مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

(وَلَلْأَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى).

أنت في هذه الدنيا مشمول بالطاف الله تعالى ، وفي الآخرة أكثر وأفضل.

وتأتي البشرى للنبي الكريم لتقول له : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى).

وهذا أعظم أكرام وأسمى احترام من ربّ العالمين لعبده المصطفى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. فالعطاء الرباني سيغدق عليه حتى يرضى ... حتى ينتصر على الأعداء ويعم نور الإسلام الخافقين ، كما أنّه سيكون في الآخرة أيضاً مشمولاً بأعظم الهبات الإلهية.

النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله باعتباره خاتم الأنبياء ، وقائد البشرية ، لا يمكن أن يتحقق رضاه في نجاته فحسب ، بل إنّه سيكون راضياً حين تُقبل منه شفاعته في امته.

عن حرب بن شريح قال : قلت لأبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين : جعلت فداك! أرأيت هذه الشفاعة التي يتحدث بها بالعراق أحق هي؟ قال : شفاعة ماذا؟ قلت : شفاعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : حق والله ، لحدثني عمي محمّد بن علي بن الحنفية عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أشفع لُامّتي حتى يناديني ربّي عزوجل أرضيت يا محمّد ، فأقول : نعم رضيت. ثم أقبل علي عليه‌السلام فقال : إنّكم تقولون يا معشر العراق إنّ أرجى آية في كتاب الله (يَا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ) الآية. قلت إنّا لنقول ذلك ، قال : ولكنا أهل البيت نقول إنّ أرجى آية في كتاب الله (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) وهي الشفاعة (١).

وفي المجمع عن الصادق عليه‌السلام قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على فاطمة عليها‌السلام وعليها كساء من ثلة الإبل وهي تطحن بيدها وترضع ولدها ، فدمعت عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما أبصرها ، فقال : يا بنتاه! تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة فقد أنزل الله علي (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى).

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (٧) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (١١)

الشكر على كل هذه النعم الإلهية : ذكرنا أنّ هدف هذه السورة المباركة تسلية قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبيان الطاف الله التي شملته ، وهذه الآيات المذكورة أعلاه تجسد للنبي ثلاث هبات من الهبات الخاصّة التي أنعم الله بها على النبي ، ثم تأمره بثلاثة أوامر.

__________________

(١) كنز العمال ١٤ / ٦٣٦ ؛ المعجم الأوسط ، الطبراني ٢ / ٣٠٧ ؛ وتفسير مجمع البيان ١٠ / ٣٨٢.

٤٨١

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَاوَى).

فقد كنت يا محمّد في رحم امّك حين توفي والدك فآويتك إلى كنف جدّك عبد المطلب (سيد مكة).

وكنت في السادسة حين توفيت والدتك ، فزاد يتمك ، لكنّني زدت حبّك في قلب عبد المطلب.

وكنت في الثامنة حين رحل جدّك عبدالمطلب ، فسخرت لك عمّك أبا طالب ، وليحافظ عليك كما يحافظ على روحه.

نعم ، كنت يتيماً فآويتك.

ثم يأتي ذكر النعمة الثانية : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى).

نعم ، لم تكن أيّها النبي على علم بالنبوّة والرسالة ، ونحن أنزلنا هذا النور على قلبك لتهدي به الإنسانية ، وهذا المعنى ورد في الآية (٥٢) من سورة الشورى أيضاً : (مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلكِن جَعَلْنهُ نُورًا نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا).

من هنا فإنّ المقصود من الضلالة في كلمة ضالاً في الآية ليس نفي الإيمان والتوحيد والطهر والتقوى عن النبي ، بل بقرينة الآيات التي أشرنا إليها تعني نفي العلم بأسرار النبوّة وبأحكام الإسلام ، وتعني عدم معرفة هذه الحقائق ، كما أكّد على ذلك كثير من المفسرين.

لكنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد البعثة اهتدى إلى هذه الامور بعون الله تعالى.

ثم يأتي ذكر النعمة الثالثة : (وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى) (١).

لقد جعلناك تستأثر باهتمام خديجة هذه المرأة المخلصة الوفية لتضع كل ثروتها تحت تصرّفك ومن أجل تحقيق أهدافك ، وبعد ظهور الإسلام رزقك مغانم كثيرة في الحروب ساعدتك في تحقيق أهدافك الرسالية الكبرى.

في الآيات التالية ثلاثة أوامر تصدر إلى الرسول باعتبارها نتيجة الآيات السابقة ... والخطاب ، وإن كان متجهاً إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّه يشمل أيضاً كل المسلمين.

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ).

