مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ).

وبسبب المشاكل المعيشية والحياة المستقبلية فإنّ الزوجين قد ينحرفان عن جادة الصواب عند الطلاق والرجوع ، وقد تضغط هذه الظروف على الشاهدين فتمنعانهما عن أداء الشهادة الصحيحة والعادلة ، لهذا تؤكّد الآية في نهايتها قائلة : (وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا). ويساعده حتماً على إيجاد الحل لمشكلاته.

(وَيَرْزُقْهُ مِن حَيْثُ لَايَحْتَسِبُ). ولا يتصور تحصيله.

(وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ). وسيكفيه ما يهمّه من اموره.

(إِنَّ اللهَ بِالِغُ أَمْرِهِ). لأنّ الله عزوجل قادر مطلق ، وأمره نافذ في كل شيء وتخضع جميع الكائنات لمشيئته وإرادته ...

ولهذا يحذّر النساء والرجال والشهود أن لا يخافوا قول الحق ، ويحثّهم على الاعتماد عليه واللجوء إليه في تيسير الصعوبات ، لأنّه قد تعهّد بأن ييسّر للمتقين أمرهم.

إنّ تلاوة الآيات السابقة تبعث ـ أكثر من غيرها ـ الأمل في النفوس ، وتمنح القلب صفاءً خاصاً ، وتمزّق حجب اليأس والقنوط ، إذ تعد كل المتقين بحلّ مشاكلهم وتسهيل امورهم.

في الدرّ المنثور عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله (وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) : من شبهات الدنيا ، ومن غمرات الموت ، وشدائد يوم القيامة.

(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (٧)

٢٠١

أحكام النساء المطلّقات وحقوقهن : من بين الأحكام المستفادة من الآيات السابقة لزوم إحصاء العدة بعد الطلاق ، ولما كانت الآية (٢٢٨) من سورة البقرة قد بيّنت حكم العدة للنساء اللاتي يرين العادة الشهرية وذلك بأن تعد ثلاث دورات شهرية متتالية وبمشاهدة الثالثة تكون المرأة قد أنهت عدّتها ، فقد ذكرت الآيات محل البحث حكم النسوة اللواتي لا حيض لديهم لأسباب معينة ، أو الحوامل لتكمل بحث العدة. يقول تعالى في بداية الأمر : (وَالِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلثَةُ أَشْهُرٍ).

فإذا شككتم في وجود الحمل فمدّة العدة حينئذ ثلاثة أشهر ، وكذلك النسوة اللائي لم يرين الحيض ولم تحدث لهن العادة الشهرية بعد : (وَالِى لَمْ يَحِضْنَ).

ثم يشير تعالى إلى ثالث مجموعة حيث يضيف قائلاً : (وَأُولتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).

وبهذا اتّضح حكم المجاميع الثلاثة ، مجموعتان يجب أن يحصين عدتهن ثلاثة أشهر ، والمجموعة الثالثة ـ أي النساء الحوامل ـ تنتهي عدّتهن بوضع الحمل ، سواء كان بعد ساعة من الطلاق ، أو بعد ثماني أشهر مثلاً.

ومعنى عبارة (إِنِ ارْتَبْتُمْ) هو الشك في وجود الحمل بمعنى أنّه هناك إحتمال حمل بعد سنّ اليأس (خمسون سنة للنساء العاديات ، وستون سنة للنساء القرشيات) فمن أجل هذا الاحتمال الضعيف الذي نادراً ما يقع ، يجب أن تحتاط النساء فتحصي عدّتها ثلاثة أشهر.

وأخيراً يؤكّد مرّة اخرى في نهاية الآية على التقوى ، حيث يقول تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا).

ييسّر اموره ويسهّلها في هذا العالم ، وكذلك في العالم الآخر ، بألطافه سواء في هذه القضيّة أي قضية الطلاق أو في قضايا اخرى.

وللتأكيد على أحكام الطلاق والعدة فقد أضاف تعالى في الآية اللاحقة قائلاً : (ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ.

(وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفّرْ عَنْهُ سَيَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا).

وتعطي الآية اللاحقة توضيحاً أوسع وأشمل لحقوق المرأة بعد الطلاق ، من حيث السكن والنفقة وامور اخرى. يقول تعالى في سكن النساء المطلّقات : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مّن وُجْدِكُمْ). وجد : على وزن (حكم) ، بمعنى القدرة والتمكّن.

٢٠٢

ومن الطبيعي أنّه حينما يكون الإسكان على نفقة الزوج وفي عهدته ، فإنّ الامور الاخرى من الإنفاق ستقع هي الاخرى على عاتق الزوج ، والشاهد على هذا المدّعى ذيل الآية الذي يتحدث عن نفقة النساء الحوامل.

