مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

تؤكّد هي الاخرى على نفس المفهوم والموقف من أعداء الله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَاتَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ).

ويحذّر القرآن الكريم من أن يتّخذ أمثال هؤلاء أولياء وأن تفشى لهم الأسرار فيحيطون علماً بخصوصيات الوضع الإسلامي.

إنّ عبارة (قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) لها مفهوماً واسعاً حيث يشمل جميع الكفار والمشركين. والتعبير ب الغضب في القرآن الكريم لا ينحصر باليهود فقط ، إذ ورد بشأن المنافقين أيضاً كما في الآية (٦) من سورة الفتح.

ثم تتناول الآية أمراً يعتبر دليلاً على هذا النهي حيث يقول تعالى : (قَدْ يِسُوا مِنَ الْأَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ).

ذلك أنّ موتى الكفار سيرون نتيجة أعمالهم في البرزخ حيث لا رجعة لهم لجبران ما مضى من أعمالهم السيّئة ، لذلك فإنّهم يئسوا تماماً من النجاة ، وهؤلاء المجرمون في هذه الدنيا قد غرقوا في آثامهم وذنوبهم إلى حدّ فقدوا معه كل أمل في نجاتهم ، كما هو الحال بالنسبة للموتى من الكفار.

نهاية تفسير سورة الممتحنة

* * *

١٦١
١٦٢

٦١

سورة الصف

محتوى السورة : تدور أبحاث هذه السورة حول محورين أساسيين.

الأوّل : فضيلة الإسلام على جميع الأديان السماوية ، وضمان خلوده وبقائه.

والثاني : وجوب الجهاد في طريق حفظ المبدأ وترسيخ أركانه وتطوير العمل لتقدّمه والإلتزام به.

إلّا أنّنا حينما نتأمل في الآيات الكريمة نلاحظ إمكانية تقسيمها إلى ثلاثة أقسام أخرى :

١ ـ الدعوة إلى الانسجام بين القول والعمل.

٢ ـ الإشارة إلى موقف اليهود من العهود ونقضهم لها ، بالإضافة إلى بشارة السيد المسيح عليه‌السلام بظهور الإسلام العظيم.

٣ ـ استعراض لحياة حواري السيد المسيح والدعوة لاستلهام الدروس من سيرتهم.

إنّ إختيار إسم الصّف لهذه السورة كان بلحاظ العبارة التي وردت في الآية الرابعة منها ، وتسمّى أحياناً بسورة عيسى ، أو سورة الحواريين.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان : ابي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من قرأ سورة عيسى عليه‌السلام كان عيسى مصلّياً عليه ، مستغفراً له ما دام في الدنيا ، وهو يوم القيامة رفيقه.

١٦٣

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (٤)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : قيل : كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد ، يقولون : وددنا لو أنّ الله دلنا على أحب الأعمال إليه ، فنعمل به ، فأخبرهم الله أنّ أفضل الأعمال إيمان لا شك فيه والجهاد. فكره الناس ، وشق عليهم ، وتباطأوا عنه ، فنزلت الآية.

التّفسير

اعتبرت هذه السورة من السور المسبّحات ، ذلك لأنّها تبدأ بتسبيح الله في بدايتها : (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ).

ولِم لا يسبّحونه ولا ينزّهونه من كل عيب ونقص : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) القدير الذي لا يقهر والحكيم المحيط بكل شيء علماً.

ثم يضيف الباريء عزوجل في معرض لوم وتوبيخ للأشخاص الذين لم يلتزموا بأقوالهم : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَاتَفْعَلُونَ).

ثم يضيف سبحانه مواصلاً القول : (كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَاتَفْعَلُونَ).

فمفهوم الآية يشمل كل تخلّف عن عمد ، سواء تعلق بنقض العهود والوعود أو غير ذلك من الشؤون ، حتى أنّ البعض قال : إنّها تشمل حتى النذور.

وفي الكافي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : عدة المؤمن أخاه نذر لا كفارة له ، فمن أخلف فبخلف الله بدأ ، ولمقته تعرّض ، وذلك قوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَاتَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَاتَفْعَلُونَ).

ثم تطرح الآية اللاحقة مسألة مهمة للغاية في التشريع الإسلامي ، وهي موضوع الجهاد في سبيل الله ، حيث يقول تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ).

