مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

من الصبر ، وأنتن من الجيفة ، وأحر من النار ، سمّاه الله ضريعاً.

وتصف لنا الآية التالية ذلك الطعام : (لَّايُسْمِنُ وَلَا يُغْنِى مِن جُوعٍ).

فالذين شرهوا في تناول ألذ المأكولات في دنياهم ، على حساب ظلم الناس والتجاوز على حقوقهم ، ومنعوا لقمة العيش عن كثير من المحرومين ، فليس في طعام آخرتهم سوى العذاب الأليم.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (١٠) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (١١) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (١٢) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) (١٦)

صور من نعيم الجنة : بعد ذكر ما سيتعرض له أهل النار ، تنتقل عدسة السورة لتنقل لنا مشاهد رائعة لنعيم أهل الجنة .. ليتوضح لنا الفرق ما بين القهر الإلهي والرحمة الإلهية ، وما بين الوعيد والبشارة. فتقول الآية الاولى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ). على عكس وجوه المذنبين المكسوة بعلائم الذلة والخوف.

«ناعمة : من النعمة وتشير هنا إلى الوجوه الغارقة في نعمة الله ، وجوه طرية ، مسرورة ونورانية كما في الآية (٢٤) من سورة المطففين : (تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ).

وترى الوجوه : (لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ).

على عكس أهل جهنم ، فوجوههم عاملة ناصبة ، أمّا أهل الجنة ، فقد حان وقت حصادهم لما زرعوا في دنياهم ، وحصلوا عى أحسن ما يتمنون ، فتراهم في غاية الرضى والسرور.

وما زرعوا سيتضاعف ناتجه بإذن الله ولطفه أضعافاً مضاعفة ، فتارة عشرة أضعاف ، واخرى سبعمائة ضعف ، وثالثة يجازون على ما عملوا بغير حساب ، كما أشارت الآية (١٠) من سورة الزمر إلى ذلك بقولها : (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ).

ويدخل البيان القرآني في التفصيل أكثر : (فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ).

وكذا ... : (لَّاتَسْمَعُ فِيهَا لغِيَةً).

فهل يوجد مكان أهدأ وأجمل من ذلك؟!

٤٤١

ولو تأملنا حقيقة مشاكلنا فيما بيننا ، لرأينا أنّ الغالب منها ما كان ناشئاً عن سماع هكذا أحاديث ، والتي تؤدي إلى عدم الإستقرار النفسي ، وإلى تهديم أركان الترابط الاجتماعي فينهار النظام وتشتعل نيران الفتن لتأكل الأخضر واليابس معاً.

وبعد ذكر القرآن لما يتمتع به أهل الجنة من نعمة روحية ، يبيّن بعض النعم المادية في الجنة : (فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ).

تلك الأنهار أنّها تجري حسب رغبة أهل الجنة فلا داعي معها لشقّ أرض أو وضع سد.

وينهل أهل الجنة أشربة طاهرة ومتنوعة ، فتلك العيون وعلى ما لها من رونق وروعة ، فلكلّ منها شراب معين له مواصفاته الخاصة به.

وينتقل الوصف إلى أسرّة الجنة : (فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ). سرر : جمع (سرير) ، وهو من (السرور) ، بمعنى المقاعد التي يجلس عليها في مجالس الانس والسرور.

وجعلت تلك الأسرّة من الإرتفاع بحيث يتمكن أهل الجنة من رؤية كل ما يحيط بها والتمتع بذلك.

ولمّا كان شرب الشراب يستلزم ما يشرب به ، فقد قالت الآية التالية : (وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ).

ومتى ما أرادوا الشرب ارتفعت تلك الأكواب لتصل بين أيديهم وقد ملئت من شراب تلك العيون ، فيستلذون بما لا وصف له عند أهل الدنيا.

«أكواب : جمع (كوب) ، وهو القدح ، أو الظرف الذي له عروة.

ويستمر الحديث عن جزئيات نعيم الجنة : (وَنَمَارِقُ مَّصْفُوفَةٌ).

«نمارق : جمع (نمرقة) ، وهي الوسادة الصغيرة التي يتكأ عليها.

«مصفوفة : إشارة إلى تعددها بنظم خاص ، ليظهر أنّ لأهل الجنة جلسات انس جماعية ، التي لا يتخللها أي لغو وباطل ، ويدور الحديث فيها حول الألطاف الإلهية ونعمه الخالدة ، وعن الفوز الحقيقي الذي أبعدهم عن عذاب الآخرة.

ثم تكون الإشارة إلى فرش الجنة الفاخرة : (وَزَرَابِىُّ مَبْثُوثَةٌ).

«زرابية : جمع (زرب) أو (زربيّة) ، وهي الفرش والبسط الفاخرة ذات المتكأ.

٤٤٢

(أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (٢٢) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) (٢٦)

الإبل ... من آيات خلق الله : بعد أن تحدثت الآيات السابقة بتفصيل عن الجنة ونعيمها ، تأتي هذه الآيات لتوضح معالم الطريق الموصل إلى الجنة ونعيمها.

فمفتاح المعرفة معرفة الله ، ووصولاً لهذا المفتاح تذكر الآيات أربعة نماذج لمظاهر القدرة الإلهية وبديع الخلقة ، داعية الإنسان للتأمل ، عسى أن يصل إلى ما ينبغي له أن يصل إليه.