ثم يتطرق تعالى لذكر حكم آخر : (وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيّقُوا عَلَيْهِنَّ).

حذار أن يغرّكم البعض ويزرع بينكم البغض والعداوة والنفور ، مما يؤدّي إلى إخراجكم عن جادة الحق ، فتحرمونهن حقوقهن الطبيعية في السكن والنفقة.

يقول تعالى في ثالث حكم حول النساء الحوامل : (وَإِن كُنَّ أُولتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).

فما دمن حاملات فهنّ في حالة عدة يستحقّن النفقة والسكن على الزوج.

ويقول تعالى في الحكم الرابع حول حقوق النساء المرضعات : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ).

اجرة تتناسب مع مقدار وزمان الإرضاع ، وطبقاً لما هو معروف وشائع عرفاً.

ونظراً لأنّ الأطفال كثيراً ما يصبحون نقطة للنزاع والخلاف بين الزوج والزوجة بعد الطلاق ، فقد أوضح القرآن في الحكم الخامس هذا الأمر بشكل قاطع ولائق حيث قال : (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ). وتشاوروا بينكم في مصير الأولاد ومستقبلهم.

ويحذّر القرآن الكريم من مغبّة أن يكون الأطفال ضحيّة الخلاف الواقع بين الزوج والزوجة ، مما يترك عليهم آثاراً واضحة على تكوينهم الجسمي والنفسي ، إذ يحرمون من حنان الام والأب وشفقتهما فينبغي أن يتّقي الأبوان الله تعالى ويحفظا حقوق الأطفال فإنّهم لا يستطيعون الدفاع عنها.

وفي حالة عدم حصول التوافق والتفاهم بين الزوجين حول مصير الأطفال وقضية إرضاعهم ، يقول القرآن في سادس حكم في هذا المجال : (وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى).

وتبيّن الآية اللاحقة سابع ـ وآخر حكم ـ في هذا المجال حيث يقول تعالى : (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّاءَاتَيهُ اللهُ لَايُكَلّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَاءَاتَاهَا).

إنّ هذا الأمر يرتبط بالنساء اللائي يتعهدن رضاعة أطفالهن بعد الفرقة والطلاق ، وأثناء العدة التي اشير إليها في الآيات السابقة.

وبناءً على هذا لا ينبغي للذين ليس لهم القدرة أن يتشدّدوا ويعقدوا الامور ، كما أنّ الذين لا يملكون القدرة المالية غير مأمورين إلّابالقدر الذي تسعه قدرتهم المالية ولا يحق

٢٠٣

للنساء مطالبتهم بأكثر من ذلك.

وفي نهاية المطاف يبشّرهم الله تعالى بقوله : (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا). أي : لا تجزعوا ولا تحزنوا ولا يكن الضيق في المعيشة سبباً لخروجكم عن الطريق السوي ، فإنّ الدنيا أحوال متقلّبة لا تبقى على حال ، فحذار من أن تقطع المشاكل العابرة والمرحلية حبل صبركم.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً (٨) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) (١١)

العاقبة المؤلمة للعاصين : في كثير من الموارد يأتي القرآن على ذكر الامم السابقة بعد إيراد سلسلة من الأحكام والتكاليف ، لكي يرى المسلمون بأعينهم عاقبة كل من (الطاعة والعصيان) في تجارب الماضي وتأخذ القضية طابعاً حسيّاً.

ولم يخرج القرآن الكريم في هذه السورة عن هذا النهج ، فبعد ذكر وظائف كل من الرجال والنساء عند الطلاق ، يحذّر العاصين والمتمردين من العواقب الوخيمة التي تنتظرهم بقوله في البداية : (وَكَأَيّن مّن قَرْيَةً عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا).

والمقصود ب القرية هو محل اجتماع الناس ، وهو أعمّ من المدينة والقرية ، والمراد هو أهلها.

«عتت : من مادة عتو بمعنى التمرّد على الطاعة ؛ ونكر : يعني العمل الصعب الذي لم يسبق له مثيل.

«حساباً شديداً إشارة إلى عاقبة الأقوام السابقة المتمرّدة العاصية في هذه الدنيا.

لذلك يضيف تعالى في الآية اللاحقة : (فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا).

وأي خسارة أفدح من خسران رأس المال الذي وهبه الله ، والخروج من هذه الدنيا

٢٠٤

ليس فقط بعدم شراء المتاع ـ وإنّما بالانتهاء إلى العذاب الإلهي والدمار.

ثم يشير تعالى إلى عقابهم الاخروي بقوله : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا). عذاباً مؤلماً ، مخيفاً ، مذلاً ، فاضحاً ، دائماً أعدّه لهم منذ الآن في نار جهنم.

والآن (فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِى الْأَلْبَابِ الَّذِينَءَامَنُوا).

