مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

٩٧

سورة القدر

محتوى السورة وفضيلتها : محتوى السورة كما هو واضح من اسمها بيان نزول القرآن الكريم في ليلة القدر ، وبيان أهمّية هذه الليلة وبركاتها.

في المجمع : ابي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من قرأها اعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة القدر.

إنّ هذه الفضائل في التلاوة لا تعود على من يقرأها دون أن يدرك حقيقتها ، بل إنّها نصيب من يقرأها ويفهمها ويعمل بها ... من يقدر القرآن حق قدره ويطبق آياته في حياته.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (٥)

ليلة القدر ليلة نزول القرآن : يستفاد من آيات الذكر الحكيم أنّ القرآن نزل في شهر رمضان : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ) (١). وظاهر الآية يدل على أنّ كل القرآن نزل

__________________

(١) سورة البقرة / ١٨٥.

٥٠١

في هذا الشهر.

والآية الاولى من سورة القدر تقول : (إِنَّا أَنزَلْنهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ).

عبارة (إِنَّا أَنزَلْنهُ) فيها إشارة اخرى إلى عظمة هذا الكتاب السماوي ، فقد نسب الله نزوله إليه ، وبصيغة المتكلم مع الغير أيضاً ، وهي صيغة لها مفهوم جمعي وتدل على العظمة.

نزول القرآن في ليلة القدر وهي الليلة التي يقدر فيها مصير البشر وتعين بها مقدراتهم ، دليل آخر على الأهمّية المصيرية لهذا الكتاب السماوي (١).

لو جمعنا بين هذه الآية وآية سورة البقرة لاستنتجنا أنّ ليلة القدر هي إحدى ليالي شهر رمضان ، ولكنّها أيّة ليلة؟ القرآن لا يبيّن لنا ذلك ، ولكن المشهور في الروايات أنّها في العشر الأخيرة من شهر رمضان ، وفي الليلتين الحادية والعشرين أو الثالثة والعشرين.

وثمّة روايات متعددة عن أهل البيت عليهم‌السلام تركز على الليلة الثالثة والعشرين.

في الكافي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام قال : التقدير في ليلة تسع عشرة ، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين ، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين.

في الآيتين التاليتين يبيّن الله تعالى عظمة ليلة القدر ويقول سبحانه :

(وَمَا أَدْرَيكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ).

لَيْلَةُ الَقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ).

والتعبير هذا يوضح أنّ عظمة ليلة القدر كبيرة إلى درجة خفيت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً قبل نزول هذه الآيات ، مع ما له من علم واسع.

وفي الدر المنثور عن مجاهد أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ذكر رجلاً من بني اسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر ، فعجب المسلمون من ذلك فأنزل الله : (إِنَّا أَنزَلْنهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَيكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الَقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ) التي لبس فيها ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر.

لماذا كانت خيراً من ألف شهر؟ ... الظاهر لأهمّية العبادة والإحياء فيها. وما جاء من روايات بشأن فضيلة ليلة القدر وفضيلة العبادة فيها في كتب الشيعة وأهل السنّة كثير ،

__________________

(١) هذه المسألة طبعاً لا تتنافي مع حرية إرادة الإنسان ومسألة الإختيار ، لأنّ التقدير الإلهي عن طريق الملائكة إنّما يتمّ حسب لياقة الأفراد وميزان إيمانهم وتقواهم وطهر نيّتهم وأعمالهم. أي يقدر كل فرد ما يليق له. وبعبارة اخرى : أرضية التقدير يوفرها الإنسان نفسه ، وهذا لا يتنافي مع الإختيار بل يؤكّده.

٥٠٢

ويؤيد هذا المعنى. أضف إلى ذلك ، فإنّ نزول القرآن في هذه الليلة ، ونزول البركات والرحمة الإلهية فيها يجعلها خيراً من ألف شهر.

ولمزيد من وصف هذه الليلة تقول الآية التالية : (تَنَزَّلُ الْمَلِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ).

وتنزّل فعل مضارع يدل على الإستمرار (والأصل تتنزل) ممّا يدل على أنّ ليلة القدر لم تكن خاصة بزمن النبي ، وبنزول القرآن ، بل هي ليلة تتكرر في كل عام باستمرار.