وتشير أيضاً إلى أنّ قدرة الله المطلقة هي مفتاح درك المعاد ..

فتقول الآية الاولى : (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ).

إنّ الآيات في أوّل نزولها كانت تخاطب أهل مكة قبل غيرهم ، والإبل أهم شيء في حياة أهل مكة في ذلك الزمان ، فهي معهم ليل نهار وتنجز لهم ضروب الأعمال وتدر عليهم الفوائد الكثيرة. أضف إلى ذلك أنّ لهذا الحيوان خصائص عجيبة قد تفرّد بها عن بقية الحيوانات ، ويعتبر بحق آية من آيات خلق الله الباهرة.

ولابدّ من التذكير ، بأنّ النظر الوارد في الآية ، يراد به النظر الذي يصحبه تأمل ودراسة.

وينتقل بنا البيان القرآني في الإبل إلى السماء : (وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ).

فكيف أصبحت تلك الكواكب في مساراتها المحدودة ، وما هو سرّ استقرارها في أماكنها وبكلّ هذه الدقّة ، ولِم لَم يتغيّر محور حركتها بالرغم من مرور ملايين السنين عليها.

مع كل هذا وذاك ، ألا يكون أمر خلق السماء مدعاة للتأمل والتفكير ، والخضوع والتسليم لربوبية الخالق الواحد الأحد؟!

وينقلنا إلى الجبال : (وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ).

٤٤٣

الجبال التي تشمخ بتعمق جذورها في باطن الأرض ، وتحيط بالأرض على شكل حلقات وسلاسل لتقلل من شدّة الزلازل الناشئة من ذوبان المواد المعدنية في باطن الأرض ، وكذا ما لها من دور في حفظ الأرض من عملية المدّ والجزر الناشئة من تأثيرات الشمس والقمر ..

«نصبت : من النصب ، وهو التثبيت ، وربّما رمز هذا التعبير إلى بداية خلق الجبال أيضاً.

فقد توصل العلم الحديث إلى أنّ تكون الجبال يعتمد على عوامل عديدة وقسمها إلى عدّة أنواع :

فمنها : ما تكون نتيجة للتراكمات الحاصلة على الأرض.

ومنها : ما تكون من الحمم البركانية.

ومنها : ما تكون نتيجة لتفتت الأرض بواسطة الأمطار.

وكذا منها : ما تكون نتيجة للترسبات الحاصلة في أعماق البحار ومن بقايا الحيوانات (كالجبال والجزر والمرجانية).

نعم ، فالجبال وبكل ما فيها ولها تعدّ آية من آيات القدرة الإلهية ، لمن رآها بعين بصيرة ولبّ شغول.

ثم إلى الأرض : (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ).

فلينظر الإنسان إلى كيفية هطول الأمطار على الجبال لتسيل من بعدها محملة الأتربة كي تتكون بها السهول الصافية ، لتكون صالحة للزراعة من جهة ومهيئة لما يعمل بها الإنسان من جهة اخرى .. ولو كانت كل الأرض عبارة عن جبال ووديان ، فما أصعب الحياة على سطحها والحال هذه.

ولابدّ لنا من التأمل والتفكير في من جعلها تكون على هذه الهيئة الملائمة تماماً لحياة الإنسان؟ ..

إنّ هذه الإشياء الأربع (الإبل ، السماء ، الجبال والأرض) تدخل في حياة الإنسان بشكل رئيسي ، حيث من السماء مصدر النور والأمطار والهواء ، والأرض مصدر نمو أنواع النباتات

٤٤٤

وما يتغذى به ، وكذا الجبال فبالإضافة لكونها رمز الثبات والعلو ففيها مخازن المياه والمواد المعدنية بألوانها المتنوعة ، وما الإبل إلّانموذج بارز متكامل لذلك الحيوان الأهلي الذي يقدّم مختلف الخدمات للإنسان.

وعليه ، فقد تجمعت في هذه الأشياء الأربع كل مستلزمات الزراعة والصناعة والثروة الحيوانية ، وحريّ بالإنسان والحال هذه أن يتأمل في هذه النعم المعطاءة ، كي يندفع بشكل طبيعي لشكر المنعم سبحانه وتعالى ، وبلا شك فإنّ شكر المنعم سيدعوه لمعرفة خالق النعم أكثر فأكثر.

وبعد هذا البحث التوحيدي ، يتوجه القرآن الكريم لمخاطبة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : (فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ) ... (لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ).

نعم ، فخلق السماء والأرض والجبال والحيوانات ينطق بعدم عبثية هذا الوجود ، وأنّ خلق الإنسان إنّما هو لهدف ...

فذكّرهم بهدفية الخلق ، وبيّن لهم طريق السلوك الربّاني ، وكن رائدهم وقدوتهم في مسيرة التكامل البشري.

وليس باستطاعتك إجبارهم ، وإن حصل ذلك فلا فائدة منه ، لأنّ شوط الكمال إنّما يقطع بالإرادة والإختيار ، وليس ثمّة من معنى للتكامل الإجباري.

وفي الآيتين التاليتين يأتي الاستثناء ونتيجته : (إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ) .. (فَيُعَذّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ).

