مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

١٠٦

سورة قريش

محتوى السورة : هذه السورة مكملة لسورة الفيل ، وآياتها تدل على ذلك. تتضمّن هذه السورة بيان نعمة الله على قريش ولطفه لهم ومحبّته له ، كي يحرك فيهم دافع الشكر ويحثهم على عبادة ربّ هذا البيت العظيم الذي يستمدون منه كل مفاخرهم وشرفهم.

وكما إنّ سورة الضّحى وسورة الشرح تعتبران سورة واحدة كذلك سورة الفيل وسورة قريش هما سورة واحدة ، وإرتباط موضوعهما يدل على ذلك أيضاً.

ولذلك وجب قراءتهما معاً في الصلاة لمن يرى وجوب قراءة سورة كاملة بعد الحمد.

فضيلة تلاوة السورة : في المجمع ابي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من قرأها اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها.

هذه الفضيلة دون شك لمن عبد ربّ البيت حق عبادته ، وصان حرمة البيت كما يجب ، وتشرّبت نفسه برسالة هذا المركز التوحيدي.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (٤)

٥٤١

في سورة الفيل جاء ذكر إبادة أصحاب الفيل الذين جاؤوا لهدم الكعبة وهذه السورة التي تعتبر امتداداً للسورة السابقة تقول : نحن جعلنا أصحاب الفيل كعصف مأكول : (لِإِيلفِ قُرَيْشٍ). أي لكي تأتلف قريش في هذه الأرض المقدسة وتتهيأ بذلك مقدمات ظهور نبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

«إيلاف : مصدر آلف ، وآلفه أي جعله يألف ، أي جعله يجتمع اجتماعاً مقروناً بالانسجام والانس والإلتيام.

والمقصود إيجاد الالفة بين قريش وهذه الأرض المقدسة وهي مكة والبيت العتيق ، لأنّهم وكل أهل مكة إختاروا السكن في هذه الأرض لمكانتها وأمنها. كثير من أهل الحجاز كانوا يحجّون البيت كل سنة ، ويقترن حجّهم بنشاط أدبي واقتصادي في هذا البلد الأمين.

كل ذلك كان يحدث في ظل الجو الآمن ، ولو أنّ هذا الأمن قد انعدم أو أنّ الكعبة قد انهدمت بفعل هجوم أبرهة وأمثاله لما كان لأحد الفة بهذه الأرض.

(إِيلفِهِمْ رِحْلَةَ الشّتَاءِ وَالصَّيْفِ).

مكة تقع في وادٍ غير ذي زرع ، والرعي فيها قليل ، لذلك كانت عائدات أهل مكة غالباً من قوافل التجارة ، في فصل الشتاء يتجهون إلى أرض اليمن في الجنوب حيث الهواء معتدل ، وفي فصل الصيف إلى أرض الشام في الشمال حيث الجوّ لطيف. والشام واليمن كانا من مراكز التجارة آنئذ ، ومكة والمدينة حلقتا اتصال بينهما.

هذه هي رحلة الشتاء ... ورحلة الصيف.

والمقصود ب إيلافهم في الآية أعلاه قد يكون جعلهم يألفون الأرض المقدسة خلال رحلاتهم وينشدّون إليها لما فيها من أمن ، كي لا تغريهم أرض اليمن والشام ، فيسكنون فيها ويهجرون مكة.

وقد يكون المقصود إيجاد الالفة بينهم وبين سائر القبائل طوال مدّة الرحلتين ، لأنّ الناس بدأوا ينظرون إلى قوافل قريش باحترام ويعيرونها أهمية خاصة بعد قصة اندحار جيش أبرهة.

قريش لم تكن طبعاً مستحقة لكل هذا اللطف الإلهي لما كانت تقترفه من آثام ، لكن الله لطف بهم لما كان مقدّراً للإسلام والنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يظهرا من هذه القبيلة وتلك الأرض المقدسة.

٥٤٢

الآية الاخيرة تقول : إنّ هذه النعم الإلهية التي أغدقت على قريش ببركة الكعبة يجب أن تدفعهم إلى عبادة ربّ البيت لا الأوثان. (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ).

(الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مّنْ خَوْفٍ) ... الذي جعل تجارتهم رائجة مريحة ومربحة ، ودفع عنهم الخوف والضرر ، كل ذلك باندحار جيش أبرهة ، وبفضل دعاء إبراهيم الخليل عليه‌السلام مؤسس الكعبة. لكنّهم لم يقدّروا هذه النعمة ، فبدلوا البيت المقدس ببيت للأوثان ، وذاقوا في النهاية وبال أمرهم.

نهاية تفسير سورة قريش

* * *

٥٤٣
٥٤٤

١٠٧

سورة الماعون

محتوى السورة : هذه السورة بشكل عام تذكر صفات وأعمال منكري القيامة في خمس مراحل ، فهؤلاء نتيجة لتكذيبهم بذلك اليوم ، لا ينفقون في سبيل الله وعلى طريق مساعدة اليتامى والمساكين ، ثم هم يتساهلون في الصلاة ، ويعرضون عن مساعدة المحتاجين.

وفي المجمع : قيل : نزلت في أبي سفيان بن حرب كان ينحر في كل أسبوع جزورين فأتاه يتيم فسأله شيئاً فقرعه بعصاه.

فضيلة تلاوة السورة : في المجمع عن الباقر عليه‌السلام قال : من قرأ (أَرَءَيْتَ الَّذِى يُكَذّبُ بِالدّينِ) في فرائضه ونوافله قبل الله صلاته وصيامه ، ولم يحاسبه بما كان منه في الحياة الدنيا.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (٧)

٥٤٥

إنكار المعاد وآثاره المشؤومة : هذه السورة المباركة تبدأ بسؤال موجّه للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الآثار المشؤومة لإنكار المعاد وتقول : (أَرَءَيْتَ الَّذِى يُكَذّبُ بِالدّينِ).

وتجيب عن السؤال : (فَذلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ).

«الدين هنا الجزاء أو يوم الجزاء ، وإنكار يوم الجزاء له عواقبه الوخيمة وانعكاسات على أعمال الإنسان ، وفي هذه السورة ذكرت خمسة آثار لهذا الإنكار منها : طرد اليتيم ، وعدم الحثّ على إطعام المسكين ، أي إنّ الشخص المنكر للمعاد لا يطعم المساكين ، ولا يدعو الآخرين إلى إطعامهم.

«يدع : أي يدفع دفعاً شديداً ، ويطرد بخشونة.

ويحضّ : أي يحرض ويرغب الآخرين على شيء.

ويتواصل وصف هؤلاء المكذبين بالدين فتقول الآيات التالية : (فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ).

لا يقيمون للصلاة وزناً ، ولا يهتمون بأوقاتها ، ولا يراعون أركانها وشروطها وآدابها.

الصفة الرابعة والخامسة للمكذبين بالدين تذكرها الآيتان الأخيرتان : (الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ).

المجتمع الذي يتعود على الرياء لا يبتعد عن الله وعن الأخلاق الحسنة والملكات الفاضلة فحسب ، بل تصبح كل برامجه الإجتماعية فارغة خالية المحتوى ، لا تتعدى مجموعة من المظاهر ، وإنّها لمأساة أن يكون مصير الفرد ومصير المجتمع بهذا الشكل.

من المؤكّد أنّ أحد عوامل التظاهر والرياء عدم الإيمان بيوم القيامة ، وعدم الرغبة بالثواب الإلهي. وإلّا كيف يمكن للإنسان أن يترك مثوبة الله ويتجه إلى الناس ليتزلف إليهم.

«الماعون : من المَعن وهو الشيء القليل. وكثير من المفسرين قالوا : إنّ المقصود من الماعون الأشياء البسيطة التي يستعيرها أو يقتنيها الناس وخاصة الجيران من بعضهم ، مثل حفنة الملح ، والماء ، والنار (الثقاب) ، والأواني وأمثالها.