والمقصود ب الروح هو مخلوق عظيم يفوق الملائكة.

وفي الكافي أنّ الإمام الصادق عليه‌السلام سئل عن الروح وهل هو جبرائيل؟ قال : الروح هو أعظم من جبرئيل ، إنّ جبرئيل من الملائكة ، وإنّ الروح هو خلق أعظم من الملائكة ، أليس يقول تبارك وتعالى : تنزّل الملائكة والروح.

(مّن كُلّ أَمْرٍ). أي : لكل تقدير وتعيين للمصائر ، ولكل خير وبركة ، فالهدف من نزول الملائكة في هذه الليلة إذن هو لهذه الامور.

(سَلمٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ).

والآية الأخيرة هذه تصف الليلة بأنّها مفعمة بالخير والسلامة والرحمة حتى الصباح.

القرآن نزل فيها ، وعبادتها تعادل عبادة ألف شهر ، وفيها تنزل الخيرات والبركات ، وبها يحظى العباد برحمة خاصة ، كما إنّ الملائكة والروح تتنزل فيها ... فهي إذن ليلة مفعمة بالسلامة من بدايتها حتى مطلع فجرها. والروايات تذكر أنّ الشيطان يكبل بالسلاسل هذه الليلة فهي ليلة سالمة مقرونة بالسلامة.

نهاية تفسير سورة القدر

* * *

٥٠٣
٥٠٤

٩٨

سورة البينة

محتوى السورة : هذه السورة تناولت رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وما فيها من دلائل بيّنة.

وفي مقطع آخر من السورة بيان عن مواقف أهل الكتاب والمشركين تجاه الإسلام ... بعضهم آمن وعمل صالحاً فهو خير المخلوقات ، وبعضهم كفر وأشرك فهو شرّ البرية.

هذه السورة أطلق عليها لمناسبة الفاظها اسماء متعددة أشهرها : البيّنة ولم يكن والقيمة.

فضيلة تلاوة السورة : في المجمع عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو يعلم الناس ما في (لم يكن) لعطلوا الأهل والمال وتعلموها. فقال رجل من خزاعة : ما فيها من الأجر يا رسول الله؟ فقال : لا يقرأها منافق أبداً ولا عبد في قلبه شك في الله عزوجل. والله إنّ الملائكة المقربين ليقرؤونها منذ خلق الله السماوات والأرض لا يفترون عن قراءتها ، وما من عبد يقرؤها بليل إلّابعث الله ملائكة يحفظونه في دينه ودنياه ويدعون له بالمغفرة والرحمة ، فإن قرأها نهاراً اعطي عليها من الثواب مثل ما أضاء عليه النهار وأظلم عليه الليل.

* * *

٥٠٥

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (٥)

في بداية السورة ذكر لأهل الكتاب (اليهود والنصارى) ومشركي العرب قبل ظهور الإسلام ، فهؤلاء كانوا يدّعون أنّهم غير منفكين عن دينهم إلّابدليل واضح قاطع.

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَةُ).

والبيّنة : التي أرادوها : رسول من الله يتلو عليهم كتاباً مطهّراً من ربّ العالمين : (رَسُولٌ مِّنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً).

وهذه الصحف فيها من الكتابة ما هو صحيح وثابت وذو قيمة : (فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ).

كان هذا ادّعاؤهم قبل ظهور الإسلام ، وحينما ظهر ونزلت آياته تغيّر هؤلاء ، واختلفوا وتفرقوا ، وما تفرقوا إلّابعد أن جاءهم الدليل الواضح والنبي الصادح بالحق.

(وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيّنَةُ).

وهذا المعنى يشبه ما جاء في الآية (٨٩) من سورة البقرة : (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ).

نعلم أنّ أهل الكتاب كانوا ينتظرون مثل هذا الظهور ، ولابدّ أن يكون مشركو العرب مشاركين لأهل الكتاب في هذا الإنتظار لما كانوا يرون فيهم من علم ومعرفة ، ولكن حين تحققت آمالهم غيّروا مسيرهم والتحقوا باعداء الدعوة.