كأنّ الله يخاطب نبيّه قائلاً : لقد كنت يتيماً أيضاً وعانيت من آلام اليتم ، والآن عليك أن

__________________

(١) العائل : في الأصل كثير العيال ، وجاءت أيضاً بمعنى الفقير ، وهي في الآية بهذا المعنى.

٤٨٢

تهتم بالأيتام كل اهتمام وأن تروي روحهم الظمأى بحبّك وعطفك.

وهذا يدل على أنّ هناك مسألة أهم من الإطعام والإنفاق بشأن الأيتام ، وهي اللطف بهم والعطف عليهم وإزالة إحساسهم بالنقص العاطفي. في المجمع عن عبدالله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من مسح على رأس يتيم كان له بكل شعرة تمرّ على يده نور يوم القيامة.

(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ).

«نَهَرَ : بمعنى ردّ بخشونة.

وفي معنى السائل عدّة تفاسير.

الأوّل : أنّه المتجه بالسؤال حول القضايا العلمية والعقائدية والدينية.

والثاني : هوالفقير في المال والمتاع ، والأمر يكون عندئذ ببذل الجهد في هذا المجال ، وبعدم ردّ هذا الفقير السائل يائساً.

والثالث : أنّ المعنى يشمل الفقير علمياً والفقير مادياً ، والأمر بتلبية احتياجات السائل في المجالين ، وهذا المعنى يتناسب مع الهداية الإلهية لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومع إيوائه حين كان يتيماً.

(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ). والحديث عن النعمة قد يكون باللسان ، وبتعابير تنمّ عن غاية الشكر والإمتنان ، لا عن التفاخر والغرور. وقد تكون بالعمل عن طريق الإنفاق من هذه النعمة في سبيل الله ، انفاقاً يبيّن مدى هذه النعمة.

إنّ النعمة في الآية شاملاً للنعم المادية والمعنوية. في المجمع : قال الصادق عليه‌السلام معناه : «فحدث بما أعطاك الله ، وفضلك ، ورزقك ، وأحسن إليك وهداك.

نهاية تفسير سورة الضحى

* * *

٤٨٣
٤٨٤

٩٤

سورة الشرح

محتوى السورة : المعروف أنّ هذه السورة نزلت بعد سورة الضحى ومحتواها يؤيد ذلك ، لأنّها تسرد أيضاً قسماً من الهبات الإلهية للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

في سورة الضحى عرض لثلاث هبات إلهية بعضها مادية وبعضها معنوية ، وفي هذه السورة ذكر لثلاث هبات أيضاً غير أنّ جميعها معنوية ، وتدور السورة بشكل عام حول ثلاثة محاور : الأوّل : بيان النعم الثلاث ؛ والثاني : تبشير النبي بزوال العقبات أمام دعوته ؛ والثالث : الترغيب في عبادة الله الواحد الأحد.

ولذلك ورد عن أهل البيت عليهم‌السلام ما يدل أنّ هاتين السورتين سورة واحدة ووجب قراءتهما معاً في الصلاة لوجوب قراءة سورة كاملة بعد الحمد.

فضيلة تلاوة السورة : في المجمع ابي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من قرأها اعطي من الأجر كمن لقي محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله مغتماً ففرّج عنه.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (٨)

٤٨٥

نِعم إلهية : سياق الآيات ممزوج بالحب والحنان وبألطاف ربّ العالمين لنبيّه الكريم.

أهم هبة إلهية تشير إليها الآية الاولى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ).

«الشرح : في الأصل توسعة قطع اللحم بتحويلها إلى شرائح أرق ؛ وشرح الصدر : سعته بنور إلهي وبسكينة واطمئنان من عند الله ، ولهذه التوسعة مفهوم واسع ، تشمل السعة العلمية للنبي عن طريق الوحي والرسالة ، وتشمل أيضاً توسعة قدرة النبي في تحمله واستقامته أمام تعنت الأعداء والمعارضين.

في المجمع : روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لقد سألت ربّي مسألة وددت أنّي لم أسأله ؛ قلت : أي ربّ! إنّه قد كان أنبياء قبلي منهم من سخرت له الريح ومنهم من كان يحيي الموتى. قال ، فقال : ألم أجدك يتيماً فآويتك. قال : قلت بلى. قال : ألم أجدك ضالاً فهديتك. قال : قلت بلى أي ربّ. قال : ألم أشرح لك صدرك ووضعت عنك وزرك قال : قلت : بلى أي ربّ.

