مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

بصرهم حالاً ، وقيل إنّ بؤر أبصارهم قد أصبحت مستوية مع وجوههم.

وجاءت الساعة المرتقبة حيث أمر الله بفنائهم وقلبت الزلزلة مدينتهم رأساً على عقب وصُبّ عليهم العذاب صبّاً مع أوّل خيط من أشعّة فجر ذلك اليوم ، فتتمزّق أجسادهم وتتلاشى أبدانهم وتدمّر بيوتهم وتندثر قصورهم وتتحول إلى أنقاض وخرائب ، وإذا بالمطر الحجري ينهمل عليهم ويطمس كل معالم الحياة لديهم حتى لم يبق أي أثر لهم.

وذلك ما تشير له الآية الكريمة حيث تعكس هذا المعنى بإختصار وتركيز : (وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ).

«مستقرّ : تعني الثبوت والإحكام ، أي بمعنى (ثابت الحكم). ويحتمل أن يكون المراد به هنا هو : أنّ العذاب الإلهي كان شديداً إلى حدّ أنّ أي قوّة لم تكن قادرة على مواجهته.

ثم يضيف سبحانه مؤكّداً ومكرّراً مرّة اخرى قوله : (فَذُوقُوا عَذَابِى وَنُذُرِ).

لكي لا يكون مجال للشك والتردد في إنذار الأنبياء لكم بعد هذا.

وفي نهاية المطاف وفي آخر آية من بحثنا هذا تتكرّر جمل الموعظة والعبرة وللمرّة الرابعة في هذه السورة بقوله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ).

نعم ، لم يتّعظ قوم لوط من النذر ، ولم يتّعظوا من العذاب الأوّل الذي أعمى أبصار البعض منهم والذي كان بمثابة إنذار لهم فهل أنّ الآخرين الذين يرتكبون نفس الذنوب يتّعظون لدى سماع آيات القرآن هذه وينوبوا إلى رشدهم ويندموا على ما فرط منهم ..

(وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) (٤٦)

هل أنتم أفضل من الأقوام السابقة : المجموعة الخامسة التي يتحدث عنها القرآن في هذه السلسلة هم قوم فرعون ، ولأنّ الحديث عن هؤلاء القوم قد طرح بصورة تفصيلية في السور القرآنية المختلفة ، لذا فإنّ هذه السورة المباركة تستعرض هذه القصة في مقاطع مختصرة ومركّزة حول ضرورة الاستفادة من العبر التي جاءت فيها والإتّعاظ منها ...

يقول سبحانه : (وَلَقَدْ جَاءَءَالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ).

٤١

المقصود من (آل فرعون) ليسوا أهل بيته ومتعلقيه فقط ، بل يشمل كل أتباعه بصورة عامة.

«نذر : على وزن (كتب) وهي جمع نذير ، وهنا إشارة إلى المعجزات التسع لموسى عليه‌السلام.

والآية اللاحقة تكشف عن ردّ الفعل لآل فرعون من دعوة النبيين الإلهيين ، والإنذارات التي وجّهوها لهم حيث يقول الله سبحانه : (كَذَّبُوا بَايَاتِنَا كُلّهَا).

(آيات) لها معنى واسع تشمل الدلائل العقلية والمعجزات والدلائل النقلية ، وعند ملاحظة قوله تعالى : (وَلَقَدْءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَءَايَاتٍ بَيّنَاتٍ) يتبين لنا أنّ المقصود ب (الآيات) هنا هي المعجزات التسع لموسى عليه‌السلام.

إنّ الإنسان إذا كان صادقاً في البحث عن الحقيقة فإنّه يكفيه أن يرى واحدة منها ، وخاصة تلك التي يسبقها إنذار ، ثم بلاء ، ثم زوال هذا البلاء عند دعاء النبي الإلهي ، ولكن العناد والإصرار على الباطل والغرور إذا ركب الإنسان ، فحتى لو أصبحت جميع السماء والأرض آيات لله ، فلن تكون ذات تأثير على أمثال هؤلاء ، والجواب الحاسم المناسب لهم هو العذاب الإلهي الذي يقضي على النزعات الشريرة والنفوس المريضة التي يملؤها الهوى والغرور. كما قال تعالى : (فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ) تكملة للآية مورد البحث.

والتعبير الآخر الذي أتى في آخر هذه القصة لا يوجد له شبه في التعابير المماثلة في القصص الاخرى ، وذلك لأنّ الفراعنة كانوا يتباهون بقوّتهم وسطوتهم وعزّهم أكثر من بقية الامم ، والحديث عن قوّة سلطانهم كان في كل مكان. يقول الله تعالى : (فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ). وذلك كي يكون واضحاً للجميع أنّ القوة الحقيقة هي لله وحده ، لأنّ كل قوة وعزة اخرى غير قوّته وما يتّصل بذاته وهميّة لا تساوي شيئاً في قبال عزّته وقدرته ... والعجيب أنّ نهر النيل العظيم الذي كان مصدر خير وثروة لهم ، هو الذي امر بالإنتقام منهم ، والأعجب من ذلك أنّ أضعف المخلوقات سلّطت عليهم كالجراد والضفادع والقمل فجعلتهم في حالة عجز ومسكنة لا يقدرون على دفعها ، وهم الذين كانوا من السطوة والقوّة موضع حديث أهل زمانهم.

وبعد بيان هذه المشاهد المؤثّرة من قصص الأقوام المنصرمة والعذاب الإلهي العظيم الذي حلّ بهؤلاء الجبابرة المتمرّدين على الحق ، يخاطب الله سبحانه في الآية اللاحقة مشركي مكة بقوله تعالى : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مّنْ أُولِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِى الزُّبُرِ).

٤٢

فما الفرق بينكم وبين قوم فرعون وقوم نوح ولوط وثمود؟ فكما أنّ اولئك الأقوام قد عذّبوا بالطوفان تارةً والزلازل والصواعق اخرى.

ومن الطبيعي أنّ مثل هذه الادّعاءات ادّعاءات كاذبة لا يقوم عليها أي دليل (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ).