١٦٤

«مرصوص : من مادة رصاص بمعنى معدن الرصاص ، ولأنّ هذه المادة توضع بعد تذويبها بين طبقات البناء من أجل استحكامه وجعله قوياً ومتيناً للغاية ، لذا اطلقت هذه الكلمة هنا على كل أمر قوي ومحكم.

والمقصود هنا أن يكون وقوف وثبات المجاهدين أمام العدو قوياً راسخاً.

إنّ من العوامل المهمة والمؤثرة في تحقيق النصر عامل الانسجام ووحدة الصفوف أمام الأعداء في ميادين القتال ، وهذا المبدأ لا يجدر بنا الالتزام به في الحرب العسكرية فحسب ، بل علينا تجسيده في الحروب الإقتصادية والسياسية ... وإلّا فسوف لن نحقق شيئاً.

(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٦)

البشارة بظهور النبي (أحمد) : تأتي الآية الكريمة ـ أعلاه ـ مكمّلة لمحورين أساسيين تحدثت عنهما الآيات السابقة وهما (الانسجام بين القول والعمل) و (وحدة الصف الإيماني) ، لتستعرض لنا زاوية من حياة النبيين العظيمين (موسى وعيسى) عليهما‌السلام ، ومتطرّقة إلى طبيعة التناقض والانفصام بين أقوال أتباعهم وأعمالهم ، بالإضافة إلى (عدم إنسجام صفوفهم) وأخيراً المصير السيء الذي انتهوا إليه. يقول تعالى : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَدْ تَّعْلَمُونَ أَنّى رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ).

والمراد من هذا الإيذاء هو ما كانوا ينسبونه لموسى عليه‌السلام من تهم ، كما يبيّن ذلك في الآية (٦٩) من سورة الأحزاب : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَاتَكُونُوا كَالَّذِينَءَاذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللهِ وَجِيهًا).

ومما لا شك فيه أنّ هذه الممارسات لم تبق بدون عقاب كما نقرأ ذلك في نهاية الآية حيث قال تعالى : (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).

إنّ ما يستفاد من المفهوم الذي إستعرضته الآية المباركة أنّ الهداية والضلالة وإن كانت من قبل الله سبحانه ، إلّاأنّ مقوّماتها وأرضيتها تكون من الإنسان نفسه.

١٦٥

وتشير الآية اللاحقة إلى مسألة تكذيب بني إسرائيل لرسالة عيسى عليه‌السلام ومخالفتهم له ، حيث يضيف تعالى : (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ إِنّى رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُّصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَيةِ وَمُبَشّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى إِسْمُهُ أَحْمَدُ).

وهذا بيان من عيسى عليه‌السلام أنّه يمثّل همزة وصل وحلقة من الرسالة بين نبيين وكتابين وامّتين ، فقد سبقته رسالة موسى عليه‌السلام وكتابه ، وستليه رسالة الإسلام على يد النبي العظيم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وبالرغم من أنّ قسماً من بني إسرائيل قد آمنوا بالرسول الموعود ، إلّاأنّ الأكثرية الغالبة كان لهم موقف عدائي متشدّد تجاهه ، مما دعاهم وسوّل لهم إنكار معاجزه الواضحة ، وذلك ما يجسّده قوله تعالى : (فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيّنَاتِ قَالُوا هذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ).

العجيب هو أنّ اليهود كانوا قد شخّصوا الرسول العظيم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل مشركي العرب ، إلّا أنّهم بقي على لجاجتهم وإصرارهم وعنادهم وإنكارهم له.

(عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٩)

يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم : لاحظنا في الآيات السابقة موقف الإصرار والعناد لجموع أهل الكتاب من دعوة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله رغم ما بشّر به المسيح عليه‌السلام حول ظهور رسول الإسلام ، وما اقترن بذلك من بيّنات ودلائل ومعاجز واضحة. وتبيّن الآيات ـ مورد البحث ـ عاقبة هؤلاء ومصيرهم السيء ونتيجة عملهم الخائب. فيقول تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلمِ).

