مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

٨٥

سورة البروج

محتوى السورة : بملاحظة كون السورة مكية ، فيظهر إنّها نزلت لتقوية معنويات المؤمنين لمواجهة تلك الظروف الصعبة ، ولترغيبهم على الصمود أمام الصعاب والثبات على الإيمان وترسيخه في القلوب.

وتناولت السورة قصة أصحاب الاخدود ، الذين حفروا خندقاً وسجّروه بالنيران ، وهددوا المؤمنين بإلقائهم في تلك النار إن لم يعودوا إلى كفرهم! وأحرقوا مجموعة منهم بالنار وهم أحياء ، ومع ذلك لم يرجعوا عن دينهم ..

وتَعِدُ السورة في بعض آياتها بعذاب جهنم الأليم لُاولئك الذين يؤذون المؤمنين ويعذبونهم على إيمانهم ، وتذمهم ذماً شديداً ، في حين تبشر المؤمنين الصابرين بالجنة والفوز بنعيمها.

وفي جانب آخر من السورة ، تُعرض لنا مقتطفات من قصّتي فرعون وثمود وقوميهما الجناة الطغاة ، وما آلوا إليه من ذُلّ وهلاك ، كل ذلك تذكيراً لكفار مكة الذين هم أضعف قوّة وأقل جنداً من اولئك ، فعسى أن يرعووا عمّا هم فيه من جهة ، وتسلية لقلب الحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن كان معه من المؤمنين من جهة اخرى.

وتختم السورة في آخر مقاطعها بالإشارة إلى عظمة القرآن الكريم ، وإلى الأهمية البالغة لهذا الوحي الإلهي.

٤٢١

وسمّيت بسورة البروج بلحاظ ذكر الكلمة في أوّل آية من السورة بعد ذكر البسملة.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير البرهان : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : من قرأ هذه السورة أعطاه الله من الأجر بعدد كل من اجتمع في جمعة وكل من اجتمع يوم عرفة عشر حسنات ، وقراءتها تنجّي من المخاوف والشدائد.

وبملاحظة أنّ أحد تفاسير (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) ـ من آيات السورة ـ هو يومي الجمعة وعرفة من جهة ، وأنّ السورة حكاية مقاومة وبسالة المؤمنين السابقين أمام الشدائد والضغوط من جهة اخرى ، وبملاحظة ذلك سيتّضح لنا التناسب الموجود ما بين هذا الثواب الجزيل لمن يقرءها وبين محتوى السورة ، وأنّ الأجر والثواب إنّما يحصل لمن قرأها بتأمل معانيها ، وعمل على ضوء هديها.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(٩)

ابتدأت السورة بـ : (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ).

والأبراج السماوية : إمّا أن يكون المراد منها النجوم الزاهرة والكواكب المنيرة في السماء ، أو المجموعات من النجوم تتخذ مع بعضها شكل شيء معروف في الأرض ، وتسمى ب الصور الفلكية وهي إثنا عشر برجاً ، وفي كل شهر تحاذي الشمس أحد هذه البروج ، (طبيعي أنّ الشمس لا تتحرك تلك الحركة ، وإنّما الأرض تدور حول الشمس فيبدو لنا تغيّر موضع الشمس بالنسبة إلى الصور الفلكية أو الأبراج).

وتقول الآية الثانية : (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ).

اليوم الذي وعد به جميع الأنبياء والمرسلين عليهم‌السلام والذي تحدثت عنه مئات الآيات القرآنية المباركة.

وفي القسم الثالث والرابع يقول : (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ).

٤٢٢

وقد تعرض المفسرون للآية بمعان متباينة ، وصلت إلى ثلاثين معنى ، وأدناه أهم ما ذُكر منها :

١ ـ إنّ الشاهد : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ والمشهود : يوم القيامة.

٢ ـ الشاهد : ما سيشهد على أعمال الناس ، كأعضاء بدنه ؛ والمشهود : الناس وأعمالهم.

٣ ـ الشاهد : يوم الجمعة ؛ والمشهود : يوم عرفة.

٤ ـ الشاهد : عيد الأضحى ؛ والمشهود : يوم عرفة.

٥ ـ الشاهد : الأيام والليالي ؛ والمشهود : بنو آدم ، حيث تشهد على أعمالهم.

٦ ـ الشاهد : الملائكة ؛ والمشهود : القرآن.

٧ ـ الشاهد : الحجر الأسود ؛ والمشهود : الحاج.

٨ ـ الشاهد : الخلق ؛ والمشهود : الحق.

٩ ـ الشاهد : هذه الامّة ؛ والمشهود : سائر الامم.

١٠ ـ الشاهد : الأنبياء عليهم‌السلام ؛ والمشهود : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

١١ ـ الشاهد : النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ والمشهود : أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وإذا ما أدخلنا الآية في سياق الآيات السابقة لها ، فسنصل إلى أنّ الشاهد هو كل من سيقوم بالشهادة يوم القيامة ؛ كشهادة : النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكل نبيّ على امّته ، الملائكة ، بالإضافة إلى شهادة : أعضاء بدن الإنسان ، الليل والنهار ... إلخ ؛ والمشهود : الناس أو أعمالهم.

