مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

أيضاً الكفر بأسوأ صوره في الجماعة الثانية المقارن للتكذيب بآيات الله.

ولأنّ حبّ الدنيا مصدر كل رذيلة ، ورأس كل خطيئة ، فالآية اللاحقة ترسم بوضوح وضع الحياة الدنيا والمراحل المختلفة والمحفّزات والظروف والأجواء التي تحكم كل مرحلة من هذه المراحل ، حيث يقول سبحانه : (اعْلَمُوا إِنَّمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلدِ).

وبهذه الصورة فإنّ الغفلة واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر تشكّل المراحل الخمس لعمر الإنسان.

ويذكر سبحانه مثالاً لبداية ونهاية الحياة ويجسّد الدنيا أمام أعين الناس بهذه الصورة حيث يقول سبحانه : (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَيهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا) (١).

«كفّار هنا ليس بمعنى الأشخاص غير المؤمنين ، ولكن بمعنى الزرّاع لأنّ أصل الكفر هو التغطية ، وبما أنّ الزارع عندما ينثر البذور يغطّيها بالتراب ، فقد قيل له كافر.

«حطام : من مادة حطم بمعنى التكسير والتفتيت ، ويطلق على الأجزاء المتناثرة للتبن (حطام) وهي التي تأخذها الرياح باتّجاهات مختلفة.

إنّ المراحل التي يمرّ بها الإنسان مدّة سبعين سنة أو أكثر تظهر في النبات بعدّة أشهر ، ويستطيع الإنسان أن يسكن بجوار المزرعة ويراقب بداية ونهاية العمر في وقت قصير.

ثم يتطرّق القرآن الكريم إلى حصيلة العمر ونتيجته النهائية حيث يقول سبحانه : (وَفِى الْأَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ).

وأخيراً تنهي الآية حديثها بهذه الجملة : (وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).

«غرور : في الأصل من مادة غَرّ بمعنى الأثر الظاهر للشيء ، ويقال (غُرّة) للأثر الظاهر في جبهة الحصان ، ثم اطلقت الكلمة على حالة الغفلة ، حيث إنّ ظاهر الإنسان واعٍ ، ولكنّه غافل في الحقيقة ، وتستعمل أيضاً بمعنى الخدعة والحيلة.

«المتاع : بمعنى كل نوع ووسيلة يستفاد منها ، وبناءً على هذا فإنّ جملة (الدنيا متاع الغرور) كما جاءت في قوله تعالى : (وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ). تعني أنّها وسيلة

__________________

(١) يهيج : من مادة هيجان جاءت هنا بمعنيين الأوّل : جفاف النبات ، والآخر : التحرّك والحيوية ، وقد يرجع هذان المعنيان إلى أصل واحد ، لأنّ النبات عند جفافه يكون مهيّأ للإندثار والإنتشار بحركة الرياح.

١٠١

وأداة للحيلة والخدعة للفرد وللآخرين.

وطبيعي أنّ هذا المعنى وارد في الأشخاص الذين يعتبرون الدنيا هدفهم النهائي ، وتكون منتهى غاياتهم ، ولكن إذا كانت الهبات المادية في هذا العالم وسيلة للوصول بالإنسان للسعادة الأبدية ، فذلك لا يعدّ من الدنيا ، بل ستكون جسراً وقنطرة ومزرعة للآخرة التي ستتحقّق فيها تلك الأهداف الكبيرة حقّاً.

(سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (٢٤)

المسابقة المعنوية الكبرى : بعد ما بيّنت الآيات السابقة قيمة هذه الدنيا المتواضعة الفانية ، وكيف أنّ الناس فيها منهمكون في اللذات والتكاثر والتفاخر وجمع الأموال ... تأتي الآيات مورد البحث لتدعو الناس إلى العمل للحصول على موقع في الدار الآخرة ، ذلك الموقع المتّسم بالثبات والبقاء والخلود ، وتدعوهم إلى السباق في هذا المجال وبذل الجهد فيه ، حيث يقول سبحانه : (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبّكُمْ * وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَءَامَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ).

وفي الحقيقة أنّ مغفرة الله هي مفتاح الجنة ، تلك الجنة التي عرضها السماوات والأرض وقد اعدّت من الآن لضيافة المؤمنين ، حتى لا يقول أحد إنّ الجنة نسيئة ودَين ولا أمل في النسيئة.

وممّا ينبغي ملاحظته أنّ المسارعة لمغفرة الله لابدّ أن تكون عن طريق أسبابها كالتوبة والتعويض عن الطاعات الفائتة ، وأساساً فإنّ طاعة الله عزوجل يعني تجنّب المعاصي.

ويضيف تعالى في نهاية الآية : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

١٠٢

ومن المؤكّد أنّ جنّة بذلك الإتّساع وبهذه النعم ، ليس من السهل للإنسان أن يصل إليها بأعماله المحدودة ، لذا فإنّ الفضل واللطف والرحمة الإلهية ـ فقط ـ هي التي تستطيع أن تمنحه ذلك الجزاء العظيم في مقابل اليسير من أعماله ، إذ إنّ الجزاء الإلهي لا يكون دائماً بمقياس العمل ، بل إنّه بمقياس الكرم الإلهي.

ولمزيد من التأكيد على عدم التعلق بالدنيا ، وعدم الفرح والغرور عند إقبالها ، أو الحزن عند إدبارها ، يضيف سبحانه : (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِى كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ).

إنّ المصائب التي تحدث في الطبيعة كالزلازل والسيول والفيضانات والآفات المختلفة ، وكذلك المصائب التي تقع على البشر كالموت وأنواع الحوادث المؤلمة التي تشمل الإنسان ، فإنّها مقدّرة من قبل ومسجّلة في لوح محفوظ.

