مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

يوم عقاب العاصين وثواب المتقين ، يشير بقوله : (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ).

«الحق : هو الأمر الثابت واقعاً ، والذي تحققه قطعي. وهذا المعنى ينطبق تماماً على يوم القيامة ، لأنّه سيعطى كل إنسان حقّه ، إرجاع حقوق المظلومين من الظالمين ، وتتكشف كل الحقائق التي كانت مخفية على الآخرين .. فإنّه بحق : يوم الحق ، وبكل ما تحمل الكلمة من معنى.

وإذا ما التفت الإنسان إلى هذه الحقيقة (حقيقة يوم القيامة) فسيتحرك بدافع قوي نحو الله عزوجل للحصول على رضوانه سبحانه بإمتثال أوامره تعالى .. ولهذا يقول القرآن مباشرة : (فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ مَابًا).

فجميع مستلزمات التوجه والحركة نحو الله متوفرة بعد أن بيّن طريق الحق وأشار إلى معالم سبل الشيطان ، بلغ الله أوامره بواسطة الأنبياء والرسل وبالقدر الكافي ، أودع في الإنسان العقل (النبي الباطن) ، رغّب المتقين بالمفاز ، أنذر المجرمين عذاباً أليماً ، عيّن يوماً لمحكمة العدل الإلهي بيّن اسلوب المحاكمة ، ولم يبق للإنسان سوى اختيار ما يتخذه إلى ربّه مآباً ، وبمحض إرادته.

ثم يؤكّد القرآن على مسألة عقاب المجرمين الذين يتوهمون أنّه يوم بعيد أو نسيئة ، يقول القرآن ... إنّ عقاب المجرمين لواقع ، ويوم القيامة لقريب : (إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا).

ويقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في الخطبة (١٠٣) نهج البلاغة : كل آت قريب دان.

ولِم لا يكون قريباً ما دام الأساس في العذاب الإلهي هو نفس أعمال الإنسان والتي هي معه على الدوام : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) (١).

وبعد أن وجّه الإنذار للناس ، يشير القرآن إلى حسرة الظالمين والمذنبين في يوم القيامة ، حين لا ينفع ندم ولا حسرة ، إلّامن أتى الله بقلب سليم : (يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِى كُنتُ تُرَابًا).

وأساساً فإنّ تجسّم الأعمال ومرافقتها للإنسان من أفضل المكافآت للمطيعين وأشدّ عقوبة للعاصين.

نعم ، فقد يصل الأمر بالإنسان ، وعلى الرغم من كونه أشرف المخلوقات ، لأنّ يتمنى أن يكون والجمادات بدرجة واحدة ، لما بدر منه من كفر وذنوب.

__________________

(١) سورة العنكبوت / ٥٤.

٣٦١

وتصور لنا الآيات القرآنية أحوال الكافرين والمجرمين ، وشدّة تأثرهم وتأسفهم وندمهم على ما فعلوا في دنياهم ، يوم الفزع الأكبر ، فتقول الآية (٥٦) من سورة الزمر : (يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِى جَنبِ اللهِ).

وتقول الآية (١٢) من سورة السّجدة : (فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا).

أو ما يقوله كل فرد منهم ـ كما جاء في الآية المبحوثة ـ : (يَا لَيْتَنِى كُنتُ تُرُابًا).

نهاية تفسير سورة النبأ

* * *

٣٦٢

٧٩

سورة النازعات

محتوى السورة : تتلخص مواضيع هذه السورة بستة أقسام :

١ ـ التأكيد مراراً على مسألة المعاد وتحققه الحتمي.

٢ ـ الإشارة إلى أهوال يوم القيامة.

٣ ـ عرض سريع لقصة موسى عليه‌السلام مع الطاغي فرعون ، تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين ، وإنذاراً للمشركين الطغاة ، وإشارة إلى ما يترتب على إنكار المعاد من سقوط في مستنقع الرذيلة.

٤ ـ طرح بعض النماذج والمظاهر لقدرة الباري سبحانه في السماء والأرض ، للاستدلال على إمكان المعاد والحياة بعد الموت.

٥ ـ تعود الآيات مرّة اخرى ، لتعرض بعض حوادث اليوم الرهيب ، وما سيصيب الطغاة من عقاب وما سينال الصالحون من ثواب.

٦ ـ وفي النهاية ، يأتي على خفاء تاريخ وقوع يوم القيامة ، والتأكيد على حتمية وقوعه وقربه.

سميت السورة ب (النازعات) لورود هذه الكلمة في أوّل آية منها.

فضيلة تلاوة السورة : في المجمع : ابي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ومن قرأ سورة

٣٦٣

والنازعات لم يكن حبسه وحسابه يوم القيامة إلّاكقدر صلاة مكتوبة حتى يدخل الجنة.

وليس غربياً أن ينال الإنسان بكل ما ذكر جزاءً من عند الله ، إذا ما أمعن في محتوى السورة وتدبّر إشاراتها الموقظة للنفوس الغافلة ، والمعرّفة بوظائف الإنسان في حياته ، فمن لم يكتف بترديد ألفاظ السورة ، وعمل بها بعد الإمعان والتدبر فحري أن يجزى بما وعد الحق.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً) (٥)

القسم بالملائكة : جاء القَسم القرآني بخمسة أشياء مهمة ، لتبيان حقيقة وحتمية تحقق يوم القيامة (المعاد) ، فيقول : (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ...).

«النازعات : من النزع ، ونزع الشيء جذبه من مقرّه.

«الغَرق : هو الرسوب في الماء ، ويأتي كذلك فيمن غمره البلاء ؛ والمقصود في هذه الآية ليس الغرق في الماء ، بل هو القيام بعمل ما إلى أقصى حدّ ممكن.