نعم ، إنّ أمثال هؤلاء المكذّبين لدعوة الرسول الإلهي ، الذين يعتبرون ما يأتي الرسول به من إعجاز سحراً ، وما يتحدث به من مبادىء إلهية سامية ضلالاً وباطلاً ... فإنّ هؤلاء هم أظلم الناس ، لأنّهم يصدّون أنفسهم عن طريق الحق والهداية والنجاة ، ويصدّون سائر عباد الله عن منابع الفيض الإلهي ويحرمونهم من السعادة الأبدية.

ويضيف سبحانه في نهاية الآية : (وَاللهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

١٦٦

ثم يستعرض القرآن الكريم نقطة اخرى ويبيّن لنا أنّ أعداء الحق ليسوا بقادرين على الوقوف بوجه مبادىء السماء والأنوار الإلهية العظيمة ، حيث يقول سبحانه : (يُرِيدُونَ لِيُطْفُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ).

إنّ هذه الجهود والمؤامرات الشيطانية غير قادرة على التأثير وإطفاء شعلة الوهج الرسالي الذي أتى به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبذلك تحقّق التنبّؤ القرآني في الفشل الذريع الذي لحق بهؤلاء الذين أرادوا كيداً بالرسالة الإلهية ... بل إنّ النور الإلهي في حالة إنتشار وإتّساع يوماً بعد يوم ، كما تكشف ذلك لنا الاحصائيات ، حيث إنّ عدد مسلمي العالم في تزايد مستمر رغم الجهود المتظافرة من الصهاينة والصليبيين و (الماديين الشرقيين).

وهذا الأمر بحد ذاته يمثّل معجزة خالدة من معاجز القرآن الكريم وهذا الدين العظيم.

ويتوضّح التأكيد الأكثر في آخر آية ـ مورد البحث ـ حيث يعلن القرآن الكريم ذلك صراحة بقوله عزوجل : (هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).

وبذلك أثبتت أحداث المستقبل صدق هذا التنبؤ العظيم ، وغلبة الإسلام من الناحية المنطقية على كافّة المذاهب الاخرى وقد حقّق خطوات عظيمة في طريق التقدّم على الأعداء ، واكتسح مناطق واسعة من العالم ، وهو الآن في تقدّم مستمر ، وقوّة يخشى منها عالميّاً.

ومن المسلّم أنّ النتيجة النهائية كما نعتقد سوف تكون للإسلام ، وذلك عند ظهور الإمام المهدي ـ أرواحنا فداه ـ إنّ هذه الآيات بذاتها دليل على هذا الظهور العظيم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١٣)

التجارة الرابحة : قلنا في بداية السورة أنّ الأهداف المهمة لهذه السورة هو الدعوة إلى الإيمان والجهاد في سبيل الله ، وما الآيات مورد البحث إلّاتأكيد على هذين الأصلين ، من

١٦٧

خلال مثال رائع يبعث على الحركة الإلهية في روح الإنسان ، والتي هي شرط إنتصار الإسلام على كل الأديان ، وقد اشير إلى هذا العامل في الآيات الماضية. يقول تعالى في البداية : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ).

وقد بادر في نفس الوقت وبدون إنتظار للإجابة متحدّثاً عن هذه التجارة المتعددة المنافع ، حيث يضيف تعالى : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ).

ومما لا شك فيه أنّ الله سبحانه غني عن هذه التجارة النافعة وأنّ جميع منافعها تعود على المؤمنين. لذا يقول في نهاية الآية : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).

إنّ الإيمان بالرسول لا ينفصل عن الإيمان بالله تعالى ، كما أنّ الجهاد بالنفس لا ينفصل عن الجهاد بالمال.

وعند التدقيق في الآية المباركة نلاحظ أنّه تعالى قد قدّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس ، لا باعتباره أكثر أهمية ، بل بلحاظ أنّه مقدمة للجهاد بالنفس ، لأنّ مستلزمات الجهاد لا تتهيّأ إلّاعند توفّر الإمكانات المادية.

لقد تمّ تسليط الأضواء على ثلاثة عناصر أساسية في هذه التجارة العظيمة والتي لا مثيل لها.

(فالمشتري) هنا هو الله سبحانه ، و (البائع) هم المؤمنون ، و (البضاعة) هي الأنفس والأموال ، ويأتي دور العنصر الرابع في هذه الصفقة وهو الثمن والعوض لهذه المعاملة العظيمة.