والجدير بالإنتباه أنّ المصائب المشار إليها في الآية هي المصائب التي لا يمكن التخلّص منها ، وتكون مقدّرة وحتمية وغير قابلة للإجتناب ، وليست ناتجة عن أعمال الإنسان. وإلّا فإنّ المصائب والمصاعب التي تكون بسبب ذنوب الإنسان وتسامحه في الطاعات والالتزامات الإلهية ، فإنّ لمواجهتها لابدّ من وضع برنامج صحيح في حياة الإنسان.

والمقصود من اللوح المحفوظ هو : العلم اللا متناهي لله سبحانه ، أو صحيفة عالم الخلقة ونظام العلّة والمعلول ، والتي هي مصداق العلم الفعلي لله سبحانه.

ولنلاحظ الآن ما هي فلسفة تقدير المصائب في اللوح المحفوظ ، ومن ثم بيان هذه الحقيقة في القرآن الكريم؟

الآية اللاحقة تزيح هذا الحجاب عن هذا السرّ المهم حيث يقول تعالى : (لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَاءَاتَاكُمْ).

هاتان الجملتان تحلّان ـ في الحقيقة ـ إحدى المسائل المعقّدة لفلسفة الخلقة ، لأنّ الإنسان يواجه دائماً مشاكل وصعوبات وحوادث مؤسفة في عالم الوجود ، ويسأل دائماً نفسه هذا السؤال وهو : رغم أنّ الله رحمن رحيم وكريم .. ، فلماذا هذه الحوادث المؤلمة؟!

ويجيب سبحانه أنّ هدف ذلك هو : ألا تأسركم مغريات هذه الدنيا وتنشدّوا إليها وتغفلوا عن أمر الآخرة ... كما ورد في الآية أعلاه.

هذه المصائب هي إنذار للغافلين وسوط على الأرواح التي تعيش الغفلة والسبات ، ودلالة على قصر عمر الدنيا وعدم خلودها وبقائها.

إنّ هذه المصائب تكسر حدّة الغرور والتفاخر وحيث يقول سبحانه في نهاية الآية :

١٠٣

(وَاللهُ لَايُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).

مختال : من مادة خيال بمعنى متكبر ، لأنّ التكبر من التخيّل ، أي من تخيّل الإنسان الفضل لنفسه ، وتصوره أنّه أعلى من الآخرين ؛ وفخور : صيغة مبالغة من مادة فخر بمعنى الشخص الذي يفتخر كثيراً على الآخرين.

والشخص الوحيد الذي يبتلى بهذه الحالات هو المغرور الذي أسكرته النعم ، وهذه المصائب والآفات بإمكانها أن توقظه عن هذا السكر والغفلة وتهديه إلى سير التكامل.

ومن ملاحظة ما تقدم أعلاه فإنّ المؤمنين عندما يرزقون النعم من قبل الله سبحانه فإنّهم يعتبرون أنفسهم مؤتمنين عليها ، ولا يأسفون على فقدانها وفواتها ، ولا يغفلون ويسكرون بوجودها.

وفي آخر آية مورد البحث نلاحظ توضيحاً وتفسيراً لما جاء في الآيات السابقة ، والذي يوضّح حقيقة الإنسان المختال الفخور حيث يقول عنه تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ).

نعم ، إنّ الإنشداد العميق لزخارف الدنيا ينتج التكبر والغرور ، ولازم التكبر والغرور هو البخل ودعوة الآخرين للبخل ، أمّا البخل فلأنّ التكبر والغرور كثيراً ما يكون بسبب ثراء الإنسان الذي يدفعه إلى أن يحرص عليه ، وبالتالي يبخل في إنفاقه ، ومن هنا فإنّ لازمة الغرور والتكبر هو البخل.

أمّا دعوة الآخرين إلى البخل ، فلأنّ سخاء الآخرين سيفضح غيرهم من البخلاء ، هذا أوّلاً ، والثاني أنّ البخيل يحبّ البخل ، لذا فإنّه يدعو للشيء الذي يرغب فيه.

ولكي لا يتصور أنّ تأكيد الله سبحانه على الإنفاق وترك البخل ، أو كما عبّرت عنه الآيات السابقة ب (القرض لله) مصدره إحتياج ذاته المقدسة ، فإنّه يقول في نهاية الآية : (وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ).

بل نحن كلّنا محتاجون إليه وهو الغني عنّا جميعاً ، لأنّ جميع خزائن الوجود عنده وتحت قبضته ، ولأنّه جامع لصفات الكمال فإنّه يستحق كل شكر وثناء.

(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٢٥)

١٠٤

الهدف الأساس من بعثة الأنبياء : ابتدأ الله سبحانه وتعالى عباده بالنعم فكانت رحمته ولطفه ومغفرته ، ونعمه الكثيرة التي لا تحصى والتي اشير إليها في الآيات السابقة ... ولأنّ هذه النعم تحتاج إلى تقنين في استعمالها ، ونظم وشرائط لنيل نتائجها المرجوّة ، لذا فإنّه يحتاج إلى قيادة تقوم بمباشرتها والإشراف عليها وإعطاء التوجيهات الإلهية بشأنها ، وهؤلاء القادة يجب أن يكونوا (قادة إلهيين) والآية مورد البحث ـ التي تعتبر من أكثر الآيات القرآنية محتوى ـ تشير إلى هذا المعنى ، وتبيّن هدف إرسال الأنبياء ومناهجهم بصورة دقيقة ، حيث يقول سبحانه : (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ).

وبهذه الصورة فإنّ الأنبياء كانوا مسلّحين بثلاث وسائل وهي : الدلائل الواضحة ، والكتب السماوية ، ومعيار قياس الحق من الباطل والجيّد من الرديء. ولا يوجد مانع من أن يكون القرآن (بيّنة) أي معجزة ، وهو كذلك كتاب سماوي ومبيّن للأحكام والقوانين ، أي أنّ الأبعاد الثلاثة تصبّ في محتوى واحد وهي موجودة في القرآن الكريم.

