مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

٨٣

سورة المطففين

محتوى السورة : بحوث هذه السورة تدور حول محاور خمس ، هي :

١ ـ تحذير وإنذار شديد للمطفّفين.

٢ ـ الإشارة إلى أنّ منشأ الذنوب الكبيرة إنّما يأتي من عدم رسوخ الإيمان بالبعث والمعاد.

٣ ـ عرض لجوانب من عاقبة الفجّار في ذلك اليوم العظيم.

٤ ـ عرض لجوانب ما ينتظر المحسنين في الجنة من نعم إلهية وعطاء رباني جزيل.

٥ ـ الإشارة لآثار استهزاء الكفار بالمؤمنين في الحياة الدنيا ، وانعكاس الحال في يوم القيامة.

فضيلة تلاوة السورة : في المجمع : ابي بن كعب قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ومن قرأها سقاه الله من الرحيق المختوم.

وفي ثواب الأعمال روى صفوان الجمال عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : من قرأ في الفريضة ويل للمطفّفين ، أعطاه الله الأمن يوم القيامة من النار ، ولم تره ، ولا يراها ولم يمر على جسر جهنم ولا يحاسب يوم القيامة.

إنّ كل هذا الفضيلة والبركة ، سينالها من جعل قراءتها مقدمة للعمل على هديها.

٤٠١

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلَا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (٦)

سبب النّزول

قال ابن عباس : لمّا قدم نبي الله المدينة ، كانوا من أبخس الناس كيلاً ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فأحسنوا الكيل بعد ذلك.

وقيل : كان أهل المدينة تجاراً يطففون ، وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة ، فنزلت هذه الآية ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقرأها عليهم وقال : خمس بخمس. قيل يا رسول الله ، وما خمس بخمس؟

قال : ما نقض قوم العهد إلّاسلط الله عليهم عدوّهم ، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلّافشا فيهم الفقر ، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلّافشا فيهم الموت ، ولا طفّفوا الكيل إلّامنعوا النبات واخذوا بالسنين ، ولا منعوا الزكاة إلّاحبس عنهم المطر (١).

التّفسير

ويل للمطففين : بدأ الحديث في هذه السورة بتهديد شديد للمطففين : (وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ).

وتمثل الآية في حقيقة توجيهها ، إعلان حرب من الله عزوجل على هؤلاء الظالمين ، الذين يأكلون حق الناس بهذه الطريقة القذرة.

«المطفّفين : من التطفيف وأصله من الطف ، وهو جوانب الشيء وأطرافه ، والطفيف : الشيء النزر ، والتطفيف : البخس في الكيل والوزن ، ونقص المكيال ، وهو أن لا تملأه إلى أصباره.

«ويل : تأتي بمعاني : حلول الشرّ ، الحزن ، الهلاك ، المشقّة من العذاب ، وادٍ مهيب في نار جهنم ، وتستعمل عادة في اللعن وبيان قبح الشيء ، ورغم صغر الكلمة إلّاأنّها تستبطن

__________________

(١) التفسير الكبير ٣١ / ٨٨.

٤٠٢

مفاهيم كثيرة.

وفي الكافي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : ولم يجعل الويل لأحد حتى يسميه كافراً. قال الله عزوجل : (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

وما نستفيده من هذه الرواية هو : إنّ التطفيف فيه وجه من الكفر.

وتتطرق الآيتين التاليتين إلى طريقة عمل المطففين ، فتقول الآية الاولى : (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ).

وتقول الآية الثانية : (وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ).

وممّا ينبغي الإلتفات إليه ... أنّ الآيات وإن تحدثت عن التطفيف في الكيل والوزن ، ولكن لا ينبغي حصر مفهومها بهما ، فالتطفيف يشمل حتى العدد ، وليس من البعيد أن تكون الآيات قد أشارت إلى إنقاص ما يؤدّي من خدمة مقابل أجر ، كما لو سرق العامل أو الموظف من وقت عمله ، فإنّه والحال هذه سيكون في حظيرة المطففين المذمومين بشدّة في الآيات المباركة المذكورة.

ولا تخلوا من مناسبة أن يجعل أيّ تجاوز لحدود الله ، وأيّ إنقاص أو اخلال في الروابط الإجتماعية أو إنحلال في الضوابط الأخلاقية ، إنّما هو مفردات ومصاديق لهذا المفهوم.

ويهدد القرآن الكريم المطففين ، باستفهام توبيخي : (أَلَا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ.

(لِيَوْمٍ عَظِيمٍ).

يوم عظيم في : عذابه ، حسابه وأهواله.

(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ). أي : إنّهم لو كانوا يعتقدون بالبعث والحساب : وأنّ أعمالهم مسجلة وستعرض كاملة في محكمة العدل الإلهي بخيرها وشرّها ، وكبيرها وحقيرها ، لو كانوا يعتقدون ذلك ، لما ظلموا أحداً ، ولأعطوا الناس حقوقهم كاملة.