وبهذا يُدغم الكثير من التفاسير المذكورة مع بعضها لتشكل مفهوماً واسعاً للآية المباركة ، لأنّ الشاهد ينطبق على كل من وما يشهد ، وكذا المشهود ينطبق على كل من وما يشهد عليه ، وما ورودهما بصيغة النكرة إلّالتعظيمهما.

فالسماء وما فيها من بروج تحكي عن نظام وحساب دقيق ، واليوم الموعود يوم حساب وكتاب دقيق أيضاً ، وشاهد ومشهود أيضاً وسيلة للحساب الدقيق على أعمال الإنسان ، وكل ذلك لتذكير الظالمين الذين يعذّبون المؤمنين ، عسى أن يكّفوا عن فعلتهم السيئة ، ولإعلامهم بأنّ كل ما يفعله الإنسان يسجل عليه وبحساب دقيق جدّاً وسيواجه بها في اليوم الموعود بين عتبات ساحة العدل الإلهي.

وبعد هذه الأقسام الأربع ، تقول الآية التالية : (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ).

٤٢٣

والمقصود هم الظالمين لا من القي في النار ، فالجملة إنشائية والمراد هو اللعن والدعاء عليهم.

والاخدود مليء بالنار الملتهبة : (النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ).

وكان الظالمون جالسون على حافة الاخدود يشاهدون المعذبين فيها : (إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ).

(وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ).

«الاخدود : شقّ في الأرض مستطيل غائص ، والجمع أخاديد ، وأصل ذلك من خدّ الإنسان ، وهو تقعر بسيط يكتنف الأنف من اليمين والشمال (وعند البكاء تسيل الدموع من خلاله) ثم اطلق مجازاً على الخنادق والحفر في الأرض ، ثم صار معنى حقيقياً لها.

أمّا من هم الذين عذّبوا المؤمنين؟ ومتى؟ إنّهم حفروا خندقاً عظيماً ووجّروه بالنيران ، وأوقفوا المؤمنين على حافة الخندق وطلبوا منهم واحداً واحداً بترك إيمانهم والرجوع إلى الكفر ، ومن رفض القي بين ألسنة النيران حياً ليذهب إلى ربّه صابراً محتسباً!

«الوقود : ما يجعل للإشتعال ، وذات الوقود : إشارة إلى كثرة ما فيها من الوقود ، وشدّة اشتعالها ، فالنار لا تخلو من وقود ، ولعل ما قيل من أنّ ذات الوقود بمعنى ذات اللهب الشديد ، يعود للسبب المذكور.

والآيتان : (إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) ، تشيران إلى ذلك الجمع من الناس الذين حضروا الواقعة ، وهم ينظرون إلى ما يحدث بكل تلذذ وبرود وفي منتهى قساوة القلب (ساديّة).

وتقول الآية التالية : (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).

وذكر العزيز الحميد جواب لما اقترفوا من جريمة بشعة ، واحتجاج على اولئك الكفرة ، إذ كيف يكون الإيمان بالله جرم وذنب؟! وهو أيضاً تهديد لهم بأن يأخذهم الله العزيز الحميد جزاء ما فعلوا ، أخذ عزيز مقتدر.

وتأتي الآية الاخرى لتبيّن صفتين اخرتين للعزيز الحميد : (الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلّ شَىْءٍ شَهِيدٌ).

فالصفات الأربعة المذكورة ، تمثل رمز معبوديته جلّ وعلا ، فالعزيز والحميد .. ذو الكمال المطلق ، ومالك السماوات والأرض والشهيد على كل شيء .. أحقّ أن يُعبد وحده دون غيره ، لا شريك له.

٤٢٤

إضافة إلى كونها بشارة للمؤمنين ، بحضور الله سبحانه وتعالى ورؤيته لصبرهم وثباتهم على الإيمان ، فيدفع فيهم الحيوية والنشاط والقوة.

ومن جهة اخرى تهديد للكفار ، وإفهامهم بأنّ عدم منع إرتكاب مثل هذه الجرائم الخبيثة ، ليس لعجز أو ضعف منه جلّ شأنه ، وإنّما ترك العباد يفعلون ما يرونه هم ، امتحاناً لهم ، وسيريهم في عاقبة أمرهم جزاء ما فعلوا ، وما للظالمين إلّاالعذاب المهين.

بحث

من هم أصحاب الاخدود؟ إنّ الاخدود هو الشق العظيم في الأرض ، أو الخندق .. وهو في الآية إشارة إلى تلك الخنادق التي ملأها الكفار ناراً ليردعوا فيها المؤمنين بالتنازل عن إيمانهم والرجوع إلى ما كانوا عليه من كفر وضلال.

وكان سببهم أنّ الّذي هيج الحبشة على غزوة اليمن ذونواس وهو آخر من ملك من حِمير (١) تهوّد ، واجتمعت معه حمير على اليهودية ، وسمّى نفسه يوسف ، وأقام على ذلك حيناً من الدهر ، ثم اخبر أنّ بنجران [شمال اليمن] بقايا قوم على دين النصرانية ، وكانوا على دين عيسى عليه‌السلام وعلى حكم الإنجيل ، ورأس ذلك الدين عبدالله بن بريا فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم ويحملهم على اليهودية ، ويدخلهم فيها ، فسار حتى قدم نجران ، فجمع من كان بها على دين النصرانية ، ثم عرض عليهم دين اليهودية والدخول فيها ، فأبوا عليه ، فجادلهم وعرض عليهم وحرص الحرص كله ، فأبوا عليه وامتنعوا من اليهودية والدخول فيها ، واختاروا القتل ، فخد لهم اخدوداً جمع فيه الحطب ، وأشعل فيه النار ، فمنهم من احرق بالنار ، ومنهم من قُتل بالسيف ، ومُثّل بهم كل مثلة. فبلغ عدد من قُتل واحرق بالنار عشرين ألفاً (٢).

