مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

التّفسير

القرآن العجيب : يقول الله تعالى : (قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا).

يعلم من مفهوم الآية أنّ للجن عقلاً وشعوراً وفهماً وإدراكاً ، وأنّهم مكلّفون ومسؤولون ، ولهم المعرفة باللغات ويفرقون بين الكلام الخارق للعادة بين الكلام العادي ، وبين المعجز وغير والمعجز ، ويجدون أنفسهم مكلّفين بإيصال الدعوة إلى قومهم ، وأنّهم هم المخاطبون في القرآن المجيد.

إنّ لهم الحق في أن يحسبوا هذا القرآن عجباً ، لِلَحنِه العجيب ، ولجاذبية محتواه ، ولتأثيره العجيب ، ولمن جاء به والذي لم يكن قد درس شيئاً وقد ظهر من بين الاميين.

لقد تحدثوا لقومهم بحديث آخر تبيّنه السورة في (١٢) آية ، وكل منها تبدأ ب (أن) وهي دلالة على التأكيد.

فيقول أوّلاً بأنّهم قالوا : (يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَامَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبّنَا أَحَدًا).

وبعد إظهار الإيمان ونفي الشرك بالله تعالى ينتقل كلامهم إلى تبيان صفات الله تعالى : (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا).

«جد : لها معانٍ كثيرة في اللغة ، منها : العظمة ، والشدّة ، والجد ، والقسمة ، والنصيب. وأمّا المعنى الحقيقي فهو القطع ، وتأتي بمعنى العظمة إذا كان هناك كائن عظيم منفصل بذاته عن بقية الكائنات.

ثم قالوا : (وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللهِ شَطَطًا). أي أنّ سفهاءنا قالوا : إنّ لله زوجة وأطفالاً ، واتّخذ لنفسه شريكاً وشبيهاً ، وإنّه قد انحرف عن الطريق ، وكان يقول شططاً.

واحتمل بعض المفسرين أنّ السفيه هنا له معنى انفرادي ، والمقصود به هو ابليس الذي نسب إلى الله نسب ركيكة ، وذلك بعد مخالفته لأمر الله.

ولمّا كان ابليس من الجن ، وكان قد بدا منه ذلك ، اشمأز منه المؤمنون من الجن واعتبروا ذلك منه شططاً ، وإن كان عالماً وعابداً.

«شطط : على وزن وسط ، وتعني الخروج والإبتعاد عن قول الحق.

ثم قالوا : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِبًا).

لعلّ هذا الكلام اشارة إلى التقليد الأعمى للغير ، حيث كانوا يشركون بالله وينسبون

٢٨١

إليه الزوجة والأولاد ، فهم يقولون : لقد كنّا نصدقهم بحسن ظنّنا بهم ونقول بمقالتهم الخاطئة ، وما كنّا نظنهم يتجرؤون على الله بهذه الأكاذيب ، ولكنّنا الآن نخطّىء هذا التقليد المزيف لما عرفنا من الحق والإيمان بالقرآن ، ونقرّ بما التبس علينا ، بانحراف المشركين من الجن.

ثم ذكروا إحدى الإنحرافات للجن والإنس وقالوا : (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الْجِنّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا).

«رهق : على وزن (شفق) ويعني غشيان الشيء بالقهر والغلبة ، وفُسّر بالضلال والذنب والطغيان والخوف الذي يسيطر على روح الإنسان وقلبه ويغشيه.

فإنّ للآية مفهوماً واسعاً ، يشمل جميع أنواع الإلتجاء إلى الجن ، والخرافة المذكورة هي مصداق من مصاديقها ، وكان في أوساط العرب كهنة كثيرون يعتقدون أنّ الجن باستطاعتهم حلّ الكثير من المشاكل وإخبارهم بالمستقبل.

(وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) (١٠)

يشير سياق الآية إلى استمرار حديث المؤمنين من الجن ، وتبيان الدعوة لقومهم ، ودعوتهم إلى الإسلام بالطرق المختلفة ، فيقولون : (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللهُ أَحَدًا).

لذا تبادروا لإنكار القرآن وتكذيب نبوّة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّنا عند سماعنا لآيات القرآن أدركنا الحقائق ، فلا تكونوا كالإنس وتتخذوا طريق الكفر فتبتلوا بما ابتلوا به.