والجدير بالذكر هنا أنّ الآية السابقة كانت بصورة خطاب ، أمّا في الآية مورد البحث والآيات اللاحقة ، فإنّ الحديث عن الكفار بلغة الغائب ، وهو نوع من أنواع التحقير ، أي أنّهم غير مؤهّلين للخطاب الإلهي المباشر.

ويواجه القرآن الكريم هؤلاء السادرين في غيّهم بإخبار غيبي حاسم وقوي ، حيث يقول : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ).

«سيهزم : من مادة هزم في الأصل بمعنى الضغط على الجسم اليابس لحد التلاشي.

وهذا إشارة إلى النقطة التالية وهي : رغم حالة الإتحاد والإنسجام لهؤلاء القوم ظاهراً ، إلّا أنّهم كالموجودات اليابسة والفاقدة للروح ، فبمجرد تعرّضها إلى ضغط قوي تتهشّم.

لقد صدق هذا التنبّؤ في معركة بدر وسائر الحروب الاخرى حيث كانت هزيمة الكفار ساحقة ، فإنّه رغم قدرتهم وقوّتهم فقد تلاشى جمعهم.

وفي آخر الآية مورد البحث يشير سبحانه إلى أنّ الهزيمة التي مُني بها المشركون سوف لن تكون في الدنيا فقط ، وإنّما هي في الآخرة أشدّ وأدهى ، حيث يقول الباريء عزوجل : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ).

«أدهى : من مادة (دَهَوَ) و (دهاء) ، بمعنى المصيبة والكارثة العظيمة والتي لا مخرج منها ولا نجاة ، ولا علاج لها ، وتأتي أيضاً بمعنى الذكاء الشديد ، إلّاأنّ المقصود منها في الآيه الكريمة هو المعنى الأوّل.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٥٥)

٤٣

إنّ هذه الآيات هي استمرار لبحث الآيات السابقة حول بيان أحوال المشركين والمجرمين في يوم القيامة ، وآخر آية من تلك الآيات تعكس هذه الحقيقة بوضوح ، وهو أنّ يوم القيامة هو الموعد المرتقب لهؤلاء الأشرار في الاقتصاص منهم ، حيث يحمل المرارة والصعوبة والأهوال لهم ، والتي هي أشد وأقسى مما اصيبوا به في هذه الدنيا. وتتحدث الآية الاولى ـ مورد البحث ـ عن ذلك حيث يقول سبحانه : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَللٍ وَسُعُرٍ).

يقول الباريء عزوجل : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ).

وفي الكافي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : إنّ في جهنم لوادياً للمتكبرين يقال له : سقر شكا إلى الله عزوجل شدّة حرّه ، وسأله أن يأذن له أن يتنفّس فتنفس فأحرق جهنم.

ولكي لا يتصور أنّ هذه الشدة في العذاب لا تتناسب مع المعاصي ، يقول سبحانه : (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنهُ بِقَدَرٍ).

إنّ عذابهم في هذه الدنيا كان بتقدير وحساب ، وكذلك سيكون عقابهم المؤلم في الآخرة ، وليس الجزاء فقط ، ذلك أنّ الله سبحانه خلق كل شيء بحساب وتقدير.

ثم يضيف تعالى إنّه ليست أعمالنا موافقة للحكمة فحسب ، بل انّها مقترنة مع القدرة والحسم ، لأنّه : (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ).

ولذلك فإنّ اليوم الذي تقوم فيه الساعة يحدث بأمر الله بلمح البصر ، وكل شيء يكون في مسار الآخرة حينئذ ، وتبعث الحياة من جديد في الأبدان.

كما أنّ المشيئة الإلهية في مجازاة المجرمين بالصواعق والصيحات السماوية والزلازل والطوفان والرياح العاتية ... كل ذلك يحدث بمجرد الأمر الإلهي وبدون تأخير.

إنّ أمره تعالى في كل مكان وكل شيء هو (كلمة واحدة) والتي تكون أسرع من لمح البصر ، ولكن محتوى الأمر الإلهي متفاوت ومختلف ، ومن خلال معرفة السنّة التدريجية للعالم المادي وخاصيته وطبيعة الحركة ـ نلاحظ أنّها تتأثّر بالزمان.

وفي الآية اللاحقة يخاطب الكفار والمجرمين مرّة اخرى ، ويلفت إنتباههم إلى مصير الأقوام السابقة حيث يقول : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ).

إنّ الآية الكريمة تؤكّد هذه الحقيقة مرّة اخرى ، وهي أنّ أعمال مشركي قريش وممارساتهم هي نفس أعمال وممارسات وعقائد الأقوام السابقة ، لذا فلا يوجد دليل على أنّ مصيركم سوف يكون أفضل من مصيرهم ، فاتّعظوا وعوا.

٤٤

ثم يشير القرآن إلى هذا الأصل وهو أنّ صفحة أعمال الأقوام السابقة لم تنته بموتهم ، بل هي باقية ومسجّلة عليهم ، يقول سبحانه : (وَكُلُّ شَىْءٍ فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ). فكذلك أعمالكم مثبّتة ومحفوظة ليوم الحساب.

«زبر : جمع زبور بمعنى الكتاب ، وهي تشير إلى صحيفة أعمال الإنسان.

ثم يضيف سبحانه : (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ).

وبناءً على هذا فحساب الأعمال في ذلك اليوم هو حساب شامل وتامّ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، حيث يستلم المجرمون صفحة أعمالهم كاملة ، فيصعقون لهولها ويصطرخون لدقّتها : (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هذَا الْكِتَابِ لَايُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) (١).

ولما كانت السنّة المتّبعة في القرآن الكريم غالباً ما تعتمد المقارنة بين جبهة الصلاح والهدى من جهة ، وجبهة الفساد والضلال من جهة اخرى ، لأنّ في المقارنة يبرز التفاوت والاختلاف بصورة أفضل ، فهنا أيضاً بعد الحديث عن مصير الكفار والمجرمين يشير سبحانه إشارة مختصرة إلى العاقبة السعيدة والحبور العظيم الذي يكون من نصيب المتقين حيث يقول سبحانه : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ).

وفي آخر آية مورد البحث والتي هي آخر آية في سورة القمر يوضّح الباريء بصورة أكثر (مستقر المتقين) حيث يقول سبحانه أنّهم : (فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ).