وأضاف بعض آخر : إنّ رجلاً من نصارى نجران تمكّن من الهرب ، فالتحق بالروم وشكا ما فعل (ذو نواس) إلى قيصر.

فقال قيصر : إنّ أرضكم بعيدة ، ولكنّي سأكتب كتاباً إلى ملك الحبشة النصراني وأطلب منه مساعدتكم.

ثم كتب رسالته إلى ملك الحبشة ، وطلب منه الإنتقام لدماء المسيحيين التي اريقت في

__________________

(١) حمير : إحدى قبائل اليمن المعروفة.

(٢) تفسير علي بن ابراهيم القمي ٢ / ٤١٣.

٤٢٥

نجران ، فلما قرأ الرسالة تأثّر جدّاً ، وعقد العزم على الإنتقام لدماء شهداء نجران.

فأرسل كتائبه إلى اليمن والتقت بجيش (ذو نواس) ، فهزمته بعد معركة طاحنة ، وأصبحت اليمن ولاية من ولايات الحبشة (١).

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) (١٦)

العذاب الإلهي للمجرمين : بعد ذكر عظم جريمة أصحاب الاخدود التي ارتكبت ضد المؤمنين بحرقهم وهم أحياء ، يشير القرآن الكريم في هذه الآيات إلى ما ينتظر اولئك الجناة من عذاب إلهي شديد ، ويشير أيضاً إلى ما اعدّ للمؤمنين من ثواب ونعيم جراء صبرهم وثباتهم على إيمانهم بالله. فتقول الآية الاولى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ).

«فتنوا : من مادة فتن وهو إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته ، وقد استعملت الفتنة بمعنى (الإختبار) ، وبمعنى (العذاب والبلاء) ، وبمعنى (الضلال والشرك) أيضاً ؛ وهي في الآية بمعنى (العذاب).

(ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) : تدلّ على أنّ باب التوبة مفتوح حتى لُاولئك الجناة المجرمين ، وتدلّ أيضاً على مدى لطف الباري جلّ وعلا على الإنسان حتى وإن كان مذنباً ، وفي الجملة تنبيه لأهل مكة ليسارعوا في ترك تعذيب المؤمنين ويتوبوا إلى الله توبة نصوح.

وقد ورد في الآية لونين من العذاب الإلهي : (عَذَابُ جَهَنَّمَ) و (عَذَابُ الْحَرِيقِ) ، للإشارة إلى أنّ لعذاب جهنم ألوان عديدة ، منها (عذاب النار) ، وتعيين عذاب الحريق ، للإشارة أيضاً إلى أنّ الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات وأحرقوهم بالنار ، سوف يجازون بذات أساليبهم ، ولكن أين هذه النار من تلك؟!

__________________

(١) قصص القرآن ، للبلاغي / ٢٨٨.

٤٢٦

وتعرض لنا الآية التالية ما سيناله المؤمنون من ثواب : (إِنَّ الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ).

وأيّ فوز أرقى وأسمى من الوصول إلى جوار الله ، والتمتع في نعيمه الذي لا يوصف! نعم ، فمفتاح ذلك الفوز العظيم هو (الإيمان والعمل الصالح) ، وما عداه فروع لهذا الأصل.

ويعود القرآن مرّة اخرى لتهديد الكفار الذين يفتنون المؤمنين ، فيقول : (إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ).

ولا تظنوا بأنّ القيامة أمر خيالي ، أو إنّ المعاد من الامور التي يشك في صحة تحققها ، بل : (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ).

«البطش : تناول الشيء بصولة وقهر ، وباعتباره مقدمة للعقاب ، فقد استعمل بمعنى العقاب والمجازاة ؛ ربّك : تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتأكيد دعم الله اللامحدود له.

ثم يعرض لنا القرآن الكريم خمسة أوصاف للباري جلّ شأنه : (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ). الذي يغفر للتائبين ويحب المؤمنين.

(ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ). صاحب الحكومة المقتدرة على عالم الوجود وذو المجد والعظيمة. (فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ).

فذكر هذه الأوصاف بعد ما تضمّنته الآيات السابقة من تهديد ووعيد ، يبيّن أنّ طريق العودة إلى الله سالك وأنّ باب التوبة مفتوح لكل من ولغ في الذنوب ، فالباري جلّت عظمته في الوقت الذي هو شديد العقاب فهو الغفور الرحيم أيضاً.

(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (٢٢)

(ألم تر ما حلّ بجيش فرعون وثمود :) فيما تعرضت الآيات السابقة لقدرة الله المطلقة وحاكميته ، ولتهديد الكفار الذين يفتنون المؤمنين .. تتعرض الآيات أعلاه لما يؤكّد هذا التهديد ، فتخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلة : (هَلْ أَتَيكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ). تلك الكتائب الجرارة التي وقفت بوجه أنبياء الله بتصورها الساذج بأنّها ستقف أمام قدرة الله عزوجل.