وهذا تحذير للمشركين ليفيقوا عند سماعهم لكلام الجن وتحكيمهم وليتمسكوا بالقرآن وبالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثم يشيرون إلى علامة صدق قولهم وهو ما يدركه الجن في عالم الطبيعة ، فيقولون : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا) (١).

__________________

(١) لمسنا : من لمس ، وتعني هنا الطلب والبحث ؛ وحرس : على وزن قفص ، جمع حارس ، وقيل اسم جمع لحارس ، وتعني الشديد الحفاظ.

٢٨٢

وكنّا في السابق نسترق السمع من السماء ونحصل على أخبار الغيب ونوصلها إلى أصدقائنا من الإنس ولكنّنا منعنا من ذلك الآن : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْأَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا). أليس هذا الوضع الجديد دليل على حقيقة التغيير العظيم الحاصل في العالم عند ظهور الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتاب الله السماوي ، لماذا كانت لكم القدرة على استراق السمع والآن سلبت منكم هذه القدرة؟ أليس معنى هذا انتهاء عصر الشيطنة والكهانة والخداع ، وانتهاء ظلمة الجهل بشروق شمس الوحي والنبوّة.

ثم قالوا : (وَأَنَّا لَانَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدُ بِمَن فِى الْأَرْضِ أَم أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا). أي : مع كل هذا فإنّنا لا ندري أكان هذا المنع من استراق السمع دليل على مكيدة تراد بأهل الأرض ، أم أراد الله بذلك المنع أن يهديهم ، وبعبارة اخرى أنّنا لا ندري هل هذا هو مقدمة لنزول البلاء والعذاب من الله ، أم مقدمة لهدايتهم ، ولكن لا يخفى على مؤمني الجن أنّ المنع من استراق السمع الذي تزامن مع ظهور نبيّنا الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هو مقدمة لهداية البشرية ، وانحلال جهاز الكهانة والخرافات الاخرى ، وليس هذا إلّاانتهاءً لعصر الظلام ، وابتداء عصر النور.

ومع هذا ، فإنّ الجن ولعلاقتهم الخاصة بمسألة استراق السمع لم يكونوا يصدقون بما في ذلك المنع من خير وبركة ، وإلّا فمن الواضح أنّ الكهنة في العصر الجاهلي كانوا يستغلون هذا العمل في تضليل الناس.

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)(١٥)

في هذه الآيات يستمر مؤمنو الجن في حديثهم وهم يبلغون قومهم الضالين فيقولون : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا).

ويحتمل أن يكون المراد من قولهم هذا هو أنّ وجود إبليس فيما بينهم قد أوجد شبهة لبعضهم ، بأنّ الجن متطبّع على الشرّ والفساد والشيطنة ، ومحال أن يشرق نور الهداية في قلوبهم.

٢٨٣

ولكن مؤمني الجن يوضحون في قولهم هذا أنّهم يملكون الإختيار والحرية ، وفيهم الصالح والطالح ، وهذا يوفرّ لهم الأرضية للهداية.

ولهذه الآية تأثير في إصلاح ما اشتبه علينا نحن البشر في عقائدنا حول الجن ، لأنّ كثير من الناس يتصورون أنّ لفظة الجن تعني الشيطنة والفساد والضلال والإنحراف ، وسياق هذه الآية يشير إلى أنّ الجن فصائل مختلفة ، صالحون وطالحون.

وفي إدامة حديثهم يحذرون الآخرين فيقولون : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللهَ فِى الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا). وإذا كنتم تتصورون أنّكم تستطيعون الفرار من الجزاء وتلتجئون إلى زاوية من زوايا الأرض أو نقطة من نقاط السماوات فإنّكم في غاية الخطأ.

وأضاف مؤمنو الجن في حديثهم قائلين : (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى ءَامَنَّا بِهِ). وإذ ندعوكم لهدى القرآن فإنّنا ممّن عمل بذلك أوّلاً ، ولذا نحن لا ندعو الآخرين إلى أمر لم نكن فاعليه.

ثم بيّنوا عاقبة الإيمان فقالوا : (فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا).

إنّ المؤمنين مهما يعملوا من عمل كبيراً كان أو صغيراً فإنّهم يستوفون اجور ذلك بلا نقص أو قلّة.

وفي الآية الاخرى توضيح أكثر حول عاقبة المؤمنين والكافرين فيقولون : (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا القَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا) (١).

(وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا).

والتعبير ب (تَحَرَّوْا رَشَدًا) يشير إلى أنّ المؤمنين إنّما يتوجهون إلى الهدى بالتحقيق والتوجه الصادق ، وجزاءهم الأوفى هو نيلهم الحقائق التي بظلها ينالون النعم الإلهية.

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) (١٩)

الفتنة باغداق النعمة : إنّ سياق الآيات السابقة يشير إلى ثواب المؤمنين في يوم القيامة ،

__________________

(١) القاسط : من أصل قسط وتعني التقسيم العادل ؛ فإن أتت على وزن (أفعال) ، (أقساط) فإنّها تعني إجراء العدالة ، وإذا استعملت بصورة الثّلاثي المجرّد كما في هذه الآية فإنّها تعطي معنى الظلم والانحراف عن سبيل الحق ؛ وتحروا : من أصل تحرى وتعني توخّاه وقصده.

٢٨٤

وفي هذه الآيات يتحدث عن ثوابهم الدّنيوي فيقول : (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا).

ننزل عليهم مطر رحمتنا ، ونذلل لهم منابع وعيون الماء الذي يهب الحياة وبوجود الماء يوجد كل شيء وعلى هذا فإنّنا نشلمهم بأنواع النعم.

القرآن المجيد أكّد ولعدّة مرات على أنّ الإيمان والتقوى ليست فقط منبعاً للبركات المعنوية ، بل تودّي إلى زيادة الأرزاق والنعم والعمران ، أي (البركة المادية).

الملاحظ حسب هذا البيان أنّ سبب زيادة النعمة هو الإستقامة على الإيمان ، وليس أصل الإيمان ، لأنّ الإيمان المؤقت لا يستطيع أن يظهر هذه البركات.

والآية الاخرى إشارة إلى حقيقة اخرى بنفس الشأن ، فيضيف : (لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ).

ومن هنا يتّضح أنّ وفور النعمة من إحدى الأسباب المهمة في الإمتحان الإلهي ، وما يُتفق عليه هو أنّ الإختبار بالنعمة أكثر صعوبة وتعقيداً من الإختبار بالعذاب ، لأنّ طبيعة ازدياد النعم هو الإنحلال والكسل والغفلة ، والغرق في الملذات والشهوات ، وهذا ما يُبعد الإنسان عن الله تعالى ويُهييء الأجواء لمكائد الشيطان ، والذين يستطيعون أن يتخلصوا من شراك النعم الوافرة هم الذاكرون لله على كل حال ، غير الناسين له تعالى.

ولذا يضيف تعقيباً على ذلك : (وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا).

«صعد : على وزن (سفر) وتعني الصعود إلى الأعلى ، وأحياناً الشِعب المتعرجة في الجبل ، وبما أنّ الصعود من الشعاب المتعرجة عمل شاق ، فإنّ هذه اللفظة تستعمل بمعنى الامور الشّاقة.

ولكن ، مع أنّ التعبير أعلاه يبيّن كون هذا العذاب شاقّاً شديداً فإنّه يحتمل أن يشير إلى اليوم الطويل ، وعلى هذا الأساس فإنّه يبيّن في الآيات أعلاه رابطة الإيمان والتقوى بكثرة النعم من جهة ، ورابطة كثرة النعم بالاختبارات الإلهية من جهة اخرى ورابطة الإعراض عن ذكر الله تعالى بالعذاب الشاق الطويل من جهة ثالثة.

وقال مؤمنو الجن في الآية الاخرى وهم يدعون إلى التوحيد : (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا).

المراد بالمساجد هي المواطن التي يُسجد فيها لله تعالى كالمسجد الحرام وبقية المساجد ، وبشكل أعم هي الأرض التي يصلّى فيها ويسجد عليها ، وهو مصداق قول الرسول

٢٨٥

الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً (١).

وهذا ردّ لمن اتّخذ الأصنام والأوثان للعبادة فأشرك بالله ، ومن اتّخذ الكعبة معبداً للأصنام ، أو انصرف إلى إحياء الطقوس المسيحية حيث (التثليث) أو عبد الأرباب الثلاثة في الكنائس والله تعالى يقول : (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا).

ويضيف في إدامة الآية بياناً عن التأثير غير العادي للقرآن المجيد وقيام الرسول للدّعاء فيقول : (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا). أي : عندما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقوم للصلاة ، فإنّ طائفة من الجن كانوا يجتمعون عليه بشكل متزاحم.