ويا له من وصف رائع وظريف! حيث إنّ هذا الوصف يتميّز بخصوصيتين تجمعان كل السمات الرائعة :

الاولى : أنّ المكان هو (مستقرّ صدق) وليس فيه باطل ، بل كلّه حق يجد فيه المتقون كل ما وعدوا به كاملاً غير منقوص.

الثانية : أنّهم في جوار وقرب الله سبحانه ، وهذا هو المستفاد من كلمة (عند) والذي يشير إلى غاية القرب المعنوي ، وهذا القرب هو من الله المالك القادر ... ما أروعه عن قرب من الربّ الكريم الوهّاب والذي يمنح العطايا والهبات لضيوفه المتقين بجميل لطفه وعظيم إحسانه وواسع كرمه ، حيث جميع ما في الوجود تحت قبضته وإمرته ومالكيته ، وهو المنّان

__________________

(١) سورة الكهف / ٤٩.

٤٥

الذي لا ينقصه شيء في السماوات والأرض ، والذي وعد المتقين بالخير العظيم وأعدّ لهم عظيم العطايا والإحسان.

والنقطة الجديرة بالذكر في هاتين الآيتين والتي تتحدث فيها عن الهبات وجزاء أصحاب اليمين ، حيث في البداية تتحدث عن العطايا الماديّة التي تشمل البساتين الوارفة والحدائق الغنّاء والأنهار الجارية ، ثم تتحدث بعد ذلك عن الجزاء المعنوي العظيم ، والذي يتجسّد بحضورهم من المليك المقتدر ، وذلك تهيئة للإنسان من مرحلة إلى اخرى ، يغمرها الشوق والحبور والرغبة في العمل الصالح.

نهاية تفسير سورة القمر

* * *

٤٦

٥٥

سورة الرحمن

محتوى السورة : توضّح هذه السورة بصورة عامة النعم الإلهية المختلفة ، سواء كانت مادية أو معنوية ، والتي تفضّل بها الباريء عزوجل على عباده وغمرهم بها ، ويمكن تسميتها لهذا السبب ب (سورة الرحمة) أو (سورة النعمة) ولهذا فإنّها بدأت بالإسم المبارك (الرحمن) الذي يشير إلى صنوف الرحمة الإلهية الواسعة ، وتنهي هذه السورة آياتها بإجلال وإكرام الباريء سبحانه ، وبإقرار عباده بالنعم التي تفضّل بها عليهم (إحدى وثلاثين مرّة) وذلك من خلال تكرار آية : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

ويمكن أن نقسّم محتويات السورة إلى عدّة أقسام :

١ ـ في الآيات الاولى من هذه السورة حديث عن النعم الإلهية الكبيرة ، سواء تلك التي تتعلق بخلق الإنسان أو تربيته وتعليمه ، أو الحساب والميزان ، وكذلك سائر الامور الاخرى التي يتجسّد فيها الخير للإنسان ، إضافةً إلى الغذاء الروحي والجسمي له.

٢ ـ يتناول توضيح مسألة خلق الإنس والجن.

٣ ـ يتضمن توضيح الآيات والدلائل الإلهية في الأرض والسماء.

٤ ـ وفيه بعد تجاوز النعم الإلهية على الإنسان في الدنيا تتحدث الآيات عن نعم الله في عالم الآخرة بدقّة وظرافة ، خاصة عن الجنة ، وبصورة أعمّ وأشمل عن البساتين والعيون والفاكهة وحور العين وأنواع الملابس من السندس والإستبرق ...

٤٧

٥ ـ تتحدث عن مصير المجرمين وجزائهم المؤلم المحسوب.

إنّ تكرار آية : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ) وفي مقاطع قصيرة أعطت وزناً متميّزاً للسورة ، وخاصة إذا قريء بالمعنى المعبّر الذي يستوحى منها ... فإنّ حالة من الشوق والإنبهار تحصل لدى الإنسان المؤمن. ولذلك فلا نعجب عندما نقرأ في حديث للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث يقول : لكل شيء عروس ، وعروس القرآن سورة الرحمن جلّ ذكره (١).

فضيلة تلاوة السورة : إنّ اتّصاف هذه السورة بما يثير الإحساس بالشكر على أفضل صورة أدّى إلى ورود روايات كثيرة في فضل تلاوة هذه السورة تلك التلاوة التي ينبغي أن تنفذ إلى أعماق النفس الإنسانية وتحركها باتّجاه الطاعات وبعيداً عن لقلقة اللسان.

وفي تفسير مجمع البيان : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قرأ سورة الرحمن ، رحم الله ضعفه ، وأدّى شكر ما أنعم الله عليه.

وفي ثواب الأعمال عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام قال : من قرأ سورة الرحمن فقال عند كل : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ) : لا شيء من آلائك ربّي اكذّب ، فإن قرأها ليلاً ثم مات ، مات شهيداً ، وإن قرأها نهاراً ثم مات ، مات شهيداً.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) (٦)

بداية النعم الإلهية : لمّا كانت هذه السورة تبيّن أنواع النعم والهبات الإلهية العظيمة ، فإنّها تبدأ باسم (الرحمن) والذي يرمز إلى الرحمة الواسعة ، ولو لم تكن (الرحمانية) من صفاته لم ينعم بهذا الخير العميم على عباده الصالحين والعاصين ، لذلك يقول : (الرَّحْمنُ).

عَلَّمَ الْقُرْءَانُ) وبهذا فإنّ أوّل نعمة تفضّل بها الله سبحانه ، هي نعمة تعليم القرآن.

والظريف هنا أنّ بيان نعمة (تعليم القرآن) ذُكرت قبل (خَلَقَ الْإِنسَانَ) و (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) في الوقت الذي يفترض فيه أن تكون الإشارة أوّلاً إلى مسألة خلق الإنسان ، ومن ثم نعمة تعليم البيان ، ثم نعمة تعليم القرآن ، وذلك استناداً للترتيب الطبيعي ، إلّاأنّ عظمة القرآن الكريم أوجبت أن نعمل خلافاً للترتيب المفترض.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ٩ / ٣٢٦.