وعلى كل حال ، فإنّ الهدف من تعبئة هؤلاء الرجال العظام بهذه الأسلحة الأساسية ، هو إقامة القسط والعدل.

وأنّ هذه الآية تشير إلى أحد الأهداف العديدة لارسال الرسل.

ثم إنّ أي مجتمع إنساني مهما كان مستواه الأخلاقي والاجتماعي والعقائدي والروحي عالياً ، فإنّ ذلك لا يمنع من وجود أشخاص يسلكون طريق العتو والطغيان ، ويقفون في طريق القسط والعدل ، واستمراراً لمنهج الآية هذه يقول سبحانه : (وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ).

إنّ هذه الأسلحة الثلاثة التي وضعت تحت تصرّف الأنبياء هي بهدف أن تكون الأفكار والمفاهيم التي جاء بها الأنبياء فاعلة ومؤثّرة ، وتحقّق أهدافها المنشودة ، فقد وضع الحديد والبأس الشديد في خدمة رسل الله.

إنّ تعبير (أنزلنا) إشارة إلى الهبات التي تعطى من المقام الأعلى إلى المستوى الأدنى ، وهنا حديث لأمير المؤمنين عليه‌السلام في تفسيره لهذا القسم من الآية حيث قال : فإنزاله ذلك : خلقه إيّاه (١).

__________________

(١) الاحتجاج ، الشيخ الطبرسي ١ / ٣٧٢.

١٠٥

ثم يشير سبحانه إلى هدف آخر من أهداف ارسال الأنبياء وإنزال الكتب السماوية ، وخلقه وتسخيره الوسائل المفيدة للإنسان كالحديد مثلاً ، حيث يقول تعالى : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ).

المقصود من (علم الله) هنا هو التحقق العيني ليتوضّح من هم الأشخاص الذين يقومون بنصرة الله ومبدئه ، ويقومون بالقسط ، ومن هم الأشخاص الذين يتخلّفون عن القيام بهذه المسؤولية العظيمة.

ومفهوم هذه الآية يشبه ما ورد في الآية (١٧٩) من سورة آل عمران : (مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ).

وبهذه الصورة نلاحظ أنّ المسألة هنا مسألة إختبار وتمحيص واستخراج الصفوة التي استجابت لمسؤوليتها والقيام بواجبها الإلهي ، وهذا هو هدف آخر من الأهداف الأساسية في هذا البرنامج.

ومن الطبيعي أنّ المقصود ب (نصرة الله) أنّها نصرة الدين والمبدأ والحاملين وحي الرسالة ، وإقامة الحق والقسط ... وإلّا فإنّ الله ليس بحاجة إلى نصرة أحد ، بل الكل محتاج إليه. ولتأكيد هذا المعنى تنتهي الآية بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ).

حيث بإمكانه سبحانه أن يغيّر ما يشاء من العالم ، بل يقلبه رأساً على عقب بإشارة واحدة ، ويهلك أعداءه ، وينصر أولياءه ... وبما أنّ الهدف الأساس له سبحانه هو التربية وتكامل البشر ، لذا فقد دعاهم عزوجل إلى نصرة مبدأ الحق.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (٢٧)

تعاقب الرسل واحداً بعد الآخر : للقرآن الكريم منهجه المتميز ، ومن خصوصياته أنّه

١٠٦

بعد بيان سلسلة من الاصول العامة يشير ويذكّر بمصير الأقوام السابقة ، لكي يكون ذلك شاهداً وحجّة.

وهنا أيضاً يتجسّد هذا المنهج ، حيث يشير في المقدمة إلى ارسال الرسل مع البينات والكتاب والميزان والدعوة إلى الإيمان بالحق ، لنيل مرضاته سبحانه والفوز بالسعادة الأبدية ... ثم يتحدث عن بعض الامم السابقة وأنبيائهم ويعكس هذه الاسس في منهج دعوتهم.

ويبدأ بشيوخ الأنبياء وبداية سلسلة رسل الحق ، نوح وإبراهيم عليهما‌السلام ، حيث يقول سبحانه : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ).

ومما يؤسف له أنّ الكثيرين لم يستفيدوا من هذا الميراث العظيم ، والنعم الإلهية الفيّاضة ، والهبات والألطاف العميمة ، حيث يقول عزوجل : (فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ).

نعم ، لقد بدأت النبوّة بنوح عليه‌السلام توأماً مع الشريعة والمبدأ ، ومن ثم إبراهيم عليه‌السلام من الأنبياء اولي العزم في إمتداد خطّ الرسالة.

ثم يشير إلى قسم آخر من سلسلة الأنبياء الكرام التي تختتم بعيسى عليه‌السلام آخر رسول قبل نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث يقول سبحانه : (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءَاثَارِهِم بِرُسُلِنَا).

حيث حملوا نور الهداية للناس ليضيئوا لهم الطريق ، وتعاقبوا في حملها الواحد بعد الآخر ، حتى وصل الدور إلى السيّد المسيح : (وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ).

ثم يشير هنا إلى الكتاب السماوي للسيّد المسيح عليه‌السلام حيث يقول : (وَءَاتَيْنهُ الْإِنجِيلَ). ويستمرّ متحدّثاً عن خصوصيات أتباعه فيقول سبحانه : (وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً).

وفي تفاوت مصطلحي الرأفة والرحمة قالوا : إنّ الرأفة تعني الرغبة في دفع الضرر ، والرحمة تعني الرغبة في جلب المنفعة. ولهذا تذكر الرأفة قبل الرحمة غالباً ، لأنّ قصد الإنسان ابتداءً هو دفع الضرر ومن ثم يفكّر في جلب المنفعة.