«النّاشطات : من النشط ، هي العُقد التي يسهل حلها ، فيكون المعنى عموماً : هو التحرك بسهولة.

«السابحات : من السبح ، وهو الحركة السريعة في الماء أو الهواء.

«السابقات : من السبق ، وهو التقدم في السير.

«المدبرات : من التدبير ، وهو التفكير في عاقبة الامور ، وأرادت الآية القيام بالأعمال على أحسن وجه.

وبعد هذه التعريفات الموجزة نشرع بالتفسير :

إنّ القسم المذكور يتعلق بالملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفار والمجرمين ، ولكون تلك الأرواح قد رفضت التسليم للحق ، فيكون فصلها عن أجسادها بشدّة.

ويتعلق كذلك ، بالملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين برفق ويُسر ، وسرعة في إتمام الأمر.

والملائكة التي تسرع في تنفيذ الأوامر الإلهية.

ثم الملائكة التي تتسابق في تنفيذ الأوامر الإلهية.

٣٦٤

وأخيراً ، يتعلق القسم بالملائكة التي تدبّر شؤون العالم بأمره سبحانه وتعالى.

(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (٨) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (١٠) أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً (١١) قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) (١٤)

صيحة الموت المرعبة : بعد أن أكّد القرآن الكريم على حقيقة القيامة وحتمية وقوعها في الآيات السابقة ، تتعرض الآيات أعلاه لبعض ما يصاحب يوم القيامة من علامات وأحداث ، فتقول : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ). أي : يوم تحدث الزلزلة العظيمة المهولة.

ثم : (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ).

«الراجفة : من الرجف ، بمعنى الإضطراب والتزلزل.

«الرادفة : من الردف ، وهو الشخص أو الشيء الذي يأتي بعد نظيره تتابعاً.

إنّ الراجفة هي الصيحة ونفخة الصور الاولى التي تعلن عن موت جميع الخلائق ، والرادفة هي الصيحة ونفخة الصور الثانية التي يبعث فيها الخلق مرّة اخرى ليعيشوا يوم القيامة.

وتأتي الآية الاخرى لتقول : (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ).

فقلوب العاصين شديدة الإضطراب خوفاً من الحساب والجزاء.

ويكون التزلزل الداخلي من الشدّة بحيث يظهر على وجوه كل المذنبين ، ولذا يقول القرآن : (أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ).

فيبدو الإضطراب والخوف ظاهراً على أعين المذنبين ، وتتوقف حركتها وكأنّها قد فقدت حاسة النظر لما أصابها من خوف شديد.

وفي الآية التالية ينتقل الحديث من أخبار يوم القيامة إلى الحياة الدنيا : (يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ).

«الحافرة : من الحفر بمعنى شقّ الأرض ، وما ينتج من ذلك يسمى (حفرة). والحافرة : كناية لمن يُرد من حيث جاء ، كما لو سار إنسان على أرض ، فيترك فيها حفراً لتحمل آثار قدمه ، ثم يعود إلى نفس تلك الحفر ، فالحافرة : تعني الحالة الاولى.

٣٦٥

وتستمر الآية في سرد كلامهم : (أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً).

فهكذا هو حال ودأب منكري المعاد وعلى الدوام باستفسارهم الدائم حول المعاد ، وبقولهم المعروف : كيف للعظام البالية النخرة والتي تحولت إلى ذرات تراب أن تعود مرّة اخرى جسماً كاملاً ، والأكثر من هذا .. أن تسري فيه الحياة؟ ولكنّهم لم يفقهوا إلى أنّهم خلقوا من ذلك التراب ، فكيف أصبحوا بهذه الهيئة الحيّة بعد أن لم يكونوا شيئاً؟

ولا يكتفي منكرو المعاد بحال الإعتراض على ما وعدهم به الباري سبحانه ، بل وتحولوا إلى حال الإستهزاء بأحد اصول دين الله : (قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ).

وفي آخر آية من الآيات المبحوثة يعود القرآن الكريم إلى مسألة القيامة ، وبلسان قاطع ، يقوق : (فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ).

فالأمر ليس بمستصعب على الخالق القادر ، فما أن يصدر الأمر الإلهي لنفخة الصور الثانية حتى تعود الحياة ثانية إلى جميع الخلائق ، نعم .. فتشرع كل تلك العظام النخرة وما صار منها تراباً للتجمع على الهيئة الاولى ، وليخرج الناس من قبورهم بعد أن تسري فيهم روح الحياة.

«الزجرة : بمعنى صيحة بشدّة وانتهار ، ويراد بها : نفخة الصور الثانية.

«الساهرة : من السهر ، وهو الأرق ، وقيل : لأرض القيامة الساهرة لذهاب النوم عن العيون لما سيصابون به من أهوال مرعبة.

(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (١٥) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (١٦) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (١٩) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصَى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (٢٢) فَحَشَرَ فَنَادَى (٢٣) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى) (٢٦)

يشير القرآن الكريم بهذه المقاطع البيانية إلى بعض مشاهد قصة موسى عليه‌السلام وفرعون ، والتي تتناول عاقبة الطغاة عبر التاريخ ، وما حدى بفرعون من مصير أسود ، ليستذكر مشركو قريش وطغاتهم تلك الواقعة ، وليعلموا أن من كان أقوى منهم لم يتمكن من مقاومة العذاب الإلهي.

٣٦٦

ويشير البيان القرآني كذلك ، إلى المؤمنين بأن لا يخافوا من قوّة الأعداء الظاهرية ، لأنّ دمارهم وهلاكهم على الله أسهل من أن يتصور .. فهذا البيان القرآني إذاً ، تسلية لقلوب المؤمنين وترطيباً لخواطرهم.

