مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

٦٣

سورة المنافقون

محتوى السورة : يمكن تقسيم مباحث هذه السورة بأربعة أقسام :

١ ـ صفات المنافقين وتتضمن نقاطاً مهمة وحساسة.

٢ ـ تحذير المؤمنين من خطط المنافقين ووجوب الإنتباه إلى ذلك ورصده بشكل دقيق.

٣ ـ حثّ المؤمنين على عدم الاستغراق في الدنيا وزخرفها والإنشغال بذلك عن ذكر الله.

٤ ـ حثّ المسلمين على الإنفاق في سبيل الله ، والإنتفاع من الأموال قبل الموت وقبل إشتعال الحسرة في نفوسهم.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ومن قرأ سورة المنافقين برأ من النفاق.

وفي ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : الواجب على كل مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة وسبّح اسم ربّك الأعلى ، وفي صلاة الظهر بالجمعة والمنافقين ، فإذا فعل ذلك فكأنّما يعمل كعمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان جزاؤه وثوابه على الله الجنة.

إنّ المرور على هذه السور دون الاستفادة منها على الصعيد العملي وجعلها برنامجاً للحياة ، سوف لن يؤدّي إلى زوال روح النفاق وإجتثاث جذورها من نفس الإنسان.

١٨١

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٤)

مصدر النفاق وعلامات المنافقين : نذكر مقدمة قبل الدخول في تفسير هذه الآيات ، وهي أنّ الإسلام طرح مسألة النفاق والمنافقين مع هجرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه إلى المدينة ، وبداية استحكام اسس الإسلام وظهور عزّه ، فلم تبرز ظاهرة النفاق في مكة ، لأنّ الأعداء يصعب عليهم التجاهر في عدائهم ، بل قد يتعذر ذلك عليهم في بعض الأحيان ، لهذا اختار أعداء الإسلام المهزومون أن يواصلوا خططهم التخريبية من خلال إظهار الإسلام وإبطان الكفر ، وانخرطوا ظاهراً في صفوف المسلمين ، بينما ظلّوا محافظين على كفرهم في باطنهم.

وهكذا تكون غالباً طبيعة أعداء كل ثورة ودعوة بعد إشتداد عودها وقوّة ساعدها ، إذ تواجه الكثير من الأعداء وكأنّهم أصدقاء.

ومن هنا نستطيع أن نفهم لماذا نزلت كل تلك الآيات التي تصف المنافقين وتشرح حالهم ، في المدينة ولم تنزل في مكة.

ومما يجدر الإشارة إليه أنّ هذه المسألة ـ أي مسألة النفاق ـ غير محصورة بعصر الرسول ، بل إنّ جميع المجتمعات ـ وخاصة الثورية منها ـ تكون عرضة للإصابة بهذه الظاهرة الخطيرة ، ولذلك يجب أن يدرس القرآن الكريم وما جاء فيه من تجارب وإرشادات من خلال هذه النظرة الحيوية ، لا من خلال اعتبارها مسألة تاريخية لا علاقة لها بالواقع ، وبهذا يمكن إستلهام الدروس والحكم لمكافحة النفاق وخطوط المنافقين في المجتمعات الإسلامية في الوقت الحاضر.

ومما تجدر الإشارة إليه أيضاً أنّ خطر المنافقين يفوق خطر باقي الأعداء ، لخفائهم وعدم

١٨٢

القدرة على تشخيصهم بسهولة من جهة ، ولكونهم أعداء يعيشون في داخل الجسم الإسلامي وربّما ينفذون إلى قلبه نفوذاً يصعب معه فرزهم وتحديدهم من جهة اخرى.

ويأتي خطرهم ثالثاً من إرتباطاتهم مع سائر عناصر المجتمع بعلاقات بحيث تصعب مكافحتهم.

ولهذا نرى أنّ أكثر الضربات التي تلقّاها الإسلام على مدى التاريخ جاءته من هذا المعسكر ، أي معسكر النفاق ولهذا نلاحظ أنّ الإسلام شنّ حملات شديدة جدّاً عليهم.

وبعد هذه المقدمة نرجع إلى تفسير الآيات.

إنّ أوّل صفة يذكرها القرآن للمنافقين هي : إظهار الإيمان الكاذب الذي يشكّل الظاهرة العامة للنفاق ، حيث يقول تعالى : (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ). ويضيف : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ). لأنّهم لم يريدوا الإخبار عن واقعية رسالة رسول الله وإنّما أرادوا الإخبار عن إعتقادهم برسالته ، وهذا من الكذب المحض.

وهذه أوّل علامة من علامات المنافقين ، حيث اختلاف الظاهر مع الباطن ، ففي الوقت الذي يظهر المنافقون الإيمان ويدعونه بألسنتهم ، نرى قلوبهم قد خلت من الإيمان تماماً ، وهذه الظاهرة تشكّل المحور الرئيسي للنفاق.