إنّ الفكر والتفكّر من جهة ، والإيمان والآيات الإلهية من جهة اخرى ، تحذّركم وتدعوكم لملاحظة مصائر الأقوام السابقة المتمردة التي عصت أمر ربّها ، والاعتبار بذلك والحذر من أن تكونوا مثلهم.

وبعد ذلك يخاطب الله تعالى المؤمنين الذين يتفكّرون في آيات الله بقوله : (قَدْ أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا). وهو الشيء الذي يوجب تذكركم.

وأرسل لكم رسولاً يتلو عليكم آيات الله الواضحة : (رَّسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْءَايَاتِ اللهِ مُبَيّنَاتٍ لّيُخْرِجَ الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).

إنّ الذكر يعني القرآن ؛ ورسولاً تعني شخص الرسول ؛ ومعنى الإنزال هنا هو وجود الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في الامة وبعثه فيها من قبل الله تعالى.

إنّ الهدف من إرسال الرسول وإنزال هذا الكتاب السماوي ، هو لإخراج الناس من الظلمات والكفر والجهل وإرتكاب الذنوب والمآثم والمفاسد الأخلاقية ، إلى نور الإيمان والتوحيد والتقوى.

وفي ختام الآية يشير إلى أجر العاملين المخلصين بقوله : (وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقًا).

وأشار بالفعل المضارع يؤمن ويعمل إلى أنّ إيمانهم وعملهم الصالح ليسا محدودين بحدود الزمان والمكان ، وإنّما لهما استمرار وديمومة.

والتعبير ب (خالدين) دليل على كون الجنة خالدة.

والتعبير ب رزقاً يشمل كل النعم الإلهية في الدنيا والآخرة ، لأنّ الصالحين والمتقين لهم حياتهم الكريمة حتى في الحياة الدنيا.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (١٢)

٢٠٥

الهدف من خلق العالم : هذه الآية هي آخر آية من سورة الطلاق ، وفيها إشارة معبّرة وصريحة إلى عظمة وقدرة الباريء جلّ شأنه في خلق السماوات والأرض وبيان الهدف النهائي للخلق. يقول تعالى أوّلاً : (اللهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَموَاتٍ).

وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ). بمعنى أنّ الأرضين سبع كما السماوات سبع ، وهذه هي الآية الوحيدة التي تشير إلى الأرضين السبع في القرآن الكريم.

إنّ مفهوم هذه الآية مع الإلتفات إلى الآية (٦) من سورة الصّافات التي تقول : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ). هو أنّ علم البشر ومعرفته مهما اتّسعت فهي محدودة ومتعلّقة بالسماء الاولى التي توجد وراءها ثوابت وسيّارات ستة هي عبارة عن العوالم الاخرى التي لا تتسع لها معرفتنا المحدودة ولا ينالها إدراكنا الضيّق.

أمّا الأرضين السبع وما حولها ، فربّما تكون إشارة إلى طبقات الأرض المختلفة ، لأنّ الأرض تتكوّن من طبقات مختلفة كما ثبت اليوم علميّاً ، أو لعلها تكون إشارة إلى المناطق السبع التي تقسّم بها الأرض في السابق وحالياً.

ثم يشير تعالى إلى إدارة هذا العالم الكبير وتدبيره بقوله جلّ شأنه : (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ).

وأخيراً يشير تعالى إلى الهدف من وراء هذا الخلق العظيم حيث يقول : (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَىْءٍ عِلْمًا).

ومن ثم يجب أن يعلم الإنسان أنّ الله محيط بكل أسرار وجوده ، عالم بكل أعماله ما ظهر منها وما بطن ، ثم يجب أن يعلم الإنسان أنّ وعد الله في البعث والمعاد والثواب والعقاب وحتمية انتصار المؤمنين ، كل ذلك غير قابل للتخلف والتأخر.

نهاية تفسير سورة الطّلاق

* * *

٢٠٦

٦٦

سورة التحريم

محتوى السورة : تتكوّن هذه السورة من أربعة أقسام رئيسية :

١ ـ يرتبط بقصة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مع بعض أزواجه حينما حرم بعض أنواع الطعام على نفسه ، فنزلت الآيات من (١ ـ ٥).

٢ ـ خطاب لكل المؤمنين في شؤون التربية ورعاية العائلة ولزوم التوبة من الذنوب ، وهو من الآية (٦ ـ ٨).

٣ ـ وهو الآية التاسعة التي تتضمن خطاباً إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بضرورة مجاهدة الكفار والمنافقين.

٤ ـ يتضمن توضيحاً للأقسام السابقة بذكر نموذجين صالحين للنساء ، وهما (مريم العذراء ، وزوجة فرعون) ونموذجين غير صالحين (زوجة نوح ، وزوجة لوط) ويحذّر نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من هذين النموذجين الأخيرين ويدعوهنّ إلى الإقتداء بالنموذجين الأوّلين من الآية (١٠ ـ ١٢).