فيتوجه الحديث إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بصيغة الإستفهام : (هَلْ أَتَيكَ حَدِيثُ مُوسَى). ليشوق السامع ويهيئه لاستماع القصة ذات العبر.

ثم يقول : (إِذْ نَادَيهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى).

«طوى : يمكن أن يكون اسماً لأرض مقدّسة ، تقع في الشام بين (مدين) و (مصر) ، وهو الوادي الذي كلّم الله تعالى فيه موسى عليه‌السلام أوّل مرّة.

ثم أشار القرآن إلى تعليمات الله عزوجل إلى موسى عليه‌السلام في الواد المقدس : (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى). وبعد التزكية وتطهير الذات تصبح لائقاً للقاء الله ، وسوف أهديك إليه عسى أن تخشع وتترك ما أنت عليه من المنكرات : (وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبّكَ فَتَخْشَى).

ولمّا كانت كل دعوة تحتاج إلى دليل صحتها ، يضيف القرآن القول : (فَأَرَيهُ الْأَيَةَ الْكُبْرَى).

ولكن ، ما الآية الكبرى؟ هل هي عصا موسى عليه‌السلام التي تحولت إلى أفعى عظيمة ، أو إخراج يده بيضاء ، أم كليهما؟ وعلى أيّة حال ، فالمهم في المسألة إنّ موسى عليه‌السلام استند في بدء دعوته على معجزة الآية الكبرى.

وتبيّن لنا هذه الملاحظة : إنّ من جملة الأهداف المهمّة في حركة الأنبياء هي هداية الطغاة أو مجاهدتهم.

لكن فرعون المتجبّر قابل كل تلك المحبة ، اللطف ، الدعوة بالحسنى والآية الكبرى ، قابل كل ذلك بالتجبّر الأعمى والغرور الأبله : (فَكَذَّبَ وَعَصَى).

وكما يظهر من الآية المباركة فإنّ التكذيب مقدمة العصيان ومرحلة سابقة له ، كما هو حال التصديق والإيمان باعتباره مقدمة للطاعات.

وازداد فرعون عتوّاً : (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى).

وقد هددت معجزة موسى عليه‌السلام كل وجود فرعون الطاغوتي ، مما دعاه لأن يبذل كل ما يملك من قدرة لأجل إبطال مفعول المعجزة ، فتراه وقد أمر أتباعه وجنوده لجمع كل سحرة

٣٦٧

البلاد ـ على كثرتهم في تلك الحقبة الزمنية ـ ونودي في الناس بأمره ليشاهدوا مشهد إبطال المعجزة من قبل السحرة ، وليظهروا مثلها : (فَحَشَرَ فَنَادَى).

ولم يكتف فرعون بكذبه وعصيانه ، ومقاومته لدعوة الحق والوقوف أمامها ، بل وتعدى حدود المخلوق بصورة مفرطة جدّاً ، وافترى على الله وعلى نفسه بأقبح ادعاء ، حينما ادعى لنفسه الربوبية على شعبه وأمرهم بطاعته : (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى).

فادّعاءه بأنّه (الربّ الأعلى) قد سرى حكمه حتى على آلهته لتكون من عبيده! .. نعم ، فهكذا هو هذيان الطواغيت.

وعلى أيّة حال ، فقد حلّ بفرعون منتهى التكبر والطغيان ، فأخذه جبّار السماوات والأرض سبحانه أخذ عزيز مقتدر : (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الْأَخِرَةِ وَالْأُولَى).

«النكال : لغةً : العجز والضعف. ويقال لمن يتخلف عن دفع ما استحق عليه (نكل).

و (النِكل) ـ على وزن فكر ـ القيد الشديد الذي يعجز معه الإنسان على عمل أيّ شيء.

ونكال : في الآية يقال للعذاب الإلهي الذي يؤدّي إلى عجز الإنسان ، ويُخيف الآخرين ، فيعجزهم عن ارتكاب الذنب.

«نكال الآخرة : عذاب جهنم الذي سينال فرعون وأصحابه ومَن سار على خطوه ؛ وعذاب الاولى : إشارة إلى إغراق فرعون وأصحابه في نهر النيل.

وتقديم نكال الآخرة على عذاب الدنيا ، لأهميته وشدّة بطشه.

وقيل : الاولى : تشير إلى كلمة فرعون الاولى في مسير طغيانه حين ادّعى (الالوهية) ، كما جاء في الآية (٣٨) من سورة القصص.

والآخرة : إشارة إلى آخر كلمة نطق بها فرعون حين ادّعى (الربوبية العليا) ، فعذّبه الله بالغرق في الحياة الدنيا نتيجة ادّعائيه الباطلين.

ويوافق هذا المعنى صيغة الفعل الماضي الواردة في الآية أخذ والذي يفهم منه تنفيذ كل العقاب في الدنيا ، وتعضده الآية التالية التي تَعِدّ العذاب عبرةً للآخرين.

ويستخلص القرآن نتيجة القصة : (إِنَّ فِى ذلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى).

فتبيّن الآية إنّ وسائط سلك طريق الإعتبار مهيئة لمن سرى في قلبه الخوف والخشية من الله ، واعترته مشاعر الإحساس بالمسؤولية ، ومَن رأى العبرة بعين معتبرة اعتبر.

٣٦٨

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (٢٧) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحَاهَا (٣٠) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (٣١) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (٣٢) مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) (٣٣)

اللمسات الربانية في عالم الطبيعة ونظام الكون : ينتقل البيان القرآني مرّة اخرى إلى عالم القيامة ، بعد ذكر تلك اللمحات البلاغية في قصة موسى عليه‌السلام مع فرعون. وابتدأ الخطاب باستفهام توبيخي (لمنكري المعاد) هل أنّ خلقكم (وإعادتكم إلى الحياة بعد الموت) أصعب من خلق السماء : (ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا).