وفي الكافي عن جابر عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام بالكوفة عندكم يغتدي كل يوم بكرة من القصر ، فيطوف في أسواق الكوفة سوقاً سوقاً ، ومعه الدّرة على عاتقه وكان لها طرفان وكانت تسمى السبيبة فيقف على أهل كل سوق ، فينادي : يا معشر التجّار اتّقوا الله عزوجل ، فإذا سمعوا صوته عليه‌السلام ألقوا ما بأيديهم ، وأرعوا إليه بقلوبهم ، وسمعوا بآذانهم ، فيقول عليه‌السلام : قدموا الإستخارة ، وتبركوا بالسهولة ، واقتربوا من المبتاعين ، وتزيّنوا بالحلم ، وتناهوا عن اليمين ، وجانبوا الكذب ، وتجافوا عن الظلم ، وانصفوا المظلومين ، ولا تقربوا الربا ، وأوفوا الكيل والميزان ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ، ولا تعثوا في الأرض مفسدين ، فيطوف عليه‌السلام

٤٠٣

في جميع أسواق الكوفة ثم يرجع فيقعد للناس.

(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (٨) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١٠)

وما أدراك ما سجّين : بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن المطففين ، وعن إرتباط الذنوب بعدم الإيمان الراسخ بالمعاد ويوم القيامة ، تشير الآيات أعلاه إلى ما ستؤول إليه عاقبة المسيئين والفجار يوم حلول اليوم المحتوم ، فتقول : (كَلَّا) فليس الأمر كما يظن هؤلاء عن المعاد وأنّه ليس هنا حساب وكتاب ، بل (إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجّينٍ).

وَمَا أَدْرَيكَ مَا سِجّينٌ). (كِتَابٌ مَّرْقُومٌ).

وتوجد نظرتان في تفسير الآية أعلاه :

الاولى : المراد من كتاب : هو صحيفة الأعمال ، التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة ، من أفعال الإنسان إلّاوأحصتها.

والمراد ب سجّين : هو الكتاب الجامع لكل صحائف أعمال الإنسان عموماً.

وسجّين : من السجن ، وهو (الحبس). وأطلق عليه هذا الإسم باعتبار أنّ ما فيه يؤدّي إلى حبس أصحابه في جهنم ، أو أنّ هذا الديوان موجود في قعر جهنم.

على عكس كتاب الأبرار فإنّه في أعلى علّيين .. في الجنة.

الثانية : إنّ سجّين هي جهنم ... وهي سجن كبير لجميع المذنبين ، أو هي محل شديد من جهنم.

وكتاب الفجّار ، أي : ما قرر لهم من عاقبة ومصير.

فيكون التقدير على ضوء هذا التّفسير : إنّ جهنم هي المصير المقرر للمسيئين.

فلا مانع من الجمع بين التّفسيرين ، لأنّ سجّين حسب التّفسير الأوّل بمعنى الديوان الجامع لكل أعمال المسيئين ، وحسب التّفسير الثاني بمعنى : جهنم أو قعرها ، فالأمران على صورة علّة ومعلول ، فإذا كانت صحيفة أعمال الإنسان السيئة في ذلك الديوان الجامع ، فإنّ مقام الديوان هو قعر جهنم.

وتأتي الآية التالية لتقول : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ).

٤٠٤

التكذيب الذي يوقع الإنسان في ألوان من الذنوب ، ومنها التطفيف والظلم.

(الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقَالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (١٧)

بعدما ذكرت آخر آية من الآيات السابقة مصير المكذّبين ، تأتي الآيات أعلاه لتشرح حالهم ، فتقول : (الَّذِينَ يُكَذّبُونَ بِيَوْمِ الدّينِ) ، وهو يوم القيامة.

وتقول أيضاً : (وَمَا يُكَذّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ).

فإنكار القيامة لا يستند على المنطق السليم والتفكير الصائب والإستدلال العقلي ، بل هو نابع من حبّ الإعتداء وارتكاب الذنوب والآثام (الصفة المشبهة أثيم تدل على استمرار الشخص في ارتكاب الذنوب).

وتشير الآية التالية للصفة الثالثة لمنكري المعاد ، فتقول : (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

فبالاضافة لكون منكر المعاد معتدٍ وأثيم ، فهو من الساخرين والمستهزئين بآيات الله ، ويصفها بالخرافات البالية ، وما ذلك إلّامبرر واهٍ لتغطية تهربه من مسؤولية آيات الله عليه.

ولم تختص الآية المذكورة بذكر المبررات الواهية لُاولئك الضالّين المجرمين فراراً من الإستجابة لنداء الدعوة الربانية ، بل ثمّة آيات اخرى تناولت ذلك ؛ منها الآية (٥) من سورة الفرقان : (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً).

ويعرّي القرآن مرّة اخرى جذر طغيانهم وعنادهم ، بالقول : (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ).

فازيل عنها ما جعل الله فيها من نور الفطرة الاولى وذهب صفائها ، ولذا .. فلا يمكن لتلك القلوب التعسة من أن تتقبل نفوذ أنوار الوحي الإلهي إلى دواخلها.