واضح أنّ الذي يبخل في إعطاء مثل هذه الأشياء إلى غيره إنسان دنيء عديم الإيمان. أي إنّه بخيل إلى درجة الإباء عن إعطاء مثل هذه الأشياء.

في أمالي الصدوق عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من منع الماعون جاره منعه الله خيره يوم القيامة ، ووكّله إلى نفسه ، ومن وكّله إلى نفسه فما أسوأ حاله.

نهاية تفسير سورةالماعون

* * *

٥٤٦

١٠٨

سورة الكوثر

سبب نزول السورة : في المجمع قيل : نزلت السورة في العاص بن وائل السهمي ، وذلك أنّه رآى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخرج من المسجد ، فالتقيا عند باب بني سهم ، وتحدثا ، واناس من صناديد قريش جلوس في المسجد. فلما دخل العاص قالوا : من الذي كنت تتحدث معه؟ قال : ذلك الأبتر. وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو من خديجة. وكانوا يسمون من ليس له إبن ، أبتر. فسمّته قريش عند موت إبنه أبتر وصنبوراً.

[فنزلت السورة تبشر النبي بالنعم الوافرة والكوثر وتصف عدوّه بالأبتر].

ولمزيد من التوضيح نذكر أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان له ولدان من ام المؤمنين خديجة عليها‌السلام أحدهما القاسم والآخر الطاهر ويسمى أيضاً عبد الله. وتوفي كلاهما في مكة ، وأصبح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من دون ولد. هذه المسألة وفرت للأعداء فرصة الطعن بالنبي فسمّوه الأبتر (١).

والعرب حسب تقاليدها كانت تعير أهمّية بالغة للولد ، وتعتبره امتداداً لمهام الأب. بعد وفاة عبد الله خال الأعداء أنّ الرسالة سوف تنتهي بوفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) كان للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إبن آخر من مارية القبطية إسمه إبراهيم ، ولد في الثامنة للهجرة بالمدينة ، ولكنّه توفي أيضاً قبل بلوغ الثانية من عمره ، وحزن عليه الرسول كثيراً.

٥٤٧

السورة نزلت لتردّ على هؤلاء الأعداء بشكل إعجازي ولتقول لهم : إنّ عدوّ الرسول هو الأبتر ، وأنّ الرسالة سوف تستمر وتتواصل وهذه البشرى بددت من جهة آمال الأعداء وطيبت خاطر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن اغتم من لمز الأعداء وتآمرهم.

فضيلة تلاوة السورة : في المجمع ابي بن كعب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من قرأها سقاه الله من أنهار الجنة ، واعطي من الأجر بعدد كل قربان قربه العباد في يوم عيد ، ويقربون من أهل الكتاب والمشركين.

اسم هذه السورة (الكوثر) مأخوذة من أوّل آية فيها.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (٣)

أعطيناك الخير العميم : الحديث في كل هذه السورة موجّه إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله (مثل سورة الضّحى ، وسورة الشرح) ، وأحد أهداف هذه السور تسلية قلب النبي إزاء ركام الأحداث المؤلمة وطعون الأعداء. تقول له أوّلاً : (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ).

والكوثر : من الكثرة ، وبمعنى الخير الكثير ، ويسمى الفرد السخي كوثراً. وفي معنى الكوثر : في المجمع : قال ابن عباس : لما نزلت (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) صعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المنبر ، فقرأها على الناس ، فلما نزل قالوا : يا رسول الله! ما هذا الذي أعطاك الله؟ قال : نهر في الجنة ، أشدّ بياضاً من اللبن ، وأشدّ استقامة من القدح ، حافتاه قباب الدرّ والياقوت.

وقيل : هو النبوّة والكتاب ، وقيل : هو القرآن. وقيل : هو كثرة الأصحاب والأشياع. وقيل : هو كثرة النسل والذرّية ، وقد ظهرت الكثرة في نسله من ولد فاطمة عليها‌السلام ، حتى لا يحصى عددهم ، واتصل إلى يوم القيامة مددهم. وقيل هو الشفاعة. رووه عن الصادق عليه‌السلام.