«البيّنة : في الآية هي الدليل الواضح ، ومصداقها حسب الآية الثانية شخص رسول الله وهو يتلو عليهم القرآن.

«صحف : جمع صحيفة ، وتعني ما يكتب عليه من الورق ، والمقصود بها هنا محتوى هذه الأوراق ، إذ نعلم أنّ الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن يتلو شيئاً عليهم من الأوراق.

٥٠٦

ومطهرّة : أي طاهرة من كل ألوان الشرك والباطل ، ومن تلاعب شياطين الجن والإنس ، كما جاء في الآية (٤٢) من سورة فصّلت : (لَّايَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ).

ثم يتوالى التقريع لأهل الكتاب ، ومن بعدهم للمشركين ، لأنّهم اختلفوا في الدين الجديد ، منهم مؤمن ومنهم كافر ، بينما : (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَوةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَوةَ).

ثم تضيف الآية القول : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).

والمقصود هو : إنّ دين الإسلام ليس فيه سوى التوحيد الخالص والصلاة والزكاة وأمثالها من التعاليم. وهذه امور معروفة فلماذا يعرضون عنها.

المقصود ب الدين هو مجموع الدين والشريعة ، أي إنّهم امروا أن يعبدوا الله وأن يخلصوا له الدين والتشريع في جميع المجالات.

جملة (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) إشارة إلى أنّ الاصول المذكورة في الآية وهي : التوحيد الخالص ، والصلاة (الإرتباط بالله) والزكاة (الإرتباط بالنّاس) من الاصول الثابتة الخالدة في جميع الأديان ، بل إنّها قائمة في أعماق فطرة الإنسان ، ذلك لأنّ مصير الإنسان يرتبط بالتوحيد ، وفطرته تدعوه إلى معرفة المنعم وشكره ، ثم إنّ الروح الإجتماعية المدنية للإنسان تدعوه إلى مساعدة المحرومين.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (٨)

خير البريّة وشرّها : الآيات السابقة تحدثت عن انتظار أهل الكتاب والمشركين لبيّنة تأتيهم من الله ، لكنّهم تفرقوا من بعدما جاءتهم البيّنة.

هذه الآيات تذكر مجموعتين من الناس مختلفتين في موقفهما من الدعوة كافرة ومؤمنة تذكر الكافرين أوّلاً بالقول : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ

٥٠٧

جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ).

وعبارة (أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) عبارة قارعة مثيرة ، تعني أنّه لا يوجد بين الأحياء وغير الأحياء موجود أضل واسوأ من الذين تركوا الطريق المستقيم بعد وضوح الحق وإتمام الحجّة ، وساروا في طريق الضلال.

تقديم ذكر أهل الكتاب على المشركين في هذه الآية أيضاً ، قد يعود إلى ما عندهم من كتاب سماوي وعلماء ومن صفات صريحة لنبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتبهم ، لذلك كانت معارضتهم أفظع وأسوأ.

الآية التالية تذكر المجموعة الثانية ، وهم المؤمنون وتقول : (إِنَّ الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ).

والآية التي بعدها تذكر جزاء هؤلاء المؤمنين ، وما لهم عند الله من مثوبة : (جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ).

عبارة (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) تبيّن بجلاء أنّ الإنسان المؤمن ذا الأعمال الصالحة أفضل من الملائكة ، فعبارة الآية مطلقة وليس فيها استثناء والآيات الاخرى تشهد على ذلك أيضاً ، مثل آية سجود الملائكة لآدم ، ومثل قوله سبحانه : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىءَادَمَ) (١).

إنّهم راضون عن الله لأنّ الله أعطاهم ما أرادوه ، والله راض عنهم لأنّهم أدّوا ما أراده منهم ، وإن كانت هناك زلة فقد غفرها بلطفه وكرمه ، وأيّة لذة أعظم من أن يشعر الإنسان أنّه نال رضا المحبوب ووصاله ولقاءه.

نعم ، نعيم جسد الإنسان جنات الخلد ، ونعيم روحه رضا الله ولقاؤه ، لأنّ هذه الخشية دافع للحركة صوب كل طاعة وتقوى وعمل صالح.