وتذكر الآية اللاحقة العلامة الثانية : (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

ذلك لأنّهم يضعون الموانع والعراقيل في طريق هداية الناس ، وليس هناك أقبح من أن يمنع الإنسان غيره من الإهتداء.

من عبارة (جُنَّةً) يتّضح أنّ المنافقين في حالة حرب دائمة ضد المؤمنين ، وأنّ الظواهر التي يتخفّون وراءها لا ينبغي أن تخدع أحداً.

وتتطرق الآية اللاحقة إلى ذكر السبب الذي يقف وراء هذه الأعمال السيئة ، حيث يقول تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَفْقَهُونَ).

والواقع أنّ المنافقين مجموعتان :

المجموعة الاولى : كان إيمانها منذ البداية ظاهرياً وصورياً.

والثانية : كان إيمانها حقيقيّاً في البداية ثم ارتدّوا ولزموا طريق النفاق.

١٨٣

والظاهر أنّ الآية ـ مورد البحث ـ تتعرض للمجموعة الثانية.

وتشبه هذه الآية (٧٤) من سورة التوبة التي تقول : (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلمِهِمْ).

فإنّ عدم قدرتهم على إدراك الحقائق الواضحة تعتبر علامة ثالثة من علامات نفاقهم.

وتوضّح الآية اللاحقة علامات المنافقين بشكل أكثر وضوحاً ، إذ يقول تعالى : (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ) فهم يتمتعون بظواهر جميلة وأجسام لطيفة.

(وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لأنّه ينطوي على شيء من التحسين والعذوبة.

وفي الوقت الذي يتأثّر الرسول بحديث بعضهم ـ كما يبدو من ظاهر التعبير ـ فكيف بالآخرين؟!

هذا فيما يخصّ ظاهرهم ، أمّا باطنهم ف (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ).

فأجسامهم خالية من الروح ، ووجوههم كالحة ، وكيانهم خاوٍ منخور من الداخل ، ليس لهم أيّة إرادة ولا يتمتعون بأيّة استقلالية (كالأخشاب المسنّدة) المكدّسة.

وكان هؤلاء يتميّزون بالضعف والخواء في داخلهم ، لا يعرفون التوكل والاعتماد على الله ولا على أنفسهم ، فهم كما يصفهم القرآن الكريم في آية اخرى : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ).

يسيطر عليهم الخوف والرعب وسوء الظن ، وتغمر أرواحهم النظرة السوداء السيّئة ... تجدهم في خوف دائم من ظلمهم وخيانتهم.

وقد نبّه القرآن الكريم في نهاية الآية قائلاً : (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ). أي : هم الأعداء الواقعيون.

ويضيف : (قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ). أي : كيف ينحرفون عن الحق.

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (٨)

١٨٤

سبب النّزول

ذكرت كتب التاريخ والتفسير سبباً مسهباً لنزول هذه الآيات ، وجاء في الكامل في التاريخ : أنّه بعد غزوة بني المصطلق إزدحم الناس على الماء ، وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له : جهجاه ، فازدحم هو وسنان الجهني حليف بني عوف من الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني : يا معشر الأنصار. وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين. فغضب عبد الله بن أبي سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم غلام حدث السنّ فقال : أو قد فعلوها؟ قد كاثرونا في بلادنا ، أما والله (لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) ، ثم أقبل على من حضره من قومه فقال : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم ببلادكم وقاسمتموهم أموالكم ، والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم ، فسمع ذلك زيد فمشى به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك عند فراغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من غزوه ، فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله مُرْ به عبّاد بن بشر فليقتله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كيف إذا تحدّث الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه؟ ولكن أذن بالرحيل. فارتحل في ساعة لم يكن يرتحل فيها ليقطع ما الناس فيه ، فلقيه أسيد بن حضير فسلّم عليه وقال : يا رسول الله ، لقد رحت في ساعة لم تكن تروح فيها؟ فقال : أو ما بلغك ما قال عبد الله بن ابي؟ قال : وماذا قال؟ قال : زعم إن رجع إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل. قال أسيد : فأنت والله تُخرجُه إن شئت ، فإنّك العزيز وهو الذليل.

ثم قال : يا رسول الله ، ارفق به فوالله لقد منّ الله بك وإنّ قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه ، فإنّه ليرى أنّك قد استلبته ملكاً. وسمع عبد الله بن ابي أنّ زيداً أعلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله فمشى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلّمت به ، وكان عبد الله في قومه شريفاً ، فقالوا : يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أخطأه. وأنزل الله : (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ) تصديقاً لزيد ، فلما نزلت أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله باذن زيد وقال : هذا الذي أوفى الله باذنه. وبلغ عبد الله بن أبي سلول ما كان من أمر أبيه ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله! بلغني أنّك تريد قتل أبي ، فإن كنت فاعلاً فمرني به ، فأنا أحمل إليك رأسه ، وأخشى أن تأمر غيري بقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله ، فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا ، فكان بعد ذلك إذا أحدث حدثاً

١٨٥

عاتبه قومه وعنّفوه وتوعدوه (١).