٤٨

وقد جاءت هذه الآية جواباً لقولهم : وما الرحمن في قوله : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ). [الفرقان] قالوا وما الرحمن؟ وقد روي أنّه لما نزل قوله (قُلْ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) قالوا : ما نعرف الرحمن إلّاصاحب اليمامة. فقيل لهم (الرَّحْمنُ * عَلَّمَ الْقُرْءَانُ) أي : علم محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله القرآن ، وعلّمه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله امته (١).

وعلى كل حال فإنّ لإسم الرحمن أوسع المفاهيم بين أسماء الباريء عزوجل بعد إسم الجلالة (الله) لأنّنا نعلم أنّ لله رحمتين : (الرحمة العامة) و (الرحمة الخاصة) واسم الرحمن يشير إلى رحمة الله العامة التي تشمل الجميع ، كما أنّ اسم الرحيم يشير إلى الرحمة الخاصة بأهل الإيمان والطاعة ، ولعله لهذا السبب لا يطلق اسم الرحمن على غير الله سبحانه (إلّا إذا كانت كلمة عبد قبله) ، أمّا وصف الرحيم فيقال لغير الله أيضاً ، وذلك لأنّه لا أحد لديه الرحمة العامة سوى الله تعالى ، أمّا الرحمة الخاصة فإنّها موجودة في المخلوقات وإن كانت بصورة محدودة.

وهنا يطرح التساؤل التالي : من الذي علّمه الله سبحانه القرآن الكريم.

إنّ هذه السورة تبيّن الرحمة الإلهية للإنس والجن ولذا أكّد سبحانه إقرارهم بنعمه إحدى وثلاثين مرّة ، وذلك بقوله : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ). والأنسب هو أنّ الله علّم القرآن للإنس والجن بواسطة نبيّه الكريم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وبعد ذكره سبحانه لنعمة القرآن التي لا مثيل لها ينتقل إلى أهمّ نعمة في الترتيب المذكور ويقول : (خَلَقَ الْإِنسنَ).

من الطبيعي أنّ المقصود هنا هو نوع الإنسان وليس آدم عليه‌السلام فقط.

وإطلاق كلمة (البيان) التي تأتي بعد خلق الإنسان دليل على عمومية كلمة الإنسان.

إنّ ذكر إسم الإنسان بعد القرآن هو الآخر يستوجب التأمل ، ذلك لأنّ القرآن الكريم يمثّل مجموعة أسرار الكون بصورة مدوّنة الكتاب التدويني ، والإنسان هو خلاصة هذه الأسرار بصورة تكوينية الكتاب التكويني ، كما أنّ كل واحدة منها هو صورة من هذا العالم الكبير.

وتشير الآية اللاحقة إلى أهمّ النعم بعد نعمة خلق الإنسان حيث يقول الباريء عزوجل : (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ).

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ٩ / ٣٢٩.

٤٩

كلمة (البيان) لها معنى لغوي واسع ، حيث تقال لكل شيء يوضّح ويبيّن شيئاً معيناً. وبناءً على هذا فإنّها لا تشمل النطق والكلام فحسب ، بل تجمع الكتابة والخطّ وأنواع الاستدلالات العقلية والمنطقية التي تبيّن المسائل المختلفة والمعقّدة أيضاً رغم أنّ معالم هذه المجموعة هي التكلم والنطق.

وإذا أخذنا دور البيان في تكامل وتقدم الحياة الإنسانية ، فمن الواضح أنّ الإنسان لم يكن بمقدوره وإمكانه أن ينقل تجاربه وعلومه من جيل إلى آخر بهذه السهولة وبالتالي أدّى إلى التقدم والعلم والدين والأخلاق ... وإذا ما سلبت هذه النعمة العظيمة من الإنسان ليوم واحد فإنّ المجتمع الإنساني سوف يأخذ طريقه نحو التقهقر بسرعة ، ولو أخذنا البيان بمعناه الواسع الذي يشمل الخط والكتابة والفنون المختلفة ، فإنّه سيتّضح لدينا بصورة أكثر دوره الهامّ في الحياة الإنسانية.

ويتطرق بعد ذلك إلى النعمة الإلهية الرابعة والتي هي هبة من هبات الله العظيمة أيضاً ، حيث يقول تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ).

إنّ أصل وجود الشمس من أكبر النعم الإلهية للإنسان ، لأنّ العيش في المنظومة الشمسية بدون نور وحرارة الشمس أمر غير ممكن. إنّ نمو ونضج النبات والمواد الغذائية أجمع ، بالإضافة إلى سقوط الأمطار وهبوب الرياح ، كلّها ببركة هذه الهبة الإلهية.

كما أنّ للقمر دوراً هامّاً في حياة الإنسان ، فبالإضافة إلى أنّه يضيء الليالي المعتمة ، فإنّ جاذبيته هي علة المد والجزر في البحار والمحيطات ، وهي عامل لبقاء الحياة في البحار ، كما أنّها تقوم بدورها في إرواء كثير من المناطق القريبة للسواحل والتي تصبّ الأنهار بالقرب منها.

وبالإضافة إلى ذلك فإنّ ثبات الإنتظام لهاتين الحركتين (حركة القمر حول الأرض ، وحركة الأرض حول الشمس) هو السبب في الظهور المنتظم لليل والنهار والسنين والشهور والفصول المختلفة ، وبالتالي فإنّه سبب أساسي لإنتظام الحياة الإنسانية وبرمجة الامور التجارية والصناعية والزراعية ، وإن فقد الإنتظام فيها فسوف تضطرب الحياة البشرية وتختلّ الكثير من مرتكزاتها.

وليس لحركة هذين الكوكبين نظام دقيق جدّاً فحسب ، بل إنّ مقدار كثافة وجاذبية

٥٠

ومسافة كل منهما عن الأرض هي الاخرى محسوبة بدقّة وحساب (وحسبان).

ومن المؤكّد أنّ اختلال كل واحدة من هذه الامور سيولّد اختلالات عظيمة في المنظومة الشمسية ، ومن ثم في النظام الحياتي للبشر.

