مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

وليس من الضروري أن يكون الميزان هو الآلة المعروفة ذات الكفتين ، بل هو كل وسيلة لتقويم الوزن ، كما ورد في الحديث : إنّ أمير المؤمنين والأئمة من ذريته عليهم‌السلام هم الموازين (١).

وفي احتجاج الطبرسي عن الصادق عليه‌السلام حين سئل عن معنى الميزان قال : العدل.

وبهذا نفهم أنّ أولياء الله وقوانين العدل الإلهي هي موازين يعرض عليها الناس وأعمالهم ويتمّ قياس الوزن على مقدار الشبه والمطابقة.

واضح أنّ المقصود بثقل الموازين وخفتها هو ثقل الأشياء التي توزن بها وخفة تلك الأشياء.

كلمة ام في قوله : (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) تعني المأوى والملجأ ، لأنّ الام هي مأوى ابنائها وملاذهم ، ويكون معنى الآية : إنّ هؤلاء المذنبين الذين خفت موازينهم لا ملاذ لهم سوى جهنم ، وويل لمن كان ملجؤه جهنم.

نهاية تفسير سورة القارعة

* * *

__________________

(١) تصحيح اعتقادات الإمامية ، الشيخ المفيد / ١١٥.

٥٢١
٥٢٢

١٠٢

سورة التكاثر

محتوى السورة : هذه السورة تتناول في مجموعها تفاخر الأفراد على بعضهم استناداً إلى مسائل موهومة ، وتذم ذلك وتلوم عليه ، ثم تحذرهم من حساب المعاد وعذاب جهنم وممّا سيسألون يوم ذاك عن النعم التي منّ الله بها عليهم.

وقد اشتقّ اسم هذه السورة ، أي (التّكاثر) من الآية الاولى فيها.

فضيلة تلاوة السورة : في المجمع ابي بن كعب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ومن قرأها لم يحاسبه الله بالنعيم الذي أنعم عليه في دار الدنيا ، واعطي من الأجر كأنّما قرأ ألف آية.

إنّ كل هذا الثواب إنّما هو لمن يقرأها ولمن يطبقها في برنامج حياته ويتفاعل معها روحياً ونفسياً.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (٢) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)(٨)

٥٢٣

سبب النّزول

المفسرون يعتقدون أنّ السورة نزلت في قبائل كانت تتفاخر على بعضها بكثرة الأموال والأنفس حتى أنّها كانت تذهب إلى المقابر وتعدّ موتاها لترفع احصائية أفراد القبيلة.

سبب النزول ـ مهما كان ـ فهو لا يحد قطعاً معنى الآية.

التّفسير

بلاء التكاثر والتفاخر : الآيات الاولى توجّه اللوم إلى المتكاثرين المتفاخرين وتقول : (أَلْهكُمُ التَّكَاثُرُ). في الأنفس والأموال.

حتى إنّكم ذهبتم إلى المقابر لتستكثروا أفراد قبيلتكم : (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ).

«ألهاكم : من اللهو وهو الإنشغال بالأعمال الصغيرة والإنصراف عن المهام الكبيرة ؛ والتكاثر : يعني التفاخر والمباهاة.

«زرتم : من الزيارة وزَور (على وزن قول) في الأصل بمعنى أعلى الصدر ، ثم استعمل للقاء والمواجهة ؛ المقابر : جمع مقبرة ، وهي مكان دفن الميت. وزيارة المقابر إمّا أن تكون كناية عن الموت ، أو بمعنى الذهاب إلى المقابر وإحصاء الموتى بهدف التكاثر في الأنفس والتفاخر بالعدد (حسب التفسير المشهور).

والمعنى الثاني أصح ، وأحد شواهده كلام لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ـ في الخطبة (٢٢١) نهج البلاغة ـ قاله بعد تلاوته : (أَلْهكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) يا له مراماً أبعده! وزوراً ما أغفله! وخطراً ما أفظعه! لقد استخلوا منهم أيّ مدّكر وتناوشوهم من مكان بعيد! أفبمصارع آبائهم يفخرون! أم بعديد الهلكى يتكاثرون! يرتجعون منهم أجساداً خوت ، وحركات سكنت. ولأن يكونوا عبراً أحق من أن يكونوا مفتخراً.