يقول تعالى : (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

وتستعرض الآية مرحلة الجزاء الاخروي في البداية حيث غفران الذنوب باعتبارها أهمّ عوامل القلق وعدم الراحة الفكرية والنفسية للإنسان ، وعندما يتحقق الغفران له فمن المسلّم أنّ الراحة والهدوء والإطمئنان تنشر ظلالها عليه.

كما أنّنا نقرأ في الآية اللاحقة عن شعبتين من الهبات الإلهية التي تفضل بها الباريء على عباده المؤمنين في هذه الدنيا حيث يقول : (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ).

يالها من تجارة مباركة مربحة حيث تشتمل على الفتح والنصر والنعمة والرحمة.

١٦٨

ولهذا فإنّه سبحانه يبارك للمؤمنين تجارتهم العظيمة هذه ، ويزفّ لهم البشرى بقوله تعالى : (وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) (١٤)

كونوا كالحواريين : في الآية الأخيرة من سورة الصّف يدور الحديث مرّة اخرى حول محور (الجهاد) الذي مرّ ذكره سابقاً في هذه السورة ، إلّاأنّ الحديث عنه يستمر هنا في هذه الآية ـ أيضاً باسلوب جديد. لقد طرحت الآية الكريمة مسألة مهمة غير الجنة والنار وذلك بقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللهِ).

نعم ، أنصار الله ، الله الذي هو منشأ جميع القدرات ، ومرجعها.

ثم يستشهد بنموذج تاريخي رائد كي يوضّح سبحانه أنّ هذا الطريق لن يخلو من السالكين والعشّاق الإلهيين حيث يضيف تعالى : (كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَن أَنصَارِى إِلَى اللهِ).

ويكون الجواب على لسان الحواريين بمنتهى الفخر والإعتزاز : (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ). وساروا في هذا الدرب حاملين لواء الخير والهداية ، ومتصدّين لحرب أعداء الحق والرسالة ، حيث يقول سبحانه : (فَامَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ).

وهنا يأتي العون والنصر والإغاثة والمدد الإلهي للطائفة المؤمنة حيث يقول سبحانه : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَءَامَنُوا عَلَى عَدُوّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ).

وأنتم أيضاً يا حواريي محمّد ، يشملكم هذا الفخر وتحيطكم هذه العناية واللطف الإلهي ، لأنّكم أنصار الله ، وإنّ النصر على أعداء الله سيكون حليفكم أيضاً ، كما انتصر الحواريون عليهم.

من هم الحواريون؟ جاء ذكر الحواريين في القرآن الكريم خمس مرّات ، مرتين منها في هذه السورة المباركة.

«الحواريون : تعبير يراد به الإشارة إلى إثني عشر شخصاً من الأنصار الخواص

١٦٩

لعيسى عليه‌السلام وقد ذكرت أسماؤهم في الأناجيل المتداولة حالياً ك (إنجيل متّى ، ولوقا باب ٦).

في الدرّ المنثور : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للنفر الذين لاقوه بالعقبة : أخرجوا إلي إثنى عشر رجلاً منكم يكونوا كفلاء على قومهم كما كفلت الحواريون لعيسى بن مريم. مما يعكس أهمية هؤلاء العظام.

نهاية تفسير سورة الصّف

* * *

١٧٠

٦٢

سورة الجمعة

محتوى السورة : تدور هذه السورة حول محورين أساسيين :

١ ـ التوحيد وصفات الله والهدف من بعثة الرسول ومسألة المعاد.

٢ ـ الأثر التربوي لصلاة الجمعة وبعض الخصوصيات المتعلقة بهذه العبادة العظيمة.

فضيلة تلاوة السورة : في المجمع : ابي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ومن قرأ سورة الجمعة اعطي عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة ، وبعدد من لم يأتها في أمصار المسلمين.