وهذا يعني أنّ نعمة شرح الصدر تفوق معاجز الأنبياء. والمتمعّن في دراسة حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما فيها من مظاهر تدل على شرح عظيم لصدره تجاه الصعاب والمشاق يدرك بما لا يقبل الشك أنّ الأمر لم يتأت لرسول الله بشكل عادي ، بل إنّه حتماً تأييد إلهي ربّاني.

وبسعة الصدر هذه إجتاز الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله العقبات والحواجز والصعاب على أفضل وجه ، وأدّى رسالته خير أداء.

ثم يأتي ذكر الموهبة الثانية : (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ). أي ألم نضع عنك الحمل الثقيل؟

(الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ).

وأي حمل وضعه الله عن نبيّه؟ القرائن في الآيات تدل على أنّه مشاكل الرسالة والنبوّة والدعوة إلى التوحيد وتطهير المجتمع من ألوان الفساد ، وليس نبيّ الإسلام وحده بل كل الأنبياء في بداية الدعوة واجهوا مثل هذه المشاكل الكبرى ، وتغلبوا عليها بالإمداد الإلهي وحده ، مع فارق في الظروف ، فبيئة الدعوة الإسلامية كانت ذات عقبات أكبر ومشاكل ...

وفي الموهبة الثالثة يقول سبحانه : (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ).

فاسمك مع اسم الإسلام والقرآن قد ملأ الآفاق ، وأكثر من ذلك اقترن اسمك باسم الله سبحانه في الأذان يرفع صباح مساء على المآذن. والشهادة برسالتك لا تنفك عن الشهادة بتوحيد الله في الإقرار بالإسلام وقبول الدين الحنيف.

٤٨٦

وروي عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في تفسير هذه الآية قال : قال لي جبرائيل قال الله عزوجل : إذا ذُكرتُ ذُكرتَ معي. [وكفى بذلك منزلة].

شاعر النبي حسان بن ثابت ضمّن معنى الآية الكريمة في أبيات جميلة ، وقال :

وضمّ الإله اسم النبي إلى اسمه

إذ قال في الخمس المؤذن أشهد

وشقّ له من اسمه ليجلّه

فذو العرش محمود وهذا محمّد

الآية التالية تبشّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأعظم بشرى ، وتقول : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا).

ويأتي التأكيد الآخر : (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا).

لا تغتمّ أيّها النبي ، فالمشاكل والعقبات لا تبقى على هذه الحالة ، ودسائس الأعداء لن تستمر ، وشظف العيش وفقر المسلمين سوف لا يظلّ على هذا المنوال.

إنّ اسلوب الآيتين يجعلهما لا تختصان بشخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبزمانه ، بل بصورة قاعدة عامة مستنبطة مما سبق ، وتبشّر كل البشرية المؤمنة المخلصة الكادحة ، وتقول لها : كل عسر إلى جانبه يسر.

في من لا يحضره الفقيه بإسناده إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : واعلم أنّ النصر مع الصبر ، وأنّ الفرج مع الكرب وفإنّ مع العسر يسراً ، إنّ مع العسر يسراً.

(فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ). أي إذا انتهيت من أداء أمر مهم فابدأ بمهمّة اخرى ، فلا مجال للبطالة والعطل. كن دائماً في سعي مستمر ومجاهدة دائمة ، واجعل نهاية أية مهمّة بداية لمهمّة اخرى.

(وَإِلَى رَبّكَ فَارْغَب). أي فاعتمد على الله في كل الأحوال.

اطلب رضاه ، واسع لقربه.

الآيتان ـ حسب ما ذكرناه ـ لهما مفهوم واسع عام يقضي بالبدء بمهمّة جديدة بعد الفراغ من كل مهمّة. وبالتوجه نحو الله في كل المساعي والجهود.

إنّ هذه السورة تبيّن بمجموعها عناية ربّ العالمين الخاصة للنبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتسلية قلبه أمام المشاكل ، ووعده بالنصر أمام عقبات الدعوة ، وهي في الوقت ذاته تحيي الأمل والحركة والحياة في جميع البشرية المهتدية بهدى القرآن.

نهاية تفسير سورة الشرح

* * *

٤٨٧
٤٨٨

٩٥

سورة التين

محتوى السورة وفضيلتها : هذه السورة تدور آياتها حول حسن خلقة الإنسان ومراحل تكامله ونموّه وانحطاطه ، وتبدأ بقسم عميق المعنى ، تذكر عوامل انتصار الإنسان ونجاته وتنتهي بالتأكيد على مسألة المعاد وحاكمية الله المطلقة.

وفي المجمع عن ابي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من قرأها أعطاه الله خصلتين : العافية واليقين مادام في دار الدنيا ، فإذا مات أعطاه الله من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة صيام يوم.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) (٨)

تبدأ السورة بالقسم أربع مرّات لبيان أمر مهم :

(وَالتّينِ وَالزَّيْتُونِ).