والآية في واقعها جوابٌ لما ذكر من قولهم في الآيات السابقة : (أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ) ـ أي هل يمكن أن نعود إلى حالتنا الاولى ـ فكل إنسان ومهما بلغت مداركه ومشاعره من مستوى ، ليعلم أنّ خلق السماء وما يسبح فيها من نجوم وكواكب ومجرّات ، لهو أعقد وأعظم من خلق الإنسان ... وإذاً فمن له القدرة على خلق السماء وما فيها من حقائق ، أيعقل أن يكون عاجزاً عن إعادة الحياة مرّة اخرى إلى الناس؟!

ويضيف القرآن في بيان خلق السماء ، فيقول شارحاً بتفصيل : (رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّيهَا).

وقيل : إنّ الآية تشير إلى ارتفاع السماء والأجرام السماوية وبعدها الشاسع عن الأرض ، بالإضافة لإشارتها للسقف المحفوظ ، والغلاف الجوي الذي حفّ وأحاط بالكرة الأرضية.

ثم تنتقل بنا الآية التالية إلى إحدى الأنظمة الحاكمة في هذا العالم الكبير ، (نظام النور والظلمة) : (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحهَا).

فلكلّ من النور والظلمة دور أساس ومهم جدّاً في حياة الإنسان وسائر الأحياء من حيوان ونبات ، فلا يتمكن الإنسان من الحياة دون النور ، لما له من إرتباط وثيق في حركة وإحساس ورزق وأعمال الإنسان ، وكذا لا يتمكن من تكملة مشوار حياته من غير الظلمة ، والتي تعتبر رمز الهدوء والسكينة.

«أغطش : من الغطش ، بمعنى الظلام.

«الضحى : إنبساط الشمس وإمتداد النهار.

وتنتقل بنا الآية الاخرى من السماء إلى الأرض ، فتقول : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحهَا).

٣٦٩

«دحاها : من الدحو بمعنى الإنبساط ، وفسّرها بعضهم بتحريك الشيء ونقله من مكانه. وللمعنيين أصل واحد ، لوجود التلازم بينهما.

ويقصد بدحو الأرض ، إنّها كانت في البداية مغطاة بمياه الأمطار الغزيرة التي انهمرت عليها من مدّة طويلة ، ثم استقرت تلك المياه تدريجياً في منخفظات الأرض ، فشكلت البحار والمحيطات ، فيما علت اليابسة على أطرافها ، وتوسعت تدريجياً ، حتى وصلت لما هي عليه الآن من شكل ، (وحدث ذلك بعد خلق السماء والأرض).

وبعد دحو الأرض ، وإتمام صلاحيتها لسكنى وحياة الإنسان ، يأتي الحديث في الآية التالية عن الماء والنبات معاً : (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعهَا).

ويظهر من التعبير القرآني ، إنّ الماء قد نفذ إلى داخل الأرض باديء ذي بدء ، ثم خرج على شكل عيون وأنهار ، حتى تشكلت منهما البحيرات والبحار والمحيطات.

«المرعى : اسم مكان من (الرعي) ، وهو حفظ ومراقبة امور الحيوان من حيث التغذية وما شابهها. ولهذا ، تستعمل كلمة (المراعاة) بمعنى المحافظة والمراقبة وتدبير الامور.

ثم ينتقل البيان القرآني إلى الجبال ، حيث ثمّة عوامل تلعب الدور المؤثر في استقرار وسكون الأرض ، مثل : الفيضانات ، العواصف العاتية ، المدّ والجزر ، والزلازل .. فكل هذه العوامل تعمل على خلخلة استقرار الأرض ، فجعل الله عزوجل الجبال تثبيتاً للأرض ، ولهذا تقول الآية : (وَالْجِبَالَ أَرْسهَا).

«أرسى : من رسو ، بمعنى الثبات ، وأرسى : فعل متعد ؛ أي ، ثبّت الجبال في مواقعها.

وتلخص الآية التالية ما جاء في الآيات السابقة : (مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ).

كل ذلك ، ليغرف الإنسان من نِعم الله.

وما جاء في الآيات يبرز قدرته سبحانه على المعاد من جهة ، ويدلل من جهة اخرى على وجود الله تعالى وعظمة شأنه ، ليدفع المخلوق إلى الإذعان بسلامة سلك طريق معرفة الله وتوحيده.

(فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (٣٧) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (٤١)

٣٧٠

التنزّه عن الهوى : وتتجه عدسة آيات القرآن الكريم لتعرض لنا جوانباً من صور عالم القيامة ، وتبدأ بتصوير تلك الداهية المذهلة التي تصيب مَن عبد أهواءه في الحياة الدنيا : (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى).

«الطامة : من الطم وهو في الأصل بمعنى ملء الفراغ والحفر ، ويطلق بالطامة على كل شيء بلغ حدّه الأعلى ، ولهذا فقد اطلقت على الحوادث المرّة والصعاب الكبار ، وهي في الآية تشير إلى يوم القيامة لما فيها من دواهي تغطي بهولها كل هول ، واتبعت ب الكبرى زيادة في التأكيد على أهمية وخطورة يوم القيامة.

ويضيف : حال حلول الحدث ... سيستيقظ الجميع من غفلتهم ، ويتذكروا ما زرعوا لحياتهم : (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسنُ مَا سَعَى).

وأنى للتذكر بعد فوات الأوان!

وإذا طلبوا الرجوع إلى الدنيا لإصلاح ما أفسدوا ويتداركوا الأمر ، فسيقرعون ب (كَلَّا).

وإذا ما اعتذروا تائبين ، فلا محيص عن ردّهم ، بعد أن أوصدت أبواب التوبة بأمر الجبّار الحكيم.