ويراد ب (الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ) عذاب الآخرة الذي يقابل عذاب الدنيا الصغير نسبة لحجم وسعة عذاب الآخرة ، بقرينة الآية (٢٦) من سورة الزمر : (فَأَذَاقَهُمُ اللهُ الْخِزْىَ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْأَخِرَةِ أَكْبَرُ).

وكذلك يحتمل إرادة نوع شديد من عذاب الآخرة ، لأنّ عذاب جهنم ليس بمتساو للجميع.

وبحدّية قاطعة ، تقول آخر آيتين في السورة : (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ) .. (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم).

٤٤٥

والآيتان تتضمّنان التسلية لقلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في مواجهته لأساليب المعاندين ، لكي لا يبتئس من أفعالهم ، ويستمر في دعوته.

وهما أيضاً ، تهديد عنيف لكل مَن تسول له نفسه فيقف في صف الكافرين والمعاندين ، فيخبرهم بأنّ حسابهم سيكون بيد جبار شديد.

بدأت سورة الغاشية بموضوع القيامة وختمت به أيضاً ، كما تمّت الإشارة فيما بين البدء والختام إلى بحث التوحيد والنبوّة ، وهما دعامتا المعاد.

نهاية تفسير سورة الغاشية

* * *

٤٤٦

٨٩

سورة الفجر

محتوى السورة : تقدّم لنا الآيات الاولى أقساماً نادرة في نوعها لتهديد الجبارين بالعذاب الإلهي.

وتنقل لنا بعض آياتها ما حلّ ببعض الأقوام السالفة ممن طغوا في الأرض وعاثوا فساداً (قوم عاد ، ثمود وفرعون) ، وجعلهم عبرة لُاولي الأبصار ، ودرساً قاسياً لكل من يرى في نفسه القوّة والإقتدار من دون الله.

ثم تشير باختصار إلى الإمتحان الرباني للإنسان ، وتلومه على تقصيره في فعل الخيرات ..

وآخر ما تتحدث عنه السورة هو المعاد وما سينتظر المؤمنين ذوي النفوس المطمئنة من ثواب جزيل ، وأيضاً ما سينتظر المجرمين والكافرين من عقاب شديد.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان ابي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ومن قرأها في ليال عشر ، غفر الله له ، ومن قرأها سائر الأيّام ، كانت له نوراً يوم القيامة.

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : اقرأوا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم ، فإنّها سورة الحسين بن علي عليه‌السلام ، من قرأها كان مع الحسين بن علي عليه‌السلام يوم القيامة في درجته من الجنة.

يمكن أن يكون وصف السورة بسورة الإمام الحسين عليه‌السلام بلحاظ أنّه أفضل مصاديق ما

٤٤٧

جاء في آخر آياتها ، حيث فيما ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسير الآية الأخيرة من السورة : إنّ النفس المطمئنة هو الحسين بن علي عليهما‌السلام.

وعلى أيّة حال ، فثوابها إنّما هو لمن تبصر في قراءتها وعمل على ضوئها.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) (٥)

بدأت السورة بخمسة أقسام : الأوّل : (وَالْفَجْرِ) ... والثاني : (وَلَيَالٍ عَشْرٍ).

«الفجر : بمعنى الشقّ الواسع ، وقيل للصبح الفجر لأنّ نوره يشقّ ظلمة الليل.

وقيل : هو كل نور يشع وسط ظلام .. وعليه ، فبزوغ نور الإسلام ونور المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله في ظلام عصر الجاهلية هو من مصاديق الفجر ، وكذا بزوغ نور قيام المهدي عليه‌السلام في وسط ظلام العالم (كما جاء في بعض الروايات) (١).

ومن مصاديقه أيضاً ، ثورة الحسين عليه‌السلام في كربلاء الدامية ، لشقها ظلمة ظلام بني اميّة ، وتعرية نظامهم الحاكم بوجهه الحقيقي أمام الناس.

ويكون من مصاديقه ، كل ثورة قامت أو تقوم على الكفر والجهل والظلم على مرّ التاريخ.

وحتى انقداح أوّل شرارة يقظة في قلوب المذنبين المظلمة تدعوهم إلى التوبة ، فهو فجر.

وممّا لا شك فيه أنّ المعاني هي توسعة لمفهوم الآية ، أمّا ظاهرها فيدل على الفجر المعهود.

والمشهور عن ليال عشر : إنّهن ليالي أوّل ذي الحجة ، التي تشهد أكبر اجتماع عبادي سياسي لمسلمي العالم من كافة أقطار الأرض.

وقيل : ليالي أوّل شهر محرم الحرام.

وقيل أيضاً : ليالي آخر شهر رمضان ، لوجود ليلة القدر فيها.

والجمع بين كل ما ذُكر ممكن جدّاً.

وذكر في بعض الروايات التي تفسّر باطن القرآن : إنّ الفجر هو المهدي المنتظر عليه‌السلام ...

__________________

(١) راجع تفسير البرهان ٤ / ٤٥٧ / ١.

٤٤٨

وليال عشر هم الأئمة العشر قبله عليهم‌السلام .. ؛ والشفع : ـ في الآية ـ هما علي وفاطمة عليهما‌السلام.

ويأتي القَسم الثالث والقسم الرابع : (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ).