والجدير بالذكر أنّ الشمس بالرغم من أنّها في وسط المنظومة الشمسية وتبدو ساكنة وثابتة ، إلّاأنّها مع جميع كواكبها وأقمارها تسير في وسط المجرّة المتعلقة بها إلى نقطة معينة (تسمّى هذه النقطة بنجمة فيكا) وهذه الحركة لها أيضاً نظام وسرعة معينان.

ثم يتحول بنا الله إلى نعمة عظيمة اخرى هي الخامسة في مسلسل ما ذكره سبحانه من النعم في هذه السورة المباركة ، حيث يوجّه النظر إلى ألطافه في الأرض حيث يقول : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ).

«النجم : يأتي أحياناً بمعنى كوكب ، ويأتي اخرى بمعنى النبات الذي لا ساق له ، ولمّا جاءت الكلمة هنا بقرينة الشجر فيكون المقصود هو المعنى الثاني ، أي النباتات بدون سيقان.

ومن الواضح أنّ النبات مصدر جميع المواد الغذائية للإنسان ، حيث يستهلك قسماً مباشراً منه ، والقسم الآخر تستهلكه الحيوانات الاخرى التي هي جزء أساسي من غذاء الإنسان ، ومن هنا فإنّ النبات هو مصدر غذاء الإنسان بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

وهذا المعنى يصدق أيضاً في عالم الحيوانات البحرية ، لأنّها تتغذّى على نباتات صغيرة جدّاً تنبت في البحر وتوجد بكثرة هائلة تقدّر بملايين البليارات ، وهي المصدر الغذائي لهذه الحيوانات البحرية ، وتنمو هذه النباتات الصغيرة في البحر بتأثير الضوء (أشعة الشمس) التي تتحرك بين الأمواج.

وبهذا فإنّ النجم أنواع من النباتات الصغيرة الزاحفة (مثل اليقطين والخيار وأمثاله). أمّا الشجر فإنّه النوع الآخر من النباتات التي لها سيقان وتشمل أشجار الفاكهة ونباتات الغلّات وغير ذلك.

وتعبير يسجدان إشارة إلى التسليم والخضوع أمام القدرة الإلهية وقوانين الخلقة والإبداع الإلهي لأجل نفع الإنسان. وهنا إشارة إلى الأسرار التوحيدية أيضاً حيث توجد في كل ورقة وكل بذرة آيات عجيبة من عظمة وقدرة الله سبحانه.

٥١

(وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (٧) أَنْ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (١٠) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (١٣)

السماء رفعها ووضع الميزان : في الآية مورد البحث يتحدث سبحانه عن النعمة السادسة ، ألا وهي نعمة خلق السماء حيث يقول : (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا).

(السماء) في هذه الآية سواء كانت بمعنى جهة العلو ، أو الكواكب السماوية ، أو جو الأرض ... إنّ كل واحدة من هذه المعاني هبة عظيمة ونعمة لا مثيل لها ، وبدونها تستحيل الحياة أو تصبح ناقصة.

إنّ النور الذي يمنحنا الدفء والحرارة والهداية والحياة والحركة يأتينا من السماء وكذلك الأمطار ، والوحي أيضاً ، (وبذلك فإنّ للسماء مفهوماً عاماً ، مادياً ومعنوياً).

ثم يستعرض سبحانه النعمة السابعة حيث يقول تعالى : (وَوَضَعَ الْمِيزَانَ).

«الميزان : كل وسيلة تستعمل للقياس ، سواء كان قياس الحق من الباطل ، أو العدل من الظلم والجور ، أو قياس القيم وقياس حقوق الإنسان في المراحل الاجتماعية المختلفة.

و (الميزان) يشمل كذلك كل نظام تكويني ودستور اجتماعي ، لأنّه وسيلة لقياس جميع الأشياء.

ونستنتج من الآية اللاحقة استنتاجاً رائعاً حول هذا الموضوع حيث يضيف بقوله تعالى : (أَلَّا تَطْغَوْا فِى الْمِيزَانِ).

يا له من تعبير رائع حيث يعتبر القوانين الحاكمة في هذا العالم الكبير منسجمة مع القوانين الحاكمة على حياة الإنسان (العالم الصغير) وبالتالي ينقلنا إلى حقيقة التوحيد ، حيث مصدر جميع القوانين والموازين الحاكمة على العالم هي واحدة في جميع المفردات وفي كل مكان.

ويؤكّد مرّة اخرى على مسألة العدالة والوزن حيث يقول سبحانه : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ).

٥٢

هذه الآية يؤكّد على مسألة الوزن بمعناها الخاص ، ويأمر البشر أن يدقّقوا في قياس ووزن الأشياء في التعامل ، وهذه أضيق الدوائر.

إنّ أهمية الميزان في أي معنى كان عظيمة في حياة الإنسان بحيث إنّنا إذا حذفنا حتى مصداق الميزان المحدود والصغير والذي يعني (المقياس) فإنّ الفوضى والإرتباك سوف تسود المجتمع البشري.

ويستفاد من بعض الروايات أنّ (الميزان) قد فسّر بوجود (الإمام) ، وذلك لكون الوجود المبارك للإمام المعصوم هو وسيلة لقياس الحق من الباطل ، ومعيار لتشخيص الحقائق وعامل مؤثّر في الهداية. وهكذا في تفسير الميزان بالقرآن الكريم ناظر إلى هذا المعنى.

ثم ينتقل سبحانه من السماء إلى الأرض فيقول عزوجل : (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ).

إنّ القرائن الموجودة في السورة وطبيعة النداءات الموجّهة للإنس والجن تدلّل على أنّها المقصود هنا (الجن والإنس).

وفي الآية اللاحقة يستعرض ذكر النعمتين التاسعة والعاشرة من النعم الإلهية ، والتي تتضمّن قسماً من المواد الغذائية التي وهبها الله سبحانه للإنسان حيث يقول تعالى : (فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتِ الْأَكْمَامِ).

«الفاكهة : تشمل كل نوع من الفاكهة.

وأكمام : جمع (كِم) تطلق على الغلاف الذي يغطّي الفاكهة.