نعم ، وقد ازيلت الحجب عن قلبه وروحه ، سيرى الحقائق بعينها شاخصة أمامه ، ولا ينسى حينها ما اكتسبت يداه من أعمال.

وتتحرك الآية التالية لوصف ما سيقع : (وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى).

فالجحيم موجودة ، كما تشير إلى ذلك الآية (٥٤) من سورة العنكبوت : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ). ولكن حجب الدنيا تمنعنا من رؤيتها ، وأمّا في يوم الفصل ، يوم البروز ، فسيبرز كل شيء ولا يستثنى من ذلك جهنم.

وفي الآيات الثلاثة التالية ، يشير القرآن إلى حال المجرمين والطغاة يوم القيامة : (فَأَمَّا مَن طَغَى * وَءَاثَرَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى).

والآية الاولى تشير إلى فساد عقائد الطغاة ، لأنّ الطغيان ينشأ من الغرور ، والغرور من نتائج عدم معرفة الباري جّل شأنه.

وبمعرفة عظمة وجلال الله يتصاغر الإنسان حتى يكاد لا يرى لنفسه أثراً ، وعندها سوف لن تزل قدمه عن جادة العبودية الحقة ، مادام سلوكه يصب في رافد معرفة الله.

والآية الثانية تشير إلى فسادهم العملي ، لأنّ الطغيان يوقع الإنسان في شراك اللذائذ الوقتية الفانية ذروة الطموح ومنتهى الأمل ، فينساق واهماً لأن يجعلها فوق كل شيء.

٣٧١

والأمران في واقعهما كالعلّة والمعلول ، فالطغيان وفساد العقيدة مفتاح فساد العمل وحبّ الدنيا المفرط ، ولا يجران إلّاإلى سوء عقبى الدار ، نار جهنم خالدين فيها أبداً.

ويأتي الدور في الآيتين التاليتين لوصف أهل الجنة : (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى).

فالشرط الأوّل للحصول على نعم الجنة والإستقرار بها هو الخوف من الله من خلال معرفته (معرفة الله والخوف من التمرد والعصيان على أوامره) ، والشرط الثاني هو ثمرة ونتيجة الشرط الأوّل أي الخوف والمعرفة ويتمثل في السيطرة على هوى النفس وكبح جماحها ، فهوى النفس من أقبح الأصنام المعبودة من دون الله.

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (٤٣) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (٤٤) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) (٤٦)

تتعرض الآيات أعلاه لإجابة المشركين ومنكري المعاد حول سؤالهم الدائم عن وقت قيام الساعة (يوم القيامة) ، فتقول أوّلاً : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسهَا).

والقرآن في مقام الجواب يسعى إلى إفهامهم بأنّه لا أحد يعلم بوقت وقوع القيامة ، ويوجه الباري خطابه إلى حبيبه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بأنّك لا تعلم وقت وقوعها ، ويقول : (فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَيهَا).

فما خفي عليك (يا محمّد) ، فمن باب أولى أن يَخفى على الآخرين ، والعلم بوقت قيام القيامة من الغيب الذي اختصه الله لنفسه ، ولا سبيل لمعرفة ذلك سواه إطلاقاً.

وتقول الآية التالية : (إِلَى رَبّكَ مُنتَههَا).

ويؤكّد القرآن هذا المعنى في الآية (٣٤) من سورة لقمان : (إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ).

وفي الآية (١٨٧) من سورة الأعراف : (قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبّى).

وتسهم الآية التالية في التوضيح : (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشهَا).

إنّما تكليفك هو دعوة الناس إلى الدين الحق ، وإنذار من يأبى بعقاب اخروي أليم ، وما عليك تعيين وقت قيام الساعة.

وتأتي آخر آية من السورة لتبيّن أنّ ما تبقى من الوقت لحلول الوعد الحق ليس بالكثير : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحهَا).

نهاية تفسير سورة النّازعات

* * *

٣٧٢

٨٠

سورة عبس

محتوى السورة : يمكن ادراج محتويات السورة في خمسة مواضيع أساسية :

١ ـ عتاب إلهي شديد لمن واجه الأعمى الباحث عن الحق باسلوب غير لائق.

٢ ـ أهمية القرآن الكريم.

٣ ـ كفران الإنسان بالنعم والمواهب الإلهية.

٤ ـ بيان جانب من النعم الإلهية في مجال تغذية الإنسان والحيوان لاثارة حس الشكر في الإنسان.

٥ ـ الإشارة إلى بعض الحوادث الرهيبة ومصير المؤمنين والكفار في ذلك اليوم العظيم.

وتسمية السورة ب (عبس) لورود هذه الكلمة في أوّل آية منها.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ومن قرأ سورة عبس جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (٢) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَمَا عَلَيْكَ أَنْ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (٨) وَهُوَ يَخْشَى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (١٠)

٣٧٣

سبب النّزول

تبيّن الآيات المباركة عتاب الله تعالى بشكل إجمالي ، لشخص قدّم المال والمكانة الإجتماعية على طلب الحق ... أمّا مَن هو المعاتَب؟ فقد اختلف فيه المفسرون ، لكن المشهور بين عامّة المفسرين وخاصتهم ، ما يلي :

إنّها نزلت في عبد الله بن ام مكتوم ، وذلك أنّه أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يناجي عتبة بن ربيعة ، وأبا جهل بن هشام ، والعباس بن عبد المطلب ، وابيّاً واميّة إبني خلف ، يدعوهم إلى الله ، ويرجو إسلامهم. فقال : يا رسول الله! أقرئني وعلمني ممّا علمك الله ، فجعل يناديه ويكرر النداء ، ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره ، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لقطعه كلامه ، وقال في نفسه : يقول هؤلاء الصناديد ، إنّما أتباعه العميان والعبيد ، فأعرض عنه ، وأقبل على القوم الذين يكلمهم ، فنزلت الآيات. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ذلك يكرمه (١).