الآيات التالية فيها تهديد شديد لهؤلاء المتكاثرين ، تقول : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ). فليس الأمر كما ترون ، وبه تتفاخرون ، بل سوف تعلمون عاجلاً نتيجة هذا التكاثر الموهوم.

لمزيد من التأكيد يقول سبحانه : (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ).

وفي المجمع عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام قال : ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت ألهاكم التّكاثر ، إلى قوله : كلّا سوف تعلمون ، يريد في القبر ، ثم كلّا سوف تعلمون ، بعد البعث.

(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ). كلّا ليس الأمر كما تظنون أيّها المتفاخرون المتكاثرون. فلو أنّكم تعلمون الآخرة علم اليقين ، لما اتجهتم إلى التفاخر والمباهاة بهذه المسائل الباطلة.

٥٢٤

ولمزيد من التأكيد والإنذار تقول لهم الآيات التالية :

(لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ).

(ثُمَّ لَتُسَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ).

في ذلك اليوم عليكم أن توضحوا كيف انفقتم تلك النعم الإلهية ؛ وهل استخدمتموها في طاعة الله أم في معصيته ، أم أنّكم ضيعتم النعمة ولم تؤدّوا حقّها.

إنّ النعيم له معنى واسع جدّاً يشمل كل المواهب الإلهية المعنوية منها مثل : الدين والإيمان والإسلام والقرآن والولاية ، وأنواع النعم المادية الفردية منها والاجتماعية. بيد أنّ النعم التي لها أهمية أكبر مثل : نعمة الإيمان والولاية يُسأل عنها أكثر ، هل أدّى الإنسان حقّها أم لا؟

بحثان

١ ـ منبع التفاخر والتكاثر : من آيات السورة يتبيّن أنّ أحد العوامل الأساسية للتفاخر والتكاثر والمباهات ، هو الجهل بجزاء الآخرة وعدم الإيمان بالمعاد.

كما أنّ جهل الإنسان بضعفه ومسكنته ... ببدايته ونهايته ... من العوامل الاخرى الباعثة على الكبر والغرور والتفاخر.

ثم عامل آخر لهذه الظاهرة هو الإحساس بالضعف وعقدة الحقارة الناتجة عن الفشل. والأفراد الفاشلون من أجل أن يغطوا على فشلهم يلجأون إلى الفخر والمباهات ، ولذلك في الكافي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : ما من رجل تكبر أو تجبّر إلّالذلة وجدها في نفسه.

٢ ـ اليقين ومراحله : اليقين يقابل الشك. ويستفاد من الروايات أنّ اليقين هو أعلى مراحل الإيمان ، وهي ثلاثة :

أ) علم اليقين : وهو الذي يحصل للإنسان عند مشاهدته الدلائل المختلفة ، كأن يشاهد دخاناً فيعلم علم اليقين أن هناك ناراً.

ب) عين اليقين : وهو يحصل حين يصل الإنسان إلى درجة المشاهدة كأن يرى بعينه مثلاً النار.

ج) حق اليقين : وهو كأن يدخل الإنسان النار بنفسه ويحسّ بحرقتها ، ويتصف بصفاتها.

وهذه أعلى مراحل اليقين ؛ وهو في الحقيقة مؤلف من علمين ، العلم بالمعلوم والعلم بأنّ خلاف ذلك العلم محال.

نهاية تفسير سورة التّكاثر

* * *

٥٢٥
٥٢٦

١٠٣

سورة العصر

محتوى السورة : شمولية هذه السورة تبلغ درجة حدت ببعض المفسرين إلى أن يرى فيها خلاصة كل مفاهيم القرآن وأهدافه.

تبدأ السورة من قسم عميق المحتوى بالعصر. ثم تتحدث عن خسران كل أبناء البشر خسراناً قائماً في طبيعة حياتهم التدريجية ، ثم تستثني مجموعة واحدة من هذا الأصل العام ، وهي التي لها منهج ذو أربع مواد :

الإيمان ، والعمل الصالح ، والتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر ، وهذه الاصول الأربعة هي في الواقع المنهج العقائدي والعملي الفردي والإجتماعي للإسلام.