(فضيلة تلاوة السورة :) في ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : من قرأ سورة الطلاق والتحريم في فريضة أعاذه الله من أن يكون يوم القيامة ممّن يخاف أو يحزن وعوفي من النار وأدخله الله الجنة بتلاوته إيّاهما ومحافظته عليهما لأنّهما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٢٠٧

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً) (٥)

سبب النّزول

عن عائشة : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يمكث عند زينب ابنة جحش [إحدى أزواج الرسول] ويشرب عندها عسلاً فتواصيت أنا وحفصة ان أتينا دخل عليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فلتقل إنّي لأجد منك ريح المغافير أكلت المغافير [وهو نوع من الصمغ يترشّح من بعض أشجار الحجاز يسمّى عرفط ويترك رائحة غير طيبة ، علماً أنّ الرسول كان يصرّ على أن تكون رائحته طيّبة دائماً] ، فدخل على إحداهما فقالت له ذلك فقال : لا بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له. [ولهذا أقسم بأنّه سوف لن يتناول ذلك العسل مرّة اخرى ، خوفاً من أن تكون زنابير العسل هذا قد تغذّت على شجر صمغ المغافير وحذّرها أن تنقل ذلك إلى أحد لكي لا يشيع بين الناس أنّ الرسول قد حرّم على نفسه طعاماً حلالاً فيقتدون بالرسول ويحرّمونه أو ما يشبهه على أنفسهم ، أو خوفاً من أن تسمع زينب وينكسر قلبها وتتألّم لذلك. لكنّها أفشت السر فتبين أخيراً أنّ القصة كانت مدروسة ومعدّة فتألم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لذلك كثيراً ، فنزلت عليه الآيات السابقة لتوضّح الأمر وتنهى من أن يتكرر ذلك مرّة اخرى في بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

__________________

(١) صحيح البخاري ٦ / ١٦٧ ، والتوضيحات التي ذكرت في تستفاد من كتب اخرى.

٢٠٨

التّفسير

التوبيخ لبعض زوجات الرسول : مما لا شك فيه أنّ رجلاً عظيماً كالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يمكن أن يهمّه أمره وحده دون غيره ، بل أمره يهمّ المجتمع الإسلامي والبشرية جمعاء ، ولهذا يكون التعامل مع أيّة دسيسة حتى لو كانت بسيطة تعاملاً حازماً وقاطعاً لا يسمح بتكرّرها ، لكي لا تتعرض حيثية الرسول واعتباره إلى أي نوع من التصدّع والخدش والآيات محل البحث تعتبر تحذيراً من ارتكاب مثل هذه الأعمال حفاظاً على اعتبار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. البداية كانت خطاباً إلى الرسول : (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ).

إنّ هذا التحريم ليس تحريماً شرعياً ، بل هو ـ كما يستفاد من الآيات اللاحقة ـ قسم من قبل الرسول الكريم ، ومن المعروف أنّ القسم على ترك بعض المباحات ليس ذنباً. وبناءً على هذا فإنّ جملة (لِمَ تُحَرّمُ) لم تأت كتوبيخ وعتاب ، وإنّما هي نوع من الإشفاق والعطف.

ثم يضيف في آخر الآية : (وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). وهذا العفو والرحمة إنّما هو لمن تاب من زوجات الرسول اللاتي رتّبن ذلك العمل وأعددنه.

ويضيف في الآية اللاحقة أنّ الله قد أوضح طريق التخلّص من مثل هذا القسم : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ). أي : أعط كفارة القسم وتحرّر منه.

ثم يضيف : (وَاللهُ مَوْلكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ). فقد أنجاكم من مثل هذه الأقسام ووضع لكم طريق التخلّص منها طبقاً لعلمه وحكمته.

ويستفاد من بعض الروايات أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أعتق رقبة بعد هذا القسم وحلّل ما كان قد حرّمه بالقسم.

وفي الآية اللاحقة يتعرض لهذا الحادث بشكل أوسع : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِىُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ).

إنّ هذا السر يتكوّن من أمرين :

الأوّل : تناول العسل عند زوجته (زينب بنت جحش).

والثاني : تحريم العسل على نفسه في المستقبل.

أمّا الزوجة التي أذاعت السر ولم تحافظ عليه فهي حفصة حيث أنّها نقلت ذلك الحديث الذي سمعت به إلى عائشة.

٢٠٩

وعلى كل حال فإنّه : (فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذَا قَالَ نَبَّأَنِىَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ).