ثم يضيف سبحانه : (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَاتَيْنَا الَّذِينَءَامَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) (١).

__________________

(١) إنّ الرهبانية أخذت من الرهبة التي جاءت بمعنى الخوف من الله.

١٠٧

إنّ المستفاد من الآية أعلاه إجمالاً هو أنّ الرهبانية لم تكن في شريعة السيّد المسيح عليه‌السلام ، وأنّ أصحابه ابتدعوها من بعده ، وكان ينظر إليها في البداية على أنّها نوع من أنواع الزهد والإبداعات الخيّرة لكثير من السنن الحسنة التي تشيع بين الناس. ولا تتّخذ عنوان التشريع أو الدستور الشرعي ، إلّاأنّ هذه السنّة تعرّضت إلى الانحراف ـ فيما بعد ـ وتحريف التعاليم الإلهية ، بل إقترنت بممارسات قبيحة على مرّ الزمن.

ومن جملة الممارسات القبيحة للمسيحيين في مجال الرهبانية تحريم الزواج للنساء والرجال بالنسبة لمن يتفرّغ (للرهبنة) والإنزواء الاجتماعي ، وإهمال كافّة المسؤوليات الإنسانية في المجتمع ، والركون إلى الصوامع والأديرة البعيدة ، والعيش في محيط منزوٍ عن المجتمع ... بالإضافة إلى جملة من المفاسد التي حصلت في الأديرة ومراكز الرهبان.

وفي أمالي الصدوق رحمه‌الله عن أنس بن مالك ، قال : توفي ابن لعثمان بن مظعون ، فاشتد حزنه عليه حتى اتخذ من داره مسجداً يتعبد فيه ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له : يا عثمان ، إنّ الله تبارك وتعالى لم يكتب علينا الرهبانية ، إنّما رهبانية امّتي الجهاد في سبيل الله.

إنّ الإسلام ندّد للرهبانية بشدّة ، حتى أنّ الكثير من المصادر الإسلامية أوردت الحديث المعروف : لا رهبانية في الإسلام.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢٩)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : قال سعيد بن جبير : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جعفراً في سبعين راكباً إلى النجاشي ، يدعوه. فقدم عليه ودعاه ، فاستجاب له وآمن به. فلمّا كان عند إنصرافه ، قال ناس ممّن آمن به من أهل مملكته ، وهم أربعون رجلاً : ائذن لنا فنأتي هذا النبي فنسلم به. فقدموا مع جعفر. فلمّا رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة ، استأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقالوا : يا نبي الله! إنّ لنا أموالاً ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة ، فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا

١٠٨

بأموالنا فواسينا المسلمين بها. فأذن لهم فانصرفوا. فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين. فأنزل الله تعالى فيهم : (الَّذِينَءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) إلى قوله (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (١) فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين. فلمّا سمع أهل الكتاب ممّن لم يؤمن به قوله : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا) فخروا على المسلمين ، فقالوا : يا معشر المسلمين! أمّا من آمن بكتابكم وكتابنا فله أجران ، ومن آمن منا بكتابنا ، فله أجر كاجوركم ، فما فضلكم علينا؟ فنزل قوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَءَامِنُوا بِرَسُولِهِ) الآية ، فجعل لهم أجرين ، وزادهم النور والمغفرة.

التّفسير

الذين لهم سهمان من الرحمة الإلهية : بما أنّ الحديث في الآيات السابقة كان عن أهل الكتاب والمسيحيين ، فإنّ الآيات مورد البحث مكمّلة لما جاء في الآيات السابقة. يقول سبحانه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَءَامِنُوا بِرَسُولِهِ).

إنّ المخاطب في هذه الآية هم جميع المؤمنين الذين قبلوا ـ بالظاهر ـ دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكنّهم لم يؤمنوا بها الإيمان الراسخ الذي يضيء أعماق النفوس ويتجسّد في أعمالهم وممارساتهم.

وتكملة للآية الكريمة يشير القرآن الكريم إلى ثلاث نعم عظيمة تحصل في ظلّ الإيمان العميق والتقوى ، حيث يقول تعالى : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

«كفل : على وزن (طفل) بمعنى الحصّة التي توفّر للإنسان حاجته ، ويقال للضامن كفيل أيضاً بهذا اللحاظ ، حيث يكفل الطرف المقابل ويضمنه بنفسه.

والمقصود من هاتين الحصّتين أو النصيبين هو ما جاء في قوله تعالى : (رَبَّنَاءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الْأَخِرَةِ حَسَنَةً).

وحول القسم الثاني من الجزاء والأجر يقول تعالى : (وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ).

إنّ للآية مفهوماً مطلقاً واسعاً حسب الظاهر ولا يختص بالدنيا فقط ولا بالآخرة فحسب. وبتعبير آخر : فإنّ الإيمان والتقوى هي التي تسبّب زوال الحجب عن قلوب

__________________

(١) سورة القصص / ٥٢ ـ ٥٤.

١٠٩

المؤمنين ، حيث يتبيّن لهم وجه الحقيقة واضحاً وبدون حجاب ، وفي ظلّ الإيمان والتقوى هذين سيكون للإنسان وعي وبصيرة حرم غير المؤمنين منها ، لأنّ أكبر حاجز عن المعرفة وأهمّ مانع لها هو الحجاب الذي يغطّي قلب الإنسان ، والذي هو هوى النفس والنزعات الذاتية والأماني الفارغة ، والآمال البعيدة ، والوقوع في أسر المادة ومغريات الدنيا ، حيث لا تسمح للإنسان أن يرى الحقائق بصورتها الطبيعية ، وبالتالي فإنّ الحكم على الأشياء يكون بعيداً في منطق العقل والصواب.