ولكن هذه التفاسير تبيّن غالباً المصاديق البارزة لمعناها الواسع وهو الخير الكثير.

إنّ كل الهبات الإلهية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في كل المجالات تدخل في إطار هذا الخير الكثير ، ومن ذلك انتصاراته على الأعداء في الغزوات ، بل حتى علماء امّته الذين يحملون مشعل الإسلام والقرآن في كل زمان ومكان.

ولا ننسي أنّ كلام الله سبحانه تعالى لنبيّه في هذه السورة كان قبل ظهور الخير الكثير ،

٥٤٨

فهو إخبار بالمستقبل القريب والبعيد ، إخبار إعجازي يشكل دليلاً آخر على صدق دعوة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله.

هذا الخير الكثير يستوجب شكراً عظيماً ، وإن كان المخلوق لا يستطيع أداء حق نعمة الخالق أبداً ، إذ إنّ توفيق الشكر نعمة اخرى منه سبحانه ، ولذا يقول سبحانه لنبيّه : (فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ).

نعم ، واهب النعم هو سبحانه. لذلك ليس ثمّة معنى للعبادات إن كانت لغيره.

والأمر بالصلاة والنحر للربّ مقابل ما كان يفعله المشركون من سجودهم للأصنام ونحرهم لها ، بينما كانوا يرون نعمهم من الله. وتعبير (لربّك) دليل واضح على وجوب قصد القربة في العبادات.

وفي آخر آية يقول الله سبحانه لنبيّه ردّاً على ما وَصَمه به المشركون : (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ). الشانيء : هو المعادي من الشنان ـ على وزن ضربان ـ وهو العداء والحقد.

وأبتر : في الأصل هو الحيوان المقطوع الذنب. وصدر هذا التعبير من أعداء الإسلام لإنتهاك الحرمة والإهانة. وكلمة (شانيء) فيها ايحاء بأنّ عدوك لا يراعي أيّة حرمة ولا يلتزم بأي أدب. أي أنّ عداوته مقرونة بالفظاظة والدناءة. والقرآن يقول لهؤلاء الأعداء في الواقع : إنّكم أنتم تحملون صفة الأبتر لا رسول الله.

بحث

فاطمة عليها‌السلام والكوثر : قلنا إنّ الكوثر له معنى واسع يشمل كل خير وهبه الله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومصاديقه كثيرة ، لكن كثيراً من علماء الشيعة ذهبوا إلى أنّ فاطمة الزهراء عليها‌السلام من أوضح مصاديق الكوثر ، لأنّ رواية سبب النزول تقول : إنّ المشركين وصموا النبي بالأبتر ، أي بالشخص المعدوم العقب ، وجاءت الآية لتقول : (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ).

ومن هنا نستنتج أنّ الخير الكثير أو الكوثر هو فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، لأنّ نسل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله انتشر في العالم بواسطة هذه البنت الكريمة ... وذرّيّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من فاطمة عليها‌السلام لم يكونوا امتداداً جسمياً للرسول فحسب ، بل كانوا امتداداً رسالياً صانوا الإسلام وضحوا من أجل المحافظة عليه وكان منهم أئمّة الدين الإثني عشر ، أو الخلفاء الإثني عشر بعد النبي كما أخبر عنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الأحاديث المتواترة بين السنّة والشيعة.

والفخر الرازي في استعراضه لتفاسير معنى الكوثر ، يقول :

٥٤٩

القول الثالث : الكوثر أولاده ، قالوا لأنّ هذه السورة إنّما نزلت ردّاً على من عابه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدم الأولاد ، فالمعنى أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان ، فانظر كم قتل من أهل البيت ، ثم العالم ممتليء منهم ، ولم يبق من بني امية في الدنيا أحد يعبأ به ، ثم انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم‌السلام والنفس الزكية وأمثالهم (١).

نهاية تفسير سورة الكوثر

* * *

__________________

(١) التفسير الكبير ٣٢ / ١٢٤.