فضيلة تلاوة السورة : في المجمع عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : من قرأ والعصر في نوافله بعثه الله يوم القيامة مشرقاً وجهه ، ضاحكاً سنّه ، قريرة عينه ، حتى يدخل الجنة.

إنّ هذه الفضائل وهذه البشرى نصيب من طبّق الاصول الأربعة المذكورة في حياته ، لا أن يقنع فقط بقراءتها.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (٣)

٥٢٧

في بداية هذه السورة نواجه قَسماً قرآنيا جديداً. يقول سبحانه : (وَالْعَصْرِ).

«العصر : في الأصل الضغط ، وإنّما اطلق على وقت معين من النهار لأنّ الأعمال فيه مضغوطة. ثم اطلقت الكلمة على مطلق الزمان ومراحل تاريخ البشرية ، أو مقطع زماني معين ، كأن نقول عصر صدر الإسلام.

قيل : إنّه كل الزمان وتاريخ البشرية المملوء بدروس العبرة ، والأحداث الجسيمة. وهو لذلك عظيم يستحق القسم الإلهي.

بعضهم قال : إنّه مقطع خاص من الزمان مثل عصر البعثة النبوية المباركة ، أو عصر قيام المهدي المنتظر عليه‌السلام ، وهي مقاطع زمنية ذات خصائص متميزة وعظمة فائقة في تاريخ البشر. والقسم في الآية إنّما هو بتلك الأزمنة الخاصة.

ولكن الأنسب فيها هو القسم بالزمان وتاريخ البشرية ، لأنّ القسم القرآني ـ كما ذكرنا مراراً ـ يتناسب مع الموضوع الذي أقسم الله من أجله ومن المؤكّد أنّ خسران الإنسان في الحياة ناتج عن تصرّم عمره ، أو أنّه عصر بعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّ المنهج ذا المواد الأربع في ذيل هذه السورة نزل في هذا العصر.

الآية التالية تحمل الموضوع الذي جاء القَسم من أجله. يقول سبحانه : (إِنَّ الْإِنسنَ لَفِى خُسْرٍ).

الإنسان يخسر ثروته الوجودية شاء أم أبى. تمرّ الساعات والأيّام والأشهر والأعوام من عمر الإنسان بسرعة ، تضعف قواه المادية والمعنوية ، تتناقص قدرته باستمرار.

القلب له قدرة معينة على الضربان ، وحين تنفد هذه القدرة يتوقف القلب تلقائياً دون علّة من عيب أو مرض ، هذا إذا لم يكن توقف الضربان نتيجة مرض ، وهكذا سائر الأجهزة الوجودية للإنسان ، وثروات قدراته المختلفة.

إنّ الدنيا في المنظور الإسلامي سوق تجارة ، كما يقول الإمام علي بن محمّد الهادي عليه‌السلام : «الدنيا سوق ، ربح فيها قوم وخسر آخرون (١).

الآية الكريمة التي نحن بصددها تقول : كل الناس في هذه السوق الكبرى خاسرون إلّا مجموعة تسير على المنهج الذي تبيّنه الآية التالية.

__________________

(١) تحف العقول / ٤٨٣.

٥٢٨

نعم ، هناك طريق واحد لا غير لتفادي هذا الخسران العظيم القهري الإجباري ، وهو الذي تبيّنه آخر آيات هذه السورة.

(إِلَّا الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).

بحث

منهج السعادة ذو المواد الأربع : من المهم أن نقف ولو قليلاً عند المنهج الذي وضعه القرآن الكريم للنجاة من ذلك الخسران ... إنّه منهج يتكون من أربعة اصول هي :

الأصل الأوّل : الإيمان وهو البناء التحتي لكل نشاطات الإنسان ، لأنّ فعاليات الإنسان العملية تنطلق من اسس فكره واعتقاده ، لا كالحيوانات المدفوعة في حركاتها بدافع غريزي.

بعبارة اخرى : أعمال الإنسان بلورة لعقائده وأفكاره ، ومن هنا فإنّ جميع الأنبياء بدأوا قبل كل شيء باصلاح الاسس الإعتقادية للُامم والشعوب ، وحاربوا الشرك بشكل خاص باعتباره أساس أنواع الرذائل والشقاوة والتمزق الإجتماعي.