التّفسير

علامات اخرى للمنافقين : تأتي هذه الآيات لتكمّل توضيح علامات المنافقين التي بدأتها الآيات التي سبقتها. يقول تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُّسْتَكْبِرُونَ).

إنّ حبّ المنافقين لأنفسهم وعبادتهم لذواتهم ، جعلتهم أبعد ما يكونون عن الإسلام الذي يعني التسليم والرضا والاستسلام الكامل للحق.

«لوّوا : من مادة لي وهي في الأصل بمعنى برم الحبل ، وتأتي أيضاً بمعنى إمالة الرأس وهزّه إعراضاً واستكباراً.

ومن أجل أن لا يبقى هناك أي إبهام أو التباس قال تعالى : (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).

إنّ استغفار النبي تؤثّر حينما يتوبون بصدق وإخلاص ، ويستسلمون للحقّ ، هنالك يؤثّر استغفار الرسول وتقبل شفاعته.

والمقصود من الفسّاق ، هم تلك المجموعة من الفسّاق أو المذنبين الذين يصرّون على ذنوبهم ويركبون رؤوسهم.

والشاهد الآخر الذي يذكره القرآن كعلامة لهم واضحة جدّاً ، هو قوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَاتُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنفَضُّوا). فلا تعطوا المسلمين شيئاً من أموالكم وإمكاناتكم لكي يتفرقوا عن رسول الله.

(وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَايَفْقَهُونَ).

إنّ هؤلاء فقدوا الوعي والبصيرة ، ولم يعرفوا أنّ كل ما لدى الناس إنّما هو من الله. وأن تقاسم الأنصار لأموالهم مع المهاجرين إنّما هو من دواعي الإفتخار والإعتزاز ، ولا ينبغي أن يمنّوا به على أحد.

ثم يقول تعالى في إشارة اخرى إلى مقالة اخرى سيّئة من مقالاتهم : (يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ).

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٢ / ٨١.

١٨٦

وهذا نفس الكلام الذي أطلقه عبد الله بن ابي ، ويريدون من ورائه أنّهم أهل المدينة الأصليّون الذين سيخرجون منها الرسول وأصحابه من المهاجرين ، بعد عودتهم من غزوة بني المصطلق التي مرّت الإشارة إليها.

ورغم أنّ هذا الحديث صدر عن رجل واحد ، لكنه كان لسان حال المنافقين جميعاً ، وهذا ما جعل القرآن يعبّر عنهم بشكل جماعي يقولون ... فيردّهم ردّاً حازماً ، إذ يقول : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَايَعْلَمُونَ).

ولم يكن منافقو المدينة وحدهم الذين رووا هذا الكلام ، بل سبقهم إلى ذلك رؤساء قريش عندما قالوا : (سينتهي أمر هذه المجموعة القليلة الفقيرة من المسلمين إذا حاصرناهم إقتصادياً أو أخرجناهم من مكة).

وهكذا نرى اليوم الدول المستكبرة وهي تحذّر الشعوب التي ترفض الخضوع لسيطرتها ، بأنّها تملك الدنيا وخزائنها ، فإن لم تخضع لها تحاصرها اقتصادياً لتركيعها.

وهؤلاء هم الذين طبع على قلوبهم واتّخذوا منهجاً واحداً على مدى التاريخ ، وظنّوا أنّ ما لديهم باق ، ولم يعلموا أنّ الله قادر على إزالته وإزهاقه بلمحة بصر.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (١١)

لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم : إنّ حبّ الدنيا والتكالب على الأموال والإنشداد إلى الأرض ، من الأسباب المهمة التي تدفع باتّجاه النفاق ، وهذا ما جعل القرآن يحذّر المؤمنين من مغبّة الوقوع في هذه المصيدة الخطيرة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَاتُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).

ورغم أنّ الأموال والأولاد من النعم الإلهية التي يستعان بها على طاعة الله وتحصيل رضوانه ، لكنّها يمكن أن تتحول إلى سدّ يحول بين الإنسان وخالقه إذا ما تعلق به الإنسان بشكل مفرط.

١٨٧

بعد هذا التحذير الشديد ، يأمر الله تعالى بالإنفاق في سبيله حيث يقول : (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصَّالِحِينَ).

والأمر بالإنفاق هنا يشمل كافّة أنواع الإنفاق الواجبة والمستحبة.

والطريف أنّه جاء في ذيل الآية (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصَّالِحِينَ) لبيان تأثير الإنفاق في صلاح الإنسان.

إنّ هناك عدداً كبيراً من الناس يضطربون كثيراً حينما يجدون أنفسهم على وشك الإنتقال إلى عالم البرزخ ، والرحيل عن هذه الدنيا ، وترك كل ما بنوا فيها من أموال طائلة وملاذ واسعة ، دون أن يستثمروها في تعمير الآخرة ، عندئذ يتذكّر هؤلاء ويطلبون العودة إلى الحياة الدنيا مهما كان الرجوع قصيراً وعابراً ، ليعوّضوا ما فات ، ويأتيهم الجواب (وَلَن يُؤَخّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا).