«ران : من الرين على وزن (عين) ، وهو : الصدأ يعلو الشيء الجليل.

وفي الدر المنثور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ العبد إذا أذنب ذنباً نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه ، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه ، فذلك الران الذي ذكر الله في

٤٠٥

القرآن : (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ).

ويستمر البيان القرآني : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ).

وهو أشدّ ما سيعاقبون به ، مثلما منزلة اللقاء بالله ودرجة القرب منه هي من أعظم نعم الأبرار والصالحين وأكثرها لذةً واستئناساً.

و : (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ).

فدخولهم جهنم نتيجة طبيعية لاحتجابهم عن الله تعالى وأثر لازم له ، ومما لا شك فيه إنّ لهيب الحرمان من لقاء الله أشدّ إيلاماً وإحراقاً من نار جهنم.

وتقول الآية التالية : (ثُمَّ يُقَالُ هذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ تُكَذّبُونَ).

يقال لهم ذلك توبيخاً ولوماً لزيادة تعذيبهم روحياً ، وهو ما ينتظر كل من عاند الحق وتخبط في متاهات الضلال.

(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (١٩) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (٢٦) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) (٢٨)

علّيّون في انتظار الأبرار : بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن الفجّار وكتابهم وعاقبة أمرهم ، ينتقل الحديث في هذه الآيات للطرف المقابل لهؤلاء ، فتتحدث عن الأبرار الصالحين وما سيؤلون إليه من حسن مآب ، ويبدأ الحديث بالقول : (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِى عِلّيِّينَ).

«عليّين : جمع (عليّ) على وزن (ملّي) ، وهو المكان المرتفع ، أو الشخص الجالس في مكان مرتفع ، ويطلق أيضاً على ساكني قمم الجبال.

فما عرضناه بخصوص تفسير سجّين يصدق على عليّين أيضاً ، بقولين :

الأوّل : أنّ المقصود من كتاب الأبرار هو صحيفة أعمال الصالحين والمؤمنين ، فجميع الأعمال تجمع في هذا الديوان العام ، وهو ديوان عالي المقام وشريف القدر.

الثاني : أنّ صحيفة أعمال الأبرار تكون في أشرف مكان ، أو في أعلى مكان في الجنة ،

٤٠٦

وهذا يكشف عن علو شأنهم ورفعة كرامتهم عند الله عزوجل.

وذهب قسم من المفسرين إلى أنّ ال كتاب هنا يرمز لمعنى (المصير) ، أو (الحكم القطعي الإلهي) بخصوص نيل الصالحين درجات الجنة العُلى.

ولا يضرّ من الجمع بين التّفسيرين ، فأعمال الأبرار مجموعة في ديوان عام ، ومحل ذلك الديوان في أعلى نقطة من السماء ، ويكون الحكم والقضاء الإلهي كذلك مبنيّ على كونهم في أعلى درجات الجنة.

ولأهمية وعظمة شأن عليّين .. تأتي الآية التالية لتقول : (وَمَا أَدْرَيكَ مَا عِلّيُّونَ) ؛ إنّه مقام من المكانة بحيث يتجاوز حدود التصور والخيال والقياس والظن ، بل وحتى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى ما له من علو شأن ومرتبة مرموقة ، فلا يستطيع من تصور حجم أبعاد عظمته.

ويبدأ البيان القرآني بتقريب أل علّيين إلى الأذهان : كتاب مرقوم.

وهذا على ضوء تفسير علّيين بالديوان العام لأعمال الأبرار ، أمّا على ضوء التفسير الآخر فسيكون معنى الآية : إنّه المصير الحتمي الذي قرره الله وسجّله لهم ، بأن يكون محلهم في أعلى درجات الجنة.

وكذلك : (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ). أي يشاهدونه ، أو عليه يشهدون عليه.

والآيات التالية تظهر بوضوح بأنّ المقربين ، هم نخبة عالية من المؤمنين لهم مقام مرموق ، وبامكانهم مشاهدة صحيفة أعمال الأبرار والصالحين.

فبين الأبرار والمقربين عموم وخصوص مطلق ، حيث كل المقربين أبرار ، وليس كل الأبرار مقربين.

وينتقل الحديث إلى عرض بعض جوانب جزاء الأبرار : (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ).

وينقلنا البيان القرآني لجوانب من نعيم الأبرار : (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ).

ثم يضيف : (تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ).

إشارة إلى أنّ ما يبدي على وجوههم من علائم النشاط والسرور والغبطة ، إن هو إلّا إنعكاس لسعادتهم الحقّة.

وبعد ذكر نِعَم : الأرائك ، النظر ، الإطمئنان والسعادة .. تذكر الآية التالية نعمة شراب الجنة ، فتقول : (يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ).

٤٠٧

إنّه ليس كشراب أهل الدنيا الشيطاني ، بما يحمل من خبث دافع إلى المعاصي والجنون ، بل هو شراب طاهر يذكي العقول ويدب النشاط والصفاء في شاربه.