وتشير إلى نموذجين واضحين ، أحدهما من غابر الزمان ، والآخر في زمن قريب من صدر دعوة الإسلام : (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ).

٤٢٧

فأحدهما ملك الشرق والغرب ، والآخر وصلت مدنيته لأن يحفر الجبال لبناء البيوت والقصور الفخمة ، ولهما من الجبروت ما لم يستطع أحد من الوقوف بوجههم ، ولكن العزيز الجبار أهلكهم بالماء والهواء ، مع ما لهاتين المادتين من الوسائل المهمة المستلزمة لأساسيات حياة الإنسان.

وتقول الآية التالية : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى تَكْذِيبٍ).

فآيات ودلائل الحق ليست بخافية على أحد ، ولكن العناد واللجاجة هما اللذان يحجبان عن رؤية طريق الحق والإيمان.

وكأنّ بل تشير إلى أنّ عناد وتكذيب أهل مكة أشدّ وأكثر من قوم فرعون وثمود وهم مشغولون دائماً بتكذيب الحق وانكاره ويستخدمون كل وسيلة في هذا الطريق.

وعليهم أن يعلموا بقدرة الله : (وَاللهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ).

فلا يدل الإمهال على الضعف أو العجز ، ولا يعني عدم تعجيل إنزال العقوبة الإلهية بأنّهم قد خرجوا عن قدرته جلّ شأنه.

وتقول الآية التالية : (بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ). ذو مكانة سامية ومقام عظيم.

(فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ). لا تصل إليه يد العبث ، والشيطنة ، ولا يصيبه أيّ تغيير أو تبديل ، أو زيادة أو نقصان.

فلا تبتئس يا محمّد بما ينسبونه إليك افتراءً ، كأن يتهموك بالشعر ، السحر ، الكهانة والجنون ... فاصولك ثابتة ، وطريقك نيّر ، والقادر المتعال معك.

«لَوح : هو الصفحة العريضة التي يكتب عليها ، ويراد هنا : الصفحة التي كتب فيها القرآن ، لكنّها ليست كالألواح المتعارفة عندنا ، بل (وعلى قول ابن عباس) : إنّ اللوح المحفوظ طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب.

ويبدو أنّ اللوح المحفوظ ، هو علم الله الذي يملاء الشرق والغرب ، ومصان من أيّ اختلاق أو تحريف.

نهاية تفسير سورة البروج

* * *

٤٢٨

٨٦

سورة الطارق

محتوى السورة : تدور مواضيع السورة حول محورين :

١ ـ المعاد والقيامة.

٢ ـ القرآن الكريم وأهميته القيمة.

تبتدأ السورة بجملة أقسام تبعث على التأمل والتفكير ، ثم تشير إلى المراقبين الإلهيين على الإنسان.

وتنتقل السورة لإثبات إمكانية المعاد من خلال الإشارة إلى كيفية خلق الإنسان من نطفة. فالقادر على خلق الإنسان من نطفة نتنة لقادر على إعادة حياته بعد موته.

وتعرض لنا السورة بعد ذلك معالم المرحلة التالية من خلال تبيان بعض ملامح يوم القيامة ، ثم تذكر جملة أقسام اخرى للتأكيد على أهمية القرآن ، ومن ثم نختم بإنذار الكفار بالعذاب الإلهي.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان : ابي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من قرأها أعطاه الله بعدد كل نجم في السماء عشر حسنات.

إنّ التأمل بمحتوى السورة والعمل على ضوئها هو الذي يضمن حصول ثوابها ، وحركة اللسان الفارغة عن كل محتوى وتطبيق ، لا تغني عن الحق شيئاً.

٤٢٩

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (٩) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ) (١٠)

تبتدأ السورة ـ كمثيلاتها من سور الجزء الأخير من القرآن الكريم ـ بعدّة أقسام بليغة تبعث على التأمل ، وهي مقدمة لبيان أمر مهم.

(وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ) .. (وَمَا أَدْرَيكَ مَا الطَّارِقُ) .. (النَّجْمُ الثَّاقِبُ).

«الطارق : من (الطرق) وهو الضرب ، ولهذا قيل (الطريق) لما تطرقه أرض المشاة.

ويفسّر القرآن الكريم الطارق بقوله : (النَّجْمُ الثَّاقِبُ). النجم اللامع الذي مع علوّه الشاهق وكأنّه يريد أن يثقب سقف السماء ، وكأنّ نوره المتشعشع يريد أن يثقب ستار الليل الحالك ، فيجلب الأنظار بميزته هذه.

ولنرى لأي شيء كان هذا القسم : (إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ).

يحفظ عليه أعماله ، وتسجل كل أفعاله ، ليوم الحساب.

فلا تظنوا بأنّكم بعيدون عن الأنظار ، بل أينما تكونوا فثمّة عليكم ملائكة مأمورين يسجلون كل ما يبدر منكم .. وهذا ما له الأثر البالغ في عملية إصلاح وتربية الإنسان.

ثم يستدل القرآن الكريم على المعاد في مقابل من يقول باستحالة المعاد : (فَلْيَنظُرِ الْإِنسنُ مِمَّ خُلِقَ).