بحث

علي عليه‌السلام وشيعته خير البريّة : ثمّة روايات كثيرة بطرق أهل السنّة في مصادرهم الحديثية المعروفة ، وهكذا في المصادر الشيعية ، فسّرت الآية : (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) بأنّهم علي بن أبي طالب عليه‌السلام وشيعته.

__________________

(١) سورة الإسراء / ٧٠.

٥٠٨

في الدر المنثور عن ابن عباس قال : لما نزلت (إِنَّ الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام : هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين.

وأخرج ابن مردويه عن علي عليه‌السلام قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ألم تسمع قول الله (إِنَّ الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض ، إذا جئت الامم للحساب تدعون غرّاً محجلين.

هذا الحديث من الأحاديث المعروفة المشهورة المقبولة لدى أكثر علماء الإسلام ، وفيه بيان لفضيلة كبرى من فضائل علي عليه‌السلام وأتباعه.

وهذه الروايات تدل ضمناً أنّ كلمة الشيعة باعتبارها اسماً لأتباع علي عليه‌السلام كانت قد شاعت منذ عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين المسلمين على لسان الرسول نفسه. واولئك الذين يخالون أنّ الكلمة هذه ظهرت في عصور متأخرة في خطأ كبير.

نهاية تفسير سورة البيّنة

* * *

٥٠٩
٥١٠

٩٩

سورة الزلزلة

محتوى السورة : هذه السورة تدور مفاهيمها حول ثلاثة محاور : تتحدث أوّلاً : عن علامات البعث ويوم القيامة ؛ وثانياً : عن شهادة الأرض على جميع أعمال العباد ؛ وثالثاً : تقسم الناس إلى مجموعتين صالحة وطالحة ، وتبيّن أنّ كل مجموعة ترى ثمار عملها.

فضيلة تلاوة السورة : في المجمع ابي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من قرأها فكأنّما قرأ البقرة واعطي من الأجر كمن قرأ ربع القرآن.

وفي الكافي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام قال : لا تملوا من قراءة إذا زلزلت الأرض زلزالها فإنّه من كانت قراءته بها في نوافله لم يصبه الله عزوجل بزلزلة أبداً ، ولم يمت بها ولا بصاعقة ولا بآفة من آفات الدنيا حتى يموت.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (٢) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (٨)

٥١١

هذه السورة تبدأ ببيان صور من الأحداث الهائلة المفزعة التي ترافق نهاية هذا العالم وبدء البعث والنشور. تقول : (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا).

(وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا).

عبارة زلزالها تعني أنّ الأرض بأجمعها تهتز في ذلك اليوم (خلافاً للزلازل العادية الموضعية عادة) أو أنّها إشارة إلى الزلزلة المعهودة ، أي زلزلة يوم القيامة.

والأثقال ـ جمع ثقل ، بمعنى الحمل ـ ذكر لها المفسرون معاني متعددة. قيل : إنّها البشر الذين يخرجون من أجداثهم على أثر الزلزال ؛ كما جاء في الآية (٤) من سورة الإنشقاق : (وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ).

وقيل إنّها الكنوز المخبوءة التي ترتمي إلى الخارج ، وتبعث الحسرة في قلوب عبّاد الدنيا.

ويحتمل أيضاً أن يكون المقصود إخراج المواد الثقيلة الذائبة في باطن الأرض ، وهو ما يحدث أثناء البراكين والزلازل ، فإنّ الأرض في نهاية عمرها تدفع ما في أعماقها إلى الخارج على أثر ذلك الزلزال العظيم.

ويمكن الجمع بين هذه التفاسير.

في ذلك الجو المليء بالرهبة والفزع ، تصيب الإنسان دهشة ما بعدها دهشة فيقول في ذعر : ما لهذه الأرض تتزلزل وتلقي ما في باطنها؟ (وَقَالَ الْإِنسنُ مَا لَهَا).

إنّ الإنسان هنا له معنى عام يشمل كل أفراد البشر. فالدهشة من وضع الأرض في ذلك اليوم لا يختص بالكافرين.