٥٥٠

١٠٩

سورة الكافرون

محتوى السورة : من لحن السورة نفهم أنّها نزلت في زمان كان المسلمون في أقلية والكفار في أكثرية ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يعاني من الضغوط التي تطلب منه أن يهادن المشركين ، وأمام هذه الضغوط كان النبي يعلن صموده وإصراره على المبدأ ، دون أن يصطدم بهم.

وفي هذا درس عبرة لكل المسلمين أن لا يساوموا أعداء الإسلام في مباديء الدين مهما كانت الظروف ، وأن يبعثوا اليأس في قلوبهم متى ما بادروا إلى هذه المساومة.

فضيلة تلاوة السورة : في حديث ابي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ومن قرأ يا أيّها الكافرون فكأنّما قرأ ربع القرآن وتباعدت عنه مردة الشياطين ، وبرىء من الشرك ويعافي من الفزع الأكبر.

وشعيب الحداد عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : كان أبي يقول : (قل يا أيّها الكافرون) ربع القرآن ، وكان إذا فرغ منها قال : أعبد الله وحده ، أعبد الله وحده.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (٢) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٣) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (٤) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (٦)

٥٥١

سبب النّزول

في المجمع : نزلت السورة في نفر من قريش منهم الحارث بن قيس السهمي ، والعاص بن أبي وائل ، والوليد بن المغيرة ، والأسود بن عبد يغوث الزهري ، والأسود بن المطلب بن الأسد ، وأمية بن خلف قالوا : هلم يا محمّد فاتبع ديننا نتبع دينك ، ونشركك في أمرنا كلّه ، تعبد آلهتنا سنة ، ونعبد آلهتك سنة ، فإن كان الذي جئت به خيراً مما بأيدينا ، كنّا قد شركناك فيه ، وأخذنا بحظنا منه ، وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا ، وأخذت بحظك منه.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : معاذ الله أن أشرك به غيره.

قالوا : فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك.

فقال : حتى انظر ما يأتي من عند ربّي.

فنزل (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ـ السورة. فعدل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المسجد الحرام ، وفيه الملأ من قريش ، فقام على رؤوسهم ، ثم قرأ عليهم حتى فرغ من السورة. فأيسوا عند ذلك ، فآذوه وآذوا أصحابه.

التّفسير

لا أهادن الكافرين : (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ). والخطاب إلى قوم مخصوصين من الكافرين كما ذكر كثير من المفسرين ، والألف واللام للعهد ، وإنّما ذهب المفسرون إلى ذلك لأنّ الآيات التالية تنفي أن يعبد الكافرون ما يعبده المسلمون وهو الله سبحانه في الماضي والحال والمستقبل ، والمجموعة المخاطبة بهذه الآيات بقيت بالفعل على كفرها وشركها حتى آخر عمرها ، بينما دخل كثير من المشركين بعد فتح مكة في دين الله أفواجاً.

(لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ). فهذه مسألة مبدئية لا تقبل المساومة والمهادنة والمداهنة.

(وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ). لما تأصّل فيكم من لجاج وعناد وتقليد أعمى لآبائكم ، ولما تجدونه في الدعوة من تهديد لمصالحكم وللأموال التي تدر عليكم من عبدة الأصنام.

ولمزيد من التأكيد وبث اليأس في قلوب الكافرين ، ولبيان حقيقة الفصل الحاسم بين منهج الإسلام ومنهج الشرك قال سبحانه : (وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ). فعلى هذا لا معنى لإصراركم على المصالحة والمهادنة معي حول مسألة عبادة الأوثان فإنّه أمر محال (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ).

٥٥٢

لحن الآيات يوضّح بجلاء أنّها نوع من التحقير والتهديد ، أي دعكم ودينكم فسترون قريباً وبال أمركم ، تماماً مثل ما ورد في الآية (٥٥) من سورة القصص : (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلمٌ عَلَيْكُمْ لَانَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ).

نهاية تفسير سورة الكافرون

* * *

٥٥٣
٥٥٤

١١٠

سورة النصر

محتوى السورة : هذه السورة نزلت في المدينة بعد الهجرة ، وفيها بشرى النصر العظيم ودخول الناس في دين الله أفواجاً ، وتدعو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يسبح الله ويحمده ويستغفره شكراً على هذه النعمة.