الأصل الثاني : العمل الصالح وهو ثمرة دوحة الإيمان. تقول الآية : (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) لا العبادات فحسب ، ولا الإنفاق في سبيل الله وحده ، ولا الجهاد في سبيل الله فقط ، ولا الإكتفاء بطلب العلم ... بل كل الصالحات التي من شأنها أن تدفع إلى تكامل النفوس وتربية الأخلاق والقرب من الله ، وتقدم المجتمع الإنساني.

ولما كان الإيمان والعمل الصالح لا يكتب لهما البقاء إلّافي ظل حركة اجتماعية تستهدف الدعوة إلى الحق ومعرفته من جهة ، والدعوة إلى الصبر والإستقامة على طريق النهوض باعباء الرسالة ، فإنّ هذين الأصلين تبعهما أصلان آخران هما في الحقيقة ضمان لتنفيذ أصلَي الإيمان والعمل الصالح.

الأصل الثالث : التواصي بالحق أي الدعوة العامة إلى الحق ، ليميز كل أفراد المجتمع الحق من الباطل ، ويضعوه نصب أعينهم ، ولا ينحرفون عنه في مسيرتهم الحياتية.

(الأصل الرابع : التواصي بالصبر) والاستقامة ، إذ بعد الإيمان والحركة في المسيرة الإيمانية تبرز في الطريق العوائق والموانع والسرور. وبدون الاستقامة والصبر لا يمكن المواصلة في إحقاق الحق والعمل الصالح والثبات على الإيمان.

نعم ، إحقاق الحق في المجتمع لا يمكن من دون حركة عامة وعزم اجتماعي ، ومن دون

٥٢٩

الإستقامة والوقوف بوجه ألوان التحديات.

«الصبر هنا يحمل مفهوماً واسعاً يشمل الصبر على الطاعة ، والصبر على دوافع المعصية ، والصبر إزاء المصائب والحوادث المرّة ، وفقدان الإمكانات والثروة والثمرات.

والمسلمون اليوم إذا طبقوا هذه الاصول الأربعة في حياتهم الفردية والاجتماعية لتغلبوا على كل ما يعانون منه من مشاكل وتدهور وتخلف ، ولبدلوا ضعفهم وهزيمتهم انتصاراً ، ولاقتلعوا شرّ الأشرار من على ظهر الأرض.

نهاية تفسير سورة العصر

* * *

٥٣٠

١٠٤

سورة الهمزة

محتوى السورة : هذه السورة تتحدث عن اناس كرسوا كل همهم لجمع المال ، وحصروا كل قيم الإنسان الوجودية في هذا الجمع. ثم هم يسخرون من الذين لا يملكون المال وبهم يستهزئون.

السورة تتحدث في النهاية عن المصير المؤلم الذي ينتظر هؤلاء ، وكيف أنّهم يلقون في جهنم صاغرين ، وأنّ نار جهنم تتجه بلظاها أوّلاً إلى قلوبهم المليئة بالكبر والغرور ، وتحرقها بالنار ، بنار مستمرة.

فضيلة تلاوة السورة : في المجمع ابي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من قرأها اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمّد وأصحابه.

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : من قرأ ويل لكل همزة في فريضة من فرائضه ، نفت عنه الفقر وجلبت عليه الرزق وتدفع عنه ميتة السوء.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩)

٥٣١

سبب النّزول

في المجمع : قيل : إنّ الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة ، وكان يغتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من ورائه صلى‌الله‌عليه‌وآله ويطعن عليه في وجهه.

وقيل : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي ، وكان يلمز الناس ويغتابهم.

ولكن ، إن قبلنا أسباب النزول هذه فلا ينفي ذلك شمولية مفاهيم الآيات ، بل إنّها تستوعب كل الذين يحملون هذه الصفات.

التّفسير

الويل للهمّازين واللمّازين : تبدأ هذه السورة بتهديد قارع وتقول : (وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ) ... لكل من يستهزيء بالآخرين ، ويعيبهم ، ويغتابهم ، ويطعن بهم ، بلسانه وحركاته وبيده ، وعينه وحاجبه.