والرحيق هو الشراب الخالص الذي لا يشوبه أيّ غش أو تلوث ؛ ومختوم : إشارة إلى أنّه أصلي ويحمل كل صفاته المميزة عن غيره من الأشربة ولا يجاريه شراب قطّ ، وهذا بحدّ ذاته تأكيد آخر على خلوص الشراب وطهارته.

وتقول الآية التالية : (خِتَامُهُ مِسْكٌ).

هو شراب طاهر مختوم ، وإذا ما فتح ختمه فتفوح رائحة المسك منه.

(وَفِى ذلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ). التنافس : تمنّي كل واحد من النفسين مثل الشيء النفيس الذي للنفس الاخرى أن يكون له.

وجاء مضمون الآية في الآية (٢١) من سورة الحديد : (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).

ونصل لآخر وصف شراب الأبرار في الجنة : (وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ). أي : أنّه ممزوج بالتسنيم : (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ).

ومن خلال الآيتين أعلاه ، يتّضح لنا بأنّ التسنيم هو أشرف شراب في الجنة ، وموجود في الطبقات العليا من الجنة .. ويجري في الهواء فينصب في أواني أهل الجنة والمقرّبون يشربون منه بشكل خالص ، فيما يشربه الأبرار ممزوجاً بالرحيق المختوم.

وتؤكّد الأحاديث والروايات على أنّ تلك الأشربة خالصة لمن تنزّه عن الولوغ في خمور الدنيا الخبيثة.

ففي وصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأمير المؤمنين عليه‌السلام : ومن ترك الخمر لله سقاه الله من الرحيق المختوم (١).

وروي عن علي بن الحسين عليه‌السلام قال : من أطعم مؤمناً من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة ، ومن سقى مؤمناً من ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم (٢).

وجاء في حديث آخر : من صام لله في يوم صائف ، سقاه الله على الظمأ من الرحيق

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ١٠ / ٢٩٧.

(٢) الكافي ٢ / ٢٠١.

٤٠٨

المختوم (١).

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (٣٢) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (٣٦)

سبب النّزول

ذكر المفسرون سببين لنزول هذه الآيات : الأوّل : روى أنّ عليّاً عليه‌السلام كرم الله تعالى وجهه وجمعاً من المؤمنين معه مروا بجمع من كفار مكة فضحكوا منهم واستخفوا بهم فنزلت الآية (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) قبل أن يصل علي عليه‌السلام كرم الله تعالى وجهه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الثاني : إنّها حكاية لبعض قبائح مشركي قريش ؛ أبي جهل والوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل وأشياعهم ، كانوا يستهزئون بفقرائهم كعمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم من الفقراء (٢).

التّفسير

بالأمس كانوا يضحكون من المؤمنين ... أمّا : بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن النعم التي تنتظر الأبرار والصالحين في الحياة الآخرة ، تبدأ الآيات أعلاه بتبيان جوانب ممّا يعانوه من مصائب ومشاكل في الحياة الدنيا بسبب إيمانهم وتقواهم ...

فالآيات تنقل لنا أساليب الكفار القذرة التي كانوا يتعاملون بها مع المؤمنين البررة ، وقد صنّفتها في أربعة أساليب :

الاسلوب الأوّل : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَءَامَنُوا يَضْحَكُونَ).

فأصل الطغيان والتكبر والغرور والغفلة الذي زُرع في نفوسهم ، يدفعهم للضحك على المؤمنين والإستهزاء بهم والنظر إليهم بسخرية واحتقار.

والاسلوب الثاني : (وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ). فحينما يمرّ المشركون على مجموعة من

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ١٠ / ٢٩٧.

(٢) روح المعاني ٣٠ / ٧٦.

٤٠٩

المؤمنين يغمزون بأعينهم ويشيرون إليهم بالقول :

انظروا إلى هؤلاء الفقراء المعدمين ... إنّهم أصبحوا مقربين عند الله.

انظروا إلى هؤلاء الحفاة العراة ... إنّهم يدّعون نزول الوحي الإلهي لهم.

انظروا إليهم ... فإنّهم يعتقدون بأنّ العظام البالية ستعود إلى الحياة مرّة اخرى! وما شابه ذلك ، من الكلمات الرخيصة والموهنة ...

ويبدو أنّ ممارسة الضحك من قبل المشركين يكون حينما يمرّ المؤمنون من أمامهم وهم متجمعون ، في حين يمارسون الاسلوب الثاني وهو الإشارات الساخرة والغمز واللمز حين مرورهم أمام جمع من المؤمنين ، لعدم تمكنهم من الضحك العلني أمام جمع المؤمنين.

«يتغامزون : من الغمز وهو الإشارة بالجفن أو اليد مع قصد ما في الطرف الآخر من عيوب ، وعبّرت الآية بهذا اللفظ التغامز للإشارة إلى اشتراكهم جميعاً في ذلك الفعل.