إنّ إختيار هذا الوصف لفاكهة شجرة النخل ـ والتي تكون في البداية مختفية في غلاف ثم ينشقّ الغلاف عن ثمر منظود وبشكل جميل وجذّاب ـ يمكن أن يكون لهذا الجمال الأخّاذ ، أو للمنافع الجمّة الكامنة في هذا الغلاف ، والتي تتميّز بالمنافع الطبيّة والغذائية.

ثم يتحدث سبحانه عن النعمة الحادية عشرة والثانية عشرة حيث يقول سبحانه : (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ).

الحبوب مصدر أساسي لغذاء الإنسان ، وأوراقها الطازجة واليابسة هي غذاء للحيوانات التي هي لخدمة الإنسان ، حيث يستفيد من حليبها ولحومها وجلودها وأصوافها ، وبهذا الترتيب فلا يوجد شيء فيها غير ذي فائدة.

ومن جهة اخرى ، فإنّ الله تعالى خلق الأزاهير المعطّرة والورود التي تعطّر مشام الجسم والروح وتبعث الاطمئنان والنشاط ، ولذا فإنّ الله سبحانه قد أتمّ نعمه على الإنسان.

٥٣

وبعد ذكر هذه النعم العظيمة (المادية والمعنوية) ينقلنا في آخر آية من البحث مخاطباً الجن والإنس بقوله تعالى : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

هذه النعم التي يدلّ كل هذا على لطف وحنان الخالق ... فكيف يمكن التكذيب بها إذاً؟

إنّ هذا الاستفهام استفهام تقريري جيء به في مقام أخذ الإقرار ، وقد قرأنا في بداية السورة رواية تؤكّد على ضرورة تعقيبنا بهذه العبارة (لا شيء من آلائك ربّي اكذّب) بعد كل مرّة نتلو فيها الآية الكريمة : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

إنّ التعبير ب (أيّ) إشارة إلى أنّ كل واحدة من هذه النعم دليل على مقام ربوبية الله ولطفه وإحسانه ، فكيف بها إذا كانت هذه النعم مجتمعة.

(خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (١٨)

الصلصال وخلق الإنسان : إنّ الله تعالى بعد ذكره للنعم السابقة والتي من جملتها (خَلَقَ الْإِنسَانَ) ، يتعرّض في الآيات مورد البحث إلى شرح خاص حول خلق الإنس والجن كدليل على قدرته العظيمة من جهة ، وموضع درس وعبرة للجميع من جهة اخرى ، فيقول سبحانه : (خَلَقَ الْإِنسنَ مِن صَلْصلٍ كَالْفَخَّارِ).

«صلصال : في الأصل معناه (ذهاب ورجوع أو تردد الصوت في الأجسام الصلبة) ، ثم اطلقت الكلمة على الطين اليابس الذي يخرج صوتاً.

«فخار : من مادة فخر بمعنى الشخص الذي يفخر كثيراً ، ولكون الأشخاص الذين يعيشون الفراغ في شخصياتهم ومعنوياتهم يكثرون الثرثرة والإدّعاء عن أنفسهم ، فإنّ هذه الكلمة تستعمل لكل إناء من الطين أو الكوز ، وذلك بسبب الأصوات الكثيرة التي يولّدها.

ومن هنا يستفاد بوضوح من الآيات القرآنية المختلفة حول مبدأ خلق الإنسان ، أنّه كان من التراب ابتداءً. قال تعالى : (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن تُرَابٍ) (١). ثم خرج مع الماء وأصبح طيناً :

__________________

(١) سورة الحجّ / ٥.

٥٤

(هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مّن طِينٍ) (١). ثم أصبح بصورة طين خبيث الرائحة : (إِنّى خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصلٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ) (٢). ثم أصبح مادة في حالة لاصقة : (إِنَّا خَلَقْنَاهُم مّن طِينٍ لَّازِبٍ) (٣). ومن ثم يتحول إلى حالة يابسة ويكون من (صَلْصلٍ كَالْفَخَّارِ) كما ذكر في الآية مورد البحث.

هذه المراحل كم تستغرق من الوقت ، وكم هي المدة التي يتوقف فيها الإنسان في كل مرحلة من هذه المراحل ، وفي أي ظروف تحدث هذه التطورات؟

هذه المسائل خفيت عن علمنا وإدراكنا ، والله وحده هو العالم بها فقط.

ثم يتطرق سبحانه لخلق الجن حيث يقول : (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مّن نَّارٍ).

«مارج : في الأصل من مرج على وزن (مرض) بمعنى الإختلاط والمزج ، والمقصود هنا اختلاط شعل النيران المختلفة.

ولكن كيف خلق الجن من هذه النيران المتعددة الألوان؟ هذا ما لم يعرف بصورة دقيقة ، كما أنّ الخصوصيات الاخرى عن هذا المخلوق ، قد بيّنت لنا عن طريق الوحي الرباني وكتاب الله الكريم ، ولكن محدودية معلوماتنا لا تعني السماح لنا أبداً بإنكار هذه الحقائق أو تجاوزها ، خاصة بعد ما ثبتت عن طريق الوحي الإلهي. (وسيكون لنا إن شاء الله شرح مفصّل حول خلق الجن وخصوصيات هذا المخلوق في تفسير سورة الجن).

وبعد أن تحدّث عن النعم التي كانت في بداية خلق الإنسان يكرّر تعالى قوله تعالى : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

في الآية اللاحقة يستعرض نعمة اخرى ، حيث يقول سبحانه : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ).

بما أنّ الشمس في كل يوم تشرق من نقطة وتغرب من اخرى ، وبعدد أيام السنة لها شروق وغروب ، ولكن نظراً للحدّ الأكثر من الميل الشمالي للشمس والميل الجنوبي لها ، ففي الحقيقة أنّ للشمس مشرقين ومغربين والبقية بينهما.

إنّ هذا النظام الذي هو سبب وجود الفصول الأربعة له فوائد وبركات كثيرة ، ويؤكّد

__________________

(١) سورة الأنعام / ٢.

(٢) سورة الحجر / ٢٨.

(٣) سورة الصّافات / ١١.