ويتّضح من مجموع هذه الآيات أنّ بعض زوجات الرسول لم يكتفين بإيذاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بكلامهن ، بل لا يحفظن سرّه ، وحفظ السر من أهمّ صفات الزوجة الصالحة الوفيّة لزوجها. ثم يتحدث القرآن مع زوجتي الرسول اللتين كانتا وراء هذا الحادث بقوله : (إِن تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا).

وقد اتّفق المفسرون الشيعة والسنة على أنّ تلك الزوجتين هما حفصة بنت عمر وعائشة بنت أبي بكر.

ثم يضيف تعالى : (وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ).

ويتّضح من هذا كم تركت هذه الحادثة من أثر مؤلم في قلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وروحه العظيمة ، ورغم قدرة الرسول المتكاملة نشاهد أنّ الله يدافع عنه إذ يعلن حماية جبرائيل والمؤمنين له.

مما لا شك فيه أنّ صالح المؤمنين ، لها معانٍ واسعة تشمل جميع المؤمنين الصالحين الأتقياء الذين كمل إيمانهم ، ولكن ما هو المصداق الأكمل والأتم لهذا المصطلح؟

يستفاد من روايات عديدة أنّ المقصود هو الإمام علي أمير المؤمنين عليه‌السلام.

في آخر آية من هذه الآيات يخاطب الله تعالى جميع نساء النبي بلهجة لا تخلو من التهديد : (عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيّبَاتٍ وَأَبْكَارًا).

يضع القرآن الكريم عدّة صفات للمرأة الصالحة التي يمكنها أن تكون نموذجاً يقتدى به في انتخاب الزوجة اللائقة.

الأوّل الإسلام ثم الإيمان أي الإعتقاد الذي ينفذ ويترسّخ في أعماق قلب الإنسان ، ثم حالة القنوت أي التواضع وطاعة الزوج ، بعد ذلك التوبة ويقصد أنّ الزوجة إذا ما ارتكبت ذنباً بحق زوجها فإنّها سرعان ما تتوب وتعتذر عن ذلك ، وتأتي بعد ذلك العبادة التي جعلها الله سبحانه ليطهّر بها قلب الإنسان وروحه ويصنعها من جديد ، ثم إطاعة أوامر الله والورع عن محارمه.

٢١٠

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٨)

قوا أنفسكم وأهليكم النار : تخاطب الآيات السابقة جميع المؤمنين ، وترسم لهم المنهج الصالح لتربية الزوجات والأولاد والاسرة بشكل عام ، فهي تقول أوّلاً : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ).

وذلك بحفظ النفس من الذنوب وعدم الاستسلام للشهوات والأهواء ، وحفظ العائلة من الانحراف بالتعليم والتربية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتهيئة الأجواء الصالحة والمحيط الطاهر من كل رذيلة ونقص.

وينبغي مراعاة هذا البرنامج الإلهي منذ اللحظات الاولى لبناء العائلة ، أي منذ أوّل مقدمات الزواج ، ثم مع أوّل لحظة لولادة الأولاد ، ويراعى ويلاحظ بدقة حتى النهاية.

ويضيف القرآن قائلاً : (عَلَيْهَا مَلِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّايَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).

وبهذا لا يبقى طريق للخلاص والهروب ، ولن يؤثّر البكاء والإلتماس والجزع والفزع.

في الآية اللاحقة يخاطب الكفار ويصف وضعهم في ذلك اليوم العصيب بقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَاتَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

قد جاءت هذه الآية بعد الآية السابقة التي خاطب بها المؤمنين ، ليكون واضحاً أنّ عدم الالتزام بأوامر الله وعدم الإهتمام بالنساء والأولاد والأهل قد تكون نتيجته وعاقبته كعاقبة الكفار يوم القيامة.

٢١١

ومما يجدر ذكره أنّ عدم قبول الإعتذار ناتج عن كونه نوعاً من التوبة ، والتوبة لا تقبل في غير هذا العالم ، سواء كان قبل دخول النار أو بعد دخولها.

ويلقي القرآن الضوء في الآية اللاحقة على طريق النجاة من النار حيث يقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا).

«نصوح : من مادة نصح ، بمعنى طلب الخير بإخلاص ، ولذلك يقال للعسل الخالص بأنّه (ناصح) وبما أنّ من يريد الخير واقعاً يجب أن يكون عمله توأماً للإتقان جاءت كلمة نصح أحياناً بهذا المعنى ، ولذا يقال للبناء المتين بأنّه نصاح ـ على وزن كتاب ـ ويقال للخيّاط ناصح ، وكلا المعنيين ـ أي الخلوص والمتانة ـ يجب توفّرهما في التوبة النصوح.

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس قال : قال معاذ بن جبل : يا رسول الله! ما التوبة النصوح؟ قال : أن يتوب التائب ثم لا يرجع في ذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع.