وقد ورد في الروايات التأكيد الكثير على قراءة سورة الجمعة والمنافقون في صلاة الجمعة ، وقد ورد في بعض الروايات أن لا تترك قراءتها ما أمكن ، ومع أنّ العدول في القراءة عن سورة التوحيد وكافرون إلى سور اخرى غير جائز ، إلّاأنّ هذه المسألة مستثناة في صلاة الجمعة ، فيجوز العدول عنهما إلى سورة الجمعة والمنافقون بل عدّ ذلك مستحبّاً.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٤)

١٧١

تبدأ هذه السورة كذلك بالتسبيح لله عزوجل ، وتشير إلى بعض صفات الجمال والجلال والأسماء الحسنى لله ، ويعتبر ذلك في الحقيقة مقدمة للأبحاث القادمة ، حيث يقول تعالى : (يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ). حيث يسبّحونه بلسان الحال والقال وينزّهونه عن جميع العيوب والنقائض : (الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).

وبناءً على ذلك تشير الآية أوّلاً إلى المالكية والحاكمية المطلقة ، ثم تنزّهه من أي نوع من الظلم والنقص وذلك لإرتباط اسم الملوك بأنواع المظالم والمآسي ، فجاءت كلمة قدّوس لتنفي كل ذلك عنه جلّ شأنه.

وبعد هذه الإشارة الخاطفة ذات المعنى العظيم لمسألة التوحيد وصفات الله ، يتحدث القرآن عن بعثة الرسول والهدف من هذه الرسالة العظيمة المرتبطة بالعزيز الحكيم القدوس ، حيث يقول : (هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْءَايَاتِهِ).

وذلك من أجل أن يطهّرهم من كل أشكال الشرك والكفر والانحراف والفساد (وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَللٍ مُّبِينٍ).

«الامّيين : جمع امّي وهو الذي لا يعرف القراءة والكتابة (ونسبته إلى الام باعتبار أنّه لم يتلقّ تعليماً في معهد أو مدرسة غير مدرسة الام).

إنّ الآية تؤكّد على أنّ نبي الإسلام بعث من بين هؤلاء الاميين الذين لم يتلقّوا ثقافة وتعليماً وذلك لبيان عظمة الرسالة وذكر الدليل على حقانيتها ، لأنّ من المحال أن يكون هذا القرآن العظيم وبذلك المحتوى العميق وليد فكر بشري وفي ذلك المحيط الجاهلي ومن شخص امّي أيضاً ، بل هو نور أشرق في الظلمات ، وهي بحد ذاتها معجزة باهرة وسنداً قاطعاً على حقانيته.

ولخصّت الآية الهدف من بعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في ثلاثة امور ، جاء أحدها كمقدمة وهو تلاوة الآيات عليهم ، بينما شكّل الأمران الآخران أي (تهذيب وتزكية النفس) و (تعليمهم الكتاب والحكمة) الهدف النهائي الكبير.

نعم ، جاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ليعطي الإنسانية ويعلّمها العلم والأخلاق ، لتستطيع بهذين الجناحين (جناح العلم وجناح الأخلاق) أن تحلّق في عالم السعادة وتطوي مسيرها إلى الله لتنال القرب منه.

ويمكن أن يكون الفرق بين الكتاب والحكمة هو أنّ الأوّل إشارة إلى القرآن والثاني إشارة إلى سنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

١٧٢

وتعبير الضلال المبين إشارة إلى سابقة العرب وماضيهم الجاهلي في عبادة الأصنام.

نعم لقد جاء الرسول وأنقذهم ببركة الكتاب والحكمة من هذا الضلال والتخبّط وزكّاهم وعلّمهم. وحقّاً إنّ تربية وتغيير مثل هذا المجتمع الضال يعتبر أحد الأدلة على عظمة الإسلام ومعاجز نبيّنا العظيمة.

ولكن لم يكن الرسول مبعوثاً لهذا المجتمع الامّي فقط ، بل كانت دعوته عامة لجميع الناس ، فقد جاء في الآية التالية : (وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ).

بناءً على ذلك تكون الآية أعلاه شاملة لجميع الأقوام الذين يأتون بعد أصحاب الرسول من العرب والعجم.