هذا السؤال التعجبي يرتبط بالنفخة الاولى ، حيث تحدث الزلزلة الكبرى وينتهي فيها هذا العالم.

وفي هذه الحالة يكون المقصود من أثقال الأرض معادنها وكنوزها والمواد المذابة فيها.

وأهم من ذلك أنّ الأرض : (يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا).

تحدّث بالصالح والطالح ، وبأعمال الخير والشر ، مما وقع على ظهرها ، وهذه الأرض واحد من أهم الشهود على أعمال الإنسان في ذلك اليوم ، وهي إذن رقيبة على ما نفعله عليها.

وفي المجمع : جاء في الحديث أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أتدرون ما أخبارها؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها ، تقول : عمل كذا وكذا ، يوم كذا ، وكذا وهذا أخبارها.

٥١٢

(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا).

فما فعلته الأرض إنّما كان بوحي ربّها ، وهي لا تتوانى في تنفيذ أمر الرب.

وعبارة أوحى إنّما هي لبيان أنّ حديث الأرض خلاف طبيعتها ، ولا يتيسر ذلك سوى عن طريق الوحي الإلهي.

(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ).

«أشتات : جمع شتّ وهو المتفرق والمبعثر ، أي أنّ الناس يردون ساحة المحشر متفرقين مبعثرين ، وقد يكون التفرق والتبعثر لورود أهل كل دين منفصلين عن الآخرين.

أو قد يكون لورود أهل كل نقطة من نقاط الأرض بشكل منفصل.

أو قد يكون لورود جماعة بأشكال جميلة مستبشرة ، وجماعة بوجوه عبوسة مكفهرة إلى المحشر.

أو أنّ كل امّة ترد مع إمامها وقائدها ؛ كما في الآية (٧١) من سورة الإسراء : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ).

أو أن يحشر المؤمنون مع المؤمنين والكافرون مع الكافرين.

الجمع بين هذه التفاسير ممكن تماماً لأنّ مفهوم الآية واسع.

«يصدر : من الصدور ، وهو خروج الإبل من بركة الماء مجتمعة هائجة ، وعكسه الورود.

وهي هنا كناية عن خروج الأقوام من القبور وورودهم على المحشر للحساب.

المقصود من عبارة (لّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) هو : تجسم الأعمال ورؤية الأعمال نفسها.

وهذه الآية أوضح الآيات الدالة على تجسم الأعمال ، حيث تتخذ الأعمال في ذلك اليوم أشكالاً تتناسب مع طبيعتها وتنتصب أمام صاحبها ، وتكون رفقتها سروراً وانشراحاً أو عذاباً وبلاءً.

ثم ينتقل الحديث إلى جزاء أعمال المجموعتين المؤمنة والكافرة ، الصالحة والطالحة.

(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ).

وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

ظاهر الآية يدل أيضاً على مسألة تجسم الأعمال ومشاهدة العمل نفسه ، صالحاً أم طالحاً ، يوم القيامة ، حتى إذا عمل ما وزنه ذرّة من الذرّات يره مجسماً يوم القيامة.

٥١٣

«مثقال : في اللغة بمعنى الثقل ، وبمعنى الميزان الذي يقاس به الثقل ؛ والمعنى الأوّل هوالمقصود في الآية.

والذرّة : ذكروا لها معاني متعددة من ذلك ، فهو هنا أصغر وزن.

الآيتان المذكورتان وآيات اخرى مشابهة تدلّ دلالة واضحة على الدقّة المتناهية في تحرّي الأعمال وفي المحاسبة يوم القيامة ، كقوله سبحانه : (يَا بُنَىَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السَّموَاتِ أَوْ فِى الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (١).

هذه التعابير القرآنية تدلّ على أنّ أصغر الأعمال يحاسب عليها في تلك المحاسبة الكبرى ، وهذه الآيات تحذر أيضاً من استصغار الذنوب الصغيرة ، أو التهاون في أعمال الخير والصغيرة. فما يحاسب عليه الله سبحانه ـ مهما كان ـ ليس بقليل الأهمية.