٥٥

ويكمّل ما مرّ بنا في الآيات السابقة ، وذلك لأنّ الحديث كان عن حساب سير الشمس والقمر ، وكذلك عن وجود الميزان في خلق السماوات ، وإجمالاً فإنّه يبيّن النظام الدقيق للخلقة وحركة الأرض والقمر والشمس ، وكذلك فإنّه يشير إلى النعم والبركات التي هي موضع استفادة الإنسان.

فإنّ الله تعالى يؤكّد هذه النعمة بعد نعمة خلق الإنس والجن بقوله : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (١٩) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (٢٥)

البحار وذخائرها الثمينة : استمراراً لشرح النعم الإلهية يأتي الحديث هنا عن البحار ، ولكن ليس عن خصوصيات البحار بصورة عامة ، بل عن كيفية خاصة ومقاطع معينة منها تمثّل ظواهر عجيبة وآية على القدرة اللامتناهية للحقّ ، بالإضافة إلى ما فيها من النعم التي هي موضع استفادة البشرية. يقول تعالى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ). ولكن بين هذين البحرين المتلاقيين فاصل يمنع من طغيان وغلبة أحدهما على الآخر : (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ).

المقصود من البحرين هما الماء العذب والماء المالح ، وذلك بالاستدلال بقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا) (١).

إنّ الأنهار العظيمة ذات المياه العذبة عندما تصبّ في البحار والمحيطات فإنّها تشكّل بحراً من الماء الحلو إلى جنب الساحل وتطرد الماء المالح إلى الخلف ، والعجيب أنّ هذين الماءين لا يمتزجان مع بعضهما لمدة طويلة بسبب اختلاف درجة الكثافة ؛ وتثير آلاف الكيلومترات على هذه الصورة.

ومرّة اخرى يخاطب الله تعالى عباده في معرض حديثه عن هذه النعم حيث يسألهم

__________________

(١) سورة الفرقان / ٥٣.

٥٦

سبحانه : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

واستمراراً لهذا الحديث يقول عزوجل : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

«اللؤلؤ : فهو حبّة شفافة ثمينة تنمو في داخل الصدف في أعماق البحار ، وكلّما كبر حجمها زاد ثمنها ؛ والمرجان : فهو كائن حي يشبه الغصن الصغير للشجرة ، وينشأ في أعماق البحار ، وكان العلماء يتصورون لفترة زمنية أنّ هذه الشجرة نوع من أنواع النباتات ، إلّا أنّه اتّضح فيما بعد أنّه نوع من الحيوانات. وأفضل أنواع المرجان الذي يستعمل للزينة هو المرجان ذو اللون الأحمر ، وكلّما كان إحمراره أشدّ كانت قيمته أغلى وأثمن.

واستمراراً لهذا القسم من النعم الإلهية يشير سبحانه إلى موضوع (السفن) التي هي في الحقيقة أكبر وأهمّ وسيلة لنقل البشر وحمل الأمتعة في الماضي والحاضر ، حيث يقول سبحانه : (وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَاتُ فِى الْبَحْرِ كَالْأَعْلمِ).

والظريف هنا أنّه في الوقت الذي يعبّر عن السفن بأنها منشآت والتي تحكي أنّها مصنوعة بواسطة الإنسان ، يقول سبحانه (وله) أي لله تعالى وهو إشارة إلى أنّ جميع الخواص التي يستفاد منها في صناعة السفن ، والتي منحها الله للبشر المخترعين لهذه الصناعة هي لله ، وكذلك فإنّه هو الذي أعطى خاصية السيولة لمياه البحر والقوة للرياح ، وأنّ الله تعالى هو الذي أوجد هذه الخواص في المواد المتعلّقة بالسفينة.

«أعلام : جمع (علم) على وزن (قلم) ، بمعنى (جبل) بالرغم من أنّها في الأصل بمعنى (علامة وأثر) والذي يخبر عن شيء معين ، ولأنّ الجبال تكون واضحة من بُعد فإنّه يعبّر عنها ب (العلم) كما أنّ لفظة (عَلَمَ) تطلق أيضاً على الراية.

ومرّة اخرى يكرّر سبحانه هذا السؤال العميق المغزى بقوله تعالى : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (٢٦) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢٨) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (٣٠)

كل شيء هالك إلّاوجهه : استمراراً لشرح النعم الإلهية ، في هذه الآيات يضيف سبحانه قوله : (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ). وهنا يتساءل كيف يكون الفناء نعمة إلهية؟

٥٧

وللجواب على هذا السؤال نذكر ما يلي : يمكن ألّا يكون المقصود بالفناء هنا هو الفناء المطلق ، وإنّما هو الباب الذي يطلّ منه على عالم الآخرة ، والجسر الذي لابدّ منه للوصول إلى دار الخلد ؛ أو أنّ النعم الإلهية الكثيرة ـ المذكور سابقاً ـ يمكن أن تكون سبباً لغفلة البعض وإسرافهم فيها بأنواع الطعام والشراب والزينة والملابس والمراكب وغير ذلك ، مما يستلزم تحذيراً إلهياً للإنسان ، بأنّ هذه الدنيا ليست المستقر ، فالحذر من التعلق بها ، ولابد من الاستفادة من هذه النعم في طاعة الله ... إنّ هذا التنبيه والتذكير بالرحيل عن هذه الدنيا هو نعمة عظيمة.

ويضيف في الآية اللاحقة قوله سبحانه : (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَللِ وَالْإِكْرَامِ).

«وجه معناه اللغوي معروف وهو القسم الأمامي للشيء بحيث يواجهه الإنسان في الطرف المقابل ، وإستعمالها بخصوص لفظ الجلالة يقصد به (الذات المقدسة).

أمّا (ذُو الْجَللِ وَالْإِكْرَامِ) والذي هو وصف ل (الوجه) فإنّه يشير إلى صفات الجمال والجلال لله سبحانه ، لأنّ (ذُو الْجَللِ) تنبّئنا عن الصفات التي يكون الله أسمى وأجلّ منها (الصفات السلبية). وكلمة الإكرام تشير إلى الصفات التي تظهر حسن وقيمة الشيء ، وهي الصفات الثبوتية لله سبحانه كعلمه وقدرته.

وبناءً على هذا فإنّ معنى الآية بصورة عامّة يصبح كالآتي : إنّ الباقي في هذا العالم هو الذات المقدسة لله سبحانه ، والتي تتّصف بالصفات الثبوتية والمنزهة عن الصفات السلبية.