«لبد : على وزن (فِعَل) وتعني الأشياء المجتمعة المتراكمة ، وهذا التعبير بيان لتعجب الجن ممّا يشاهدونه من عبادته وقراءته صلى‌الله‌عليه‌وآله قرآناً لم يسمعوا كلاماً يماثله.

(قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلَّا بَلَاغاً مِنَ اللهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) (٢٤)

في هذه الآيات يأمر الله تعالى نبيّه أن يقول : (قُلْ إِنَّمَا أَدْعُوا رَبّى وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا).

وذلك لتقوية قواعد التوحيد ، ونفي كل أنواع الشرك ، كما مرّ في الآيات السابقة.

ثم يأمره أن : (قُلْ إِنّى لَاأَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا).

ثم يضيف : قل لهم بأنّي لو خالفت أمر الله تعالى فسوف يحيق بي العذاب أيضاً ولن يستطيع أحد أن ينصرني أو يدفع عنّي عذابه : (قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِّنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا).

وعلى هذا الأساس لا يستطيع أحد أن يجيرني منه تعالى ولا شيء يمكنه أن يكون لي ملجأ وهذا الخطاب يشير من جهة إلى الإقرار الكامل بالعبودية لله تعالى ، وإلى نفي كل أنواع الغلو في شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة اخرى ، ويشير من جهة ثالثة إلى أنّ الأصنام ليس

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢ / ٩٧٠ / ٣.

٢٨٦

فقط لا تنفع ولا تحمي ، بل إنّ نفس الرسول أيضاً مع ما له من العظمة لا يمكنه أن يكون له ملجأ من عذاب الله ، وينهى من جهة الذرائع والآمال للمعاندين الذين كانوا يطلبون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يريهم المعاجز الإلهية ، ويثبت أنّ التوسل والشفاعة أيضاً لا يتحققان إلّابإذنه تعالى.

ويضيف في الآية الاخرى : (إِلَّا بَلغًا مِّنَ اللهِ وَرِسَالاتِهِ).

وقد مرّ ما يشابه هذا التعبير مراراً في آيات القرآن الكريم ، كما في الآية (٩٢) من سورة المائدة : (أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلغُ الْمُبِينُ). وكذا في الآية (١٨٨) من سورة الأعراف : (قُلْ لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

ويحذر في نهاية الآية فيقول : (وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا).

الواضح أنّ المراد فيها ليس كل العصاة ، بل المشركون والكافرون لأنّ مطلق العصاة لا يخلدون في النار.

ثم يضيف : (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا).

إنّ سياق هذه الآية يشير إلى أنّ أعداء الإسلام كانوا يتبجّحون بقدرات جيوشهم وكثرة جنودهم أمام المسلمين ويستضعفونهم ، لهذا كان القرآن يواسيهم ـ المسلمين ـ ويبشرهم بأنّ العاقبة ستكون بانتصارهم وخسران عدوهم.

(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) (٢٨)

الله عالم الغيب : لقد تبيّن في الآيات السابقة حقيقة أنّ العصاة يبقون على عنادهم واستهزائهم حتى يأتي وعد الله بالعذاب ، وهنا يطرح السؤال ، وهو : متى يتحقق وعد الله؟ وقد أجاب القرآن على ذلك فقال : (قُلْ إِن أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى أَمَدًا).

٢٨٧

هذا العلم يخص ذاته المقدسة تعالى شأنه ، وأراد أن يبقى مكتوماً حتى عن عباده المؤمنين ، ليتحقق الإختبار الإلهي للبشرية ، وإلّا فلن يؤثر الإختبار.

فإنّنا كثيراً ما نواجه مثل هذه المعاني في آيات القرآن ، وعندما يسأل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عن يوم القيامة يجيب بأنّه ليس له علم بذلك ، وأنّ علمه عند الله. ولما تبدى له جبريل في صورة أعرابي كان فيما سأله أن قال : يا محمّد أخبرني عن الساعة؟ قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. ولما ناداه ذلك الأعرابي بصوت جهْوَريّ فقال : يا محمّد ، متى الساعة؟ قال : ويحك ، إنّها كائنة فما أعددت لها؟ قال : أمّا إنّي لم اعدّ لها كثير صلاة ولا صيام ، ولكني احبّ الله ورسوله ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : فأنت مع من أحببت. قال أنس : فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث (١).