إلّا أنّ إستقرار الإيمان والتقوى في القلوب يبدّد هذه الحجب ويزيل عتمتها وظلامها عن صفحة القلب.

وفي الآية اللاحقة ـ والتي هي آخر آيات هذه السورة ـ بيان ودليل لما جاء في الآية الآنفة الذكر حيث يقول تعالى : (لِّئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْءٍ مّن فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

إنّه جواب لهؤلاء الكتابيين الذين زعم قسم منهم : أنّ لهم أجراً واحداً كبقية المسلمين حينما رفضوا الإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمّا الذين آمنوا بالرسول منهم فلهم أجران : أجر الإيمان بالرسل السابقين ، وأجر الإيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث يجيبهم القرآن ويردّ عليهم بأنّ المقصود بالآية هم المسلمون.

فهؤلاء هم الذين لهم أجران ، لأنّهم آمنوا جميعاً برسول الله بالإضافة إلى إيمانهم بكل الأنبياء السابقين ، أمّا أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا برسول الله فليس لهم أي نصيب أو سهم من الأجر ، ذلك ليعلموا أنّ الرحمة الإلهية ليست في اختيارهم حتى يهبوا ما يشاؤون منها وفق مشتهياتهم ، ويمنعوها عن الآخرين.

نهاية تفسير سورة الحديد

* * *

١١٠

٥٨

سورة المجادلة

محتوى السورة : نزلت هذه السورة في المدينة ، وانسجاماً مع موضوعات السورة المدنية فإنّها تتحدث في الغالب عن الأحكام الفقهية ، ونظام الحياة الاجتماعية ، والعلاقات بين المسلمين وغيرهم ... ونستطيع أن نلخّص أهمّ أبحاثها في ثلاثة أقسام :

١ ـ يتحدث عن حكم (الظهار) الذي كان يعتبر نوعاً من الطلاق والانفصال الدائم ، حيث قوّمه الإسلام وجعله في الطريق الصحيح.

الثاني : يتحدث عن مجموعة من التعليمات الخاصة بآداب المجالسة ، والتي منها : «التفسّح في المجالس ومنع النجوى.

يتعرض إلى بحث وافٍ ومفصل عن المنافقين ، تلك الفئة التي تتظاهر بالإسلام ، إلّاأنّها تتعاون مع أعدائه ، ويحذّر المسلمين المؤمنين من الدخول في حزب الشيطان والنفاق ، ويدعوهم إلى الحب في الله والبغض في الله والإلتحاق بحزب الله.

وقد اشتق اسم هذه السورة (المجادلة) من الآية الاولى فيها.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن ابي بن كعب قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ومن قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله في يوم القيامة.

في ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : من قرأ سورة الحديد والمجادلة في صلاة

١١١

فريضة أدمنهما لم يعذّبه الله حين يموت أبداً ، ولا يرى في نفسه ولا في أهله سوءاً أبداً ، ولا خصاصة في بدنه.

وحيث إنّ موضوعات هذه السورة تتناسب مع الجزاء المرتقب من الله تعالى ، لذلك فإنّ الروايات أعلاه توضّح لنا الهدف من التلاوة من أجل العمل بمحتوياتها.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (٤)

سبب النّزول

في تفسير علي بن إبراهيم : حدّثنا علي بن الحسين قال : حدّثنا محمّد بن أبي عبد الله عن الحسن بن محبوب عن أبي ولّاد عن حمران عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إنّ امرأة من المسلمات أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : يا رسول الله! إنّ فلاناً زوجي وقد نثرت له بطني وأعنته على دنياه وآخرته ، لم ير منّي مكروهاً أشكوه إليك. فقال : فيم تشكينه؟ قالت : إنّه قال : أنت عليّ حرام كظهر امّي ، وقد أخرجني من منزلي فانظر في أمري. فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما أنزل الله تبارك وتعالى عليّ كتاباً أقضي فيه بينك وبين زوجك ، وأنا أكره أن أكون من المتكلّفين ، فجعلت تبكي وتشتكي ما بها إلى الله عزوجل وإلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وانصرفت.

قال : فسمع الله تبارك وتعالى مجادلتها لرسول الله في زوجها وما شكت إليه وأنزل الله في ذلك قرآناً : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللهُ) إلى قوله (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ).

١١٢

التّفسير

الظهار عمل جاهلي قبيح : بالنظر إلى ما قيل في سبب النزول ، وكذلك طبيعة الموضوعات التي وردت في السورة ، فإنّ الآيات الاولى منها واضحة في دلالتها حيث يقول سبحانه : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا).

«تجادل : من المجادلة مأخوذة من مادة جدل وتعني في الأصل (فتل الحبل).

ثم يضيف تعالى : (وَتَشْتَكِى إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا).

«تحاور : من مادة حور بمعنى المراجعة في الحديث أو الفكر.

(إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ). إنّ الله عالم بكل المسموعات والمرئيات ، بدون أن يحتاج إلى حواس نظر أو سمع ، لأنّه حاضر وناظر في كل مكان ، يرى كل شيء ويسمع كل حديث.

ثم يستعرض تعالى حكم الظهار بجمل مختصرة وحاسمة تقضي بقوة على هذا المفهوم الخرافي حيث يقول سبحانه : (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِن نّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا الِى وَلَدْنَهُمْ).

«الام والولد ليس بالشيء الذي تصنعه الألفاظ ، بل إنّهما حقيقة واقعية عينية خارجية لا يمكن أن تكون من خلال اللعب بالألفاظ.

ويضيف تعالى مكمّلاً الآية : (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا) (١).