وبهذا ... أخذ القرآن الكريم بأيدي الجميع وأرجعهم إلى أوّل خلقهم ، مستفهماً عمّا خلق منه الإنسان.

وبدون أن ينتظر الجواب من أحد يجيب القرآن على استفهامه : (خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ). وهو ماء الرجل الذي تسبح فيه الحيامن ، ويخرج بدفق.

ويستمر في تقريب المراد : (يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ).

«الصلب : الظهر ؛ والترائب : جمع (تريبة) ، وهي عظام الصدر العليا وضلوعه.

فالآيات تشير إلى ماء الرجل دون المرأة ، بقرينة ماء دافق ، وهذا لا يصدق إلّاعلى

٤٣٠

الرجل ، وعليه يعود الضمير في يخرج.

والصلب والترائب هما ظهر الرجل وقسمه الأمامي ، لأنّ ماء الرجل إنّما يخرج من هاتين المنطقتين.

وهذا التفسير واضح ، ينسجم مع ما ورد في كتب اللغة بخصوص المصطلحين.

كما ويمكن أن تكون الآية قد أشارت إلى حقيقة علمية مهمة لم يتوصل إلى اكتشافها بعد ، وربّما المستقبل سيكشف ما لم يكن بالحسبان.

ونصل مع القرآن إلى نتيجة ما تقدم من الذكر الحكيم : (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ).

فالإنسان تراباً قبل أن يكون نطفة ، ثم مرّ بمراحل عديدة مدهشة حتى أصبح إنساناً كاملاً ، وليس من الصعوبة بحال على الخالق أن يعيد حياة الإنسان بعد أن نخرت عظامه وصار تراباً ، فالذي خلقه من التراب أوّل مرّة قادر على إعادته مرّة اخرى.

وتصف لنا الآية التالية ذلك اليوم الذي سيرجع فيه الإنسان : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ).

«تبلى : من البلوى ، بمعنى الإختبار والإمتحان ، وهو هنا الظهور والبروز ، لأنّ الإمتحان يكشف عن حقيقة الأشياء ويظهرها.

«السرائر : جمع (سريرة) ، وهي صفات ونوايا الإنسان الداخلية.

نعم ، فأسرار الإنسان الدفينة ستظهر في ذلك اليوم ، يوم البروز ويوم الظهور ، فسيظهر على الطبيعة كل من : الإيمان ، الكفر ، النفاق ، نيّة الخير ، نيّة الشر ، الإخلاص ، الرياء ...

وسيكون ذلك الظهور مدعاة فخر ومزيد نعمة للمؤمنين ، ومدعاة ذلّة ومهانة وحسرة للمجرمين ...

وما أشد ما سيلاقي من قضى وطراً من عمره بين الناس بظاهر حسن ونوايا خبيثة. وما أتعسه حينما تهتك أقنعته المزيفة فيظهر على حقيقته أمام كل الخلائق.

ولكن أشدّ صعاب ذلك اليوم على الإنسان : (فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ).

فلا يملك تلك القوّة التي تخفي أعماله ونيّاته ، وليس له ذلك الظهير الذي يعينه عن الخلاص من عذاب الله سبحانه وتعالى.

(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) (١٧)

٤٣١

بعد أن تضمّنت الآيات السابقة استدلالاً على المعاد ، بطريق توجيه الإنسان إلى بداية خلقه ، تعود هذه الآيات إلى المعاد مرّة اخرى ، لتشير إلى بعض الأدلة الاخرى عليه فتقول : (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) ... (وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) ... (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) ... (وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ).

«الرجع : من الرجوع بمعنى العود ، ويطلق على الأمطار اسم (الرجع) لأنّها تبدأ من مياه الأرض والبحار ، ثم تعود إليها تارة اخرى عن طريق الغيوم.

فالقسمان يشيران إلى إحياء الأراضي الميتة بالأمطار ، وهذا ما تكرر ذكره في القرآن الكريم كدليل على إمكانية المعاد ، كما في قوله تعالى في الآية (١١) من سورة ق : (وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذلِكَ الْخُرُوجُ).

وتسلّي الآيات التالية قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين من جهة ، وتتوعد أعداء الإسلام من جهة اخرى : (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا).

فالكفار يخططون من جهة ، وأنا أخطط لإحباط تلك الخطط من جهة اخرى .. (وَأَكِيدُ كَيدًا. فَمَهّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) ، حتى يروا عاقبتهم.

نعم ، إنّهم دوماً يكيدون في حربك والحرب ضد دينك.

فتارة بالإستهزاء ...

واخرى بالحصار الإقتصادي ...

ومرّة بتعذيب المؤمنين ...

ويقولون عنك : ساحراً ، كاهناً ، مجنوناً ...

ويقولون لك : أبعد الفقراء والمستضعفين عنك حتى نتّبعك

ومراد الآية هو كيد الأعداء ، وقد تعرضنا لبعض نماذجه أعلاه.

والمقصود بالكيد الإلهي إنّه تلك الألطاف الإلهية التي غمرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن معه من المؤمنين ، وما كان يصيب أعداء الإسلام من فشل مخططاتهم وخيبة مساعيهم.