وفي الآية (٣٤) من سورة الأعراف : (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَايَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ).

ثم تنتهي الآية بهذه العبارة : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). فقد سجل كل شيء عنكم وستجدونه محضراً من ثواب وعقاب.

نهاية تفسير سورة المنافقون

* * *

١٨٨

٦٤

سورة التغابن

محتوى السورة : إنّ سياق الآيات الأخيرة في هذه السورة ينسجم مع السور المدنية ، وصدرها أكثر انسجاماً مع السور المكية ، ولكنّنا نرى أنّها مدنية طبقاً للمشهور.

يمكن تقسيم مباحث هذه السورة إلى عدّة أقسام :

١ ـ بداية السورة التي تبحث في التوحيد وصفات وأفعال الله تعالى.

٢ ـ حثّ الناس على ملاحظة أعمالهم ظاهراً وباطناً ، وأن لا يغفلوا عن مصير الأقوام السابقين.

٣ ـ ثم يجري الحديث عن المعاد ، وأنّ يوم القيامة يوم تغابن ، تغبن فيه جماعة وتفوز فيه جماعة ، واسم السورة مشتقّ من هذا المفهوم.

٤ ـ الأمر بطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وتحكيم قواعد النبوّة.

٥ ـ ويأمر الله تبارك وتعالى في القسم الأخير من السورة بالإنفاق في سبيله ، ويحذّر من الإنخداع بالأموال والأولاد والزوجات ، وتختم السورة بذكر صفات الله تبارك وتعالى.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : من قرأ سورة التّغابن في فريضته كانت شفيعة له يوم القيامة ، وشاهد عدل عند من يجيز شهادتها ، ثم لا تفارقه حتى يدخل الجنة.

١٨٩

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٤) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)(٦)

تبدأ هذه السورة بتسبيح الله ، الله المالك المهيمن على العالمين القادر على كل شيء : (يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ). ويضيف : (لَهُ الْمُلْكُ). والحاكمية على عالم الوجود كافّة ، ولهذا السبب : (وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ).

ثم يشير تعالى إلى أمر الخلقة الملازم لقدرته ، إذ يقول تعالى : (هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ) وأعطاكم نعمة الحرية والإختيار (فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ).

وبناءً على هذا فإنّ الإمتحان الإلهي يجد له معنى عميقاً : (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

ثم يوضّح مسألة الخلقة أكثر بالإشارة إلى الهدف منها ، إذ يقول في الآية اللاحقة : (خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقّ).

فإنّ هذا الخلق الحق الدقيق ينطوي على غايات عظيمة وحكمة بالغة ، حيث يقول تعالى في الآية (٢٧) من سورة ص : (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا).

ثم يتحدث القرآن الكريم عن خلق الإنسان ، ويدعونا بعد آيات الآفاق إلى السير في آفاق الأنفس. يقول تعالى : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ). لقد صوّر الإنسان بأحسن الصور وأجملها ، وجعل له من المواهب الباطنية الفكرية والعقلية ما جعل العالم كلّه ينطوي فيه ، وأخيراً تنتهي الامور إليه تعالى : (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ).

ولأنّ الإنسان خلق لهدف سام عظيم ، فعليه أن يكون دائماً تحت إرادة الباريء وضمن

١٩٠

طاعته ، فإنّه : (يَعْلَمُ مَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).

تجسّد هذه الآية علم الله اللامتناهي في ثلاثة مستويات : علمه بكل المخلوقات ، وما في السماوات والأرض.

ثم علمه بأعمال الإنسان كافّة ، سواء أضمرها أو أظهرها.

والثالث علمه بنيّة الإنسان وعقائده الداخلية التي تحكم قلب الإنسان وروحه.

وممّا لا شك فيه أنّ ذلك سيهيء الإنسان للحركة نحو الرقي والتكامل.

ثم يلفت القرآن الكريم الإنتباه إلى أهمّ عامل في تربية الإنسان وتعليمه ، وهو الإتّعاظ بمصارع القرون وما جرى على الأقوام السالفة حيث يقول : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

ألم تمرّوا على مدنهم المهدّمة وآثارهم المدمّرة في طريقكم إلى الشام والأماكن الاخرى ، فتروا بامّ أعينكم نتيجة كفرهم وظلمهم ، وكان هذا عذابهم في الدنيا وفي الآخرة لهم عذاب أشد.

ثم تشير الآية اللاحقة إلى سبب هذه العاقبة المؤلمة وهو الغرور والتكبر على الأنبياء : (ذلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا). وبهذا المنطق عصوا وكفروا (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا) والله في غنى عن طاعتهم (وَاسْتَغْنَى اللهُ) فطاعتهم لأنفسهم وعصيانهم عليها و (اللهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ).

ولو كفرت كل الكائنات لما نقص من كبريائه تعالى شيء ، كما أنّ طاعتهم لا تزيده شيئاً ، نحن الذين نحتاج إلى كل هذه التعليمات والمناهج التربوية.