وتماشياً مع مفهوم هذه الآية فإنّ الظهار عمل محرّم ومنكر ، ومع أنّ التكاليف الإلهية لا تشمل الممارسات السابقة ، إلّاأنّها ملزمة لحظة نزول الحكم ، ولابدّ عندئذ من ترتيب الأثر ، حيث يضيف الله سبحانه هذه الآية : (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌ غَفُورٌ).

وبناءً على هذا فإذا كان المسلم قد إرتكب مثل هذا العمل قبل نزول الآية فلا بأس عليه لأنّ الله سيعفو عنه ، وأمّا مسألة الكفارة باقية بقوّتها.

إلّا أنّ مثل هذا العمل القبيح (الظهار) لم يكن شيئاً يستطيع الإسلام أن يغضّ النظر عنه ، لذلك فقد جعل له كفارة ثقيلة نسبيّاً كي يمنع من تكراره ، وذلك بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا).

ثم يضيف تعالى : (ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ).

__________________

(١) زور : في الأصل بمعنى الإنحناء الموجود على الصدر وجاءت أيضاً بمعنى الانحراف ، ولأنّ حدود الكذب والباطل منحرفة عن الحق ، فيقال له (زور) كما يطلق على الصنم أيضاً بهذا اللحاظ.

١١٣

أي يجب ألّا تتصوروا أنّ مثل هذه الكفارة في مقابل الظهار ، كفارة ثقيلة وغير متناسبة مع الفعل ، إنّ المقصود بذلك هو الموعظة والإيقاظ لنفوسكم ، والكفارة عامل مهم في وضع حدّ لمثل هذه الأعمال القبيحة والمحرمة ، ومن ثم السيطرة على أنفسكم وأقوالكم.

وأساساً فإنّ جميع الكفارات لها جنبة روحية وتربوية ، والكفارات المالية يكون تأثيرها غالباً أكثر من التعزيرات البدنية.

ولأنّ البعض يحاول أن يتهرّب من إعطاء الكفارة بأعذار واهية في موضوع الظهار ، يضيف عزوجل أنّه يعلم بذلك حيث يقول في نهاية الآية : (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

إنّه عالم بالظهار ، وكذلك عالم بالذين يتهرّبون من الكفارة ، وكذلك بنيّاتكم!

ولكن كفارة تحرير (رقبة) قد لا تتيسّر لجميع من يرتكب هذا الذنب كما لاحظنا ذلك في موضوع سبب نزول هذه الآية المباركة.

وقد يتعذّر وجود المملوك ، ليقوم المكلّف بتحرير رقبته حتى مع قدرته المالية ، كما في عصرنا الحاضر ، لهذا كله ولأنّ الإسلام دين عالمي خالد فقد عالج هذه المسألة بحكم آخر يعوّض عن تحرير الرقبة ، حيث يقول عزوجل : (فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا).

وهذا اللون من الكفارة له أثر عميق على الإنسان ، حيث إنّ الصوم بالإضافة إلى أنّه وسيلة لتنقية الروح وتهذيب النفس ، فإنّ له تأثيراً عميقاً وفاعلاً في منع تكرّر مثل هذه الأعمال في المستقبل.

ومن الواضح ـ كما في ظاهر الآية ـ أنّ مدّة الصوم يجب أن تكون ستّين يوماً متتابعاً ، وكثير من فقهاء أهل السنّة أفتوا طبقاً لظاهر الآية ، إلّاأنّه قد ورد في روايات أئمة أهل البيت عليهم‌السلام أنّ المكلّف إذا صام أيام قلائل حتى ولو يوماً واحداً بعد صوم الشهر الأوّل ، فإنّ مصداق التتابع في الشهرين يتحقق ، وهذا الرأي حاكم على ظاهر الآية.

ولأنّ الكثير من الناس غير قادرين على الوفاء بالكفارة الثانية ، وهي صوم الشهرين المتتابعين ، فقد ذكر لذلك بديل آخر حيث يقول سبحانه : (فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِينًا).

والظاهر من الإطعام أن يعطي غذاء يشبع الشخص في وجبة طعام ، إلّاأنّ الروايات الإسلامية ذكرت أنّ المقصود بذلك هو (مدّ) لإطعام كل واحد (والمد يعادل ٧٥٠ غم).

١١٤

ثم يشير تعالى في تكملة الآية مرّة اخرى إلى الهدف الأساس لمثل هذه الكفارات : (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ).

نعم إنّ إزالة الذنوب بوسيلة الكفارات تقوّي اسس الإيمان ، وتربط الإنسان بالتعاليم الإلهية قولاً وعملاً.

وفي نهاية الآية يؤكّد سبحانه بصورة قاطعة على الالتزام بأوامره حيث يقول : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

يقال للقوانين الإلهية إنّها حدود ، وذلك لحرمة تجاوزها.

وقد أدان الإسلام للظهار وشرّع له حكم الكفارة.

وبناءً على هذا فكلّما جعل الرجل على زوجته ظهاراً فإنّ الزوجة تستطيع أن تراجع الحاكم الشرعي وتلزمه ، إمّا أن يطلّقها بصورة شرعية ، أو يرجعها إلى حالتها الزوجية السابقة ، بعد دفعه للكفارة بالصورة التي مرّت بنا سابقاً.

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٧)

اولئك أعداء الله : إذا كانت آخر جملة في الآيات السابقة تحثّ الجميع بضرورة الالتزام بالحدود الإلهية وعدم تجاوزها ، فإنّ الآيات مورد البحث لا تتحدث عن الأشخاص الذين تجاوزوا حدود الله فحسب ، بل عن الذين حاربوا الله ورسوله ، وتوضّح عاقبتهم ومصيرهم في هذه الدنيا والعالم الآخر كذلك. يقول سبحانه في البداية : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ).