وجاء في آخر الآية : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

بعد أن يشير إلى هذه النعمة الكبيرة ـ أي نعمة بعث نبي الأكرم وبرنامجه التعليمي والتربوي ـ يضيف قائلاً : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٦) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٨)

الحمار الذي يحمل الأسفار : جاء في بعض الروايات أنّ اليهود قالوا : (إذا كان محمّد قد بعث برسالة فإنّ رسالته لا تشملنا) فردّت عليهم الآية مورد البحث في أوّل بيان لها بأنّ رسالته قد اشير إليها في كتابكم السماوي لو أنّكم قرأتموه وعملتم به. يقول تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمّلُوا التَّوْرَيةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا). أي نزلت عليهم التوراة وكلّفوا بالعمل بها ولكنّهم لم يؤدّوا حقّها ولم يعملوا بآياتها فمثلهم (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا).

لقد إقتنع هؤلاء القوم بتلاوة التوراة واكتفوا بذلك دون أن يعملوا بموجبها.

١٧٣

هؤلاء مثلهم كمثل الحمار الذي يضرب به المثل في الغباء والحماقة.

ثم يقول تعالى : (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بَايَاتِ اللهِ). إذ لم يكتفوا بمخالفة القرآن عملاً ، بل أنكروه بلسانهم أيضاً ، حيث نصّت الآية (٨٧) من سورة البقرة وهي تصف اليهود قائلة : (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَاتَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ).

ويقول تعالى في آخر الآية في عبارة وجيزة : (وَاللهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

صحيح أنّ الهداية شأن إلهي ، ولكن ينبغي أن تهيّأ لها الأرضية اللازمة ، وهي الروح التواقة لطلب الحق والبحث عنه ، وهي امور يجب أن يهيّئها الإنسان نفسه ، ولا شك أنّ الظالمين يفتقدون مثل هذه الأرضية.

وقد حملت الروايات بشدّة على مثل هؤلاء العلماء الذين لا يعملون بما يعلمون ، ففي رواية عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : من ازداد علماً ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلّابعداً (١).

ومثل هؤلاء العلماء سيكونون بلاءً على المجتمع ووبالاً عليه ، وسينتهي المجتمع الذي علماؤه من هذا القبيل إلى مصير خطير.

يقول الشاعر :

وراعي الشاة يحمي الذئب عنها

فكيف إذا الرعاة لها ذئاب

وأوضحنا سابقاً أنّ اليهود اعتبروا أنفسهم امّة مختارة ، أو نسيجاً خاصاً لا يشبه غيره ، وذهبوا إلى أبعد من ذلك حينما ادّعوا أنّهم أبناء الله وأحبّاؤه المنتقمون ، وهذا ما أشارت إليه الآية (١٨) من سورة المائدة : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنؤُا اللهِ وَأَحِبؤُهُ). (رغم أنّهم يقصدون الأبناء المجازيين).

ولكن القرآن شجب هذا التعالي مرّة اخرى بقوله : (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).

فالأحبّاء يتمنون اللقاء دائماً ، ولا يتمّ اللقاء المعنوي بالله يوم القيامة.

إنّ خوفكم وفراركم من الموت دليل قاطع على أنّكم متعلقون بهذه الدنيا وغير صادقين في إدعائكم.

__________________

(١) المحجّة البيضاء في تهذيب الاحياء ١ / ١٢٦.

١٧٤

ثم يشير القرآن إلى سبب خوفهم من الموت بقوله : (وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).

لأنّ خوف الإنسان من الموت ناشيء من عاملين أساسيين :

الأوّل : عدم إيمان الإنسان بالحياة بعد الموت واعتقاده أنّ الموت زوال وفناء.

والثاني : أعماله السيّئة التي يعتقد أنّه سيواجهها بعد مماته في عالم الآخرة عندما تقام المحكمة الإلهية.

وإنّما يخاف اليهود من الموت لسوء أعمالهم إذ أنّهم يعتقدون ـ أيضاً ـ بيوم الحساب.

وقد وصفهم القرآن الكريم بالظالمين ، وذلك لأنّ الظلم يتّسع ليشمل جميع الأعمال السيّئة والجرائم التي إرتكبوها ، من قتلهم الأنبياء وقول الزور وغصب الحقوق وتلوّثهم بمختلف المفاسد الأخلاقية.

غير أنّ هذا الخوف وذلك الفرار لا يجدي شيئاً ، فالموت أمر حتمي لابدّ أن يدرك الجميع ، إذ يقول تعالى : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلقِيكُم ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

الموت قانون عام يخضع له الجميع بما فيهم الأنبياء والملائكة وجميع الناس : (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَللِ وَالْإِكْرَامِ) (١).