وحقّاً ، لو تدبر الإنسان في محتوى هذه الآية تكفيه دافعاً إلى طريق الخير وناهياً عن طريق الفساد والإنحراف.

نهاية تفسير سورة الزلزلة

* * *

__________________

(١) سورة لقمان / ١٦.

٥١٤

١٠٠

سورة العاديات

محتوى السورة وفضيلتها : هذه السورة تبدأ بالقسم بامور محفّزة محركة ، ثم تتناول بعض مظاهر الضعف البشري كالكفر والبخل وحب الدّنيا ، ثم تشير السورة إلى مسألة المعاد وإحاطة الله بعباده.

في المجمع ابي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من قرأها اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من بات بالمزدلفة ، وشهد جمعاً.

وعن الإمام الصادق صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من قرأ والعاديات وأدمن قراءتها بعثه الله مع أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم القيامة خاصة ، وكان في حجره ورفقائه.

إنّ هذه الفضائل إنمّا هي نصيب من جعل السورة منهاجاً لحياته وآمن بكلّ محتواها وعمل بها.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلَى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) (١١)

٥١٥

سبب النّزول

في المجمع : قيل : نزلت السورة لما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاً إلى ذات السلاسل فأوقع بهم. وذلك بعد أن بعث عليهم مراراً غيره من الصحابة فرجع كل منهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو المروي عن أبي عبدالله عليه‌السلام في حديث طويل قال : وسميت هذه الغزوة ذات السلاسل لأنّه أسر منهم ، وقتل وسبى وشدّ أسراهم في الحبال مكتفين كأنّهم في السلاسل. ولما نزلت السورة خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الناس ، فصلى بهم الغداة وقرأ والعاديات فلما فرغ من صلاته قال أصحابه : هذه سورة لم نعرفها؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم إن عليّاً ظفر بأعداء الله وبشّرني بذلك جبرائيل عليه‌السلام في هذه الليلة. فقدم علي عليه‌السلام بعد أيّام بالغنائم والأسارى.

التّفسير

قَسماً بالمجاهدين الواعين : قلنا إنّ هذه السورة تبدأ بالقَسم بأمور محفّزة منبّهة ، تقسم أوّلاً بالخيول الجارية المندفعة (إلى ميدان الجهاد) وهي تحمحم وتتنفس بشدّة : (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا).

ويمكن أن يكون القَسم هذا بإبل الحجاج المتجهة من عرفات إلى المشعر الحرام ، ومن المشعر الحرام إلى منى وهي تتنفس بشدّة.

وهذا التّفسير أنسب من عدّة جهات ، وورد في روايات المعصومين عليهم‌السلام أيضاً.

«العاديات : جمع عادية ، من العدو وهو المغادرة والإبتعاد بالقلب. فتكون العداوة أو بالحركة الخارجية فيكون (العدو) وهو الركض ، أو بالمعاملات فيسمى (العدوان). والعاديات في الآية هي الجاريات بسرعة.

«الضبح : صوت الخيل وهي تتنفس بشدّة عند الجري.

ثم يأتي القَسم التالي بهذه العاديات التي توري النيران بحوافرها :

(فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا).

وهي خيل المجاهدين التي تجري بسرعة فائقة في ميدان القتال ، بحيث تنقدح النار من تحت أرجلها جرّاء احتكاك حوافرها بصخور الأرض.

أو هي الإبل التي تجري بين مواقف الحج ، فتتطاير الحصى والحجارة من تحت أرجلها وترتطم بحصى وحجارة اخرى فتنقدح النيران.

«الموريات : جمع مورية والإيراء يعني أضرام النار.

٥١٦

«القدح : ضرب الحجارة أو الخشب أو الحديد بما يشبهه لتوليد النار.

والقسم الثالث بالتي تغير صباحاً على الأعداء : (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا).

«المغيرات : جمع مغيرة والإغارة : الهجوم على العدو ، وقيل إنّ الكلمة تتضمّن معنى الهجوم بالخيل.

ثم تشير الآية التالية إلى سرعة هذه العاديات في هجومها ، وذلك بإثارتها الغبار في كل جانب : (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا).