ثم يبيّن في هذا الحديث قاعدة كلية بشأن علم الغيب فيقول : (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا).

ثم يضيف مستثنياً : (إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ). أي يبلغه ما يشاء عن طريق الوحي الإلهي : (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا).

«رصد : في الأصل مصدر ، ويراد به الإستعداد للمراقبة من شيء ؛ ويراد به هنا الملائكة الذين يبعثهم الله مع الوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليحيطوه من كل جانب ، ويحفظوا الوحي من شرّ شياطين الجن والإنس ووساوسهم ومن كل شيء يخدش أصالة الوحي ، ليوصلوا الرسالات إلى العباد ، وهذا هو دليل من الأدلة على عصمة الأنبياء عليهم‌السلام المحفوظين من الزّلات والخطايا بالإمداد الإلهي والقوّة الغيبية ، والملائكة.

في بحثنا للآية الأخيرة التي تنهي السورة تبيان لدليل وجود الحراس والمراقبين فيقول : (لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَىْءٍ عَدَدًا).

المراد من العلم هنا هو العلم الفعلي ، وبعبارة اخرى ليس معنى الآية أنّ الله ما كان يعلم عن أنبيائه شيئاً ثم علم ، لأنّ العلم الإلهي أزلي وأبدي وغير منتاه ، بل إنّ المراد هو تحقق العلم الإلهي في الخارج ، ويتخذ لنفسه صورة عينية واضحة ، أي ليتحقق إبلاغ الأنبياء ورسالات ربّهم ويتمموا الحجة بذلك.

__________________

(١) تفسير المراغي ٢٩ / ١٠٥.

٢٨٨

بحثان

١ ـ تحقيق موسّع حول علم الغيب : من خلال التمعن في الآيات المختلفة للقرآن الكريم يتّضح لنا أنّ الآيات المتعلقة بعلم الغيب قسمان :

(القسم الأوّل :) ما يتعلق بذاته جلّ شأنه ولا يعلمه إلّاهو ، كما في الآية (٥٩) من سورة الأنعام : (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَايَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ). والآية (٥٠) من سورة الأنعام : (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ).

(القسم الثاني :) يطرح بوضوح إطّلاع أولياء الله على الغيب ، كما في الآية (١٧٩) من سورة آل عمران : (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ).

ونقرأ في معاجز المسيح عليه‌السلام كما في الآية (٤٩) من سورة آل عمران : (وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ).

والآية السابقة مورد البحث أيضاً تشير إلى أنّ الله تعالى يهب العلم لمن يرتضيه من رسله ، ومن جهة اخرى فإنّ الآيات التي تشمل الأخبار الغيبية ليست بقليلة. كالآيات (٢ ـ ٤) من سورة الروم : (غُلِبَتِ الرُّومُ * فِى أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِى بِضْعِ سِنِينَ).

ومن المعروف أنّ الوحي السماوي الذي يهبط على الرسل هو نوع من الغيب الذي أطلعهم الله عليه ، فكيف يمكن أن ننفي إطّلاعهم بالغيب في الوقت الذي يهبط عليهم الوحي.

بالإضافة إلى ذلك كله فإنّ هناك روايات كثيرة تدل على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة المعصومين عليهم‌السلام مطّلعون على الغيب ، ويخبرون به أحياناً.

وكذلك إخباره صلى‌الله‌عليه‌وآله بحوادث معركة مؤتة ، واستشهاد جعفر الطيار رضى الله عنه وبعض القادة المسلمين ، في الوقت الذي كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يطلع الناس على ذلك في المدينة (١). والأمثلة على ذلك ليست قليلة في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وورد في نهج البلاغة أيضاً أخبار كثيرة سابقة لأوانها تشير إلى حوادث مستقبلية ، أخبر عنها أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ممّا يدل على اطّلاعه بأسرار الغيب ، كما جاء في الخطبة (١٣) في

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٢ / ١١٢ (ذكر غزوة مؤتة).

٢٨٩

ذمّه أهل البصرة حيث يقول : كأنّي بمسجدكم كجؤجؤ لسفينة قد بعث الله عليها العذاب من فوقها ومن تحتها وغرق من في ضمنها.

وما قاله كميل بن زياد للحجاج أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قد أخبرني بأنّك قاتلي (١).