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٠)

١٩١

في أعقاب تلك الآيات التي بحثت مسألة الخلقة والهدف من الخلق ، جاءت هذه الآيات لتكمّل البحث الذي يطرح قضية المعاد والقيامة ، حيث يقول تعالى : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا).

فإنّ القرآن الكريم يأمر الرسول الأكرم في أعقاب هذا الكلام بقوله : (قُلْ بَلَى وَرَبّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). لأنّهم في البداية كانوا عدماً وخلقهم الله ، فإعادتهم إلى الوجود مرّة اخرى أيسر ..

ولابدّ أن تكون النتيجة كما قرّرتها الآية اللاحقة وأنّه بعد أن ثبت أنّ المعاد حق : (فَامِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِى أَنزَلْنَا وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

وبناءً على ذلك يأمرهم الباريء أن يعدوا أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح ، ويستعدّوا للبعث ويوم الجزاء.

والإيمان هنا لابدّ أن يرتكز على ثلاثة اصول : (الله) و (الرسول) و (القرآن) التي تتضمن الامور الاخرى جميعاً.

وتصف الآية اللاحقة يوم القيامة بقولها : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ).

فإنّ أحد أسماء يوم القيامة هو يوم الجمع الذي ورد كراراً بتعبيرات مختلفة في القرآن الكريم ، منها ما جاء في الآية (٤٩ و ٥٠) من سورة الواقعة : (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْأَخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ).

ثم يضيف تعالى : (ذلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ). أي اليوم الذي يعرف فيه الغابن بالفوز عن المغبون بالغلبة ، وهو اليوم الذي ينكشف فيه من هم الناس الذين غبنوا وخسرت تجارتهم.

ثم يتحدث القرآن الكريم عن أحوال المؤمنين في ذلك اليوم (يوم القيامة) أو (يوم التغابن) قائلاً : (وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

وستتنزّل النعم الإلهية والبركات بتحقق الشرطين الأساسيين ، الإيمان والعمل الصالح.

ثم يقول تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِايَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

وهناك عاملان أساسيان للشقاء يذكرهما القرآن ، هما الكفر والتكذيب بالآيات الإلهية ، وهما النقيضان الواقعيان للإيمان والعمل الصالح.

١٩٢

(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٣)

كل ما يصيبنا بإذنه وعلمه : في أوّل آية مورد البحث يشير القرآن إلى أصل كلّي عن المصائب والحوادث الأليمة التي تصيب الإنسان ، ولعلّ ذلك يعود إلى أنّ الكفار كانوا دائماً يتذرّعون بوجود المصائب والبلايا لنفي العدالة الإلهية في هذا العالم ، أو يكون المراد أنّ طريق الإيمان والعمل الصالح مقرون دائماً بالمشاكل ، ولا يصل الإنسان المؤمن إلى مرتبة مقاومتها ، وبذلك يتّضح وجه الإرتباط بين هذه الآية وما قبلها.

يقول تعالى أوّلاً : (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ).

فما يجري من حوادث كلّها بإذن الله لا تخرج عن إرادته أبداً.

وعندما نقول يقع ذلك بإرادة الله ، فإنّما نعني الإرادة التكوينية لا الإرادة التشريعية.

من مجموع الآيات التي وردت في هذا المجال ، فنلاحظ أنّها عرضت المصائب على نوعين :

الأوّل : ما يكون جزءاً من طبيعة تكوين الإنسان كالموت والحوادث الطبيعية الاخرى ، وهذه لا يستطيع الإنسان أن يدفعها عنه ، فيقرّر القرآن الكريم بأنّ ذلك يقع بإذن الله.

الثاني : هو تلك المصائب التي تأتي من تقصير الإنسان ومن عمل يده ، وله الدور الأساسي في تحققها ، وهذه يقول القرآن : إنّها تصيبكم بسبب أعمالكم.

ويبشّر القرآن المؤمنين بقوله : (وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ).

فالمؤمن لا تهزمه المصائب ولا ييأس ولا يجزع ، والله يهدي الإنسان حينما يكون شكوراً لنعمه ، صابراً على بلائه ، مستسلماً لقضائه.

وتقول الآية في نهاية المطاف : (وَاللهُ بِكُلّ شَىْءٍ عَلِيمٌ).

وقد يراد من هذا التعبير الإشارة إلى الهدف من وراء هذه الامتحانات والاختبارات الصعبة ، وهو إيقاظ الناس وتربيتهم وإعدادهم لمجابهة الغرور والغفلة ، وسيؤثر ذلك حتماً ويدفع الإنسان إلى طاعة الله ورسوله ، و (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ).

لا يخفى أنّ إطاعة الرسول فرع عن إطاعة الله تعالى وطاعة الرسول تقع في طول طاعة

١٩٣

الله ، فهما في خطّ واحد ، وهذا ما جعله يكرّر كلمة إطاعة.