والآية لم تدل صراحة على أنّ المخاطب هو شخص النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلى فرض صحة شأن النزول آنفة الذكر ، فإنّ فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والحال هذه لا يخرج من كونه (تركاً للأولى) ، وهذا ما لا ينافي العصمة.

التّفسير

عتاب ربّاني : بعد أن تحدثنا حول شأن نزول الآيات ، ننتقل إلى تفسيرها :

يقول القرآن أوّلاً : (عَبَسَ وَتَوَلَّى).

لماذا؟ : (أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى. وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) ، ويطلب الإيمان والتقوى والتزكية.

(أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذّكْرَى) ، فإن لم يحصل على التقوى ، فلا أقل من أن يتذكر ويستيقظ من الغفلة ، فينفعه ذلك.

ويستمر العتاب ... : (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى) ، مَن اعتبر نفسه غنياً ولا يحتاج لأحد.

(فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى) ، تتوجّه إليه ، وتسعى في هدايته ، في حين أنّه مغرور لما أصابه من الثروة ، والغرور يولّد الطغيان والتكبر.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ١٠ / ٢٦٥.

٣٧٤

(وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى). أي في حين لو لم يسلك سبيل التقوى والإيمان ، فليس عليك شيء.

فوظيفتك البلاغ ، سواء آمن السامع أم لم يؤمن ، وليس لك أن تهمل الأعمى الذي يطلب الحق ، وإن كان هدفك أوسع ويشمل هداية كل اولئك الأغنياء المترفين أيضاً.

ويأتي العتاب مرّة اخرى تأكيداً : (وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى) ، في طلب الهداية ...

(وَهُوَ يَخْشَى). فخشيته من الله هي التي دفعته للوصول إليك ، كي يستمع إلى الحقائق ليزكّي نفسه فيها ، ويعمل على مقتضاها.

(فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (١).

فالعتاب سواء كان موجه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو إلى غيره ، فقد جاء ليكشف عن اهتمام الإسلام أو القرآن بطالبي الحق ، والمستضعفين منهم بالذات.

وعلى العكس من ذلك حدّة وصرامة موقف الإسلام والقرآن من الأثرياء المغرورين إلى درجة أنّ الله لا يرضى بإيذاء رجل مؤمن مستضعف لغرض هدايتهم.

(كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) (٢٣)

تأتي هذه الآيات المباركة لتشير إلى أهمية القرآن وطهارته وتأثيره في النفوس ، بعد أن تناولت الآيات التي سبقتها موضوع (الإعراض عن الأعمى الذي جاء لطلب الحق) ، فتقول : (كَلَّا). فلا ينبغي لك أن تعيد الكرّة ثانية.

(إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ). إنّما الآيات القرآنية تذكرة للعباد ، فلا ينبغي الإعراض عن المستضعفين من ذوي القلوب النقية الصافية والتوجه إلى المستكبرين ، اولئك الذين ملأ الغرور نفوسهم المريضة.

ويحتمل أيضاً ، كون الآيات (كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ) جواب لجميع التهم الموجهة ضد القرآن من قبل المشركين وأعداء الإسلام.

__________________

(١) التلهي : من اللهو ويأتي هنا بمعنى الغفلة عنه والإستغفال بغيره ، ليقف في قبال التصّدي.

٣٧٥

تقول الآية : إنّ الأباطيل والتهم الزائفة التي افتريتم بها على القرآن من كونه شعر أو سحر أو نوع من الكهانة ، لا يمتلك من الصحة شيئاً ، وإنّما الآيات القرآنية آيات تذكرة وإيمان ، ودليلها فيها.

وتشير الآية التالية إلى اختيارية الهداية والتذكّر : (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ).

نعم ، فلا إجبار ولا إكراه في تقبل الهدي الرباني ، فالآيات القرآنية مطروحة وأسمعت كل الآذان ، وما على الإنسان إلّاأن يستفيد منها أو لا يستفيد.

ثم يضيف : أنّ هذه الكلمات الإلهية الشريفة مكتوبة في صحف (ألواح وأوراق) : (فِى صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ).

إنّ تعبير الصحف يوضّح لنا أنّ القرآن قد كُتب على ألواح من قبل أن يُنزّل على النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووصلت إليه بطريق ملائكة الوحي ، والألواح بطبيعتها جليلة القدر وعظيمة الشأن.

وهذه الصحف المكرمة : (مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ). فهي مرفوعة القدر عند الله ، وأجلّ من أن تمتد إليها أيدي العابثين وممارسات المحرّفين ، ولكونها خالية من قذارة الباطل ، فهي أطهر من أن تجد فيها أثراً لأيّ تناقض أو تضاد أو شك أو شبهة.

وهي كذلك : (بِأَيْدِى سَفَرَةٍ) ، سفراء من الملائكة.

وهؤلاء السفراء : (كِرَامٍ بَرَرَةٍ).

«سفرة : جمع (سَافِرْ) من (سَفَر) ، ولغةً : بمعنى كشف الغطاء عن الشيء ، ولذا يطلق على الرسول ما بين الأقوام (السفير) لأنّه يزيل ويكشف الوحشة فيما بينهم ، ويطلق على الكاتب اسم (السافر) ، وعلى الكتاب (سِفر) لما يقوم به من كشف موضوع ما ... فالسفرة هنا ، بمعنى : الملائكة الموكلين بإيصال الوحي الإلهي إلى النبي ، أو الكاتبين لآياته.

في تفسير مجمع البيان : روى فضيل بن يسار عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة.