٤٨٩

(وَطُورِ سِينِينَ) (١).

(وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ).

«التين والزيتون ثمرتان معروفتان ، واختلف المفسرون في المقصود بالتين وبالزيتون ، هل هما الفاكهتان المعروفتان أم شيء آخر؟

بعضهم ذهب إلى أنّهما الفاكهتان بما لهما من خواص غذائية وعلاجية كبيرة ، وبعض آخر قال : المقصود منهما جبلان واقعان في مدينتي دمشق وبيت المقدس لأنّ المكانين منبَثَق كثير من الرسل والأنبياء .. وبذلك ينسجم هذان القَسمان مع ما يليهما من قَسمين بأراض مقدسة.

(وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ). والبلد الأمين مكة ، الأرض التي كانت في عصر الجاهلية أيضاً بلداً آمناً وحرماً إلهيّاً ، ولا يحق لأحد فيها أن يتعرض لأحد.

إذا حملنا كلمتي التين والزيتون على معناهما الظاهر الإبتدائي ، فالقسم بها ذو دلالة عميقة أيضاً ، لأنّ التين فاكهة ذات مواد غذائية ثرّة ، ولقمة مغذية ومقوية لمختلف الأعمار ، وخالية من القشر والنواة والزوائد.

وفي الكافي عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام قال : التين يذهب بالبخر ويشدّ الفم والعظم ، وينبت الشعر ، ويذهب بالداء ، ولا يحتاج معه إلى دواء.

وقال عليه‌السلام : التين أشبه شيء بنبات الجنة.

وحول الزيتون ، فإنّ العلماء الذين قضوا عمرهم في دراسة خواص النباتات يعيرون أهمية بالغة للزيتون وزيته. ويعتقدون أنّ الفرد إن أراد أن يعيش في سلامة دائمة فلابدّ له أن يستفيد من هذا الأكسير الحياتي.

زيت الزيتون صديق حميم لكبد الإنسان ، وله تأثير فعّال في معالجة عوارض الكلى ، وحصى الصفراء ، والتشنجات الكليوية والكبدية ، وإزالة الإمساك.

وزيت الزيتون مفعم أيضاً بأنواع الفيتامينات وفيه الفوسفور والكبريت والكلسيوم والحديد والبوتاسيوم والمنغنيز.

__________________

(١) قيل : إنّ سينين جمع بمعنى شجرة ، واحدته سينة ، فكأنّه قيل طور الأشجار. وقيل : إنّ سينين ، اسم للبقعة التي فيها الجبل. وعن عكرمة بزيادة بلسان أهل الحبشة ؛ وعن قتادة أنّه قال : سينين مبارك حسن ذو شجر (روح المعاني ٣٠ / ١٧٣).

٤٩٠

وفي المكارم الأخلاق للطبرسي عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام قال : نعم الطعام الزيت ، يطيب النكهة ، ويذهب بالبلغم ، ويصفي اللون ، ويشدّ العصب ، ويذهب بالوصب [المرض والألم والضعف] ويطفيء الغضب.

ثم يأتي جواب القسم : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسنَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).

«تقويم : يعني تسوية الشيء بصورة مناسبة ، ونظام معتدل وكيفية لائقة ، وسعة مفهوم الآية يشير إلى أنّ الله سبحانه خلق الإنسان بشكل متوازن لائق من كل الجهات ، الجسمية والروحية والعقلية ، إذ جعل فيه ألوان الكفاءات ، وأعدّه لتسلق سلّم السموّ ، وهو ـ وإن كان جرماً صغيراً ـ وضع فيه العالم الأكبر ، ومنحه من الكفاءات والطاقات ما جعله لائقاً لوسام : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىءَادَمَ) (١).

وهذا الإنسان بكل ما فيه من امتيازات ، يهبط حين ينحرف عن مسيرة الله إلى أسفل سافلين.

لذلك تقول الآية التالية : (ثُمَّ رَدَدْنهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ).

ولِم لا يكون كذلك وهو الموجود المليء بالكفاءات الثرّة التي إن سخرها على طريق الصلاح يبلغ أسمى قمم الفخر وإن استعملها على طريق الفساد يخلق أكبر مفسدة ، وينزلق طبعاً إلى أسفل سافلين.

ولكن الآية التالية تقول : (إِلَّا الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ).

«ممنون : من المن وتعني هنا القطع أو النقص ، من هنا فالأجر غير مقطوع ولا منقوص ، وقيل : إنّه خال من المنّة ، لكن المعنى الأوّل أنسب.