وبهذا التعبير اللطيف يتّضح أنّ التوبة يجب أن تحدث إنقلاباً في داخل النفس الإنسانية ، وتسدّ عليها أي طريق للعودة إلى الذنب ، وتجعل من الرجوع أمراً مستحيلاً كما يستحيل إرجاع اللبن إلى الضرع والثدي.

ثم يشير القرآن الكريم إلى آثار التوبة الصادقة النصوح بقوله : (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيَاتِكُمْ).

وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ).

يَوْمَ لَايُخْزِى اللهُ النَّبِىَّ وَالَّذِينَءَامَنُوا مَعَهُ).

نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ). ويضيء لهم طريقهم في المحشر ويوصلهم إلى الجنة.

وهنا يتوجّهون إلى الله بطلب العفو : (يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ).

* * *

٢١٢

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) (١٢)

نماذج من النساء المؤمنات والكافرات : بما أنّ المنافقين يفرحون لإفشاء أسرار الرسول وإذاعة الأخبار الداخلية عن بيته ، ويرحبون ببروز المشاجرات والاختلافات بين زوجاته ـ التي مضت الإشارة إليها في الآيات السابقة ـ بل إنّهم كانوا يساهمون في إشاعة تلك الأخبار وإذاعتها بشكل أوسع ، نظراً لكل ذلك فقد خاطب القرآن الكريم الرسول بأن يشدّد على المنافقين والكافرين ويغلظ عليهم ، حيث يقول : (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَيهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

الجهاد ضد الكفار قد يكون مسلّحاً أو غير مسلّح ، أمّا الجهاد ضد المنافقين فإنّه بدون شك جهاد غير مسلّح ، لأنّ التاريخ لم يحدّثنا أبداً عن أنّ الرسول خاض مرّة معركة مسلّحة ضدّ المنافقين.

إنّ المراد من الجهاد ضدّ المنافقين إنّما هو توبيخهم وإنذارهم وتحذيرهم ، بل وتهديدهم وفضحهم ، أو تأليف قلوبهم في بعض الأحيان.

وذلك بعد حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حدث في خلافة أمير المؤمنين علي عليه‌السلام حيث خاض ضدّهم معركة مسلّحة.

ومن أجل أن يعطي الله تعالى درساً عملياً حيّاً إلى زوجات الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله عاد مرّة اخرى يذكر بالعاقبة السيّئة لزوجتين غير تقيتين من زوجات نبيين عظيمين من أنبياء

٢١٣

الله ، وكذلك يذكر بالعاقبة الحسنة والمصير الرائع لامرأتين مؤمنتين مضحيّتين كانتا في بيتين من بيوت الجبابرة ، حيث يقول أوّلاً : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِن عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ).

وبناءً على هذا فإنّ القرآن يحذّر زوجتي الرسول اللتين اشتركتا في إذاعة سرّه ، بأنّكما سوف لن تنجوا من العذاب لمجرّد كونكما من أزواج النبي كما فعلت زوجتا نوح ولوط فواجهتا العذاب الإلهي.

كما تتضمّن الآيات الشريفة تحذيراً لكل المؤمنين بأنّ القرب من أولياء الله والإنتساب إليهم لا يكفي لمنع نزول عذاب الله ومجازاته.

وعلى أيّة حال فإنّ هاتين المرأتين خانتا نبيّين عظيمين من أنبياء الله. والخيانة هنا لا تعني الانحراف عن جادّة العفّة والنجابة ، لأنّهما زوجتا نبيّين ولا يمكن أن تخون زوجة نبي بهذا المعنى للخيانة ، فقد جاء عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ما بغت امرأة نبي قطّ.

ثم يذكر القرآن الكريم نموذجين مؤمنين صالحين فيقول : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَءَامَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ).

من المعروف أنّ اسم زوجة فرعون (آسية) واسم أبوها (مزاحم) وقد آمنت منذ أن رأت معجزة موسى عليه‌السلام أمام السحرة ، واستقرّ قلبها على الإيمان ، لكنّها حاولت أن تكتم إيمانها ، غير أنّ الإيمان برسالة موسى وحبّ الله ليس شيئاً يسهل كتمانه ، وبمجرّد أن اطّلع فرعون على إيمانها نهاها مرّات عديدة وأصرّ عليها أن تتخلّى عن رسالة موسى وربّه ، غير أنّ هذه المرأة الصالحة رفضت الاستسلام إطلاقاً.

وأخيراً أمر فرعون أن تُثبت يداها ورجلاها بالمسامير ، وتترك تحت أشعة الشمس الحارقة ، بعد أن توضع فوق صدرها صخرة كبيرة. وفي تلك اللحظات الأخيرة كانت امرأة فرعون بهذا الدعاء إذ قالت : (رَبّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ وَنَجّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). وقد استجاب لها ربّها وجعلها من أفضل نساء العالم إذ يذكرها في صفّ مريم.