ولكنّهم لم يكتفوا بالنيل من المؤمنين في حضورهم من خلال الضحك والتغامز ، بل تعدوا إلى حال غيابهم أيضاً ، حيث تنقل لنا الآية التالية ، الاسلوب الثالث بقولها : (وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ).

وكأنّهم في ضحكهم وتغامزهم قد نالوا فتحاً كبيراً! فتأخذهم نشوة تصور الغفلة والجهل لأن يتباهوا فيما قاموا به من فعل قبيح ، ويبقون على حالة السخرية والإستهزاء بالمؤمنين رغم غياب المؤمنين عنهم ...

«فكهين : جمع (فكه) ، وهي صفة مشبهة من (الفكاهة) بمعنى التمازح والضحك ، مأخوذة من (الفاكهة) ، وكأنّ لذة الخوض في هكذا حديث وسخرية كلذّة أكل الفاكهة ، كما ويطلق على حديث مفرح اسم (فكاهة).

والاسلوب الرابع : (وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هؤُلَاءِ لَضَالُّونَ).

لماذا؟ لأنّهم تركوا ما كان شائعاً من عبادة الأصنام ، والخرافات التي يعتبرونها هداية! واتجهوا نحو الإيمان بالله والتوحيد الخالص.

ولأنّهم باعوا لذّة الدنيا الحاضرة بنعيم الآخرة الغائبة ...

وغالباً ما لا يكون المؤمنون من أثرياء أو وجهاء القوم ، ولذلك يُنظر إليهم باحتقار ويهزأ بدينهم وإيمانهم ، في مجتمع يسوده التمايز الطبقي بشكل راسخ وظاهر. فيقول القرآن الكريم في الآية التالية : (وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ).

٤١٠

فجواب نوح عليه‌السلام عام يشمل حتى اولئك المغرورين في صدر الإسلام ... فما شأنكم وهؤلاء؟! وعليكم أن تنظروا إلى هذا الدين ، وإلى النبي الذي جاء بهذا الدين ، ولا تنظروا إلى من آمن به واتبعه ...

وتبقى أساليب الذين يعادون الحق محدودة في إطار الحياة الدنيا ، ولكن إذا كان يوم القيامة ، فستختلف الحال تماماً : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَءَامَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ).

فيوم القيامة ، يوم مجازات الأعمال وإجراء العدالة الإلهية ، والعدالة تقتضي بأن يستهزأ المؤمنون بالكافرين المعاندين للحق ، والإستهزاء في ذلك اليوم أحد ألوان عذاب الآخرة الأليم الذي ينتظر اولئك المغرورين والمستكبرين.

في الدرّ المنثور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ المستهزئين بالنّاس في الدنيا يرفع لأحدهم يوم القيامة باب من أبواب الجنة ، فيقال : هلم هلم ، فيجيء بكربه وغمّه ، فإذا أتاه أغلق دونه ، ثم يفتح له باب آخر ، فيقال : هلم هلم ، فيجيء بكربه وغمّه ، فإذا أتاه أغلق دونه ، فما يزال كذلك حتى أنّه ليفتح له الباب فيقول : هلم هلم ، فلا يأتيه من أياسه. [وهنا يضحك المؤمنون الذين يطلعون عليه وعلى بقية الكفار من جنّتهم].

وتقول الآية التالية : (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ).

ماذا ينظرون؟ إنّهم ينظرون إلى : نعم الله التي لا توصف ولا تنفد في الجنة ، وإلى كل ما فازوا به من الألطاف الإلهية والكرامة ، وإلى ما أصاب الكفار والمجرمين من العذاب الأليم خاسئين ...

وفي آخر آية السورة يقول القرآن مستفهماً (بإستفهام تقريري) : (هَلْ ثُوّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).

فهذا القول سواء صدر من الله ، أو من الملائكة ، أو من المؤمنين ، فهو في كل الحالات يمثل طعناً واستهزاءاً بأفكار وادعاءات اولئك المغرورون ، الذين كانوا يتصورون أنّ الله سيثيبهم على أعمالهم القبيحة ، ويأتيهم النداء ردّاً على خطل تفكيرهم.

نهاية تفسير سورة المطفّفين

* * *

٤١١
٤١٢

٨٤

سورة الانشقاق

محتوى السورة : لا تخرج السورة عن الإطار العام لسور الجزء الأخير من القرآن الكريم ، فتبدأ بوصف علامات أشراط القيامة وما سيحدث من أحداث مروعة في نهاية العالم وبداية يوم القيامة ، ثم تتحدث ثانياً عن القيامة والحساب وما ستؤول إليه عاقبة كل من الصالحين والمجرمين ، ثم تعطف السورة في المرحلة الثالثة لتوضيح ماهية الأعمال والعقائد التي تجر الإنسان إلى سخط الله وخلوده بالعذاب مهاناً ، وفي الرابعة تنتقل السورة لعرض مراحل سير الإنسان في حياتيه (الدنيا والأخرة) ، وفي آخر مطاف السورة يدور الحديث خامساً عن جزاء الأعمال الحسنة والسيئة.