للمفسرين آراء كثيرة فيما اريد ب الشفع والوتر حتى ذكر (٣٦) قولاً في ذلك (١). أمّا سيكون تفسيران من التفاسير المذكورة أكثر من غيرهما مناسبة وقرباً مع مراد الآية ، وهما : الأوّل : المراد بهما يومي العيد وعرفة ، وهذا ما يناسب ذكر الليالي العشر الاولى من شهر ذي الحجّة ، وفيهما تؤدي أهم فقرات مناسك الحج.

الثاني : أنّهما يشيران إلى الصلاة (ركعتي الشفع وركعة الوتر في آخر صلاة الليل) ، بقرينة ذكر الفجر ، وهو وقت السحر ووقت الدعاء والتضرع إلى الله عزوجل.

وقد ورد هذان التفسيران في روايات عن أئمة أهل البيت المعصومين عليهم‌السلام.

ونصل هنا إلى القسم الخامس : (وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ).

وكأنّ الوصف يقول : بأنّ الليل موجود حسي ، له حس وحركة ، وهو يخطو في ظلمته وصولاً لنور النهار.

اختلف المفسرون في مراد الآية من الليل ، هل هو مطلق الليل أم ليلة مخصوصة ، فإن كانت الألف واللام للتعميم فجميع الليالي ، كآية من آيات الله ومظهر من مظاهر الحياة المهمّة.

وإن كانت الألف واللام للتعريف ، فليلة عيد الأضحى ، بلحاظ الآيات السابقة ، حيث يتجه حجاج بيت الله الحرام من (عرفات) إلى (المزدلفة) ـ المشعر الحرام ـ ويقضون ليلهم في ذلك الوادي المقدس ، وعند الصبح يتجهون نحو (منى).

(وقد ورد في هذا روايات عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام) (٢).

فالليل سواء كان بمعناه المطلق أم المحدد فهو من آيات عظمة الخالق سبحانه وتعالى ، وهو من الضرورات الحياتية في عالم الوجود.

فالليل يكيّف حرارة الجو ، ويعم على جميع الكائنات الإستقرار والسكون بعد جهد الحركة والتنقل ، وفوق هذا وذاك ففيه أفضل أوقات الدعاء والمناجات مع الله جّل وعلا.

__________________

(١) نقل ذلك كل من : العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان عن بعض المفسرين في الجزء ٢٠ / ٢٨٦ ؛ وفي تفسير روح المعاني عن كتاب التحرير والتحيير ٣٠ / ١٢٠.

(٢) راجع تفسير نور الثقلين ٥ / ٥٧١.

٤٤٩

وتتجسد تلك العلاقة الموجودة بين الأشياء الخمس التي أقسم بها (الفجر ، ليال عشر ، الشفع ، الوتر ، الليل إذا يسر) إذا ما اعتبرناها ضمن أيّام ذي الحجة ومراسم الحج العظيمة. وفي غير هذا فسيكون إشارة إلى مجموعة من حوادث عالم التكوين والتشريع المهمّة ، والتي تبيّن جلال وعظمة الخالق سبحانه وتعالى.

ثم تأتي الآية التالية لتقول : (هَلْ فِى ذلِكَ قَسَمٌ لّذِى حِجْرٍ). الحجر : هنا بمعنى العقل ، وفي الأصل بمعنى (المنع). اطلق على العقل (حجر) لمنعه الإنسان عن الأعمال السيئة.

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (٦) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) (١٤)

إمهال الظالمين ... والإنتقام : بعد أن تضمّنت الآيات الاولى خمسة أقسام حول معاقبة الطغاة ، تأتي هذه الآيات لتعرض لنا نماذج من طواغيت الأرض ، وتبيّن لنا الآيات المباركة ما حلّ بهم من عاقبة أليمة ، محذرة المشركين في كل عصر ومصر على أن يرعووا ويعودوا إلى رشدهم ، لأنّهم مهما تمتعوا بقوّة وقدرة فلن يصلوا لما وصل إليه الأقوام السالفة ، وينبغي الإتعاظ بعاقبتهم ، وإلّا فالهلاك والعذاب الأبدي ولا غير سواه.

وتبتدأ الآيات ب : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ).

المراد بالرؤية هنا ، العلم والمعرفة لما وصلت إليه تلك الأقوام من الشهرة بحيث أصبح من جاء بعدهم يعرف عنهم الشيء الكثير وكأنّه يراهم بام عينيه.

«عاد : هم قوم نبي الله هود عليه‌السلام ، وكانت تعيش في أرض الأحقاف أو اليمن.

ويضيف القرآن قائلاً : (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ).

«عماد : بمعنى العمود تشير إلى عظمة أبنيتهم وعلوّ قصورهم وما فيها من أعمدة كبيرة.

ولذا تقول الآية التالية : (الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلدِ).

والآية تبيّن أنّ المراد ب إرم المدينة.

وتذكر الآية التالية جمع آخر من الطغاة السابقين : (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ).

وصنعوا منها البيوت والقصور.

٤٥٠

«ثمود : من أقدم الأقوام ، ونبيّهم صالح عليه‌السلام ، وكانوا يعيشون في (وادي القرى) بين المدينة والشام ، وكانوا يعيشون حياة مرفهة ، ومدنهم عامرة.

«جابوا : من الجوبة ـ على زنة توبة ـ وهي الأرض المقطوعة ، ثم استعملت في قطع كل أرض. فمراد الآية : قطع أجزاء الجبال وبناء البيوت القوية ، كما أشارت إلى ذلك الآية (٨٢) من سورة الحجر ـ حول ثمود أنفسهم ـ : (وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًاءَامِنِينَ).