هذه الآية درس للمسلمين في الكيفية التي ينبغي العمل بها عند مواجهة أعداءهم ، وخصوصاً ماإذا كانوا أعداءً أقوياء ، فلابدّ من الصبر والتأنّي والدقّة في حساب خطوات المواجهة ، وينبغي عدم التسرع في العمل ، وكذا عدم تنفيذ القرارات غير المدروسة.

نهاية تفسير سورة الطّارق

* * *

٤٣٢

٨٧

سورة الأعلى

محتوى السورة : تحتوي السورة على قسمين من المواضيع :

١ ـ يحوي خطاباً إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يأمره الباري سبحانه فيه بالتسبيح وأداء الرسالة ، ثم ذكر سبعاً من صفات الله عزوجل ، لها صلة ربط بالأمر الرباني إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٢ ـ يتحدث عن المؤمنين الخاشعين ، والكافرين الأشقياء ، ويتناول باختصار العوامل التي تؤدي إلى كل من السعادة والشقاء الحق.

وفي آخر السورة ، يأتي التأكيد على أنّ ما جاء في هذه السورة ليس هو حديث القرآن الكريم فقط ، بل وتناولته كتب وصحف الأوّلين أيضاً ، كصحف إبراهيم وموسى عليهما‌السلام.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان ابي بن كعب قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قرأها أعطاه الله من الأجر عشر حسنات بعدد كل حرف أنزله الله على إبراهيم وموسى ومحمّد عليهم‌السلام.

وعن أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام قال : من قرأ سبّح اسم ربّك الأعلى في فريضة أو نافلة قيل له يوم القيامة : ادخل الجنة من أيّ أبواب الجنة شئت.

فيبدو أنّ السورة من الأهمية بحيث روي عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحب هذه السورة (سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الْأَعْلَى).

٤٣٣

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (٤) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى) (٥)

تسبيح الله : تبدأ السورة بخلاصة دعوة الأنبياء عليهم‌السلام ، حيث التسبيح والتقديس أبداً لله الواحد الأحد ، فتخاطب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقول : (سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الْأَعْلَى).

فمراد الآية أن لا يوضع اسمه جلّ شأنه في مصاف أسماء الأصنام ، ويجب تنزيه ذاته المقدسة من كل عيب ونقص ، ومن كل صفات المخلوق وعوارض الجسم ، أي أن لا يحد.

(الْأَعْلَى) : أي الأعلى من كل : أحد ، تصوّر ، تخيّل ، قياس ، ظن ، وهم ، ومن أي شرك بشقيه الجلي والخفي.

(رَبّكَ) : إشارة إلى أنّه غير ذلك الرب الذي يعتقد به عبدة الأصنام.

وبعد ذكر هاتين الصفتين (الربّ والأعلى) ، تذكر الآيات التالية خمس صفات تبيّن ربوبية الله العليا ... : (الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى).

فنظام عالم الخليقة ، بدءاً من أبسط الأشياء ، كبصمات الأصابع التي أشارت إليها الآية (٤) من سورة القيامة : (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ). وانتهاءً بأكبر منظومة سماوية كلّها شواهد ناطقة على ربوبية الله سبحانه وتعالى ، وأدلة إثبات قاطعة على وجوده عزوجل.

وبعد ذكر موضوعي الخلق والتنظيم ، تنتقل بنا الآية التالية إلى حركة الموجودات نحو الكمال : (وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى).

والمراد ب (قدّر) ، هو : وضع البرامج ، وتقدير مقادير الامور اللازمة للحركة باتجاه الأهداف المرسومة التي ما خلقت الموجودات إلّالأجلها.

والمراد ب (هدى) هنا ، هو : الهداية الكونية ، على شكل غرائز وسنن طبيعية حاكمة على كل موجود (ولا فرق في الغرائز والدوافع سواء كانت داخلية أم خارجية).

فمثلاً ، إنّ الله خلق ثدي المرأة وجعل فيه اللبن لتغذية الطفل ، وفي ذات الوقت جعل عاطفة الامومة شديدة عند المرأة ، ومن الطرف الآخر جعل في الطفل ميلاً غريزياً نحو ثدي امّه ، فكلّ هذه الإستعدادات والدوافع وشدّة العلاقة الموجودة بين الام والإبن والثدي

٤٣٤

مقدّر بشكل دقيق ، كي تكون عملية السير نحو الهدف المطلوب طبيعية وصحيحة.

وهذا التقدير الحكيم ما نشاهده بوضوح في جميع الكائنات.

وقد اختص الإنسان بهداية تشريعية إضافة للهداية التكوينية يتلقاها عن طريق الوحي وإرسال الأنبياء عليهم‌السلام لتكتمل أمامه معالم الطريق من كافة جوانبه.

وتشير الآية التالية إلى النباتات ، وما يخصّ غذاء الحيوانات منها : (وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى).

ثم : (فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى).

«الغثاء : هو ما يطفح ويتفرق من النبات اليابس على سطح الماء الجاري ، ويطلق أيضاً على ما يطفح على سطح القدر عند الطبخ ، ويستعمل كناية عن : كل ضائع ومفقود ، وجاء في الآية بمعنى : النبات اليابس المتراكم.