وإذا ما حاولنا الذهاب أبعد من ذلك ، فإنّ طاعة الله تتعلق باصول القوانين والتشريعات الإلهية ، بينما طاعة الرسول في تفسيرها وفي المسائل التنفيذية وفي التفاصيل ، فعلى هذا تكون الاولى هي الأصل ، والثانية فرع.

ثم يضيف قائلاً : (فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلغُ الْمُبِينُ).

نعم ، إنّ الرسول ملزم بتبليغ الرسالة ، وسيتولّى الباريء جلّ شأنه محاسبتكم ، وهذا نوع من التهديد الخفي الجاد.

ويشير القرآن الكريم في الآية اللاحقة إلى قضية التوحيد في العبودية ، التي تشكّل المبرّر الطبيعي لوجوب الطاعة ، إذ يقول تعالى : (اللهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ). وبما أنّه كذلك إذاً : (عَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

فليس غير الله يستحق العبودية ، لأنّه لا مالك ولا قادر ولا عالم غيره ، والغنى كله له ، وكل ما لدى الآخرين فمنه وإليه ، فيجب الرجوع له والإستعانة به على كل شيء.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٨)

سبب النّزول

في تفسير علي بن إبراهيم في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام في قوله تعالى : (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلدِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ). وذلك أنّ الرجل كان إذا أراد الهجرة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تعلّق به ابنه وامرأته وقالوا : ننشدك الله أن تذهب عنّا وتدعنا فنضبع بعدك ، فمنهم من يطيع أهله فيقيم ، فحذّرهم الله أبناءهم ونساءهم ، ونهاهم عن طاعتهم ، ومنهم من

١٩٤

يمضي ويذرهم ويقول : أما والله لئن لم تهاجروا معي ثم يجمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشيء أبداً ، فلمّا جمع الله بينه وبينهم أمره الله أن يوفي ويحسن ويصلهم فقال : (وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

التّفسير

(أولادكم وأموالكم وسيلة لإمتحانكم :) حذّر القرآن الكريم من مغبّة الوقوع في الحب المفرط للأولاد والأموال ، الذي قد يجرّ إلى عدم الطاعة لله ورسوله حيث قال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِنَّ مِن أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ).

إنّ هناك مظاهر عديدة لهذه العداوة ، فأحياناً يتعلقون بثيابكم ليحرموكم خير الهجرة ، واخرى ينتظرون موتكم ليسيطروا على أموالكم وثروتكم ، وما إلى ذلك.

وتظهر هذه العداوة أحياناً بمظهر الصداقة وتقديم الخدمة ، وحيناً آخر تظهر بسوء النية وخبث المقصد.

ومن أجل أن لا يؤدي ذلك إلى الخشونة في معاملة الأهل ، نجد القرآن يوازن ذلك بقوله في ذيل نفس الآية : (وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

فإذا ندموا واعتذروا والتحقوا بكم فلا تتعرضوا لهم بعد ذلك ، واعفوا عنهم واصفحوا كما تحبّون أن يعفو الله عنكم.

«العفو : بمعنى صرف النظر عن العقوبة ؛ والصفح : في مرتبة أعلى ، ويراد به ترك أي توبيخ ولوم ؛ والغفران : الذي يعني ستر الذنب وتناسيه.

وتشير الآية اللاحقة إلى أصل كلي آخر حول الأموال والأولاد ، حيث تقول : (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلدُكُمْ فِتْنَةٌ). فإذا تجاوزتم ذلك كله فإنّ : (وَاللهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).

وقد تقدم في الآية السابقة الكلام عن عداء بعض الأزواج والأولاد الذين يدعون الإنسان إلى الانحراف وسلوك طريق الشيطان والمعصية والكفر ، وفي هذه الآية نجد الكلام عن أنّ جميع الأموال والأولاد عبارة عن فتنة ، وهذين الأمرين (الأموال والأولاد) من أهمّ وسائل الإمتحان والإبتلاء.

يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في نهج البلاغة : لا يقولنّ أحدكم : أللهم إنّي أعوذ بك من الفتنة لأنّه ليس أحد إلّاوهو مشتمل على فتنة ، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلّات الفتن فإنّ الله سبحانه يقول : (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلدُكُمْ فِتْنَةٌ).

١٩٥

وجاء في الآية اللاحقة : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لّاَنفُسِكُمْ).

لقد أمر الله تعالى أوّلاً بإجتناب الذنوب ، ثم بإطاعة الأوامر ، وتعدّ الطاعة في قضية الإنفاق مقدمة لتلك الطاعة ، ثم يخبرهم أنّ خير ذلك يعود إليكم ولأنفسكم.

وللتأكيد على أهمية الإنفاق ختمت الآية ب (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

«شحّ : بمعنى البخل المرادف للحرص ، أنّ هاتين الخصلتين السيّئتين من أكبر الموانع أمام فوز الإنسان ، وتغلق عليه سبيل الإنفاق وتصدّه عن الخير.