في الدرّ المنثور عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومريم بنت عمران ، وآسيه بنت مزاحم امرأة فرعون.

٢١٤

ثم يضرب الله تعالى مثلاً آخر للنساء المؤمنات الصالحات ، حيث يقول جلّ من قائل : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا).

فهي امرأة لا زوج لها أنجبت ولداً صار نبيّاً من أنبياء الله العظام (من اولي العزم).

ويضيف تعالى قائلاً : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ).

كانت في القمّة من حيث الإيمان ، إذ آمنت بجميع الكتب السماوية والتعاليم الإلهية ، ثم إنّها كانت قد أخضعت قلبها لله ، وحملت قلبها على كفّها وهي على أتمّ الإستعداد لتنفيذ أوامر الباري جلّ شأنه.

نهاية تفسير سورة التحريم

* * *

٢١٥
٢١٦

٦٧

سورة الملك

محتوى السورة : تسمّى سورة الملك أيضاً ب (المنجية) ، وكذلك تسمّى ب (الواقية) أو (المانعة) بلحاظ أنّها تحفظ الإنسان الذي يتلوها من العذاب الإلهي أو عذاب القبر ، وهي من السور التي لها فضائل عديدة. وقد طرحت في هذه السورة مسائل قرآنية مختلفة ، إلّاأنّ الأصل فيها يدور حول ثلاثة محاور هي :

١ ـ أبحاث حول المبدأ ، وصفات الله سبحانه ، ونظام الخلق العجيب ، خصوصاً خلق السماوات والنجوم والأرض وما فيها من كنوز عظيمة ... وكذلك ما يتعلق بخلق الطيور والمياه الجارية والحواس كالاذن والعين ، بالإضافة إلى وسائل المعرفة الاخرى.

٢ ـ ثم تتحدث الآيات الكريمة عن المعاد وعذاب الآخرة ، والحوار الذي يدور بين ملائكة العذاب الإلهي وأهل جهنم ، بالإضافة إلى امور اخرى في هذا الصدد.

٣ ـ وأخيراً تتحدث عن التهديد والإنذار الإلهي بألوان العذاب الدنيوي والاخروي للكفار والظالمين.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : سورة المُلك هي المانعة ، تمنع من عذاب القبر ، وهي مكتوبة في التوراة سورة الملك ، ومن قرأها في ليلة فقد أكثر وأطاب ولم يكتب من الغافلين.

٢١٧

ومن الطبيعي أنّ جميع هذه الآثار العظيمة لا تكون إلّامن خلال التدبر في قراءة آيات هذه السورة والعمل بها ، والإستلهام من محتوياتها في الممارسات الحياتية المختلفة.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ) (٥)

تبدأ آيات هذه السورة بمسألة مالكية وحاكمية الله سبحانه ، وخلود ذاته المقدسة ، وهي في الواقع مفتاح جميع أبحاث هذه السورة المباركة. يقول تعالى : (تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ).

«تبارك : من مادة بركة في الأصل من برك على وزن (ترك) بمعنى (صدر البعير) ، واطلقت كذلك على كل نعمة باقية ودائمة.

ثم يشير سبحانه في الآية اللاحقة إلى الهدف من خلق الإنسان وموته وحياته ، وهي من شؤون مالكيته وحاكميته تعالى فيقول : (الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

«الموت : حقيقته الإنتقال من عالم إلى عالم آخر ، وهذا الأمر وجودي يمكن أن يكون مخلوقاً ، لأنّ الخلقة ترتبط بالامور الوجودية ، وهذا هو المقصود من الموت في الآية الشريفة ، أمّا الموت بمعنى الفناء والعدم فليس مخلوقاً ، لذا فإنّه غير مقصود.

أمّا الهدف من الإمتحان فهو تربية الإنسان كي يجسّد الاستقامة والتقوى والطهر في الميدان العملي ليكون لائقاً للقرب من الله سبحانه ، وقد بحثنا ذلك مفصّلاً فيما سبق.

ومن هنا نعلم أنّ العالم ميدان الإمتحان الكبير لجميع البشر ، ووسيلة هذا الإمتحان هو الموت والحياة ، والهدف منه هو الوصول إلى حسن العمل الذي مفهومه تكامل المعرفة ، وإخلاص النيّة ، وإنجاز كل عمل خيّر.

٢١٨

وبما أنّ الإنسان يتعرّض لأخطاء كثيرة في مرحلة الإمتحان الكبير الذي يمرّ به ، فيجدر به ألّا يكون متشائماً ويائساً من عون الله سبحانه ومغفرته له ، وذلك من خلال العزم على معالجة أخطائه ونزواته النفسية وإصلاحها ، حيث يقول تعالى : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ).