الآية التالية تخاطب هذا الإنسان الكافر بأنعم ربّه والمعرض عن دلائل المعاد وتقول له : (فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بِالدّينِ).

تركيب وجودك من جهة ، وبنيان هذا العالم الواسع من جهة اخرى يؤكّدان أنّ هذه الحياة الخاطفة لا يمكن أن تكون الهدف النهائي من خلقتك وخلقة هذا العالم الكبير.

هذه كلّها مقدمات لعالم أوسع وأكمل ، وبالتعبير القرآني ، هذه النشأة الاولى تنبيء عن النشأة الاخرى فلِم لا يتذكر الإنسان! (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ) (٢).

__________________

(١) سورة الإسراء / ٧٠.

(٢) راجع أدلة المعاد في تفسير سورة الواقعة.

٤٩١

واتضح أيضاً أنّ المقصود من الدين ليس هو الشريعة بل هو يوم الجزاء ، والآية التالية تؤيد ذلك : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ).

في تفسير مجمع البيان : قال قتادة : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا ختم هذه السورة قال : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين.

نهاية تفسير سورة التين

* * *

٤٩٢

٩٦

سورة العلق

محتوى السورة : المشهور بين المفسرين أنّها أوّل ما نزل من القرآن ، ومحتواها يؤيد ذلك أيضاً.

هذه السورة تبدأ بأن تأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقراءة ، ثم تتحدث عن خلقة الإنسان بكل عظمته من قطعة دم تافهة.

وفي المرحلة التالية تتحدث السورة عن تكامل الإنسان في ظل لطف الله وكرمه ، وعن تعليمه وتمكينه من القلم.

ثم تتطرق إلى طغيان الإنسان رغم كل ما توفرت له من هبات إلهية وإكرام رباني.

وتشير بعد ذلك إلى ما ينتظر اولئك الصادين عن طريق الهداية والمانعين لأعمال الخير من عقاب.

وفي ختام السورة أمر بالسجود والإقتراب من ربّ العالمين.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام قال : «من قرأ في يومه أو في ليلته إقرأ باسم ربّك ثم مات في يومه أو في ليلته ، مات شهيداً وبعثه الله شهيداً ، وأحياه كمن ضرب بسيفه في سبيل الله مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

هذه السورةالمباركة سمّيت سورة العلق وإقرأ والقلم لمناسبة هذه الكلمات فيها.

٤٩٣

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (٥)

سبب النّزول

جاء في الروايات أنّ محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله كان في غار حراء حين نزل عليه جبرائيل وقال له : إقرأ يا محمّد. قال : ما أنا بقاريء ، فاحتضنه جبرائيل وضغطه وقال له : إقرأ يا محمّد وتكرر الجواب. ثم أعاد جبرائيل عمله ثانية وسمع نفس الجواب. وفي المرّة الثالثة قال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ) إلى آخر الآيات الخمس الاولى من السورة.

قال ذلك واختفى عن أنظار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

رسول الله أحسّ بتعب شديد بعد هبوط أولى أشعة الوحي عليه فذهب إلى خديجة وقال : زملوني ودثروني (١).

في تفسير مجمع البيان : أكثر المفسرين على أنّ هذه السورة أوّل ما نزل من القرآن وأوّل يوم نزل جبرائيل عليه‌السلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو قائم على حراء ، علّمه خمس آيات من أوّل هذه السورة. وقيل : أوّل سورة نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاتحة الكتاب.

رواه الحاكم أبوعبدالله الحافظ بإسناده عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لخديجة : إنّي إذا خلوت وحدي سمعت نداء. فقالت : ما يفعل الله بك إلّاخيراً. فوالله إنّك لتؤدّي الأمانة ، وتصل الرحم ، وتصدق الحديث. قالت خديجة : فانطلقنا إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمّ خديجة ، فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما رأى ، فقال له ورقة : إذا أتاك فاثبت له حتى تسمع ما يقول ، ثم ائتني فأخبرني. فلمّا خلا ناداه يا محمّد! قل له ذلك. فقال له : أبشر ثم أبشر ، فأنا أشهد أنّك الذي بشّر به ابن مريم ، وأنّك على مثل ناموس موسى ، وأنّك نبي مرسل ، وإنّك سوف تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا ، ولئن أدركني ذلك لُاجاهدنّ معك. فلمّا توفي ورقة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير لأنّه آمن بي وصدّقني. يعني ورقة.

جدير بالذكر أنّ في بعض كتب التفسير والتاريخ كلاماً حول حياة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ،

__________________

(١) تفسير روح الجنان ١٢ / ٩٦ ؛ وهذا المعنى أورده كثير من المفسرين بإضافات وزوائد لا يمكن قبول بعضها.