«واد : في الأصل (وادي) ، وهو الموضع الذي يجري فيه النهر ، ومنه سمي المفرج بين الجبلين وادياً ، لأنّ الماء يسيل فيه.

والمعنى الثاني أكثر مناسبة بقرينة ما ورد في القرآن من آيات تتحدث عن هؤلاء القوم ، وما ذكرناه آنفاً يظهر بأنّهم كانوا ينحتون بيوتهم في سفوح الجبال.

وتتحرك الآية التالية لتستعرض قوماً آخرين : (وَفِرْعَوْنَ ذِى الْأَوْتَادِ).

أي : ألم تر ما فعل ربّك بفرعون الظالم المقتدر؟!

«أوتاد : جمع (وتد) ، وهو ما يثبّت به.

ولِمَ وصف فرعون بذي الأوتاد؟ وثمّة تفاسير مختلفة :

الأوّل : لأنّه كان يملك جنوداً وكتائباً كثيرة ، وكانوا يعيشون في الخيم المثبتة بالأوتاد.

الثاني : لما كان يستعمل من أساليب تعذيب من يغضب عليهم ، حيث غالباً ما كان يدق على أيديهم وأرجلهم بأوتاد ليثبتها على الأرض ، أو يضعهم على خشبة ويثبتهم بالأوتاد ، أو يدخل الأوتاد في أيديهم وأرجلهم ويتركهم هكذا حتى يموتوا.

وينتقل القرآن لعرض ما كانوا يقومون به من أعمال : (الَّذِينَ طَغَوْا فِى الْبِلدِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ).

الفساد الذي يشمل كل أنواع الظلم والإعتداء والإنحراف ، والذي هو نتيجة طبيعية من نتائج طغيانهم ، فكل من يطغى سيؤول أمره إلى الفساد لا محال.

ويذكر عقابهم الأليم وبعبارة موجزة : (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ).

«السوط : هو الجلد المضفور الذي يُضرب به ، وأصل السوط : خلط الشيء بعضه ببعض ، وهو هنا كناية عن العذاب ، العذاب الذي يخلط لحم الإنسان بدمه فيؤذيه أشدّ الإيذاء. أمّا أنسب معاني السوط فهو المعروف بين الناس به.

«صبّ عليهم : تستعمل في الأصل لانسكاب الماء ، وهنا إشارة إلى شدّة واستمرار نزول العذاب.

٤٥١

فعلى إيجاز الآية ، لكنّها تشير إلى أنواع العذاب الذي أصابهم ، فعاد اصيبوا بريح باردة ، كما تقول الآية (٦) من سورة الحاقّة : (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ). واهلك قوم ثمود بصيحة سماوية عظيمة ، كما جاء في الآية (٥) من سورة الحاقّة أيضاً : (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ). والآية (٥٥) من سورة الزخرف تنقل صورة هلاك قوم فرعون : (فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ).

وتحذر الآية التالية كل من سار على خطى اولئك الطواغيت : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ).

«المرصاد : من الرصد وهو الإستعداد للترقب ، وهو في الآية يشير إلى عدم وجود أيّ ملجأ أو مهرب من رقابة الله وقبضته ، فمتى شاء سبحانه أخذ المذنبين بالعقاب والعذاب.

«ربّك : إشارة إلى أنّ هذه السنّة الإلهية لم تقف عند حدّ الذين خلوا من الأقوام السالفة ، بل هي سارية حتى على الظالمين من امّتك يا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله .. وفي ذلك تسلية لقلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتطميناً لقلوب المؤمنين ، فالوعد الإلهي قد أكّد على عدم انفلات الأعداء المعاندين من قبضة القدرة الإلهية أبداً أبداً ، وفيه تحذير أيضاً لُاولئك الذين يؤذون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويظلمون المؤمنين ، تحذير بالكف عن ممارساتهم تلك وإلّا سيصيبهم ما أصاب الأكثر منهم قدرة وقوّة ، وعندها فسوف لن تقوم لهم قائمة إذا ما أتتهم ريح عاصفة أو صيحة مرعبة أو سيل جارف يقطع دابرهم.

في تفسير علي بن إبراهيم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : لما نزلت هذه الآية (وَجِاىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) [الفجر : ٢٣] سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : بذلك أخبرني الروح الأمين أنّ الله لا إله غيره ، إذا أبرز الخلائق وجمع الأوّلين والآخرين ، أتى بجهنم تقاد بألف زمام ، مع كل زمام مائة ألف ملك من الغلاظ الشداد ، لها هدة وغضب وزفير ، وشهيق ، وإنّها لتزفر الزفرة ، فلولا أنّ الله عزوجل أخرهم للحساب لأهلكت الجميع ثم يخرج منها عنق [أي طائفة منها] فيحيط بالخلائق البر منهم والفاجر فما خلق الله عزوجل عبداً من عباد الله ملكاً ولا نبيّاً إلّاينادي نفسي نفسي وأنت يا نبي الله تنادي : امتي امتي ثم يوضع عليها الصراط أدق من حدّ السيف ، عليها ثلاث قناطر : أمّا واحدة فعليها الأمانة والرحم ، والثانية فعليها الصلاة ، وأمّا الثالثة فعليها عدل ربّ العالمين لا إله غيره ، فيكلّفون الممر عليها ، فيحبسهم الرحم والأمانة ، فإن نجوا منهما حبستهم الصلاة ، فإن نجوا منها كان المنتهى إلى ربّ العالمين عزوجل ، وهو قوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ).