«أحوى : من (الحوة) ـ على زنة قوّة ـ وهي شدّة الخضرة ، أو شدّة السواد.

فللغثاء الأحوى منافع كثيرة .. فهو يشير بشكل غير مباشر إلى فناء الدنيا ، وكذا غذاء جيد للحيوانات في الشتاء ، ويستعمل كسماد طبيعي للأرض ، وكذا يستعمله الإنسان كوقود.

(سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (٦) إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (١٢) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى) (١٣)

فيما كان الحديث في الآيات السابقة عن ربوبية الله وتوحيده جلّ شأنه ، والهداية العامة للموجودات ، وكذا عن تسبيح الرب الأعلى .. تأتي الآيات أعلاه لتتحدث عن : القرآن والنّبوّة ، وهداية الإنسان ، وكذا البيان القرآني للتسبيح. فتقول الآية الاولى مخاطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى). فلا تتعجل نزول القرآن ، ولا تخف من نسيان آياته ، فالذي أرسلك بهذه الآيات لهداية البشرية كفيل بحفظها ، وبخطها على قلبك الطاهر بما لا يمكن لآفة النسيان من قرض ولو حرف واحد منها أبداً.

وتدخل الآية في سياق الآية (١١٤) من سورة طه : (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن

٤٣٥

يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْمًا). وكذا الآية (١٦ و ١٧) من سورة القيامة : (لَاتُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ) تدخل في سياقهما.

ولإثبات قدرته سبحانه وتعالى ، وأنّ كل خير منه ، تقول الآية : (إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى).

ولا يعني هذا الإستثناء بأنّ النسيان قد أخذ من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وطراً ، وإنّما هو لبيان أنّ قدرة حفظ الآيات هي موهبة منه سبحانه وتعالى ، ومشيئته هي الغالبة أبداً ، وإلّا لتزعزعت الثقة بقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله.

فمن معاجز النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قابليته على حفظ الآيات والسور الطوال بعد تلاوة واحدة من جبرائيل عليه‌السلام ، دون أن ينسى منها شيئاً أبداً.

وتخاطب الآية التالية النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله مسلية له : (وَنُيَسّرُكَ لِلْيُسْرَى). أي : إخبار النبيّ بصعوبة الطريق في كافة محطاته ، من تلقي الوحي وحفظه حتى البلاغ والنشر والتعليم والعمل به ، وتطمئنه بالرعاية والعناية الربانية ، بتذليل صعابه من خلال تيسيرها له صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وبعد أن تبيّن الآيات العناية الربانية للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، تنتقل إلى بيان مهمته الرئيسية : (فَذَكّرْ إِن نَّفَعَتِ الذّكْرَى).

قيل : الإشارة هنا إلى أنّ التذكير بحدّ ذاته نافع ، وقليل اولئك الذين لا ينتفعون به ، والحد الأدنى للتذكير هو إتمام الحجة على المنكرين ، وهذا بنفسه نفع عظيم.

وتقسم الآيات التالية الناس إلى قسمين ، من خلال مواقفهم تجاه الوعظ والإنذار الذي مارسه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ... : (سَيَذَّكَرُ مَن يَخْشَى).

نعم ، فإذا ما فقد الإنسان روح الخشية والخوف ممّا ينبغي أن يخاف منه ، وإذا لم تكن فيه روحية طلب الحق ـ والتي هي من مراتب التقوى ـ فسوف لا تنفع معه المواعظ الإلهية ، ولا حتى تذكيرات الأنبياء ستنفعه ، على هذا الأساس كان القرآن هدًى للمتّقين.

وتذكر الآية التالية القسم الثاني ، بقولها : (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى).

ويعرض لنا القرآن عاقبة القسم الثاني : (الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى) .. (ثُمَّ لَايَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى). أي ، لا يموت ليخلص من العذاب ، ولا يعيش حياةً خالية من العذاب ، فهو أبداً يتقلقل بالعذاب بين الموت والحياة.

إنّ وصف نار جهنم ب الكبرى مقابل (النار الصغرى) في الحياة الدنيا.

٤٣٦

في تفسير علي بن إبراهيم عن الصادق عليه‌السلام قال : إنّ ناركم هذه جزءاً من سبعين جزء من نار جهنم ، وقد اطفئت سبعين مرّة بالماء ثم التهبت ولولا ذلك ما استطاع آدمي أن يطفيها.

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٧) إِنَّ هذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٨) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (١٩)

بعد أن عرضت الآيات السابقة صورة العذاب ومعاناة أهله ، يأتي الحديث عن الذين نفعتهم الذكرى ، ممن استمعوا إلى دعوة الهدى فطهروا أنفسهم من المعاصي والآثام ، وخشعت قلوبهم لذكر الله .. ويقول القرآن : (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى).

(وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلَّى).

فأساس الفلاح بالنجاة من العذاب والفوز بالنعيم الخالد ، يعتمد على ثلاثة أركان رئيسية : التزكية ، ذكر اسم الله والصلاة.

إنّ التزكية ذات مداليل واسعة تشمل : تطهير الروح من الشرك ، تطهير القلب من الرذائل الأخلاقية ، تطهير الأعمال من المحرمات والرياء ، تطهير الأموال والأبدان بإعطاء الزكاة والصدقات في سبيل الله : (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكّيهِم بِهَا).