٤٩٤

في هذه البرهة الزمنية لا تتناسب أبداً مع شخصية النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتستند حتماً إلى أحاديث مختلقة أو إلى اسرائيليات. ويبدو أنّ أعداء الإسلام دسّوا هذه الروايات للطعن في الإسلام وللحط من شخصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

التّفسير

الآية الاولى فيها خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تقول له : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ).

ويلاحظ هنا قبل كل شيء التركيز على مسألة الربوبية ، ونعلم أنّ الربّ يعني المالك المصلح ، أي الشخص الذي يملك شيئاً ، ويتعهد إصلاحه وتربيته أيضاً.

ولإثبات ربوبية الله جاء ذكر الخلقة ... خلقة الكون ، إذ إنّ أفضل دليل على ربوبيته خالقيته ، فالذي يُدبّر العالم هو خالقه.

وهذا ردّ على مشركي العرب الذين قبلوا خالقية الله ، وأوكلوا الربوبية والتدبير إلى الأوثان ، ثم إنّ ربوبية الله وتدبيره لنظام الكون أفضل دليل على إثبات ذاته المقدسة.

ثم اختارت الآية التالية الإنسان باعتباره أهم مظاهر الخليقة وقالت : (خَلَقَ الْإِنسنَ مِنْ عَلَقٍ).

«العلق : في الأصل الإلتصاق بشيء ، والنطفة بعد أن تطوي المراحل الجنينية الاولى تتحول إلى قطعة دم متلاصقة هي العلق ، وهي مع تفاهتها الظاهرية تعتبر مبدأ خلقة الإنسان ، والآية تركز على هذه الظاهرة لتبيّن قدرة الرب العظيمة على خلق هذا الإنسان العجيب من هذه العلقة التافهة.

وقيل : إنّ العلق في الآية يعني الطين الذي خلق منه آدم ، وهو أيضاً مادة متلاصقة ، وبديهي أنّ الربّ الذي خلق آدم من طين لازب يستحق كل تمجيد وثناء.

وقيل أيضاً : أنّ العلق يعني صاحب العلاقة ، وفيه إشارة إلى الروح الإجتماعية للإنسان ، والعلاقة الموجودة بين أفراد البشر هي أساس تكامل البشر وتطور الحضارات.

وقال آخرون : إنّ العلق إشارة إلى نطفة الرجل (الحيمن) ، وهي تشبه دودة العلق إلى حدّ كبير ، وهذا الموجود المجهري يسبح في ماء النطفة ، ويتجه إلى بويضة المرأة في الرحم ، ويلقحها ويكون منها النطفة الكاملة للإنسان.

والقرآن الكريم بطرحه هذه المسألة يسجل معجزة علمية اخرى من معاجزه ، إذ لم تكن هذه الامور معروفة أبداً في عصر نزوله.

٤٩٥

ومن بين التفاسير الأربعة ، يبدو أنّ التفسير الأوّل أوضح ، وإن كان الجمع بين التفاسير الأربعة ممكن أيضاً.

وللتأكيد ، تقول الآية مرّة اخرى : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ).

وهذه الآية جواب على قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لجبرائيل : ما أنا بقاريء ، وهذه الآية تقول : إنّك قادر على القراءة بكرم الربّ وفضله ومنّه.

ثم تصف الآيتان التاليتان الربّ الأكرم :

(الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ).

عَلَّمَ الْإِنسنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ).

وهاتان الآيتان أيضاً تتجهان إلى الجواب على قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما أنا بقاريء ، أي إنّ الله الذي علم البشر بالقلم وكشف لهم المجاهيل ، قادر على أن يعلم عبده الأمين القراءة والتلاوة.

جملة (الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) تحتمل معنيين.

الأوّل : أنّ الله علم الإنسان الكتابة ، وأعطاه هذه القدرة العظيمة التي هي منبثق تاريخ البشر ، ومنطلق جميع العلوم والفنون والحضارات.

والثاني : المقصود أنّ الله علم الإنسان جميع العلوم عن طريق القلم وبوسيلة الكتابة.

وهو تعبير عميق المعنى في تلك اللحظات الحساسة من بداية نزول الوحي

إنّ أساس الإسلام أقيم منذ البداية على أساس العلم والقلم ... ولذلك استطاع قوم متخلفون أن يتقدموا في العلم والمعرفة حتى تأهّلوا ـ باعتراف الأعداء والأصدقاء ـ لتصدير علومهم إلى العالم! إنّ علم المسلمين ومعارفهم هو الذي مزّق ظلام القرون الوسطى في أوروبا وأدخلها عصر الحضارة. وهذا ما يعترف به علماء أوروبا أنفسهم فيما كتبوه في حقل تاريخ الحضارة الإسلامية وفي تراث الإسلام.