فضيلة تلاوة السورة : في المجمع : ابي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ومن قرأ سورة انشقت ، أعاذه الله أن يعطيه كتابه وراء ظهره.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٥) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) (٩)

٤١٣

تبدأ السورة في ذكرها لأحداث نهاية العالم المهولة بالإشارة إلى السماء فتقول : (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ). (فتلاشت نجومها وأجرامها واختل نظام الكواكب فيها) ، كإشارة الآيتين (١ و ٢) من سورة الإنفطار التي أعلنت عن نهاية العالم بخرابه وفنائه : (إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ* وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ).

وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن علي عليه‌السلام قال : تنشق السماء من المجرّة. فإنّ النجوم التي نراها في السماء اليوم ، ستنفصل عن المجرة ، وبها تنشق السماء.

وتحكي الآية التالية حال السماء : (وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقَّتْ).

فلا يتوهم أنّ السماء بتلك العظمة بامكانها اظهار أدنى مقاومة لأمر الله .. بل ستستجيب لأمر الله خاضعة طائعة ، لأنّ إرادته سبحانه في خلقه هي الحاكمة ، ولا يحق لأي مخلوق أن يعصي أمره جلّ وعلا.

«أذنت : من الاذن على وزن (افق) ، وهي آلة السمع وتستعار لمن كثر استماعه ، وفي الآية : كناية عن طاعة أمر الآمر والتسليم له.

«حقّت : من الحق ، أي : وحق لها أن تنقاد لأمر ربّها.

وكيف لها لا تسلّم لأمره عزوجل ، وكل وجودها وفي كل لحظة من فيض لطفه ، ولو انقطع عنها بأقل من رمشة عين لتلاشت.

وفي المرحلة التالية تمتد الكارثة لتشمل الأرض أيضاً : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ).

فالجبال ـ كما تقول آيات قرآنية اخرى ـ ستندك وتتلاشى ، وستستوي الأرض في كافة بقاعها ، لتلمّ جميع العباد في عرصتها ، كما أشارت الآيات (١٠٥ ـ ١٠٧) من سورة طه إلى ذلك : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَّاتَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا).

وفي ثالث مرحلة تقول الآية التالية : (وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ).

والمعروف بين المفسرين أنّ الآية تشير إلى إلقاء الأرض بما فيها من موتى فيخرجون من باطن القبور إلى ظاهر الأرض ، مرتدين لباس الحياة من جديد.

وقال بعض المفسرين : إنّ المعادن والكنوز المودعة في الأرض ستخرج مع الأموات أيضاً.

وثمّة احتمال آخر في تفسير الآية ، يقول : إنّ المواد المذابة التي في باطن الأرض ستخرج

٤١٤

نتيجة الزلازل الرهيبة التي تقذفها إلى الخارج ، فتملأ الحفر والمنخفضات الموجودة على سطح الأرض ، وستهدأ الأرض بعد أن يخلو باطنها من هذه المواد.

و... : (وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقَّتْ).

فتسليم الموجودات لما سيحدث من كوارث كونية مدمرة ينم عن جملة امور ، فمن جهة : إنّ الفناء سيعم الدنيا بكاملها بأرضها وسمائها وإنسانها وكل شيء آخر ، ومن جهة اخرى : فالفناء المذكور يمثل انعطافة حادّة في مسير عالم الخليقة ، ومقدمة للدخول في مرحلة وجود جديدة ، ومن جهة ثالثة ، فكل ما سيجري ينبئ بعظمة قدرة الخالق المطلقة ، وخصوصاً في مسألة المعاد.

نعم ، فسيرضخ الإنسان ، بعد أن يرى بام عينيه وقوع تلك الحوادث العظام ، وسيرى حصيلة أعماله الحسنة والسيئة.

وتبيّن الآية التالية معالم طريق الحياة للإنسان مخاطبة له : (يَا أَيُّهَا الْإِنسنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبّكَ كَدْحًا فَمُلقِيهِ).

«الكدح : السعي والعناء الذي يخلق أثراً على الجسم والروح.

والآية تشير إلى أصل أساسي في الحياة البشرية ، فالحياة دوماً ممزوجة بالتعب والعناء ، وإن كان الهدف منها الوصول إلى متاع الدنيا ، فكيف والحال إذا كان الهدف منها هو الوصول إلى رضوان الله ونيل حسن مآب الآخرة؟!

فالحياة الدنيا قد جبلت على المشقة والتعب والألم ، حتى لمن يرفل بأعلى درجات الرفاه المادي.

وما ذكر لقاء الله في الآية إلّالتبيان أنّ حالة التعب والعناء والكدح حالة مستمرة إلى اليوم الموعود ، ولا يتوقف إلّابانتهاء عجلة الحياة الدنيا ، ولا فرق في توجيه معنى اللقاء سواء كان لقاء يوم القيامة والوصول إلى عرصة حاكمية الله المطلقة ، أو بمعنى لقاء جزاء الله من عقاب أو ثواب ، أو بمعنى لقاء ذاته المقدسة عن طريق الشهود الباطني.