أمّا كيف نجمع بين هذه الآيات والروايات التي ينفي بعضها علم الغيب لغير الله وإثبات البعض الآخر لغيره تعالى؟ هناك طرق مختلفة للجمع بينها :

١ ـ أشهر طرق الجمع هو أنّ المراد من اختصاص علم الغيب بالله تعالى هو العلم الذاتي والإستقلالي ، ولهذا لا يعلم الغيب إلّاهو ، وما يعلمونه فهو من الله ، وذلك بلطفه وعنايته.

٢ ـ أسرار الغيب قسمان : قسم خاص بالله عزوجل لا يعلمه إلّاهو كقيام الساعة ، وغيرها ممّا يشابه ذلك ، والقسم الآخر علّمه الأنبياء والأولياء ، كما جاء في الخطبة (١٢٨) نهج البلاغة حيث يقول علي عليه‌السلام : وإنّما علم الغيب علم الساعة ، وما عدّده الله سبحانه بقوله : (إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ) الآية. ثم أضاف الإمام عليه‌السلام في شرح هذا المعنى :

«فيعلم الله سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو انثى وقبيح أو جميل ، وسخيّ أو بخيل ، وشقيّ أو سعيد ، ومن يكون في النار حطباً ، أو في الجنان للنّبيّين مرافقاً فهذا علم الغيب الّذي لا يعلمه أحد إلّاالله وما سوى ذلك فعلم علّمه الله نبيّه فعلّمنيه.

يمكن لبعض الناس أن يعلموا بزمان وضع الحمل أو نزول المطر ومثل ذلك علماً إجمالياً ، وأمّا العلم التفصيلي والتعرف على هذه الامور فهو خاص بذات الله تعالى المقدسة وإنّ علمنا بشأن يوم القيامة هو علم إجمالي ونجهل جزئيات وخصوصيات يوم القيامة.

وإذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الأئمة المعصومون عليهم‌السلام قد أخبروا البعض في أحاديثهم عمّن يولد أو عمن ينقضي عمره ، فذلك يتعلق بالعلم الإجمالي.

٣ ـ والطريق الآخر هو أنّ الله تعالى يعلم بكل أسرار الغيب ، وأمّا الأنبياء والأولياء فإنّهم لا يعلمونها كلّها ، ولكنّهم إذا ما شاءوا ذلك أعلمهم الله تعالى بها ، وبالطبع هذه الإرادة لا تتمّ إلّابإذن الله تعالى.

ومحصلة ذلك أنّ الآيات والروايات التي تقول إنّهم لا يعلمون بالغيب هي إشارة إلى

__________________

(١) الإصابة لابن حجر ٥ / ٤٨٦.

٢٩٠

عدم المعرفة الفعلية ، والتي تقول إنّهم يعلمون تشير إلى إمكان معرفتهم لها.

٢ ـ تحقيق حول خلق الجن : الجن كما جاء في المفهوم اللغوي هو نوع من الخلق المستور ، وقد ذكرت له مواصفات كثيرة في القرآن ؛ منها :

١ ـ إنّهم مخلوقون من النار ، بعكس الإنسان المخلوق من التراب ؛ كما نقرأ في الآية (١٥) من سورة الرحمن : (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَارِجٍ مّن نَّارٍ).

٢ ـ إنّهم يمتلكون الإدراك والعلم والتمييز بين الحق والباطل والقدرة على المنطق والإستدلال ؛ كما هو واضح من آيات سورة (الجن).

٣ ـ إنّهم مكلّفون ومسؤولون ؛ كما في آيات سورة الجن والرحمن.

٤ ـ وفيهم المؤمنون والصالحون والطالحون ؛ كما نقرأ في الآية (١١) من سورة الجن : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ).

٥ ـ إنّهم يحشرون وينشرون ؛ كما نقرأ في الآية (١٥) من سورة الجن : (وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا).

٦ ـ لهم القدرة على النفوذ في السماوات وأخذ الأخبار واستراق السمع ، ولكنّهم منعوا من ذلك فيما بعد ؛ كما نقرأ في الآية (٩) من سورة الجن : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْأَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا).

٧ ـ كانوا يوجدون ارتباطاً مع بعض الناس لإغوائهم بما لديهم من العلوم المحدودة التابعة إلى بعض الأسرار الروحية ؛ كما نقرأ في الآية (٦) من سورة الجن : (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الْجِنّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا).