أو أنّ الغبار يثور من كل صوب نتيجة هجوم إبل الحجاج من المشعر الحرام على منى.

«أثرن : من الإثارة ، وهي نشر الغبار والدخان في الجو.

وفي آخر خصائص هذه المغيرات تذكر الآية أنّها ظهرت بين الإعداء في الفجر :

(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا).

هجومها كان مباغتاً خاطفاً بحيث استطاعت خلال لحظات أن تشق صفوف العدّو وتشن حملتها في قلبه ، وتُشتت جمعه. وهذا نتيجة ما تتحلّى به من سرعة ويقظة وإستعداد وشهامة وشجاعة.

أو إنّها إشارة إلى ورود الحجاج من المشعر إلى قلب منى.

من هنا يتّضح أنّ الجهاد له منزلة عظيمة حتى أنّ أنفاس خيل المجاهدين استحقت أن يقسم بها ... وهكذا الشرر

المتطاير من حوافر هذه الخيول ... والغبار الذي تثيره في الجو ... نعم حتى غبار ساحة الجهاد له قيمة وعظمة.

ثم يأتي جواب القسم ، ويقول سبحانه : (إِنَّ الْإِنسنَ لِرَّبِهِ لَكَنُودٌ).

نعم ، الإنسان البعيد عن التربية الصحيحة ... والذي لم تشرق في قلبه أنوار المعارف الإلهية وتعاليم الأنبياء ... الإنسان الخاضع لأهوائه وشهواته الجامحة هو حتماً كفور بالنعمة وبخيل ... إنّه لكنود.

وكنود : اسم للأرض التي لا تنبت ، وتطلق على الإنسان الكفور والبخيل أيضاً.

كلمة (الإنسان) في مثل هذه الاستعمالات القرآنية تعني الأفراد المتطبعين على الشر والشهوات الجامحة والطغيان.

(وَإِنَّهُ عَلَى ذلِكَ لَشَهِيدٌ). فهو بصير بنفسه ، وإن استطاع أن يخفي سريرته فلا يستطيع أن يخفيها عن الله وعن ضميره ، اعترف بهذه الحقيقة أم لم يعترف.

٥١٧

(وَإِنَّهُ لِحُبّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ). أي أنّه شديد الحبّ للمال والمتاع.

إطلاق الخير على المال في الآية يعود إلى أنّ المال في حد ذاته شيء حسن ، ويستطيع أن يكون وسيلة لأنواع الخيرات ، لكن الإنسان الكنود يصرفه عن هدفه الأصلي ، وينفقه في طريق ذاتياته وأهوائه.

وفي استفهام استنكاري يقول سبحانه : (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ).

وَحُصّلَ مَا فِى الصُّدُورِ. وانكشف ما في نفسه من كفر وايمان ، ورياء واخلاص وغرور وتواضع وسائر نيات الخير والشر.

(إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ). نعم ، فهو عليم بأعمالهم ونياتهم وسيجازيهم وفقها.

«بعثر : من البعثرة وهي البعث والإثارة والإخراج وبعثرة ما في القبور ، بعث الموتى واخراجهم من القبور.

«حُصّل : من التحصيل ، وهو في الأصل يعني إخراج اللب من القشر ، وكذلك تصفية المعادن ، واستخراج الذهب وأمثاله من الخامات. ثم استعملت لمطلق الإستخراج والفصل. والكلمة في الآية تعني فصل الخير عن الشر في القلوب ... الإيمان عن الكفر ، أو الصفات الحسنة عن الصفات السيئة ... أو النوايا الحسنة عن الخبيثة ... تُفصل في ذلك اليوم وتظهر ، وينال كل فرد حسب ذلك جزاؤه.

والتعبير بكلمة يومئذ يعني أنّ الله (في ذلك اليوم) خبير بأعمال العباد وسرائرهم.

ونعلم أنّ الله سبحانه عليم دائماً بذات الصدور. فالتعبير يومئذ هو لأنّ ذلك اليوم يوم الجزاء ، والله يجازيهم على أعمالهم وعقائدهم.