ويشير البيان القرآني إلى العامل الأساس في عملية الإنحراف عن جادة الفلاح : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا) .. (وَالْأَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى).

في عوالي اللئالي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : حبّ الدنيا رأس كل خطيئة.

وعليه ... فلا سبيل لقطع جذور المعاصي إلّابإخراج حبّ الدنيا وعشقها من القلب.

ينبغي علينا أن ننظر إلى الدنيا بواقعية وعقلائية ، فالدنيا ليست أكثر من مرحلة إنتقالية أو معبر أو مزرعة الآخرة.

وتختم السورة ب : (إِنَّ هذَا لَفِى الصُّحُفِ الْأُولَى) .. (صُحُفِ إِبْرهِيمَ وَمُوسَى).

والصحف الاولى : مقابل الصحف الأخيرة التي انزلت على المسيح عليه‌السلام وعلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ونستدل بالآية الأخيرة بأنّ لإبراهيم وموسى عليهما‌السلام كتباً سماوية.

وفي تفسير مجمع البيان عن أبي ذر أنّه قال : قلت يا رسول الله! كم الأنبياء؟ فقال : مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفاً. قلت : يا رسول الله! كم المرسلون منهم؟ قال : ثلاثمائة

٤٣٧

وثلاثة عشر ، وبقيتهم أنبياء. قلت : كان آدم عليه‌السلام نبيّاً؟ قال : نعم ، كلّمه الله وخلقه بيده. يا أباذر! أربعة من الأنبياء عرب : هود ، وصالح ، وشعيب ، ونبيّك. قلت : يا رسول الله! كم أنزل الله من كتاب؟ قال : مائة واربعة كتب ، أنزل الله منها على آدم عليه‌السلام عشر صحف ، وعلى شيث خمسين صحيفة ، وعلى أخنوخ وهو إدريس ثلاثين صحيفة ، وهو أوّل من خط بالقلم ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان.

نهاية تفسير سورة الأعلى

* * *

٤٣٨

٨٨

سورة الغاشية

محتوى السورة : تدور محتويات السورة على ثلاثة محاور :

١ ـ بحث المعاد ، وبيان حال المجرمين بما فيه من شقاء وتعاسة ، ووصف حال المؤمنين وهم يرفلون بنعيم لا ينضب.

٢ ـ بحث التوحيد ، ويتناول موضوع خلق السماء والجبال والأرض ، ونظر الإنسان إليها.

٣ ـ بحث النبوّة ، مع عرض لبعض وظائف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وعموماً ، فالسورة تسير على منهج السور المكية في تقوية اسس الإيمان والإعتقاد.

فضيلة السورة : في تفسير مجمع البيان ابي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من قرأها حاسبه الله حساباً يسيراً.

وأبو بصير عن الصادق عليه‌السلام قال : من أدمن قراءة هل أتاك حديث الغاشية في فرائضه أو نوافله ، غشاه الله برحمته في الدنيا والآخرة ، وأعطاه الأمن يوم القيامة من عذاب النار.

وبديهي أنّ الثواب المذكور لا يحصل إلّالمن تلاها بتأمل وعمل.

* * *

٤٣٩

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (٢) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (٣) تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً (٤) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) (٧)

المتعبون ... الأخسرون : تبتدأ السورة بذكر اسم جديد ليوم القيامة : (هَلْ أَتَيكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ). الغاشية : من الغشاوة وهي التغطية ، وسمّيت القيامة بذلك لأنّ حوادثها الرهيبة ستغطي فجاءة كل شيء.

وتصف الآيات التالية ، حال المجرمين في يوم القيامة ، فتقول أوّلاً : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ).

لا شك أنّ الوضع النفسي والروحي ، تنعكس آثاره على وجه صاحبه ، لذا فسترى تلك الوجوه وقد علتها علائم الخسران والخشوع لما أصابها من ذلّ وخوف ووحشة وهم بانتظار ما سيحل بهم من عذاب مهين أليم.

وتصف حال تلك الوجوه ثانياً : (عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ).

فكل ما سعوا وكدوا فيه في الحياة الدنيا سوف لا يجنون منه إلّاالتعب والنصب ، وذلك : لأنّ أعمالهم غير مقبولة عند الله ، وما جمعوه من أموال وثروات قد ذهبت لغيرهم ، ولا يملكون من ذكر صالح يعقبهم في الدنيا ولا ولد صالح يدعو ويستغفر الله لهم.

وخاتمة مطاف تلك الوجوه التعبة الذليلة أن : (تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً).

ولن يقف عذابهم عند هذا الحد ، بل أنّهم وبسبب حرارة النيران يصيبهم العطش الشديد وحينئذٍ : (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍءَانِيَةٍ).

«آنية : مؤنث آني من الأني وهو التأخير ، ويستعمل لما يقرب وقته ، وجاء في الآية بمعنى : الماء الحارق الذي بلغ أقصى درجة حرارته ؛ وجاء في الآية (٢٩) من سورة الكهف : (وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا).

وتحكي لنا الآية التالية عن طعام المجرمين : (لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ).

جاء في الحديث النبوي الشريف : الضريع شيء يكون في النار يشبه الشوك ، أشدّ مرارة

٤٤٠