٨ ـ ويوجد فيهم من يتمتع بالقدرة الفائقة ، كما هو موجود في أوساط الإنس ؛ كما نقرأ في الآية (٣٩) من سورة النمل : (قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنّ أَنَاءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ).

٩ ـ لهم القدرة على قضاء بعض الحوائج التي يحتاجها الإنسان ؛ كما نقرأ في الآيتان (١٢ و ١٣) من سورة سبأ : (وَمِنَ الْجِنّ مَن يَعْمَلُ بَينَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ * يَعْمَلُونَ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجَفَانٍ كَالْجَوَابِ).

١٠ ـ إنّ خلقهم كان قبل خلق الإنسان ؛ كما نقرأ في الآية (٢٧) من سورة الحجر : (وَالْجَانَّ خَلَقْنهُ مِن قَبْلُ). ولهم خصائص اخرى.

إلى هنا كان الحديث عن امور تستفاد من القرآن المجيد حول هذا الخلق المستور والخالية

٢٩١

من كل الخرافات والمسائل غير العلمية ، ولكنّنا نعلم أنّ السذج والجهلاء ابتدعوا خرافات كثيرة فيما يخص هذا الكائن بما يتنافي مع العقل والمنطق ، منها ما نسب إليهم الأشكال الغريبة والعجيبة والمرعبة ، وأنّهم موجودات سامة وذوات أذناب مؤذية ، ومبغضة ، سيئة التصرف والسلوك ، وأوهام اخرى من هذا القبيل ، في حين أنّ أصل الموضوع إذا تمّ تطهيره من هذه الخرافات يكون قابلاً للقبول.

ومن جهة اخرى ، ليس هناك دليل عقلي على عدم وجود الجن ، ولهذا لابدّ من الإعتقاد بهم ، وتجنب الأقوال التي لا تليق بهم كما في خرافات العوام.

ومما يلاحظ أيضاً أنّ لفظ الجن يطلق أحياناً على مفهوم أوسع يشمل أنواعاً من الكائنات المستورة أعم من الكائنات ذوات العقل والإدراك والفاقدة لهما ، وحتى مجاميع الحيوانات التي ترى بالعين والمختفية في الأوكار أيضاً ، والدليل على ذلك روايات وردت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال : خلق الله الجن خمسة أصناف : صنف كالريح في الهواء ، وصنف حيات ، وصنف عقارب ، وصنف حشرات الأرض ، وصنف كبني آدم عليهم الحساب والعقاب (١).

نهاية تفسير سورة الجن

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ٦٠ / ٢٦٧.

٢٩٢

٧٣

سورة المزمل

محتوى السورة : يمكن أن نقسم مباحث السورة في خمسة أقسام :

١ ـ الآيات الاولى للسورة والتي تأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقيام الليل والصلاة فيه ، ليستعد بذلك لنقل ما سيلقى عليه من القول الثقيل.

٢ ـ يأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصبر والمقاومة ومداراة المخالفين.

٣ ـ بحوث حول المعاد ، وإرسال موسى بن عمران إلى فرعون وذكر عذابه الأليم.

٤ ـ فيه تخفيف لما ورد في الآيات الاولى من الأوامر الشديدة عن قيام الليل ، وذلك بسبب محنة المسلمين والشدائد المحيطة بهم.

٥ ـ والقسم الأخير من السورة يعود ليدعو إلى تلاوة القرآن وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والإنفاق في سبيل الله والإستغفار.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ومن قرأ سورة المزمل رفع عنه العسر في الدنيا والأخرة.

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : ومن قرأ سورة المزّمل في العشاء الآخرة ، أو في آخر الليل كان له الليل والنهار شاهدين مع السورة ، وأحياه الله حياة طيبة وأماته ميتة طيبة.

ومن الطبيعي أنّ هذه الفضائل لابدّ أن تكون ملازمة مع قيام الليل وقراءة القرآن والصبر والإستقامة والإيثار والإنفاق العملي ، وليس بالتلاوة الخالية من العمل.

٢٩٣

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (٥)

يشير سياق الآيات كما بيّنا إلى دعوة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله للإستقامة والإستعداد لقبول مهمة كبيرة وثقيلة ، وهذا لا يتمّ إلّابالبناء المسبق للذات ، فيقول : (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمّلُ * قُمِ الَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً) (١). إنّ هذا ليس زمان التزمل والإنزواء ، بل زمان القيام والبناء الذاتي والإستعداد لأداء الرسالة العظيمة.