في الإسلام فتوحات كثيرة ، ولكن فتحاً بالمواصفات المذكورة في السورة ما كان سوى فتح مكة (١) ، خاصة وأنّ العرب ـ كما جاء في الروايات ـ كانت تعتقد أنّ نبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يستطيع أن يفتح مكة إلّاإذا كان على حق ... ولو لم يكن على حق فربّ البيت يمنعه كما منع جيش أبرهة ، ولذلك دخل العرب في دين الله بعد فتح مكة أفواجاً.

قيل : إنّ هذه السورة نزلت بعد صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة ، وقبل عامين من فتح مكة.

ومن أسماء هذه السورة التوديع لأنّها تتضمّن خبر وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

في المجمع : قال مقاتل : لما نزلت هذه السورة قرأها صلى‌الله‌عليه‌وآله على أصحابه ففرحوا واستبشروا ، وسمعها العباس فبكى ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما يبكيك يا عم؟ فقال : أظنّ أنّه قد نعيت إليك نفسك يا

__________________

(١) فتح مكة فتح صفحة جديدة في تاريخ الإسلام ، ودحر الأعداء بعد عشرين عاماً من المقاومة ، وتطهرت أرض الجزيرة العربية من الشرك والأوثان ، والإسلام تأهب لدعوة بقيّة أصقاع العالم.

٥٥٥

رسول الله. فقال : إنّه لكما تقول. فعاش بعدها سنتين ما رؤي فيهما ضاحكاً متبشراً.

فضيلة تلاوة السورة : في المجمع ابي بن كعب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من قرأها فكأنّما شهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فتح مكة.

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : من قرأ (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) في نافلة أو فريضة نصره الله على جميع أعدائه ، وجاء يوم القيامة ومعه كتاب ينطق ، قد أخرجه الله من جوف قبره ، فيه أمان من حرّ جهنم ومن النار ، ومن زفير جهنم ، يسمعه باذنيه ، فلا يمرّ على شيء يوم القيامة إلّا بشّره ، وأخبره بكل خير حتى يدخل الجنّة.

إنّ هذه الفضائل لمن قرأ هذه السورة فسلك مسلك رسول الله وعمل بسيرته وسنته.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) (٣)

عند انبلاج فجر النصر : في هذه السورة دار الحديث عن نصرة الله ، ثم عن الفتح والإنتصار ، وبعدها عن اتساع رقعة الإسلام ودخول الناس في دين الله زرافات ووحداناً.

نعم ، لابدّ من إعداد القوّة للغلبة على العدو ، لكن الإنسان الموحّد يؤمن أنّ النصر من عند الله وحده ، ولذلك لا يغتّر بالنصر ، بل يتجه إلى شكر الله وحمده.

وبين هذه الثلاثة إرتباط علة ومعلول ، فبنصر الله يتحقق الفتح ، وبالفتح تزال الموانع من الطريق ويدخل الناس في دين الله أفواجاً.

بعد هذه المراحل الثلاث ـ التي يشكل كل منها نعمة كبرى ـ تحل المرحلة الرابعة وهي مرحلة الشكر والحمد.

من جهة اخرى نصرالله والفتح هدفهما النهائي دخول الناس في دين الله وهداية البشرية.

«التسبيح : تنزيه الله من كل عيب ونقص.

والحمد : لوصف الله بالصفات الكمالية.

والإستغفار : إزاء تقصير العبد.

هذا الفتح العظيم ينبغي أن لا يؤدّي بالإنسان إلى الظن بأنّ الله يترك أنصاره وحدهم (ولذلك جاء أمر التسبيح لتنزيهه من هذا النقص) وأن يعلم المؤمنون بأنّ وعده الحق (موصوف بهذا الكمال) ، وأن يعترف العباد بنقصهم أمام عظمة الله.