٤٥٢

(فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (١٦) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً) (٢٠)

موقف الإنسان من تحصيل النعمة وسلبها : بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن عقاب الطغاة ، وتحذيرهم وإنذارهم ، تأتي هذه الآيات لتبيّن مسألة الإبتلاء والتمحيص وأثرها على الثواب والعقاب الإلهي ، وتعتبر مسألة الإبتلاء من المسائل المهمّة في حياة الإنسان.

وتشرع الآيات ب : (فَأَمَّا الْإِنسنُ إِذَا مَا ابْتَلهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ).

وكأنّه لا يدري بأنّ الإبتلاء سنّة ربانية تارة يأتي بصورة اليسر والرخاء واخرى بالعسر والضراء.

(وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَهَانَنِ).

فيأخذه اليأس ، ويظن إنّ الله قد ابتعد عنه ، غافلاً عن سنّة الإبتلاء في عملية التربية الربانية لبني آدم ، والتي تعتبر رمزاً للتكامل الإنساني ، فمن خلال نظرة ومعايشة الإنسان للإبتلاء يرسم بيده لوحة عاقبته ، فأمّا النعيم الدائم ، وأمّا العقاب الخالد.

وتأتي الآية (٥١) من سورة فصّلت في سياق الآيتين : (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسنِ أَعْرَضَ وَنَا بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ). وكذا الآية (٩) من سورة هود : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسنَ مِنًّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيُوسٌ كَفُورٌ).

وتوجه الآيتان التاليتان نظر إلى الإنسان والأعمال التي تؤدّي بحق للبعد عن الله ، وتوجب عقابه : (كَلَّا). فليس الأمر كما تظنون من أنّ أموالكم دليل على قربكم من الله ، لأنّ أعمالكم تشهد ببعدكم عنه ، (بَل لَّاتُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) .. (وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ).

والملاحظ أنّ الآية لم تخص اليتيم بالإطعام بل بالإكرام ، لأنّ الوضع النفسي والعاطفي لليتيم أهم بكثير من مسألة جوعه.

فلا ينبغي لليتيم أن يعيش حالة الإنكسار والذلة بفقدان أبيه ، وينبغي الإعتناء به

٤٥٣

وإكرامه لسدّ الثغرة التي تسببت برحيل أبيه ، وقد أولت الأحاديث الشريفة والروايات هذا الجانب أهمية خاصة ، وأكّدت على ضرورة رعاية وإكرام اليتيم.

تحاضون : من الحض وهو الترغيب ، فلا يكفي إطعام المسكين بل يجب على الناس أن يتواصوا ويحث بعضهم البعض الآخر على ذلك لتعم هذه السنّة التربوية كل المجتمع.

وتعرض الآية التالية ثالث أعمالهم القبيحة : (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمًّا).

ممّا لا شك فيه أنّ الإستفادة من الميراث المشروع عمل غير مذموم ، ولذا فيمكن أن يكون المذموم في الآية أحد الامور التالية :

الأوّل : الجمع بين حق الإنسان وحق الآخرين في الميراث.

وكانت عادة العرب في الجاهلية أن يحرموا النساء والأطفال من الإرث لاعتقادهم بأنّه نصيب المقاتلين (لأنّ أكثر أموالهم تأتيهم عن طريق السلب والإغارة).

الثاني : عدم الإنفاق من الإرث على المحرومين والفقراء من الأقرباء وغيرهم ، فإن كنتم تبخلون بهذه الأموال التي وصلت إليكم بلا عناء ، فأنتم أبخل فيما تكدّون في تحصيله ، وهذا عيب كبير فيكم.

الثالث : هو أكل إرث اليتامى والتجاوز على حقوق الصغار ، وذلك من أقبح الذنوب ، لأنّ فيه استغلال فاحش لحق من لا يستطيع الدفاع عن نفسه.

والجمع بين هذه التفاسير الثلاث ممكن.

ثم يأتي الذّم الرابع : (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا).

فأنتم .. عبدة دنيا ، طالبي ثروة ، عشاق مال ومتاع .. ومن يكون بهذه الحال فمن الطبيعي أن لا يعتني في جمعه للمال ، أكان من حلال أم من حرام ، ومن الطبيعي أيضاً أن يتجاوز على الحقوق الشرعية المترتبة عليه ، بأن لا ينفقها أو ينقص منها .. ومن الطبيعي كذلك إنّ القلب الذي امتلأ بحبّ المال والدنيا سوف لا يبقى فيه محل لذكر الله عزوجل.

ولذا نجد القرآن الكريم بعد ذكره لمسألة امتحان الإنسان ، يتعرض لأربعة اختبارات يفشل فيها المجرمين.

والملاحظ أنّ الإختبارات المذكورة إنّما تدور حول محور الأموال ، للإشارة ما للمال من مطبات مهلكة ، ولو تجاوزها الإنسان لسهلت عليه بقية العقبات في طريقه نحو التكامل والرقي والسمو.