«الهمزة واللمزة : صيغتا مبالغة. من مجموع آراء اللغويين في الكلمتين يستفاد أنّهما بمعنى واحد ، ولهما مفهوم واسع يشمل كل ألوان إلصاق العيوب بالناس وغيبتهم والطعن والإستهزاء بهم ، باللسان والإشارة والنميمة والذم.

أساساً ، الإسلام ينظر إلى شخصية الإنسان وكرامته باحترام بالغ ، ويعدّ أيّ عمل يؤدي إلى إهانة الآخرين ذنباً كبيراً. وفي أمالي الصدوق عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أذل الناس من أهان الناس.

وفي عوالي اللئالي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : رأيت ليلة الإسراء قوماً يقطع اللحم من جنوبهم ثم يلقمونه ، ويقال : كلوا ما كنتم تأكلون من لحم أخيكم. فقلت : يا جبرئيل من هؤلاء؟ فقال : هؤلاء الهمازون من امّتك اللمازون.

ثم تذكر الآية التالية منبع ظاهرة اللمز والهمز في الأفراد ، وترى أنّها تنشأ غالباً من كبر وغرور ناشئين بدورهما من تراكم الثروة لدى هؤلاء الأفراد ، وتقول : (الَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ) بطريق مشروع أو غير مشروع.

فهو انشدّ بالمال انشداداً جعله منشغلاً دائماً بعدّ المال والإلتذاذ ببريق الدرهم والدينار.

تحول الدرهم والدينار عنده إلى وثن ويرى فيه شخصيته وينظر من خلاله أيضاً إلى شخصية الآخرين ، ومن الطبيعي أن يكون تعامل مثل هذا الإنسان الضال الأبله بالسخرية والإستهزاء مع المؤمنين الفقراء.

«عدده : من (عدّ) بمعنى حَسَب. هذه الآية تقصد الذين يدّخرون الأموال ولا ينظرون

٥٣٢

إليها باعتبارها وسيلة بل هدفاً ، ولا يحدّهم قيد أو شرط في جمعها ، حتى ولو كان من طريق الحرام والإعتداء على حقوق الآخرين وارتكاب كل دنيئة ورذيلة ، ويعتبرون ذلك دليلاً على عظمتهم وشخصيتهم.

هؤلاء لا يريدون المال لسد حاجاتهم الحياتية ، ولذلك يزداد حرصهم على جمع المال كلّما كثرت أموالهم ، وإلّا فإنّ المال في الحدود المعقولة ومن الطرق المشروعة ليس بمذموم ، بل إنّ القرآن الكريم عبّر عنه في موضع بأنّه فضل الله ؛ حيث يقول تعالى في الآية (١٠) من سورة الجمعة : (وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ).

وفي موضع آخر يسميه خيراً ، كقوله سبحانه في الآية (١٨٠) من سورة البقرة : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ).

مثل هذا المال ليس بالتأكيد مبعث طغيان ، ولا وسيلة تفاخر ، ولا دافع سخرية بالآخرين ، لكن المال الذي يصبح معبوداً وهدفاً نهائياً ، ويدعو أصحابه من أمثال قارون إلى الطغيان ، هو العار والذلة والمأساة ومبعث البعد عن الله والخلود في النار.

ومثل هذا المال لا يمكن جمعه وعدّه إلّابالسقوط في أوحال الحرام. في الخصال عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام قال : لا يجتمع المال إلّابخصال خمس : ببخل شديد ، وأمل طويل ، وحرص غالب ، وقطيعة الرحم ، وايثار الدنيا على الآخرة.

في الآية التالية يقول سبحانه : (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أخْلَدَهُ).

ما أتفه هذا التفكير! قارون بكل ما كان يملكه من كنوز لا تستطيع العصبة أولو القوّة أن تحمل مفاتحها ، لم يستطع أن يستخدم أمواله لتأخير مصيره الأسود ساعة واحدة : (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ) (١).

الأموال التي كان يمتلكها الفراعنة : (مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ) (٢) ، تحولت في ساعة إلى غيرهم : (كَذلِكَ وَأَورثنَاهَا قَوْمًاءَاخَرِينَ) (٣).