وفي تفسير علي بن إبراهيم عن الفضل بن أبي مرة قال : رأيت أبا عبدالله الصادق عليه‌السلام يطوف من أوّل الليل إلى الصباح وهو يقول : اللهمّ قني شحّ نفسي! فقلت : جعلت فداك ما سمعتك تدعو بغير هذا الدعاء. قال : وأي شيء أشد من شحّ النفس وأنّ الله يقول : (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وللتشجيع على الإنفاق والتحذير من البخل ، يقول تعالى : (إِن تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ).

فالله الخالق الواهب للنعم الذي له كل شيء ، يستقرض منّا ثم يعدنا بأنّه سيعوّضنا أضعاف ذلك ، إنّه لطف ما بعده لطف.

«القرض : في الأصل بمعنى القطع ، ولأنّها اقترنت بكلمة حسن فإنّها تعني فصل المال عن النفس وإنفاقه في الخير.

وعبارة (يَغْفِرْ لَكُمْ) للإشارة إلى أنّ الإنفاق أحد عوامل غفران الذنوب.

ويقول في آخر الآية : (عَالِمُ الْغَيْبَ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). إنّه مطّلع على أعمال عباده ومنها النفقة والبذل في سبيل الله ، وإنّه غير محتاج لكي يستقرض من عباده وإنّما هو إظهار لكمال لطفه ومحبّته لعباده.

نهاية تفسير سورة التّغابن

* * *

١٩٦

٦٥

سورة الطلاق

محتوى السورة : يمكن أن نقسّم مباحث هذه السورة إلى قسمين :

١ ـ الآيات السبع الاول التي تتحدث عن الطلاق وما يرتبط به من امور.

٢ ـ ويشكّل الدافع الحقيقي للقسم الأوّل من السورة ، ويدور الحديث فيه عن عظمة الله ومقام رسوله وثواب الصالحين وجزاء العاصين على شكل مجموعة منسجمة لضمان إجراء هذه المسألة الإجتماعية المهمّة ، ويذكر أنّ لهذه السورة أسماء اخرى كسورة النساء القصرى (على وزن صغرى) مقابل سورة النساء المعروفة النساء الكبرى.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ومن قرأ سورة الطلاق مات على سنّة رسول الله.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) (١)

١٩٧

شرائط الطلاق والإنفصال : تقدم أنّ أهمّ بحث في هذه السورة هو بحث الطلاق ، حيث يشرّع القرآن فيها مخاطباً الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بصفته القائد الكبير للمسلمين ، ثم يوضّح حكماً عموميّاً بصيغة الجمع ، حيث يقول : (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاءَ فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ).

إنّ المراد هو أن تجري صيغة الطلاق عند نقاء المرأة من الدورة الشهرية ، مع عدم المقاربة الزوجية ـ هذا هو أوّل شرط للطلاق.

ثم يذكر الحكم الثاني وهو حساب العدّة ، حيث يقول تعالى : (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ).

«أحصوا : من مادة الإحصاء بمعنى الحساب.

والجدير بالملاحظة هنا أنّ المخاطب في حساب العدّة هم الرجال وليس النساء ، وذلك لوقوع مسؤولية النفقة والسكن على عاتق الرجال ، كما أنّ حق الرجوع عن الطلاق يعود إليهم وليس إلى النساء ، وإلّا فهنّ ملزمات أيضاً في إحصاء العدّة لتعيين تكليفهنّ.

بعد ذلك يدعو الله تعالى الناس جميعاً إلى التقوى واجتناب المعاصي ، حيث يقول تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ). فهو ربّكم الحريص على سعادتكم ، فلا تعصوا له أمراً ولا تتركوا له طاعة ، وخاصة في حساب العدّة والتدقيق بها.

ثم يذكر الحكم الثالث الذي يتعلق بالأزواج والحكم الرابع الذي يتعلق بالزوجات. يقول تعالى : (لَاتُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ).

ورغم أنّ كثيراً من الجهلة لا يلتزمون بهذا الحكم عند الطلاق ، حيث يسمح الرجل لنفسه أن يخرج المرأة بمجرد إجراء صيغة الطلاق ، كما تسمح المرأة لنفسها بالخروج من بيت زوجها والرجوع إلى أقاربها بمجرد ذلك.

ولكن يبقى لهذا الحكم فلسفته المهمّة وحكمته البالغة ، فهو بالإضافة إلى إسداء الإحترام إلى المرأة ، يهيىء أرضية جيّدة للانصراف والإعراض عن الطلاق ، ويؤدي إلى تقوية الأواصر الزوجية.

إنّ عدم الالتزام بهذا الحكم الإسلامي الخطير ، الذي جاء في نصّ القرآن الكريم ، يسبّب كثيراً من حالات الطلاق التي تؤدي إلى الفراق الدائم ، بينما كثيراً ما يؤدي الالتزام بهذا الحكم إلى الرجوع والصلح والعودة إلى الزوجية مجدداً.

ولكن قد تقتضي بعض الظروف إخراج المرأة وعدم القدرة على الاحتفاظ بها في البيت ،

١٩٨

فيجيىء الحكم الخامس الاستثنائي ، إذ يقول تعالى : (إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ).