وما أبشع وأفظع أن تكون أخلاق امّة كتلك تمتلك بين ظهرانيها ديناً كهذا متخلفة في ميادين العلم والمعرفة ومحتاجة إلى الآخرين بل وتابعة لهم.

(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (٧) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩) عَبْداً إِذَا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى) (١٤)

٤٩٦

استتباعاً للآيات السابقة التي تحدثت عن النِعم المادية والمعنوية الإلهية على الإنسان ... والنِعم التي تستلزم شكر الإنسان وتسليمه أمام الله ، هذه الآيات تبدأ بالقول : ليست نِعَم الله تحيي روح الشكر في الإنسان دائماً ، بل إنّه يطغى :

(كَلَّا إِنَّ الْإِنسنَ لَيَطْغَى). ومتى يكون ذلك؟ فيما لو رأى نفسه مستغنياً وغير محتاج.

(أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى). هذه طبيعة أغلب أفراد البشر ... الأفراد الذين لم يتربوا في مدرسة العقل والوحي ، حين يرون أنفسهم مستغنين غير محتاجين يعمدون إلى الطغيان ، وينسلخون من عبودية الله ، ويرفضون الإعتراف بأحكامه ، ويصمّون أذانهم عن ندائه ، ولا يراعون حقّاً ولا عدلاً.

إنّ الهدف من الآية الفات نظر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بمنعطفات الطبيعة البشرية كي لا يتوقع قولاً سريعاً من الناس لدعوته ، وليعدّ نفسه لإنكار المنكرين ومعارضة الطغاة المستكبرين ، وليعلم أنّ الطريق أمامه وعر مليء بالمصاعب.

ثم يأتي التهديد لهؤلاء الطغاة المستكبرين وتقول الآية التالية : (إِنَّ إِلَى رَبّكَ الرُّجْعَى). وهو الذي يعاقب الطغاة على ما اقترفوه ، وكما أنّ رجوع كل شيء إليه ، وميراث السماوات والأرض له سبحانه : (وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ) (١). فكلّ شيء في البداية منه ، ولا مبرّر للإنسان أن يشعر بالإستغناء ويطغى.

ثم تتحدث الآيات التالية عن بعض أعمال الطغاة المغرورين ، مثل صدّهم عباد الله عن السير في طريق الحق.

(أَرَءَيْتَ الَّذِى يَنْهَى).

(عَبْدًا إِذَا صَلَّى).

وفي تفسير مجمع البيان : فقد جاء في الحديث أنّ أبا جهل قال : هل يعفّر محمّد وجهه بين أظهركم قالوا : نعم. قال : فبالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته. فقيل له : ها هو ذاك يصلّي ، فانطلق ليطأ على رقبته ، فما فاجأهم إلّاوهو ينكص على عقبيه ، ويتقي بيديه. فقالوا : ما لك يا أبا الحكم؟ قال : إنّ بيني وبينه خندقاً من نار ، وهولاً ، وأجنحة. وقال نبي الله : والذي نفسي بيده لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضواً عضواً. فأنزل الله سبحانه : (أَرَءَيْتَ الَّذِى يَنْهَى) إلى آخر السورة.

__________________

(١) سورة آل عمران / ١٨٠.

٤٩٧

الآيات التالية تأكيد على نفس المفاهيم.

(أَرَءَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى).

أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى). أي أرأيت إن كان هذا العبد المصلي على الهدى أو أمر بالتقوى فهل يصح نهيه؟ ألا يستحق من ينهاه النار؟

(أَرَءَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى). ولو كذّب هذا الطاغية بالحق وتولى وأعرض عنه فماذا سيكون مصيره؟

(أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى) ويثبت كل شيء ليوم الجزاء والحساب.

(كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (١٨) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (١٩)

بعد الحديث في الآيات السابقة عن الطغاة الكافرين الصادين عن سبيل الله ، توجّه هذه الآيات أشدّ التهديد لهم وتقول : (كَلَّا) لا يكون ما يتصور (لانّه تصور أن يصدّ عن عبادة الله بوضعه قدمه على رقبة النبي).

(كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ). نعم ، إذا لم ينته من إثمه وطغيانه سنجرّه بالقوّة من شعر مقدمة رأسه (وهي الناصية) ، وثم وصف الناصية هذه بأنّها كاذبة خاطئة وهو وصف لصاحبها : (نَاصِيَةً كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ).