نهاية تفسير سورة النصر

٥٥٦

١١١

سورة المسد

محتوى السورة : هذه السورة نزلت في أوائل الدعوة العلنية. وهي السورة الوحيدة التي تحمل هجوماً شديداً بالاسم على أحد أعداء الإسلام والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله آنذاك وهو أبولهب. ومن السورة يتضح أنّه كان يحمل عداء خاصاً للنّبي ويمارس هو وزوجه كل أنواع الأذى بحقّه.

القرآن يصرّح بأنّهما أهل جهنم ، وليس لهما طريق للنجاة ، وتحققت هذه النبوءة القرآنية ، وكلاهما مات على الكفر.

فضيلة تلاوة السورة : في حديث ابي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من قرأها رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة.

إنّ هذه الفضيلة نصيب من بقراءتها يفصل مسيرته عن مسيرة أبي لهب ، لا من يقرأها بلسانه ويعمل عمل أبي لهب في أفعاله.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (٢) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) (٥)

٥٥٧

سبب النّزول

سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : صعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم الصفا فقال : يا صباحاه! فأقبلت إليه قريش ، فقالوا له : ما لك؟ فقال : أرأيتم لو أخبرتكم أنّ العدوّ مصبحكم أو ممسيكم ، أما كنتم تصدّقوني. قالوا : بلى. قال : فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبولهب : تبّاً لك! ألهذا دعوتنا جميعاً؟ فأنزل الله هذه السورة.

ويروى عن أسماء بنت أبي بكر قالت : لما نزلت هذه السورة ، أقبلت العوراء ام جميل بنت حرب ، ولها ولولة وفي يدها فهر ، وهي تقول : مذمّماً أبينا ، ودينه قلينا ، وأمره عصينا. والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جالس في المسجد ومعه أبوبكر. فلما رآها أبوبكر قال : يا رسول الله! قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّها لن تراني. وقرأ قرآناً فاعتصم به ، كما قال : (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا) [الإسراء : ٤٥] فوقفت على أبي بكر ، ولم تر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : يا أبابكر! أخبرت أنّ صاحبك هجاني. فقال : لا وربّ البيت ما هجاك. فولّت وهي تقول : قريش تعلم أنّي بنت سيّدها.

التّفسير

هذه السورة ـ كما ذكرنا في سبب نزولها ـ ترد على بذاءات أبي لهب عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وابن عبد المطلب. وكان من ألد أعداء الإسلام ، وحين صدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بدعوته واعلنها على قريش وأنذرهم بالعذاب الإلهي قال : تبّاً لك ألهذا دعوتنا جميعاً؟!

والقرآن يرد على هذا الإنسان البذيء ويقول له : (تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ).

في المجمع : قال طارق المحاربي : بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا بشاب يقول : يا أيّها الناس! قولوا لا إله إلّاالله تفلحوا. وإذا برجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ، ويقول : يا أيّها الناس! إنّه كذاب فلا تصدّقوه. فقلت : من هذا؟ فقالوا : هو محمّد ، يزعم أنّه نبي ، وهذا عمّه أبولهب يزعم أنّه كذاب (١).

وفي رواية اخرى : وكان من عظيم خطر أبي لهب ضد الدعوة الإسلامية أنّه كلّما جاء وفد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يسألون عنه عمّه أبالهب ـ اعتباراً بكبره وقرابته وأهميته ـ كان يقول لهم : إنّه ساحر ، فيرجعون ولا يلقونه ، فأتاه وفد فقالوا : لا ننصرف حتى نراه ، فقال : إنّا لم نزل

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ / ٥٥٩.

٥٥٨

نعالجه من الجنون فتباً له وتعساً (١).

من هذه الروايات نفهم بوضوح أنّ أبالهب كان يتتبع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله غالباً كالظلّ ، وما كان يرى سبيلاً لإيذائه إلّاسلكه ، وكان يقذعه بأفظع الألفاظ ، ومن هنا كان أشدّ أعداء الرسول والرسالة ، ولذلك جاءت هذه السورة لتردّ على أبي لهب وامرأته بصراحة وقوّة.

(مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) ، فليس بامكان أمواله أن تدرأ عنه العذاب الإلهي (سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ).