«يحادون : من مادة محادة بمعنى الحرب المسلّحة والاستفادة من الحديد وتقال أيضاً

١١٥

للحرب غير المسلّحة ؛ وكبتوا : من مادة كبت بمعنى المنع بذلة ، و (كبتوا) إشارة إلى أنّ الله تعالى يجعل جزاء المحاربين لله ورسوله الذلّة والهوان ويمنعهم من لطفه الشامل.

ثم يضيف الباري سبحانه : (وَقَدْ أَنزَلْنَاءَايَاتٍ بَيّنَاتٍ).

وبناءً على هذا فقد تمّت الحجة بشكل كامل ، ولم يبق عذر ، وحجة للمخالفة ، ومع ذلك فإن خالفوا ، فلابدّ من أن يجازوا ، ليس في هذه الدنيا فحسب ، بل في القيامة : (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ).

فإنّ هذا التهديد الإلهي للأشخاص الذين يقفون بوجه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن الكريم قد تحقّق ، حيث واجهوا الذلة والإنكسار في غزوة بدر وخيبر والخندق وغير ذلك ، وأخيراً في فتح مكة حيث كسرت شوكتهم واحبط كيدهم بانتصار الإسلام في كل مكان.

والآية اللاحقة تتحدث عن إستعراض زمان وقوع العذاب الاخروي عليهم حيث يقول عزوجل : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُوا). نعم : (أَحْصهُ اللهُ وَنَسُوهُ).

وهذا بحد ذاته عذاب مؤلم ، لأنّ الله تعالى يذكّرهم بذنوبهم المنسيّة ويفضحهم في مشهد الحشر أمام الخلائق.

وفي نهاية الآية يقول الباريء سبحانه : (وَاللهُ عَلَى كُلّ شَىْءٍ شَهِيدٌ).

إنّ حضور الله سبحانه في كل مكان وفي كل زمان وفي الداخل والخارج ، يوجب ألّا يحصي أعمالنا ـ فقط ـ بل نيّاتنا وعقائدنا ، وفي ذلك اليوم الكبير الذي هو يوم البروز يُعرف كل شيء ولكي يعلم الإنسان السبب في شدة العقاب الإلهي.

ولتأكيد حضور الله سبحانه في كل مكان وعلمه بكل شيء ينتقل الحديث إلى مسألة النجوى حيث يقول سبحانه : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ).

ثم يضيف تعالى : (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيمَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلّ شَىْءٍ عَلِيمٌ).

المقصود من أنّ الله رابعهم أو سادسهم هو أنّ الله عزوجل موجود حاضر وناظر في كل مكان وعالم بكلّ شيء ، وإلّا فإنّ ذاته المقدسة لا مكان لها ، ولا يوصف بالعدد أبداً ، ووحدانيّته أيضاً ليست وحدة عدديّة ، بل بمعنى أنّه لا شبيه له ، ولا نظير ولا مثيل.

١١٦

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لَا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٠)

سبب النّزول

نقلت روايتان حول سبب نزول الآية الاولى أعلاه ، وكل واحدة منهما تخصّ قسماً من الآية الكريمة. تقول الرواية الاولى : قال ابن عباس : نزل قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى) الآية ، في اليهود والمنافقين ، إنّهم كانوا يتناجون فيما بينهم ، دون المؤمنين ، وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا : ما نراهم إلّاوقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل ، أو مصيبة أو هزيمة. فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم ، فلما طال ذلك شكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا يتناجوا دون المسلمين ، فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم ، فنزلت الآية (١).

أمّا الرواية الثانية فقد نقل في صحيح مسلم والبخاري وكثير من كتب التفسير ، ففي صحيح مسلم عن عائشة قالت : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اناس من اليهود فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم. قال : وعليكم. قالت عائشة قلت : بل عليكم السام والذام. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا عائشة لا تكوني فاحشة. فقالت ما سمعت ما قالوا. فقال : أوليس قد رددت عليهم الذي

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ٩ / ٤١٣ ؛ وتفسير روح المعاني ٢٨ / ٢٥.

١١٧

قالوا قلت وعليكم. فأنزل الله عزوجل (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللهُ) ... (١).

التّفسير

النجوى من الشيطان : البحث في هذه الآيات هو استمرار لأبحاث النجوى السابقة. يقول سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ).

ويستفاد من هذه الآية بصورة جليّة أنّ المنافقين واليهود قد نهوا من قبل ومنعوا من النجوى التي تولّد سوء الظن عند الآخرين وتسبّب لهم القلق.

واستمراراً لهذا الحديث فإنّ القرآن الكريم يشير إلى مورد آخر من أعمال التجاوز والمخالفة للمنافقين واليهود ، حيث يقول تعالى : (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللهُ).

«حيّوك : من مادة تحيّة مأخوذة في الأصل من الحياة بمعنى الدعاء بالسلام والحياة الاخرى ؛ والمقصود بالتحية الإلهية في هذه الآية هو : (السلام عليكم) أو (سلام الله عليك) والتي وردت نماذج منها في الآيات القرآنية عن الأنبياء وأصحاب الجنة ، ومن جملتها قوله تعالى في الآية (١٨١) من سورة الصافات : (سَلمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ).

ثم يضيف تعالى أنّ هؤلاء لم يرتكبوا مثل هذه الذنوب العظيمة فقط بل كانوا مغرورين متعالين وكأنّهم سكارى فيقول عزوجل : (وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذّبُنَا اللهُ بِمَا نَقُولُ). وبهذه الصورة فإنّهم قد أثبتوا عدم إيمانهم بنبوّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وكذلك عدم إيمانهم بالإحاطة العلمية لله سبحانه.