كأن يكون الزوجان غير منسجمين إطلاقاً ، ويكون أحدهما مثلاً سيء الأخلاق إلى الدرجة التي لا يمكن معها البقاء معه في بيت واحد ، وإلّا ستنشأ مشاكل جديدة وعديدة.

بعد بيان هذه الأحكام يؤكّد القرآن الكريم ـ مرّة اخرى ـ بقوله : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ). لأنّ الغرض من هذه الأحكام هو اسعاد الناس أنفسهم ، والتجاوز على هذه الأحكام ـ سواء من قبل الرجل أو المرأة ـ يؤدّي إلى توجيه ضربة قويّة إلى سعادتهم.

ويقول تعالى في لفتة لطيفة إلى فلسفة العدّة ، والحكمة من تشريعها ، وعدم السماح للنساء المعتدات بالخروج من مقرّهن الأصلي البيت. يقول : (لَاتَدْرِى لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْرًا).

ومع مرور الزمن يهدأ طوفان الغضب والعصبية الذي قد يسبّب الطلاق ، غير أنّ مرور الزمن وحضور الزوجة إلى جانب زوجها خلال هذه الفترة في البيت ، وإظهار ندم ومحبّة كل واحد منهما إلى الآخر ، وكذلك التفكير مليّاً في عواقب هذا العمل القبيح ، خاصة مع وجود الأطفال ، كل هذه الأمور قد تهيىء أرضية صالحة للرجوع عن هذا القرار المشؤوم.

في الكافي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : المطلّقة تكتحل وتختضب وتطيّب وتلبس ما شاءت من الثياب ، لأنّ الله عزوجل يقول : (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْرًا) لعلّها تقع في نفسه فيراجعها.

أبغض الحلال إلى الله الطلاق : إنّ أصل الطلاق من الضروريات التي لا يمكن إلغاؤها بأي وجه من الوجوه ، ولكن ينبغي أن لا يصار إليها إلّافي الحالات التي يتعذر فيها مواصلة العلاقة الزوجية والحياة المشتركة. ولهذا نجد أنّ الطلاق قد ذمّ في روايات إسلامية عديدة ، وذكر على أنّه (أبغض الحلال إلى الله).

ففي الكافي عن الإمام الصادق قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ... وما من شيء أبغض إلى الله عزوجل من بيت يخرّب في الإسلام بالفرقة يعني الطلاق.

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : ما من شيء ممّا أحلّه الله عزوجل أبغض إليه من الطلاق.

والطلاق هو السبب وراء مآس عديدة تحلّ بالعوائل والرجال والنساء ، وأكثر منهم

١٩٩

بالأطفال والأولاد.

(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (٣)

فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف : يشير في الآية مورد البحث ، وكاستمرار للأبحاث المرتبطة بالطلاق التي وردت في الآيات السابقة ، إلى عدّة أحكام اخرى ، إذ يقول تعالى في البداية : (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).

والمراد من عبارة (بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) هو تشرف على الانتهاء ، فإنّ الرجوع بعد نهاية العدة غير جائز ، إلّاأن يكون إبقاؤهن عن طريق صيغة عقد جديدة.

فإنّ هذه الآية تطرح أهمّ الأواصر المرتبطة بالحياة الزوجية وأكثرها نضجاً ، وهي : إمّا أن يعيش الرجل مع المرأة بإحسان ومعروف وتوافق ، أو أن ينفصلا بإحسان.

فالانفصال ينبغي أن يتمّ بعيداً عن الهياج والعربدة ، وعلى اصول صحيحة ، ويجب أن تحفظ فيه الحقوق واللياقات لكي تكون أرضية صالحة ومهيّأة للعودة والرجوع إذا ما قرّرا الرجوع إلى الحياة المشتركة فيما بعد ، فإنّ العودة إذا تمّت في جو مظلم ملبّد بالخلافات والتعديات ، فسوف لا تكون عودة موفّقة تستطيع الاستمرار مدّة طويلة ، هذا إضافة إلى أنّ الانفصال بالطريقة غير اللائقة قد يترك آثاراً ، ليس فقط على الزوج والزوجة ، وإنّما قد تتعدى إلى عشيرة وأقرباء كل منهما ، وتقطع طريق المساعدة لهما في المستقبل.

ثم يذكر القرآن الكريم الحكم الثاني حيث يقول : (وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ).

وذلك لكي لا يستطيع أحد أن ينكر في المستقبل ما جرى.

وفي الحكم الثالث يبيّن القرآن الكريم وظيفة الشهود ، حيث يقول : (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ). حذار أن يكون ميلكم وحبّكم لأحد الطرفين مانعاً عن إظهار الحق.

إنّ تعبير (ذَوَىْ عَدْلٍ مِنكُمْ) دليل على أنّ الشاهدين يجب أن يكونا مسلمين عادلين ومن الذكور.

ولتأكيد الأحكام السابقة جميعاً ، تقول الآية الكريمة : (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ

٢٠٠