٤٥٤

(كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً (٢١) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (٢٣) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) (٢٦)

يوم لا تنفع الذكرى : بعد أن ذمت الآيات السابقة الطغاة وعبدة الدنيا والغاصبين لحقوق الآخرين ، تأتي هذه الآيات لتحذرهم وتهددهم بوجود القيامة والحساب والجزاء. فتقول أوّلاً : (كَلَّا). فليس الأمر كما تعتقدون بأن لا حساب ولا جزاء ، وأنّ الله قد أعطاكم المال تكريماً وليس امتحاناً .. (إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا).

«الدك : الأرض اللينة السهلة ، ثم استعملت في تسوية الأرض من الإرتفاعات والتعرجات.

فالآية تشير إلى الزلازل والحوادث المرعبة التي تعلن عن نهاية الدنيا وبداية يوم القيامة ، حيث تتلاشى الجبال وتستوي الأرض ، كما أشارت لذلك الآيات (١٠٥ ـ ١٠٧) من سورة طه : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَّا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا).

وبعد أن تنتهي مرحلة القيامة الاولى (مرحلة الدمار) ، تأتي المرحلة الثانية ، حيث يعود الناس ثانية للحياة ليحضروا في ساحة العدل الإلهي : (وَجَاءَ رَبُّك وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا).

نعم ، فسيقف الجميع في ذلك المحشر لإجراء الأمر الالهي وتحقيق العدالة الربانية ، وقد بيّنت لنا الآيات ما لعظمة ذلك اليوم ، وكيف أنّ الإنسان لا سبيل له حينها إلّاالرضوخ التام بين قبضة العدل الإلهي.

وتقول الآية التالية : (وَجِاىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسنُ وَأَنَّى لَهُ الذّكْرَى).

وما نستنبطه من الآية ، إنّ جهنم قابلة للحركة ، فتقرب للمجرمين ، كما هو حال حركة الجنة للمتقين : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) (١).

في تفسير مجمع البيان عن أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت هذه الآية ، تغيّر وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعُرف في وجهه ، حتى اشتدّ على أصحابه ما رأوا من حاله ، وانطلق بعضهم إلى

__________________

(١) سورة الشعراء / ٩٠.

٤٥٥

علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقالوا : يا علي! لقد حدث أمر قد رأيناه في نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فجاء علي عليه‌السلام فاحتضنه من خلفه ، وقبّل بين عاتقيه ، ثم قال : يا نبي الله بأبي أنت وامي ، ما الّذي حدث اليوم؟ قال : جاء جبرائيل فأقرأني (وَجِاىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ). قال فقلت : كيف يجاء بها؟ قال : يجيء بها سبعون ألف ملك ، يقودونها بسبعين ألف زمام ، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع ، ثم أتعرض لجهنم فتقول : ما لي ولك يا محمّد ، فقد حرّم الله لحمك عليّ ، فلا يبقى أحد إلّا قال : نفسي نفسي ، وإنّ محمّداً يقول ربّ امّتي امّتي.

نعم ، فحينما يرى المذنب كل تلك الحوادث تهتز فرائصه ويتزلزل رعباً ، فيستيقظ من غفلته ويعيش حالة الهمّ والغمّ ، ويتحسر على كل لحظة مرّت من حياته بعد ما يرى ما قدّمت يداه ، ولكن هل للحسرة حينها من فائدة؟!

وعندها ... يصرح بملء كيانه : (يَقُولُ يَا لَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى).

وتشير الآية التالية إلى شدّة العذاب الإلهي : (فَيَوْمَئِذٍ لَّايُعَذّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ).

نعم ، فمن استخدم في دنياه كل قدرته في ارتكاب أسوء الجرائم والذنوب ، فلا يجني في آخرته إلّاأشد العذاب ...

فيما سينعم المحسنون والصالحون في أحسن الثواب ، ويخلدون بحال ما لا عين رأت ولا اذن سمعت.

وتكمل الآية التالية تصوير شدّة العذاب : (وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ).

فوثاقه ليس كوثاق الآخرين ، وعذابه كذلك ، كل ذلك بما كسبت يداه حينما أوثق المظلومين في الدنيا بأشدّ الوثاق ، ومارس معهم التعذيب بكل وحشية ، متجرد عن كل ما وهبه الله من إنسانية.

(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي) (٣٠)

الشّرف العظيم : وتنتقل السورة في آخر مطافها إلى تلك النفوس المطمئنة ثقة بالله وبهدف الخلق ، بالرغم من معايشتها في خضم صخب الحياة الدنيا ، فتخاطبهم بكل لطف ولين ومحبّة ، حيث تقول : (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) .. (ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً) .. (فَادْخُلِى فِى عِبَادِى) .. (وَادْخُلِى جَنَّتِى).

٤٥٦

فهل ثمّة أجمل وألطف من هذا التعبير ... تعبير يحكي دعوة الله سبحانه وتعالى لتلك النفوس المؤمنة ، المخلصة ، المحبة والواثقة بوعده جلّ شأنه.

ويراد بالنفس هنا : الروح الإنسانية.

«المطمئنة : إشارة إلى الإطمئنان الحاصل من الإيمان ، بدلالة الآية (٢٨) من سورة الرعد : (أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

ويعود اطمئنان النفس ، لإطمئنانها بالوعود الإلهية من جهة ، ولإطمئنانها لما اختارت من طريق ..