وكذلك المثول أمام محكمة العدل الإلهي لا يفلت منها أحد ، إضافة إلى علم الله تعالى بأعمال عباده بدقّة وبتفصيل كامل.

وبهذا سوف لا يكون هناك طريق للتخلّص من هذا الخوف سوى تقوى الله وتطهير النفس والقلب من المعاصي ، وبعد أن يخلص الإنسان لله تعالى فإنّه لن يخاف الموت حينئذٍ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (١١)

__________________

(١) سورة الرحمن / ٢٦ و ٢٧.

١٧٥

سبب النّزول

نقل في سبب نزول هذه الآيات وخصوصاً الآية (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً) روايات مختلفة جميعها تخبر عن معنى واحد ، هو أنّه في أحد السنوات : أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر ، فقدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يخطب يوم الجمعة فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشية أن يسبقوا إليه فلم يبق مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّارهط ، فنزلت الآية فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي ناراً.

وقال المقاتلان : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخطب يوم الجمعة ، إذ قدم دحية بن خليفة بن فروة الكلبي ، ثم أحد بني الخزرج ثم أحد بني زيد بن مناة من الشام بتجارة. وكان إذا قدم لم يبق بالمدينة عاتق ، إلّاأتته وكان يقدم إذا قدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق ، أو برّ ، أو غيره فينزل عند أحجار الزيت ، وهو مكان في سوق المدينة ، ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه ، فيخرج إليه الناس ليتبايعوا معه.

فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قائم على المنبر يخطب. فخرج الناس ، فلم يبق في المسجد إلّااثنا عشر رجلاً وامرأة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لولا هؤلاء لسوّمت عليهم الحجارة من السماء. وأنزل الله هذه الآية (١).

التّفسير

أكبر تجمّع عبادي سياسي اسبوعي : كانت الأبحاث السابقة تدور حول مسألة التوحيد والنبوّة والمعاد ، وكذلك ذمّ اليهود عبيد الدنيا ، بينما انصبّ الحديث في الآيات مورد البحث على الركائز الإسلامية المهمة التي تؤثّر كثيراً على استقرار أساس الإيمان ، وتمثّل الهدف الأساس للسورة ، وهي صلاة الجمعة وبعض الأحكام المتعلقة بها. ففي البداية يخاطب الله تعالى المسلمين جميعاً بقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).

«نودي : من مادة نداء وهي هنا بمعنى الأذان إذ لا نداء للصلاة غير الأذان.

فعندما يرتفع الأذان لصلاة الجمعة يكون لزاماً على الناس أن يتركوا مكاسبهم ومعايشهم ، ويذهبوا إلى الصلاة وهي أهمّ ذكر لله.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ١٠ / ١١.

١٧٦

من الواضح أنّ لأمر ترك البيع والشراء مفهوماً واسعاً يشمل كل عمل يمكن أن يزاحم الصلاة.

المقصود من (ذكر الله) بالدرجة الاولى هو الصلاة ، ولكنّنا نعلم أنّ خطبتي صلاة الجمعة مشتملة هي الاخرى ومتضمنة (لذكر الله) وهي جزء من صلاة الجمعة ، وبناءً على ذلك ينبغي الإسراع لحضور الخطبتين أيضاً.

تضيف الآية التي تليها قائلة : (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَوةُ فَانتَشِرُوا فِى الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

في آخر الآية ـ مورد البحث ـ ورد ذمّ عنيف للأشخاص الذين تركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في صلاة الجمعة وأسرعوا للشراء من القافلة القادمة ، إذ يقول تعالى : (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا).

ولكن (قُلْ مَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ مّنَ اللهْوِ وَمِنَ التّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

فمن المؤكّد ، أنّ الثواب والجزاء الإلهي والبركات التي يحظى بها الإنسان عند حضوره صلاة الجمعة والإستماع إلى المواعظ والحكم التي يلقيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وما ينتج عن ذلك من تربية روحية ومعنوية ، لا يمكن مقارنتها بأي شيء آخر ، فإذا كنتم تظنّون إنقطاع الرزق فإنّكم على خطأ كبير لأنّ (اللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

التعبير ب اللهو إشارة إلى الطبل وسائر آلات اللهو التي كانت تستعمل عند دخول قافلة جديدة إلى المدينة ، فقد كانت تستعمل كإعلان وإخبار عن دخول القافلة ، إضافةً إلى كونها وسيلة للترفيه والدعاية واللهو.