من الآية الاولى نفهم أنّه كان ثرياً ينفق أمواله في محاربة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأبولهب ناره ذات لهب يصلاها يوم القيامة ، وقيل : يصلاها في الدنيا قبل الآخرة. ولهب جاءت بصيغة النكرة لتدل على عظمة لهب تلك النار.

لا أبا لهب ولا أي واحد من الكافرين والمنحرفين تغنيه أمواله ومكانته الإجتماعية من عذاب الله ، كما يقول سبحانه : (يَوْمَ لَايَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٢).

بل لم تغنه في الدنيا من سوء المصير.

في تفسير مجمع البيان : قال عكرمة ، قال أبو رافع مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب ، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت ، وأسلمت ام الفضل وأسلمت وكان العباس يهاب قومه ويكره أن يخالفهم وكان يكتم إسلامه وكان ذا مال كثير متفرق في قومه ، وكان أبولهب عدوّ الله قد تخلف عن بدر وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة ، وكذلك صنعوا لم يتخلف رجل إلّابعث مكانه رجلاً.

فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه ، ووجدنا في أنفسنا قوّة وعزّاً ، قال : وكنت رجلاً ضعيفاً وكنت أعمل القداح أنحتها في حجرة زمزم ، فوالله إنّي لجالس فيها أنحت القداح وعندي ام الفضل جالسة ، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر ، إذ أقبل الفاسق أبولهب ، يجرّ رجليه حتى جلس على طنب الحجرة ، فكان ظهره إلى ظهري فبينا هو جالس إذ قال الناس : هذا أبو سفيان ابن حرث بن عبد المطلب ، وقد قدم. فقال أبو لهب ، هلم إليّ يا ابن أخي فعندك الخبر. فجلس إليه والناس قيام عليه ، فقال : يا ابن أخي!

__________________

(١) تفسير الفرقان ٣٠ / ٥٠٣.

(٢) سورة الشعراء / ٨٨ و ٨٩.

٥٥٩

أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال : لا شيء والله إن كان إلّاأن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاؤوا وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس لقينا رجالاً بيضاً على خيل بلق ، بين السماء والأرض ، ما تليق شيئاً ، ولا يقوم لها شيء.

قال أبورافع : فرفعت طرف الحجرة بيدي ، ثم قلت : تلك الملائكة. قال : فرفع أبولهب يده وضرب وجهي ضربة شديدة ، فثاورته واحتملني فضرب بي الأرض ، ثم برك علي يضربني وكنت رجلاً ضعيفاً ، فقامت ام الفضل إلى عمود من عمد الحجرة ، فأخذته فضربته ضربة فلقت رأسه شجة منكرة ، وقالت : تستضعفه إن غاب عنه سيده فقام مولياً ذليلاً ، فوالله ما عاش إلّاسبع ليال حتى رماه الله بالعدسة ، فقتله.

ولقد تركه أبناه ليلتين أو ثلاثاً ما يدفناه حتى أنتن في بيته وكانت قريش تتقي العدسة كما يتقي الناس الطاعون ، حتى قال لهما رجل من قريش : ويحكما ألا تستحيان إنّ أباكما قد أنتن في بيته لا تغيبانه؟ فقالا : إنّا نخشي هذه القرحة. قال : فانطلقا فأنّا معكما ، فما غسلوه إلّاقذفاً بالماء عليه من بعيد ما يسمونه ، ثم احتملوه فدفنوه بأعلى مكة إلى جدار ، وقذفوا عليه بالحجارة ، حتى واروه.

(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ).

الآيتان تتحدثان عن ام جميل امرأة أبي لهب ، وأخت أبي سفيان ، وعمّة معاوية ، وتصفانها بأنّها تحمل الحطب كثيراً ، وفي عنقها حبل من ليف.

ولماذا وصفها القرآن بأنّها حمالة الحطب؟

قيل : لأنّها كانت تأخذ الحطب المملوء بالشوك وتضعه على طريق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لتدمي قدماه.

نهاية تفسير سورة المسد

* * *

٥٦٠