وبعد إستعراض نظام الموت والحياة الذي تناولته الآية السابقة ، تتناول الآية اللاحقة النظام الكلي للعالم ، وتدعو الإنسان إلى التأمل في عالم الوجود ، والتهيّؤ لمخاض الإمتحان الكبير عن طريق التدبّر في آيات هذا الكون العظيم. يقول تعالى : (الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَموَاتٍ طِبَاقًا).

ثم يضيف سبحانه : (مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمنِ مِن تَفَاوُتٍ).

إنّ الآية أعلاه تبيّن لنا أنّ عالم الوجود ـ بكل ما يحيطه من العظمة ـ قائم وفق نظام مستحكم ، وقوانين منسجمة ، ومقادير محسوبة ، ودقّة متناهية ، ولو وقع أي خلل في جزء من هذا العالم الفسيح لأدّى إلى دماره وفنائه.

ثم يضيف تعالى مؤكّداً : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ).

«فطور : من مادة فطر على وزن (سطر) بمعنى الشقّ من الطول ، كما تأتي بمعنى الكسر (كإفطار الصيام) والخلل والإفساد ، وقد جاءت بهذا المعنى في الآية مورد البحث.

ويقصد بذلك أنّ الإنسان كلّما دقّق وتدبّر في عالم الخلق والوجود ، فإنّه لا يستطيع أن يرى أي خلل أو اضطراب فيه. لذا يضيف سبحانه مؤكّداً هذا المعنى في الآية اللاحقة حيث يقول : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسًا وَهُوَ حَسِيرٌ).

«كرّتين : من مادة كر على وزن (شرّ) بمعنى التوجّه والرجوع إلى شيء معيّن.

وبناءً على هذا فإنّ القرآن الكريم يأمر الناس في هذه الآيات أن يتطلّعوا ويتأملوا ويدقّقوا النظر في عالم الوجود ثلاث مرّات ـ كحد أدنى ـ ويتدبّروا أسرار الخلق.

وعندما لا يجد أي خلل أو نقص في هذا النظام العجيب والمحيّر لخلق الكون ، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى معرفة خالق هذا الوجود العظيم ومدى علمه وقدرته اللامتناهية ، مما يؤدي إلى عمق الإيمان به سبحانه والقرب من حضرته المقدسة.

«خاسىء : من مادة خسأ وخسوء على وزن (مدح ، وخشوع) وإذا كان مورد إستعمالها العين ، فيقصد بهما التعب والعجز ، أمّا إذا استعملت للكلب فيقصد منها طرده وإبعاده ؛ وحسير : من مادة حسر ، على وزن (قصر) بمعنى جعل الشيء عارياً ، وإذا ما

٢١٩

فقد الإنسان قدرته واستطاعته بسبب التعب ، فإنّه يكون عارياً من قواه ، لذا فإنّها جاءت بمعنى التعب والعجز. وبناءً على هذا فإنّ كلمتي (خاسىء) و (حسير) اللتين وردتا في الآية أعلاه ، تعطيان معنى واحداً في التأكيد على عجز العين ، وبيان عدم مقدرتها على مشاهدة أي خلل أو نقص في نظام عالم الوجود.

إنّ لهذه الآيات دلالة واضحة على دقّة النظام الكوني ، حيث معناها أنّ وجود النظام في كل شيء دليل على وجود العلم والقدرة على خلق ذلك الشيء.

ثم تتناول الآية التالية صفحة السماء التي يتجسّد فيها الجمال والروعة ، حيث النجوم المتلألئة في جوّ السماء ، المشعّة بضوئها الساحر في جمال ولطافة ، حيث يقول سبحانه : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ).

وتؤكّد الآية الكريمة ـ مرّة اخرى ـ الحقيقة القائلة بأنّ جميع النجوم التي نشاهدها ما هي إلّا جزء من السماء الاولى ، والتي هي أقرب إلينا من أي سماء اخرى من السماوات السبع ، لذا اطلق عليها اسم (السماء الدنيا) أي السماء القريبة والتي هي أسفل جميع السماوات الاخرى.

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ) (١١)

كان الحديث في الآيات السابقة عن معالم العظمة والقدرة الإلهية ودلائلها في عالم الوجود ، أمّا في الآيات مورد البحث فإنّه تعالى يتحدث عن الأشخاص الذين يعرضون ويتنكّبون عن أدلّة الحق ، ويكابرون في تحدّي البراهين الدامغة ، ويسلكون طريق الكفر والشرك ، ويقذفون أنفسهم كالشياطين في اتون العذاب الإلهي. يقول تعالى في البداية : (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ عَذَابَ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

ثم يستعرض توضيحاً لهذا اللون من العذاب الرهيب فيقول تعالى : (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ).

٢٢٠