نعم ، فراحة الدنيا لا تخلو من تعب ، والراحة الحقة .. هناك ، حيث ينعم الإنسان بين فيافي جنان الخلد.

واستعمال كلمة ربّ فيه إشارة إلى ثمّة إرتباط ما بين سعي وكدح الإنسان من جهة ، وذلك البرنامج التربوي الذي أعدّه الخالق لمخلوقه في عملية توجيه الإنسان نحو الكمال المطلق من جهة اخرى.

٤١٥

وإلى ذلك المطاف ، ستنفصل البشرية إلى فريقين : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا).

فالذين ساروا على هدى المخطط الرباني لحركة الإنسان على الأرض ، وكان كل عملهم وسعيهم لله دائماً ، وكدحوا في السير للوصول إلى رضوانه سبحانه ، فسيعطون صحيفة أعمالهم بيمينهم ، للدلالة على صحة إيمانهم وقبول أعمالهم والنجاة من وحشة ذلك اليوم الرهيب ، وهو مدعاة للتفاخر والإعتزاز أمام أهل المحشر.

أمّا ما المراد من الحساب اليسير؟ فذهب بعض إلى أنّه العفو عن السيئات والثواب على الحسنات وعدم المداقة في كتاب الأعمال.

وفي المجمع : ثلاث من كنّ فيه حاسبه الله حساباً يسيراً ، وأدخله الجنة برحمته. قالوا : وما هي يا رسول الله؟ قال : تعطي من حرمك ، وتصل من قطعك ، وتعفو عمن ظلمك.

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً (١١) وَيَصْلَى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً) (١٥)

الذين يستلمون كتابهم من وراء ظهرهم : بعد أن عرضت الآيات السابقة أحوال فريق أصحاب اليمين ، تأتي الآيات أعلاه لتعرض لنا أحوال الفريق الآخر ، وتوصف لنا كيفية إعطاء كتاب كل منهم مشرعة لتقديم المشاهد الاخرى : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ) ... فيصرخ وينادي الويل لي لقد هلكت : (فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا).

(وَيَصْلَى سَعِيرًا).

وسيأخذ أصحاب اليمين كتبهم بافتخار ومباهاة في يدهم اليمنى ، وكل منهم يقول : (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) (١). ولكن المجرمين سيأخذون كتبهم بأيديهم اليسرى وبسرعة ويضعونها وراء ظهورهم خجلاً وذلاً ، ولكي لا يطّلع أحد على ما فيها ، ولكن ، هيهات .. فكل شيء حينئذ بارز ، كيف لا وهو يوم البروز ...

وتبيّن الآية التالية علة تلك العاقبة المخزية : (إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُورًا).

سروراً ممتزجاً بالغرور ، وغروراً احتوشته الغفلة والجهل بربّ الأرباب سبحانه

__________________

(١) سورة الحاقّة / ١٩.

٤١٦

وتعالى ، فالسرور المقصود في الآية ، هو ذلك السرور المرتبط بشدّة بالدنيا والمنسي لذكر الآخرة.

ويتقرب لنا المعنى من خلال الآية التالية : (إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ).

فاعتقاده الفاسد وظنّه الباطل الدائر على نفي المعاد ، مصدر سروره وغروره وهو ما سيوصله إلى الشقاء الأبدي ، لأنّه ابتعد عن ساحة رضوانه سبحانه وتعالى بعد أن أوقعته شهواته في هاوية الإستهزاء بدعوة الأنبياء عليهم‌السلام الربانية ، حتى أوصلته حالته المرضية تلك لأن يستمر في استهزاءه وسخريته حتى في حال عودته إلى أهله ، كما أشارت الآية (٣١) من سورة المطففين : (وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ).

ولنفي العقائد الضالة ، تقول الآية : (بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا).

فكلّ أعمال الإنسان تسجل وتحصى عليه لتعرض يوم الحساب في صحيفته.

والآية تشارك الآية السابقة : (يَا أَيُّهَا الْإِنسنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبّكَ كَدْحًا فَمُلقِيهِ). في كونها دليلاً على المعاد أيضاً. فتأكيد الآيتين على كلمة ربّ يدل على أنّ الإنسان في سيرة التكاملي صوب ربّه لا ينتهي بالموت ، وأنّ الحياة الدنيا لا يمكنها أن تكون هدفاً وغاية لهذا الخلق العظيم وهذا المسار التكاملي ...

وكذلك كون الله بصيراً بأعمال الإنسان وتسجيلها لابدّ من اعتباره مقدمةً للحساب والجزاء وإلّا لكان عبثاً ، وهذا ما لا يكون.

(فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٢٥)

لمزيد من إيضاح ما ورد في الآيات السابقة بخصوص سير الإنسان التكاملي نحو خالقه سبحانه وتعالى .. تأتي الآيات لتقول : (فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ).

(وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ). أي : وما جمع.

(وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ). أي : إذا اكتمل.

٤١٧

(لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ).