وهي مطمئنة في الدنيا سواء أقبلت عليها أم أدبرت ، ومطمئنة عند أهوال حوادث يوم القيامة الرهيبة أيضاً.

أمّا (الرجوع إلى الله) ، فهو رجوع إلى جواره وقربه بمعناه الروحي المعنوي ، وليس بمعناه المكاني والجسماني.

«راضية : لما ترى من تحقق الوعود الإلهية بالثواب والنعيم بأكثر مما كانت تتصور.

«مرضيّة : لرضا الله تبارك وتعالى عنها.

في الكافي عن سدير الصّيرفي قال : قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : جعلت فداك يابن رسول الله! هل يكره المؤمن على قبض روحه؟ قال : لا والله ، إنّه إذا أتاه ملك الموت لقبض روحه جزع عند ذلك ، فيقول له ملك الموت : يا وليّ الله ، لا تجزع ، فو الذي بعث محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنا أبرّ بك وأشفق عليك من والد رحيم لو حضرك ، افتح عينك فانظر ، قال : ويمثّل له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ذرّيتهم عليهم‌السلام ، فيقال له : هذا رسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة عليهم‌السلام رفقاؤك ، قال : فيفتح عينه فينظر ، فينادي روحه مناد من قبل ربّ العزّة فيقول : " يا أيّتها النفس المطمئنة (إلى محمّد وأهل بيته) ارجعي إلى ربّك راضية (بالولاية) مرضيّة (بالثواب) فادخلي في عبادي (يعني محمّداً وأهل بيته) وادخلي جنّتي". فما شيء أحبّ إليه من استلال روحه واللحوق بالمنادي.

نهاية تفسير سورة الفجر

* * *

٤٥٧
٤٥٨

٩٠

سورة البلد

محتوى السورة : هذه السورة المباركة على قصرها تحمل حقائق كبرى :

١ ـ في بداية هذه السورة ، بعد قسم ذي محتوى عميق ، تُقرّر الآية أنّ حياة الإنسان في هذه الدنيا مقرونة بمشاكل وأتعاب ؛ وبذلك تُعدّ الإنسان من جهة ليصارع العقبات ، ومن جهة اخرى تبعده عن طلب الراحة المطلقة في هذا العالم.

٢ ـ ثم تشير إلى أهم النعم الإلهية ، ثم ذكر جحود الإنسان بهذه النعم.

٣ ـ وفي آخر هذه السورة تقسيم الناس إلى : أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان ابي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قرأها أعطاه الله الأمن من غضبه يوم القيامة.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧)

٤٥٩

في مواضع كثيرة يبدأ القرآن بالقسم عند تعرّضه للحقائق الهامة ... بالقسم الذي يؤدي بدوره إلى حركة في الفكر والعقل .. بالقسم المرتبط إرتباطاً خاصاً بالموضوع المطروح.

وفي هذا الموضع تبدأ الآية بالقسم : قسماً بهذه المدينة المقدسة مكة : (لَاأُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ). لتقرر حقيقة من حقائق حياة الإنسان هي إنّ هذه الحياة مقرونة بالآلام والأسقام.

(وَأَنتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ).

أرض مكة مشرّفة ومعظمة ، لأنّ فيها أوّل مركز للتوحيد ولعبادة الله سبحانه ، وكان هذا المركز مطاف أنبياء الله العظام ... ولذلك أقسم الله بها ... ولكن السورة تشير إلى عامل آخر أضفى على هذه المدينة شرفاً وكرامة : (وَأَنتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) ... فالبلد استحق أن يقسم به الله لوجودك أنت أيّها النبي الكريم فيه.

(وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ).

إنّ الوالد إبراهيم الخليل والولد إسماعيل الذبيح.

ونعلم أنّ إبراهيم وإبنه رفعا القواعد من البيت ، وبذلك وضعا حجر أساس البلد الأمين. والعرب في الجاهلية كانوا يجلّون إبراهيم وإبنه ويفخرون في الإنتساب إليهما.

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسنَ فِى كَبَدٍ).

إنّ كبد ألم يصيب الكَبِد ، ثم اطلق على كل ألم ومشقّة.

هذه طبيعة الحياة ، ومن توقّع منها غير ذلك خيّبت ظنّه. يقول الشاعر :

طبعت على كدر وأنت تريدها

صفواً من الأكدار والأقذار

ومكلّف الأيّام ضد طباعها

متطلب في الماء جذوة نار

وهذه الحالة تشمل كل أبناء البشر دونما استثناء ، بمن فيهم أنبياء الله وأولياؤه الصالحون.

ثم إذا كان هناك استثناءات مكانية وزمانية محدودة من هذه الحالة العامة فلا ينتقض القانون العام للحياة : (أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ).

فما يحيط بالإنسان من مكابدة يدلّ على ضعف قدرته ، هذه الحقيقة تردّ على اولئك الذين يمتطون مركب الغرور ، ويخالون أنّهم في مأمن من العقاب الإلهي.

(يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَدًا).

إشارة إلى قول الذين يُطلب منهم أن ينفقوا أموالهم في الخيرات ، فيأبون ويقولون بغرور : إننا أنفقنا في هذا السبيل كثيراً من الأموال ، بينما لم ينفق هؤلاء شيئاً ، وإنّ أعطوا لأحد شيئاً فللرياء ولتحقيق هدف شخصي.

٤٦٠