لذلك فإنّ هؤلاء اللاهين بأموالهم ، حين تزول من أمام أعينهم الحجب والأستار يوم القيامة يرفعون عقيرتهم بالقول : (مَا أَغْنَى عَنّى مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنّى سُلْطَانِيَهْ) (٤).

من هنا يتبيّن أنّ الظن بقدرة المال على الإخلاد ، هو الذي يدفع إلى جمع المال ، وجمع المال

__________________

(١) سورة القصص / ٨١.

(٢) سورة الدخان / ٢٥ ـ ٢٧.

(٣) سورة الدخان / ٢٨.

(٤) سورة الحاقّة / ٢٨ و ٢٩.

٥٣٣

أيضاً عامل على الإستهزاء والسخرية بالآخرين عند هؤلاء الغافلين.

القرآن الكريم يردّ على هؤلاء ويقول : (كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِى الْحُطَمَةِ). كلّا ، ليس الأمر كما يتصور ، فسرعان ما يقذف باحتقار وذلّة في نار محطّمة (وَمَا أَدْرَيكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفِدَةِ).

«لينبذنّ : من نبذ ، أي رمي الشيء لتفاهة قيمته.

أي إنّ الله سبحانه يرمي هؤلاء المغرورين المتعالين يوم القيامة في نار جهنم كموجودات تافهة لا قيمة لها ، ليروا نتيجة كبرهم وغرورهم.

«الحطمة : صيغة مبالغة من حطّم أي هشّم. وهذا يعني أنّ نار جهنم تهشّم أعضاء هؤلاء.

عبارة نار الله دليل على عظمة هذه النار ؛ والموقدة تعني استعارها المستمر.

والعجيب أنّ هذه النار ليست مثل نار الدنيا التي تحرق الجلد أوّلاً ثم تنفذ إلى الداخل ، بل هي تبعث بلهبها أوّلاً إلى القلب ، وتحرق الداخل وتبدأ أوّلاً بالقلب ثم بما يحيطه ، ثم تنفذ إلى الخارج.

لماذا لا تكون كذلك ، وقلوب هؤلاء الطاغين مركز للكفر والكبر والغرور ، وبؤرة حبّ الدنيا والثروة والمال؟!

إنّهم في هذه الدنيا احرقوا قلوب المؤمنين بسخريتهم وهمزهم ولمزهم؟! العدالة الإلهية تقتضي أن يرى هؤلاء جزاء يشبه أعمالهم.

الآيات الأخيرة من السورة تقول : (إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ).

ومؤصدة : من الإيصاد ، بمعنى الأحكام في غلق الباب.

هؤلاء يقبعون في غرف تعذيب مغلقة الأبواب لا طريق للخلاص منها ، كما كانوا يجمعون أموالهم في الخزانات المغلقة الموصدة.

جمع من المفسرين قال : إنّها الأوتاد الحديدية العظيمة التي تغلق بها أبواب جهنم حتى لم يعد هناك طريق للخروج منها أبداً ، وهي بذلك تأكيد على الآية السابقة التي تقول : (إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ).

نهاية تفسير سورة الهمزة

* * *

٥٣٤

١٠٥

سورة الفيل

محتوى السورة : هذه السورة ـ كما يظهر من اسمها ـ تشير إلى الحادثة التاريخية التي اقترنت بولادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفيها نجّى الله سبحانه الكعبة من شرّ جيش كافر كبير تجهّز من اليمن ممتطياً الفيل.

التذكير بهذه القصة فيه تحذير للكفار المغرورين المعاندين ، كي يفهموا ضعفهم تجاه قدرة الله تعالى الذي أباد جيشاً عظيماً بطير أبابيل تحمل حجارة من سجّيل ، وهو سبحانه إذن قادر على أن يعاقب هؤلاء المستكبرين المعاندين.

فضيلة تلاوة السورة : في المجمع : أبو بصير عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : من قرأ في الفريضة (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) شهد له يوم القيامة كل سهل وجبل ومدر بأنّه كان من المصلين ، وينادي يوم القيامة مناد : صدقتم على عبدي ، قبلت شهادتكم له ، أو عليه. أدخلوا عبدي الجنة ، ولا تحاسبوه فإنّه ممن احبّه واحبّ عمله.