«الشفق : اختلاط ضوء النهار بسواد الليل عند غروب الشمس. ف الشفق هو وقت الغروب.

فقد جاء القسم بالشفق للفت الأنظار إلى ما في هذه الظاهرة السماوية الجميلة من معان ، فمنه تُعلن حالة التحول العام من النهار إلى الليل ، إضافة لما يتمتع به من بهاء وجمال ، وكونه وقت صلاة المغرب.

وأمّا القسم بالليل ، فلما فيه من آثار كثيرة وأسرار عظيمة (وقد تناولنا ذلك مفصلاً).

«ما وسق : إشارة إلى عودة الإنسان والحيوانات والطيور إلى مساكنها عند حلول الليل (بلحاظ كون الوسق بمعنى جمع المتفرق) ، فيكون عندها سكناً عاماً للكائنات الحية ، وهو من أسرار وآثار الليل المهمة.

وينبغي الإلتفات إلى الصلة الموجودة فيما أقسمت الآيات بهن : (الشفق ، الليل ، ما اجتمع فيه ، والقمر في حالة البدر) وجميعها موضوعات مترابطة ويكمل بعضها البعض الآخر ، وتشكل بمجموعها لوحة فنية طبيعية رائعة ، وتحرّك عند الإنسان التأمل والتفكير في عظمة ودقّة وقدرة الخالق في خلقه ، ويمكن للإنسان العاقل بتأمّل هذه التحولات السريعة من التوجّه إلى قدرته جلّ شأنه على المعاد ما يحمل بين طياته من تغيّرات في عالم الوجود.

ثم يأتي جواب القسم الوارد في الآيات أعلاه : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ).

إشارة إلى المراحل والتحوّلات التي يمرّ بها الإنسان في حياته ؛ منها :

تلك الحالات المختلفة التي يمرّ بها الإنسان في كدحه وسيره المضني نحو الله جلّ وعلا ، فيبدأ بحالة الدنيا ، ثم ينتقل إلى عالم البرزخ ومنه إلى القيامة والآخرة.

ومن كل ما سبق .. يخرج القرآن الكريم بنتيجة : (فَمَا لَهُمْ لَايُؤْمِنُونَ).

فمع وضوح أدلة الحق ؛ مثل أدلة : التوحيد ، معرفة الله ، المعاد ، بالإضافة إلى ما من الآفاق في آيات ، وكذلك الآيات التي في نفس الإنسان.

وينتقل بنا العرض القرآني من كتاب (التكوين) إلى كتاب (التدوين) ، فيقول : (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانُ لَايَسْجُدُونَ).

القرآن تتلألأ أنوار الإعجاز من بين جنباته ، ويشهد محتواه على أنّه من الوحي الإلهي وكل منصف يدرك جيداً لدى قراءته له أنّه فوق نتاجات عقول البشر ولا يمكن أن يصدر من إنسان مهما كان عالماً.

٤١٨

وتأتي الآية التالية لتقول : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذّبُونَ).

والتعبير عن ممارسة تكذيب الكافرين في الآية بصيغة المضارع المستمر ، للإشارة إلى تكذيبهم المتعنت المستمر واصرارهم ولجاجتهم وليس تكذيبهم بسبب ضعف أدلة الحق.

وببيان جدّي وتهديد جدّي ، تقول الآية التالية : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ).

فالله تعالى أعلم بدافع ونيّة وهدف ذلك التكذيب ، ومهما تستروا على ما فعلوا فلا يجزون إلّابما كسبت أيديهم.

ثم ... : (فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).

عادةً ما تستعمل البشارة للأخبار السارة ، وجاءت هنا لتنم عن نوع من الطعن والتوبيخ.

والحال ، إنّ البشارة الحقّة للمؤمنين خالصة بما ينتظرهم من نعيم ، وما للكاذبين إلّاالغرق في بحر من الحسرة والندم ، وما هم إلّافي عذاب جهنم يخلدون.

ويستثني المؤمنون من تلك البشرى المخزية : (إِلَّا الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ).

«ممنون : من المنّ وهو القطع والنقصان ، (ومنه المنون بمعنى الموت).

وإذا ما جمعنا كل هذه المعاني ، فستكون النعم الاخروية على عكس الدنيوية الناقصة والمنقطعة والمقترنة بمنّة هذا وذاك ، حيث إنّها لا تنقطع ولا تنقص وليس فيها منّة.

أمّا الإستثناء الذي ورد في الآية السابقة ، ففيه بحث : هل أنّه متصل أو منقطع؟

والأقرب لسياق الآيات أن يكون الإستثناء متصلاً ، وفي هذه الحال يكون هدفه فتح الطريق أمام الكفار للعودة وتشجيعهم على ذلك ، لأنّ الآية تقول : إنّ العذاب الأليم المذكور في الآية السابقة سوف لا يصيب مَن يؤمن منهم ويعمل صالحاً وعلاوة على ذلك ، سيكون له أجر غير ممنون.

نهاية تفسير سورة الإنشقاق

* * *

٤١٩
٤٢٠