ثم يخاطب الخلائق مرّة اخرى : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

ومضمون الآية اللاحقة هي نتيجة للآيات السابقة ، حيث يقول سبحانه : (يَسْئَلُهُ مَن فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ).

ولماذا لا يكون كذلك في الوقت الذي يفنى الجميع ويبقى وحده سبحانه.

التعبير ب (يسأله) جاء بصيغة المضارع ، وهو دليل على أنّ السؤال والطلب في الكائنات مستمر من الذات الإلهية المقدسة ، وهذا شأن الموجود الممكن الذي هو مرتبط بواجب الوجود ليس في الحدوث فقط ، وإنّما في البقاء أيضاً.

ثم يضيف سبحانه : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ).

إنّ خلقه مستمر ، وإجاباته لحاجات السائلين والمحتاجين لا تنقطع ، كما أنّ ابداعاته مستمرّة فيجعل الأقوام يوماً في قوّة وقدرة ، وفي يوم آخر يهلكهم ، ويوماً يعطي السلامة

٥٨

والشباب ، وفي يوم آخر الضعف والوهن ، ويوماً يذهب الحزن والهمّ من القلوب وآخر يكون باعثاً له ، وخلاصة الأمر أنّه في كل يوم ـ وطبقاً لحكمته ونظامه الأكمل ـ يخلق ظاهرة جديدة وخلقاً وأحداثاً جديدة.

ومرّة اخرى ـ بعد هذه النعم المستمرة والإجابة لاحتياجات جميع خلقه من أهل السماوات والأرض يكرّر قوله سبحانه : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٢) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (٣٦)

النعم الإلهية التي إستعرضتها الآيات السابقة كانت مرتبطة بهذا العالم ، إلّاأنّ الآيات مورد البحث تتحدث عن أوضاع يوم القيامة ، وخصوصيات المعاد ، وفي الوقت الذي تحمل تهديداً للمجرمين ، فإنّها وسيلة لتربية وتوعية وإيقاظ المؤمنين ، بالإضافة إلى أنّها مشجّعة لهم للسير في طريق مرضاته سبحانه ، ومن هنا فإنّنا نعتبرها نعمة ، لذلك بعد ذكر كل واحدة من هذه النعم يتكرّر نفس السؤال الذي كان يعقّب ذكر كل نعمة من النعم السابقة.

يقول سبحانه في البداية : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ).

«الثقلان : من مادة ثقل على وزن (كبر) بمعنى الحمل الثقيل وجاءت بمعنى الوزن أيضاً ، إلّاأنّ ثقل على وزن (خبر) تقال عادةً لمتاع وحمل المسافرين ، وتطلق على جماعة الإنس والجن وذلك لثقلهم المعنوي ، لأنّ الله تبارك وتعالى قد أعطاهم عقلاً وشعوراً وعلماً ووعياً له وزن وقيمة بالرغم من أنّ الثقل الجسدي لهم ملحوظ أيضاً.

وبعد هذا يكرّر الله سبحانه سؤاله مرّة اخرى : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

وتعقيباً على الآية السابقة التي كانت تستعرض الحساب الإلهي الدقيق ، يخاطب الجن والإنس مرّة اخرى بقوله : (يَا مَعْشَرَ الْجِنّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ) للفرار من العقاب الإلهي ؛ (فَانفُذُوا لَاتَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ). أي بقوّة إلهيّة ، في حين أنّكم فاقدون لمثل هذه القوّة والقدرة.

٥٩

«معشر : في الأصل من عشر مأخوذ من عدد عشرة ، ولأنّ العدد عشرة عدد كامل ، فإنّ مصطلح (معشر) يقال : للمجموعة المتكاملة والتي تتكوّن من أصناف وطوائف مختلفة.

أقطار : جمع قُطْر بمعنى أطراف الشيء.

«تنفذوا : من مادة نفوذ ، وهي في الأصل بمعنى خرق وعبور من شيء.

والتعبير (من أقطار) إشارة إلى شقّ السماوات وتجاوزها إلى خارجها.

إنّ الآية أعلاه تتحدث عن الهروب والفرار من يد العدالة الإلهية الذي يفكّر به العاصون في ذلك اليوم.

في مجمع البيان : روى مسعدة بن صدقة عن كليب قال : كنا عند أبي عبدالله عليه‌السلام ، فأنشأ يحدثنا فقال : إذا كان يوم القيامة جمع الله العباد في صعيد واحد ، وذلك أنّه يوحي إلى السماء الدنيا أن اهبطي بمن فيك ، فيهبط أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس والملائكة. ثم يهبط أهل السماء الثانية بمثل الجميع مرتين ، فلا يزالون كذلك حتى يهبط أهل سبع سماوات فيصير الجن والإنس في سبع سرادقات من الملائكة ثم ينادي مناد : (يَا مَعْشَرَ الْجِنّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ) الآية. فينظرون فإذا قد أحاط بهم سبع أطواق من الملائكة.

ويخاطب سبحانه هاتين المجموعتين (الجن والإنس) بقوله : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

والتهديد هنا لطف إلهي أيضاً ، فالبرغم من أنّه يحمل تهديداً ظاهرياً ، إلّاأنّه عامل للتنبيه والإصلاح والتربية ، حيث إنّ وجود المحاسبة في كل نظام هو نعمة كبيرة.

وما ورد في الآية اللاحقة تأكيد لما تقدّم ذكره في الآيات السابقة ، والذي يتعلق بعدم قدرة الجن والإنس من الفرار من يد العدالة الإلهية ، حيث يقول سبحانه : (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ).

«شواظ : بمعنى (الشعلة العديمة الدخان). إنّ هذا التعبير يشير إلى شدة حرارة النار.

ونحاس : بمعنى الدخان أو (الشعل ذات اللون الأحمر مصحوبة بالدخان) ، لأنّها تتحدث عن موجود يحيط بالإنسان في يوم القيامة ويمنعه من الفرار من حكومة العدل الإلهي.

ثم يضيف سبحانه قوله : (فَبِأَىّءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ).

٦٠