يجعل الحافظين للقرآن العاملين به في درجة السفرة الكرام البررة ، فليسوا هم السفرة بل في مصافهم ، لأنّ جلالة مقام حفظهم وعملهم ، يماثل ما يؤديه حملة الوحي الإلهي.

«كرام : جمع كريم ، بمعنى العزيز المحترم ، وتشير كلمة كرام في الآية إلى عظمة ملائكة الوحي عند الله وعلوّ منزلتهم.

٣٧٦

«بررة : جمع بار ، من البَرّ ، بمعنى التوسع ، ولذا يطلق على الصحراء الواسعة اسم (البَرْ) ، كما يطلق على الفرد الصالح اسم (البار) لوسعة خيره وشمول بركاته على الآخرين.

والبررة : في الآية ، بمعنى إطاعة الأمر الإلهي ، والطهارة من الذنوب.

وعلى الرغم من توفير مختلف وسائل الهداية إلى الله ، ومنها ما في الصحف المكرمة من تذكير وتوجيه .. ولكن الإنسان يبقى عنيداً متمرداً : (قُتِلَ الْإِنسنُ مَا أَكْفَرَهُ).

«الكفر : في هذا الموضع قد يحتمل على ثلاثة معان ... عدم الإيمان ، الكفران وعدم الشكر ... جحود الحق وستره بأيّ غطاء كان وعلى كل المستويات.

(قُتِلَ الْإِنسنُ) : كناية عن شدّة غضب الباري جلّ وعلا ، وزجره لمن يكفر بآياته.

ثم يتعرض البيان القرآني إلى غرور الإنسان الواهي ، والذي غالباً ما يوقع صاحبه في هاوية الكفر والجحود السحيقة : (مِنْ أَىّ شَىْءٍ خَلَقَهُ).

لقد خلقه من نطفة قذرة حقيرة ، ثم صنع منه مخلوقاً موزوناً مستوياً قدّر فيه جميع اموره في مختلف مراحل حياته : (مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ).

فالنظرة الفاحصة الممعنة في خلق الإنسان من نطفة قذرة وتحويله إلى هيئته التامّة المقدرة من كافة الجهات ، ومع ما منحه الله من مواهب وإستعدادات ... لأفضل دليل يقودنا بيسر إلى معرفته جلّ اسمه.

«قدّره : من التقدير ، وهو الحساب في الشيء.

والتقدير بمعنى إيجاد القدرة في هذه النطفة المتناهية في الصغر.

فما أجلّ الإله الذي الذي جعل في موجود ضعيف كل هذه القدرة والإستطاعة ، فترى النطفة بعد أن تتحول إلى الإنسان تسير وتتحرك بين أقطار السماوات والأرض ، وتغوص في أعماق البحار وقد سخرت لها كل ما يحيط بها من قوى.

ويستمر القرآن في مشوار المقال : (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) ... يسّر له طريق تكامله حينما كان جنيناً في بطن امّه ، يسّر له سبيل خروجه إلى الحياة من ذلك العالم المظلم.

ومن عجيب خلق الإنسان أنّه قبل خروجه من بطن امّه يكون على الهيئة التالية : رأسه إلى الأعلى ورجليه إلى الأسفل ، ووجهه متجهاً صوب ظهر امّه ، وما أن تحين ساعة الولادة حتى تنقلب هيئته فيصبح رأسه إلى الأسفل كي تسهل وتتيسّر ولادته.

وبعد ولادته يمرّ الإنسان في مرحلة الطفولة التي تتميز بنموه الجسمي ، ثم مرحلة نمو

٣٧٧

الغرائز ، فالرشد في مسير الهداية الإيمانية والروحية ، ويساهم العقل ودعوة الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام في تركيز معالم شخصية وبناء الإنسان روحياً وإيمانياً.

وتشير الآية التالية إلى الأمر الحتمي الذي به تطوى آخر صفحات مشوار الحياة الدنيا : (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ).

وحكم دفن الأموات (بعد الغسل والتكفين والصلاة) ، يبيّن لنا ... أنّه ينبغي على الإنسان أن يكون طاهراً محترماً في موته ، فكيف به يا تُرى وهو حيّ؟!

وينتقل البيان القرآني إلى يوم القيامة : (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ).

«أنشره : من النشر ، بمعنى الإنبساط بعد الجمع ، فالكلمة تشير باسلوب بلاغي رائع إلى جمع كل حياة الإنسان عند الموت لتنشر في محيط أكبر وأعلى (يوم القيامة).

وتأتي الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة لتبيّن لنا ما يؤول إليه الإنسان من ضياع في حال عدم اعتباره بكلّ ما أعطاه الله من المواهب ، فبالرغم من حتمية تسلسل حياة الإنسان من نطفة حقيرة ، مروراً بما يطويه من صفحات الزمن العابرة ، حتى يموت ويقبر ، لكنّه .. (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ).

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً (٢٦) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدَائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفَاكِهَةً وَأَبّاً (٣١) مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) (٣٢)

فلينظر الإنسان إلى طعامه : تحدثت الآيات السابقة حول مسألة المعاد ، والآيات القادمة تتناول نفس الموضوع بشكل أوضح ، ويبدو أنّ الآيات المبحوثة ـ وانسياقاً مع ما قبلها وما بعدها ـ تتطرق لذات البحث وتبيّن مفردات قدرة الباري جلّ شأنه على كل شيء كدليل على إمكان تحقق المعاد ، فما يقرّب إمكانية القيامة إلى الأذهان هو إحياء الأراضي الميتة بإنزال المطر عليها ، العملية تمثل إحياء بعد موت مختصة بعالم النبات.

ثم إن البيان القرآني في الآيات أعلاه قد طرح بعض مفردات الأغذية التي جعلها الله تحت تصرف الإنسان والحيوان ، لتثير عند الإنسان الإحساس بضرورة شكر المنعم الواهب ، وهذا الإحساس بدوره سيدفع الإنسان ليتقرب في معرفة بارئه ومصوّره.

