بالذنب فإنّ كلاً منهم يحاول التنصّل ممّا لحق بهم ، ويسعى جاهداً لتحويل مسؤولية البؤس والدمار على الآخرين.

ثم يضيف تعالى : (قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ).

لقد اعترفوا في المرحلة السابقة بالظلم ، وهنا اعترفوا بالطغيان ، والطغيان مرحلة أعلى من الظلم.

وأخيراً ـ بعد عودة الوعي إلى ضمائرهم وشعورهم ، بل وإعترافهم بالذنب والإنابة إلى الله ـ توجّهوا إلى الباريء عزوجل داعين ، وقالوا : (عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبّنَا رَاغِبُونَ). فقد توجّهنا إليه ونريد منه انقاذنا ممّا تورّطنا فيه ..

ويقول تعالى في آخر آية من هذه الآيات ، بلحاظ الإستفادة من هذا الدرس والإعتبار به : (كَذلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْأَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).

وهكذا توجّه الآية خطابها إلى كل المغرورين ، الذين سحرهم المال وأبطرتهم الثروة والإمكانات المادية ، وغلب عليهم الحرص والاستئثار بكل شيء دون المحتاجين ... بأنّه لن يكون لكم مصير أفضل من ذلك.

٢٣٩

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) (٤١)

إنّ طريقة القرآن الكريم في الكشف عن الحقائق ، واستخلاص المواقف ، تكون من خلال عملية مقارنة يعرضها الله سبحانه في الآيات الكريمة ، وهذا الاسلوب مؤثّر جدّاً من الناحية التربوية ... فمثلاً تستعرض الآيات الشريفة حياة الصالحين وخصائصهم وميزاتهم ومعاييرهم ... ثم كذلك بالنسبة إلى الطالحين والظالمين ، ويجعل كلّاً منهما في ميزان ، ويسلّط الأضواء عليهما من خلال عملية مقارنة ، للوصول إلى الحقيقة.

وتماشياً مع هذا المنهج وبعد استعراض النهاية المؤلمة ل (أصحاب الجنة) في الآيات السابقة ، يستعرض الباريء عزوجل حالة المتقين فيقول : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ).

«جنّات : من الجنة حيث كل نعمة متصوّرة على أفضل صورة لها تكون هناك ، بالإضافة إلى النعم التي لم تخطر على البال.

ولأنّ قسماً من المشركين والمترفين كانوا يدّعون علوّ المقام وسموّه في يوم القيامة كما هو عليه في الدنيا ، لذا فإنّ الله يوبّخهم على هذا الإدّعاء بشدّة في الآية اللاحقة ، بل يحاكمهم فيقول : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).

ثم يضيف تعالى أنّه لو لم يحكم العقل بما تدّعون ، فهل لديكم دليل نقلي ورد في كتبكم يؤيّد ما تزعمون : (أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ). أي : ما اخترتم من الرأي ... إنّ توقّعكم في أن تكون العناصر المجرمة من أمثالكم مع صفوف المسلمين وعلى مستواهم ... ، حديث هراء لا يدعمه العقل ، ولم يأت في كتاب يعتدّ به ولا هو موضع اعتبار.

ثم تضيف الآية اللاحقة أنّه لو لم يكن لديكم دليل من العقل أو النقل ، فهل أخذتم عهداً من الله أنّه سيكون معكم إلى الأبد : (أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ).

٢٤٠