«لنسفعاً : من السفع ، وله معاني متعددة : الجرّ بالشدّة ، الصفع على الوجه ، تسويد الوجه (الأثافي الثلاثة التي يوضع عليها القدر تسمى سفع لأنّها تسوّد بالدخان) ، ووضع العلامة للإذلال.

والأنسب المعنى الأوّل ، وإن كانت الآية تحتمل معاني اخرى أيضاً.

روى أنّه لما نزلت سورة الرحمن ، علّم القرآن ... قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه : من يقرؤها منكم على رؤوساء قريش؟ فتثاقلوا مخافة أذيتهم ، فقام ابن مسعود وقال : أنا يا رسول الله. فأجلسه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم قال : من يقرؤها عليهم؟ فلم يقم إلّاابن مسعود ، ثم ثالثاً كذلك إلى أن أذن له ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يبقي عليه لما كان يعلم من ضعفه وصغر جثته ، ثم إنّه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة ، فافتتح قراءة السورة ، فقام أبو جهل فلطمه فشقّ اذنه وأدماه ، فانصرف وعيناه تدمع ، فلما رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رق قلبه وأطرق رأسه مغموماً ، فإذا جبريل عليه‌السلام

٤٩٨

يجيء ضاحكاً مستبشراً ، فقال : يا جبريل تضحك وابن مسعود يبكي! فقال : ستعلم.

فلما ظفر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في الجهاد ، فقال : خذ رمحك والتمس في الجرحى من كان به رمق فاقتله فإنّك تنال ثواب المجاهدين ، فأخذ يطالع القتلى ، فإذا أبو جهل مصروع يخور ... فصعد على صدره ، فلما رآه أبو جهل قال : يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعباً ، فقال ابن مسعود : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. فقال أبو جهل : بلغ صاحبك أنّه لم يكن أحد أبغض إلي منه في حياتي ، ولا أحد أبغض إلي منه في حال مماتي.

فروى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا سمع ذلك قال : فرعوني أشدّ من فرعون موسى فإنّه قال آمنت وهو قد زاد عتواً.

ثم قال [أبو جهل] لابن مسعود : اقطع رأسي بسيفي هذا ، لأنّه أحدّ وأقطع ، فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله ، فراح يجرّه على ناصيته إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبذلك تحقق قوله سبحانه : (لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ) في هذه الدنيا أيضاً (١).

«الناصية : شعر مقدم الرأس ، و (السفع بالناصية) يراد به الإذلال والإرغام ، لأنّ أخذ الشخص بناصيته يفقده كل حركة ويجبره على الإستسلام.

ولقد وردت بعض الروايات الصحيحة بأنّ السورة ـ عدا المقطع الأوّل منها ـ قد نزلت في أبي جهل إذ مرّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يصلي عند المقام فقال (يا محمّد ألم أنهك عن هذا؟ وتوعده. فاغلظ له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وانتهره ...) ولعلّها هي التي أخذ فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بخناقه وقال له : (أولى لك ثم أولى). فقال : يا محمّد بأي شيء تهددني؟ أما والله إنّي لأكثر هذا الوادي نادياً (٢). وهنا نزلت الآية التالية تقول لأبي جهل : فليدع هذا الجاهل المغرور كل قومه وعشيرته وليستنجد بهم : (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ).

ونحن سندع أيضاً زبانية جهنم : (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ). ليعلم هذا الجاهل الغافل أنّه عاجز عن فعل أي شيء وإنّه في قبضة خزنة جهنم كقشة في مهبّ الريح.

وفي آخر آية من السورة وهي آية السجدة يقول سبحانه : (كَلَّا). أي ليس الأمر كما

__________________

(١) التفسير الكبير ٣٢ / ٢٣.

(٢) في ظلال القرآن ٨ / ٦٢٤.

٤٩٩

يتصور بأنّه قادر على أن يمنع سجودك : (لَاتُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب). فأبو جهل أقل من أن يستطيع منع سجودك أو الوقوف بوجه دينك ، فتوكل على الله وأعبده واسجد له ، وبذلك تقترب منه سبحانه على هذا المسير أكثر فأكثر.

ويستفاد ضمنياً من هذه الآية أنّ السجود عامل اقتراب من الله ، ولذا ورد في الحديث عن عبدالله بن مسعود أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أقرب ما يكون العبد من الله إذا كان ساجداً.

وفي روايات أهل البيت عليهم‌السلام أنّ القرآن يتضمّن أربعة مواضع فيها سجود واجب وهي في السجدة وفصّلت والنجم وفي هذه السورة العلق وبقية المواضع السجدة فيها مستحبة.

نهاية تفسير سورة العلق

* * *

٥٠٠