وشرعت الآيات بقولها : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنسنُ إِلَى طَعَامِهِ) ، كيف خلقه الله تعالى؟!

٣٧٨

الغذاء من أقرب الإشياء الخارجية من الإنسان وأحد العوامل الرئيسية في بناء بدنه ، ولولاه لتقطّعت أنفاس الإنسان وأسدلت ستارة نصيبه من الحياة ، ولذلك جاء التأكيد القرآني على الغذاء وبالذات النباتي منه دون بقية العوامل المسخّرة لخدمة هذا المخلوق الصغير في حجمه.

ومن الجلي أنّ النظر المأمور به في الآية جاء بصيغة المجاز ، واريد به التأمل والتفكير في بناء هذه المواد الغذائية ، وما تحويه من تركيبات حياتية ، وما لها من تأثيرات مهمّة وفاعلة في وجود الإنسان ، وصولاً إلى حال التأمل في أمر خالقها جلّ وعلا.

وهكذا النظر إلى كيفية حصوله ... فهل كان من حلال أم من حرام؟ هل هو مشروع أم غير مشروع؟ أي ينظر إلى طعامه من جانبيه الأخلاقي والتشريعي.

وقد ذُكر في بعض روايات أهل البيت عليهم‌السلام إنّ المراد ب الطعام في الآية هو (العلم) لأنّه غذاء الروح الإنسانية.

في الكافي : زيد الشحام عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام في قول الله عزوجل (فَلْيَنْظُرِ الْإِنسنُ إِلَى طَعَامِهِ) قال : قلت ما طعامه؟ قال : علمه الذي يأخذه عمن يأخذه.

نعم ... ينبغي على الإنسان أن يكون دقيقاً في متابعة مصدر ومنبع علمه ليطمئن لغذائه الروحي ، وليأمن بالنتيجة من مدلهمات الخطوب التي تؤدّي لمرض الروح أو هلاكها.

ثم يدخل القرآن في شرح تفصيلي لماهية الغذاء ومصدر تشكيله ، فيقول (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا).

«الصب : إراقة الماء من أعلى ، وجاء هنا بمعنى هطول المطر. نعم .. فالماء مصدر رئيسي للحياة ، وهو على الدوام ينزل من السماء وبغزارة ليجسد لطف الله تعالى على خلقه.

كيف لا ، وكل العيون والآبار والقنوات والأنهار قد استمدت أساس وجودها من الأمطار.

وبعد ذكر نعمة الماء وما له من أثر حيوي ومهم في نمو النباتات ، ينتقل البيان القرآني إلى الأرض ، فيقول : (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا).

إنّ الآية تشير إلى عملية شقّ الأرض بواسطة النباتات التي تبدأ بالظهور على سطح الأرض بعد عملية بذر الحبوب ، والعلمية بحدّ ذاتها مدعاة للتأمل ، إذ كيف يمكن لهذا العشب الصغير الناعم أن يفتت سطح التربة مع ما لها من صلابة وخشونة ، بل ونرى في

٣٧٩

المناطق الجبلية أنّ سويقات نباتاتها قد ظهرت من بين حافات صخورها الصلدة.

وثمة تفسير اخرى يقول : إنّ شقّ الأرض في الآية إشارة إلى تفتت الصخور التي كانت على سطح الأرض.

فالآية تمثل إحدى مفردات الإعجاز العلمي للقرآن ، لأنّها تناولت موضوع الأمطار وتشقق الأرض لتضحى قابلة للزراعة ، بشكل علمي دقيق ، والآية لم تتحدث عن شيء قد حدث ، بل حدث ولا زال. يبدو أنّ هذا التفسير ينسجم مع ما تطرحه الآية التالية بخصوص عملية الإنبات.

وبعد ذكر ركنين أساسيين في عملية الإنبات ـ أي الماء والتراب ـ ينتقل القرآن بالإشارة إلى ثمانية مصادر لغذاء الإنسان أو الحيوان : (فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا).

تعتبر الحبوب من الأغذية الرئيسية للإنسان والحيوان معاً ، وتتوضح أهميتها فيما لو عمّ الجفاف ـ على سبيل المثال ـ فمدّة عام واحد ، حيث يعمّ القحط وتنتشر المجاعة في كل مكان.

ثم يضيف : (وَعِنَبًا وَقَضْبًا).

وقد اختارت الآية العنب دون البقية لما اودع فيه من مواد غذائية غنية بالمقويات ، حتى قيل عنه بأنّه غذاء كامل.

ومع أنّ العنب يطلق على الشجرة والثمرة ، وبالرغم من ورود كلا الإستعمالين في الآيات القرآنية ، لكن المناسب هنا الثمرة دون الشجرة.

«قضباً : هو الخضراوت التي تؤكل طرية والنباتات الزاحفة وكذا الأرضية.

ثم يضيف : (وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً).

ومن الواضح أنّ ذكر هاتين الفاكهتين لما لهما من الأهمية الغذائية للإنسان ، حيث يعتبر الزيتون والتمر من أهم الأغذية المقوية والصحية والمفيدة للإنسان.

وتأتي المرحلة التالية : (وَحَدَائِقَ غُلْبًا).

«الحدائق : جمع (حديقة) ، وهي الأرض المزروعة والمحاطة بسور يحفظها ، وهي في الأصل بمعنى : قطعة الأرض التي تحتوي على الماء ، وسميّت حديقة تشبيهاً بحدقة العين من حيث الهيئة وحصول الماء فيها.

ويحتمل إشارة الآية إلى أنواع الفواكه ، باعتبار أنّ الحدائق غالباً ما تزرع بأشجار الفاكهة.

٣٨٠