بحوث

١ ـ أوّل صلاة جمعة في الإسلام : في المجمع : قيل : قبل أن تنزل الجمعة ، قالت الأنصار لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى يوم أيضاً مثل ذلك ، فلنجعل يوماً نجتمع فيه ، فنذكر الله عزوجل ونشكره. وكما قالوا يوم السبت لليهود ، ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة. فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلّى بهم يومئذ وذكرهم فسمّوه يوم الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح لهم أسعد بن زرارة شاة ، فتغدوا وتعشوا من شاة واحدة ، وذلك لقلتهم. فأنزل الله تعالى في ذلك : (إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ) الآية. فهذه أوّل جمعة في الإسلام. فأمّا أوّل جمعة جمعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأصحابه فقيل : إنّه قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مهاجراً

١٧٧

حتى نزل قبا على عمرو بن عوف ، وذلك يوم الإثنين ، لإثنتي عشرة ليلة ، خلت من شهر ربيع الأوّل حين الضحى ، فأقام بقبا يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسّس مسجدهم ثم خرج من بين أظهرهم يوم الجمعة قاصداً المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتخذ اليوم في ذلك الموضع مسجده. وكانت هذه الجمعة أوّل جمعة جمعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الإسلام. فخطب في هذه الجمعة وهي أوّل خطبة خطبها بالمدينة.

٢ ـ أهمية صلاة الجمعة : إنّ أفضل دليل على أهمية هذه الفريضة العظيمة هو الآيات الأخيرة في هذه السورة المباركة ، التي أمرت جميع المسلمين وأهل الإيمان بمجرد سماعهم لأذان الجمعة أن يسرعوا إليها ويتركوا الكسب والعمل ، وكل ما من شأنه أن يزاحم هذه الفريضة.

ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبة طويلة نقلها المخالف والؤالف : إنّ الله تعالى فرض عليكم الجمعة ، فمن تركها في حياتي أو بعد موتي إستخفافاً بها أو جحوداً لها ، فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره ، ألا ولا صلاة له ، ألا ولا زكاة له ، ألا ولا حجّ له ، ألا ولا صوم له ، ألا ولا برّ له ، حتى يتوب (١).

ومن الملفت للنظر أنّه قد ورد ذمّ شديد لتارك صلاة الجمعة ، عندما تكون صلاة الجمعة واجباً عينيّاً (أي في زمن حضور الإمام المعصوم) وأمّا في زمن الغيبة ، فإنّه لا يكون مشمولاً بهذا الذم والتقريع رغم عظمة صلاة الجمعة وأهميتها في هذا الوقت أيضاً.

٣ ـ فلسفة صلاة الجمعة العبادية والسياسية : إنّ صلاة الجمعة ـ قبل كل شيء ـ عبادة جماعية ولها أثر العبادات عموماً ، حيث تطهّر الروح والقلب من الذنوب ، وتزيل صدأ المعاصي عن القلوب.

أمّا من الناحية السياسية والاجتماعية فهي أكبر مؤتمر اسبوعي عظيم بعد مؤتمر الحج السنوي ، لهذا نجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول في رواية أنّ الجمعة حج من لا يملك القدرة على المشاركة في الحج.

ويعطي الإسلام أهمية خاصة لثلاثة مؤتمرات كبيرة :

__________________

(١) وسائل الشيعة ٥ / ٧ (باب وجوب صلاة الجمعة). رسائل شهيد الثاني ، رسالة الجمعة / ٦١.

١٧٨

التجمعات التي تتمّ يومياً لصلاة الجماعة.

التجمع الأسبوعي الأوسع في صلاة الجمعة.

ومؤتمر الحج الذي يعقد في كل سنة مرّة.

ودور صلاة الجمعة مهم جدّاً خاصة وأنّ من واجبات الخطيب هو التحدّث في الخطبتين عن المسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

نهاية تفسير سورة الجمعة

* * *

١٧٩
١٨٠