نعم ، الله سبحانه عليم وخبير بأسرارنا وما تنطوي عليه نفوسنا كاملاً ، لكن أثر هذا العلم سيكون أظهر وأوضح عند الجزاء ، وهذا التحذير لو دخل دائرة إيمان البشر لكان سداً منيعاً بينهم وبين الذنوب.

نهاية تفسير سورة العاديات

* * *

٥١٨

١٠١

سورة القارعة

محتوى السورة وفضيلتها : تتناول هذه السورة بشكل عام ، المعاد ، ومقدماته ، حيث تُصنّف الناس يوم القيامة ، إلى صنفين أو جماعتين : الجماعة التي تكون أعمالها ثقيلة في ميزان العدل الإلهي ، فتحظى جزاءً بذلك ، حياة راضية سعيدة في جوار الرحمة الإلهية ، وجماعة أعمالها خفيفة الوزن ، فتعيش في نار جهنم الحارّة المحرقة.

وقد اشتقّ اسم هذه السورة ، أي (القارعة) من الآية الاولى فيها.

في المجمع عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : من قرأ القارعة أمنه الله من فتنة الدجال أن يؤمن به ، ومن قيح جهنم يوم القيامة.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(الْقَارِعَةُ (١) مَا الْقَارِعَةُ (٢) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (٩) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (١٠) نَارٌ حَامِيَةٌ) (١١)

٥١٩

الحادثة القارعة : هذه الآيات تصف القيامة وتقول : (الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ).

«القارعة : من القرع ، وهو طرق الشيء بالشيء مع إحداث صوت شديد ، وسمّيت كل حادثة هامّة صعبة بالقارعة. (تاء التأنيث قد تكون إشارة للتأكيد).

الآية الثالثة تخاطب حتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتقول له : (وَمَا أَدْرَيكَ مَا الْقَارِعَةُ). وهذا يدل على أنّ عظمة هذه الحادثة القارعة إلى درجة لا تخطر على فكر أحد.

أكثر المفسرين ذكروا أنّ القارعة أحد أسماء القيامة ، ولكن لم يوضّحوا هل أنّه اسم لمقدمات القيامة إذ تقرع هذه الدنيا.

أو إنّه اسم للمرحلة التالية .. أي مرحلة احياء الموتى ، وظهور عالم جديد ، وتسميتها القارعة ـ في هذه الحالة ـ لما تبعثه من خوف وذعر في القلوب ..

ولكن الإحتمال الأوّل أنسب ، وإن ذكرت الحادثتان كلاهما في هذه الآيات متتابعتين. وفي وصف ذلك اليوم العجيب يقول سبحانه : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ).

والتشبيه بالفراش قد يكون لأنّ هذه الحشرات تلقي بنفسها بشكل جنوني في النار ، وهذا ما يفعله أهل السيئات إذ يلقون بأنفسهم في جهنم.

ثم تذكر الآية التالية وصفاً آخر لذلك اليوم وتقول : (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ). والعهن : هو الصوف المصبوغ.

والمنفوش : هو المنشور ويتمّ ذلك عادة بآلة الحلج الخاصة.

سبق أن ذكرنا أنّ القرآن الكريم في مواضع متعددة يتحدث عن الجبال عند قيام القيامة بأنّها تتحرك أوّلاً ، ثم تُدَكّ وتتلاشى وأخيراً تصبح بشكل غبار متطاير في السماء. وهذه الحالة الأخيرة تشبهها الآية بالصوف الملون المحلوج ... الصوف المتطاير في مهبّ الريح ، لم يبق منه إلّاألوان ... وهذه آخر مراحل انهدام الجبال.

ثم تتطرق الآيات التالية إلى الحشر والنشر وإحياء الموتى وتقسيمهم إلى مجموعتين :

(فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ). أي إنّ ميزان عمله ثقيل. (فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَيكَ مَاهِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ) (١).

«موازين : جمع ميزان ، وهو وسيلة للوزن ، تستعمل في وزن الأجسام ، ثم استعملت في المعايير المعنوية.

__________________

(١) ماهيه : أصلها ما هي ، والهاء الحقت بها للسكت.

٥٢٠