ويرد عليهم القرآن الكريم : (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

والطبيعي أنّ هذا الكلام لا ينفي عذابهم الدنيوي ، لأنّ النجوى قد تكون بين المؤمنين أحياناً وذلك للضرورة أو لبعض الميول ، لذا فإنّ الآية اللاحقة تخاطب المؤمنين ستكون مناجاتهم في مأمن من التلوّث بذنوب اليهود والمنافقين حيث يقول الباريء عزوجل : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

يستفاد من هذا التعبير ـ بصورة واضحة ـ أنّ النجوى إذا كانت بين المؤمنين فيجب أن

__________________

(١) صحيح مسلم ٧ / ٥ ؛ صحيح البخاري ٨ / ٥١ ؛ وفي الكافي عن أبي جعفر عليه‌السلام ٢ / ٦٤٨.

١١٨

تكون بعيدة عن السوء وما يثير قلق الآخرين ، ولابدّ أن يكون مسارها التواصي بالخير والحسنى ، وبهذه الصورة فلا مانع منها.

ولذلك فإنّ القرآن يحذّر منها أشدّ تحذير في آخر آية مورد البحث ، حيث يقول تعالى : (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَءَامَنُوا). ولكن يجب أن يعلموا أنّ الشيطان لا يستطيع إلحاق الضرر بأحد إلّاأن يأذن الله بذلك (وَلَيْسَ بِضَارّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ).

ذلك لأنّ كل مؤثّر في عالم الوجود يكون تأثيره بأمر الله حتى إحراق النار وقطع السيف.

(وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ). إذ أنّهم ـ بالروح التوكّلية على الله ، وبالاعتماد عليه سبحانه ـ يستطيعون أن ينتصروا على جميع هذه المشاكل.

لهذا العمل ـ أي النجوى ـ من الوجهة الفقهية الإسلامية أحكام مختلفة :

فتارةً يكون هذا العمل حراماً وذلك فيما لو أدّى إلى أذى الآخرين أو هتك حرمتهم كالنجوى الشيطانية حيث هدفها إيذاء المؤمنين.

وقد تكون النجوى أحياناً واجبة وذلك في الموضوعات الواجبة السرّية ، حيث إنّ إفشاءها مضرّ ويسبّب الخطر والأذى ، وفي مثل هذه الحالة فإنّ عدم العمل بالنجوى يستدعي إضاعة الحقوق وإلحاق خطر بالإسلام والمسلمين.

وتتصف النجوى في صورة اخرى بالإستحباب ، وذلك في الأوقات التي يتصدّى فيها الإنسان لأعمال الخير والبرّ والإحسان ، ولا يرغب بالإعلان عنها وإشاعتها وهكذا حكم الكراهة والإباحة.

وأساساً ، فإنّ كل حالة لا يوجد فيها هدف مهم فالنجوى عمل غير محمود ، ومخالف لآداب المجالس ، ويعتبر نوعاً من اللامبالاة وعدم الإكتراث بالآخرين.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١١)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الصفّة ، وفي المكان ضيق ، وذلك يوم الجمعة. وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار. فجاء اناس من أهل بدر ، وفيهم

١١٩

ثابت بن قيس بن شماس ، وقد سبقوا في المجلس. فقاموا حيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته ، فردّ عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. ثم سلّموا على القوم بعد ذلك ، فردّوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسّع لهم ، فلم يفسحوا لهم. فشقّ ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر : قم يا فلان ، قم يا فلان ، بقدر النفر الذين كانوا بين يديه من أهل بدر. فشقّ ذلك على من اقيم من مجلسه ، وعرف الكراهية في وجوههم. وقال المنافقون للمسلمين : ألستم تزعمون أنّ صاحبكم يعدل بين الناس ، فوالله ما عدل على هؤلاء أنّ قوماً أخذوا مجالسهم وأحبّوا القرب من نبيّهم ، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنهم مقامهم! فنزلت الآية.

التّفسير

إحترام أهل السابقة والإيمان : تعقيباً على الموضوع الذي جاء في الروايات السابقة حول ترك (النجوى) في المجالس ، يتحدث القرآن عن أدب آخر من آداب المجالس حيث يقول سبحانه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِى الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ).

جملة (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) لها مفهوماً واسعاً ، وتشمل كل سعة إلهية ، سواء كانت في الجنة أو في الدنيا أو في الروح والفكر أو في العمر والحياة ، أو في المال والرزق.

وبما أنّ المجالس تكون مزدحمة أحياناً بحيث إنّه يتعذّر الدخول إلى المجلس في حالة عدم التفسّح أو القيام ، وإذا وجد مكان فإنّه غير متناسب مع مقام القادمين واستمراراً لهذا البحث ، يقول تعالى : (وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا). أي إذا قيل لكم قوموا فقوموا.

ولا ينبغي أن تضجروا أو تسأموا من الوقوف ، لأنّ القادمين أحياناً يكونون أحوج إلى الجلوس من الجالسين في المجلس ، وذلك لشدّة التعب أو الكهولة أو للإحترام الخاص لهم ، وأسباب اخرى.

ثم يتطرق سبحانه إلى الجزاء والأجر الذي يكون من نصيب المؤمنين إذا التزموا بالأمر الإلهي ، حيث يقول عزوجل : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَءَامَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ).

وذلك إشارة إلى أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أمر البعض بالقيام وإعطاء أماكنهم للقادمين ، فإنّه لهدف إلهي مقدس ، وإحتراماً للسابقين في العلم والإيمان.

وبما أنّ البعض يؤدّي هذه التعليمات ويلتزم بهذه الآداب عن طيب نفس ورغبة ، والآخرون يؤدّونها عن كراهية أو للرياء ، والتظاهر ... فيضيف تعالى في نهاية الآية : (وَاللهُ

١٢٠