إنّ هذه الفضائل وهذا الثواب لمن كانت قراءته باعثاً على انكسار روح الغرور في نفسه ، وعلى السير في طريق رضا الله سبحانه.

* * *

٥٣٥

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) (٥)

قصة أصحاب الفيل : ذكر المفسرون والمؤرخون : إنّ ذو نواس ملك اليمن اضطهد نصارى نجران قرب اليمن كي يتخلوا عن دينهم (ذكر القرآن قصة هذا الإضطهاد في موضوع أصحاب الأخدود في سورة البروج).

بعد هذه الجريمة نجا من بين النصارى رجل اسمه (دوس) وتوجه إلى قيصر الروم الذي كان على دين المسيح ، وشرح له ما جرى.

ولما كانت المسافة بين الروم واليمن بعيدة ، كتب القيصر إلى النجاشي (حاكم الحبشة) لينتقم من (ذو نواس) لنصارى نجران ، وارسل الكتاب بيد القاصد نفسه.

جهّز النجاشي جيشاً عظيماً يبلغ سبعين ألف محارب بقيادة (أرياط) ووجهه إلى اليمن ، وكان (أبرهة) أيضاً من قواد ذلك الجيش.

اندحر (ذو نواس) وأصبح (أرياط) حاكماً على اليمن ، وبعد مدّة ثار عليه أبرهة وأزاله من الحكم وجلس في مكانه.

بلغ ذلك النجاشي ، فقرر أن يقمع (أبرهة). لكن أبرهة أعلن استسلامه الكامل للنجاشي ووفاءه له. حين رأى النجاشي منه ذلك عفا عنه وأبقاه في مكانه.

و (أبرهة) من أجل أن يثبت ولاءه ، بنى كنيسة ضخمة جميلة غاية الجمال ، لا يوجد على ظهر الأرض مثلها آنذاك ، وقرر أن يدعو أهل الجزيرة العربية لأن يحجّوا إليها بدل (الكعبة) ، وينقل مكانة الكعبة إلى أرض اليمن.

أرسل أبرهة الوفود والدعاة إلى قبائل العرب في أرض الحجاز ، يدعونهم إلى حج كنيسة اليمن.

تذكر بعض الروايات أنّ مجموعة من العرب جاؤوا خفية وأضرموا النار في الكنيسة ، وقيل إنّهم لوثوها بالقاذورات ، ليعبروا عن اعتراضهم على فعل أبرهة ويهينوا معبده.

٥٣٦

غضب أبرهة وقرر أن يهدم الكعبة هدماً كاملاً ، للإنتقام ولتوجيه أنظار العرب إلى المعبد الجديد ، فجهّز جيشاً عظيماً كان بعض أفراده يمتطي الفيل ، واتجه نحو مكة.

عند اقترابه من مكة بعث من ينهب أموال أهل مكة ، وكان بين النهب مائتا بعير لعبد المطلب.

بعث (أبرهة) قاصداً إلى مكة. جاء رسول أبرهة إلى مكة وبحث عن شريفها فدلوه على عبد المطلب ، فحدثه بحديث أبرهة ، فقال عبد المطلب ، نحن لا طاقة لنا بحربكم ، وللبيت ربّ يحميه.

وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه [فنزل أبرهة عن سريره] فجلس على بساطه ، وأجلسه معه عليه إلى جنبه ، ثم قال لترجمانه : قل له : حاجتك فقال له ذلك الترجمان فقال : حاجتي أن يرد علي الملك مئتى بعير أصابها لي فلما قال ذلك قال أبرهة لترجمانه : قل له : قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم قد زهدت فيك حين كلمتني أتكلمني في مئتى بعير أصبتها لك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه ، لا تكلمني فيه؟!

قال له عبد المطلب : إنّي أنا ربّ الإبل ، وإنّ للبيت ربّ سيمنعه ... فرد أبرهة على عبد المطلب الإبل التي أصاب له.

فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة ، والتحرز في شعف الجبال ، والشعاب ، تخوفاً عليهم من معرة الجيش ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة :

لا هُمّ إنّ العبد يمنع رحله فامنع حلالك

لا يغلبن صليبهم ومحالهم عدواً محالك

إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك

قال ابن اسحاق : ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة ، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها.

فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة ، وهيأ فيله وعبى جيشه وكان اسم الفيل محموداً ، وأبرهة مجمع لهدم البيت ، ثم الانصراف إلى اليمن. فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب [الخثعمي] حتى قام إلى جنب الفيل ، ثم أخذ باذنه فقال : أبرك محمود ، أو ارجع راشداً

٥٣٧

من حيث جئت ، فإنّك في بلد الله الحرام ، ثم أرسل اذنه ، فبرك الفيل ، وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد في الجبل ، وضربوا الفيل ليقوم ، فأبى ، فضربوا رأسه بالطبرزين [ليقوم] فأبى ، فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم فأبى ، فوجّهوه راجعاً إلى اليمن فقام يهرول ووجّهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ، ووجّهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ، ووجّهوه إلى مكة فبرك ، فأرسل الله عليهم طيراً من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان ، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها : حجر في منقاره ، وحجران في رجليه ، أمثال الحمص والعدس ، لا تصيب منهم أحداً إلّاهلك.

وقيل : إنّ الحجر كان يسقط على الرجل منهم فيخترقه ويخرج من الجانب الآخر.

(أبرهة) اصيب بحجر ، وجُرح ، فاعيد إلى صنعاء عاصمة ملكه ، وهناك فارق الحياة.

وقيل : إنّ مرض الحصبة والجدري شوهد لأوّل مرّة في أرض العرب في تلك السنة.

وفي هذا العام ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حسب الرواية المشهورة ، وقيل إنّ بين الحادثتين إرتباطاً.

إنّ أهمية هذه الحادثة الكبرى بلغت درجة تسمية ذلك العام بعام الفيل ، وأصبح مبدأ تاريخ العرب (١).

التّفسير

كيد أبرهة : يخاطب الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الآية الاولى من السورة ويقول له : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ).

(أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ). لقد استهدفوا الكعبة ليهدموها وليقيموا بدلها كعبة اليمن ، وليدعوا قبائل العرب إلى حج هذا المعبد الجديد ، لكنّه سبحانه حال دون تحقق هدفهم ، بل زاد الكعبة شهرة وعظمة بعد أن ذاع نبأ أصحاب الفيل في جزيرة العرب ، وأصبحت قلوب المشتاقين تهوى إليها أكثر من ذي قبل ، وأسبَغَ على هذه الديار مزيداً من الأمن.

كيدهم إذن صار في تضليل ، أي في ضلال حيث لم يصلوا إلى هدفهم.

ثم تشرح الآيات التالية بعض جوانب الواقعة : (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ).

__________________

(١) سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لابن هشام الحميري ١ / ٢٨ ؛ وبحار الأنوار ١٥ / ٧٠ و ١٣٠ ؛ ومجمع البيان ١٠ / ٤٤٢.

٥٣٨

عبارة طيراً أبابيل تعني طيراً على شكل مجموعات ، والمشهور أنّ هذه الطير كانت تشبه الخطاطيف قدمت من صوب البحر الأحمر في اتجاه أصحاب الفيل.

(تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ) (١).

(فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ).

والعصف : هو النبات الجاف المتهشّم ، أي هو (التبن) بعبارة اخرى.

وتعبير مأكول إشارة إلى أنّ هذا التبن قد سحق مرّة اخرى بأسنان الحيوان ، ثم هشّم ثالثة في معدته ، وهذا يعني أنّ أصحاب الفيل ، قد تلاشوا بشكل كامل عند سقوط الحجارة عليهم.

وفي هذا السورة تحذير وإنذار لكل الطغاة والمستكبرين في العالم ، ليعلموا مدى ضعفهم أمام قدرة الله سبحانه.

نهاية تفسير سورة الفيل

* * *

__________________

(١) سجّيل : كلمة فارسية مأخوذة من دمج كلمتين هما سنگ وگل ؛ وتعني الطين المتحجّر.

٥٣٩
٥٤٠