واختيار الليل لهذا العمل أوّلاً : لأنّ أعين الأعداء نائمة ؛ وثانياً : تتعطل الأعمال والمكاسب ، ولهذا فإنّ الإنسان يستعد للتفكر ولتربية النفس.

وكذلك اختيار القرآن لأن يكون المادة الاولى في البرنامج العبادي في الليل إنّما هو لإقتباس الدروس اللازمة في هذا الباب ، وهو يعدّ من أفضل الوسائل لتقوية الإيمان والإستقامة والتقوى وتربية النفوس.

والتعبير بالترتيل الذي يراد به التنظيم والترتيب الموزون هنا هو القراءة بالتأني والإنتظام اللازم ، والأداء الصحيح للحروف ، وتبيين الحروف ، والتأمل في مفاهيم الآيات ، والتفكر في نتائجها. والروايات التي وردت في تفسير الترتيل كلّها تشير إلى ضرورة التمعن في كلمات القرآن ، والتدبّر فيها وتذكر بأنّ القرآن هو خطاب الله تعالى للإنسان.

ولكن وللأسف إنّ الكثير من المسلمين ابتعدوا عن هذا الواقع ، واكتفوا بالتلفظ وغدا همّهم ختمه ، من دون الإهتمام بمعرفة سبب نزوله ومحتواه! صحيح أنّ ألفاظ القرآن عظيمة ولقراءتها فضيلة ، ولكن لا ينبغي أن ننسى أنّ هذه الألفاظ وتلاوتها هي مقدمة لبيان المحتوى.

في الكافي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : إذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فقف عندها وسل الله عزوجل الجنة ، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها وتعوذ بالله من النار.

ثم يبيّن الهدف النهائي لهذا الأمر المهم والشاق فيقول : (إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً).

__________________

(١) مزّمل : أصلها متزمل ، وهي من التزمل ، وتعني لف الثوب على نفسه ، ولهذا جاء لفظ الزميل ، أي المصاحب والرفيق.

٢٩٤

إنّ ثقل القول يراد به القرآن المجيد بأبعاده المختلفة ... ثقيل بلحاظ المحتوى ومفاهيم الآيات.

ثقيل بلحاظ حمل القلوب له لما يقوله القرآن : (لَوْ أَنزَلْنَا هذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدّعًا مّنْ خَشْيَةِ اللهِ) (١).

ثقيل بلحاظ التبليغ ومشاكل طريق الدعوة.

وثقيل في ميزان العمل وفي عرصة القيامة.

ولكن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه القلائل استطاعوا أن يتغلبوا على كل تلك هذه المشاكل باستمدادهم من تربية القرآن ، والإستعانة بصلاة الليل ، وبالاستفادة من قربهم من ذات الله المقدسة ، واستطاعوا بذلك حمل هذا القول الثقيل والوصول إلى مرادهم.

بحث

فضيلة صلاة الليل : هذه الآيات تبيّن أهمّية إحياء الليل بالعبادة وقراءة القرآن عندما يكون الغافلون نياماً ، فإنّ العبادة في الليل وبالخصوص عند السحر لها الأثر البالغ في تصفية الروح وتهذيب النفوس والتربية المعنوية للإنسان وطهارة القلب وإيقاظه ، وكذا في تقوية الإيمان والإرادة ، وتوكيد أركان التقوى في الروح والقلب ، ويمكن لمس ذلك بمجرّد الاختبار مرّة واحدة ، وقد أكّدت الروايات على ذلك بالإضافة إلى ما ذكرته الآيات القرآنية. منها ورد ـ في أمالي الطوسي ـ عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : إنّ من روح الله تعالى ثلاثة : التهجد بالليل ، وإفطار الصائم ، ولقاء الإخوان.

(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (٦) إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (٩) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) (١٠)

تأثير الدعاء والمناجاة في أعماق الليل : تستمر هذه الآيات في البحث حول عبادة الليل والتعاليم المعنوية الموجودة قراءة القرآن في الليل ، وهي بمنزلة بيان الدليل على ما جاء في الآيات السالفة ، فيقول تعالى : (إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطًا وَأَقْوَمُ قِيلاً).

__________________

(١) سورة الحشر / ٢١.

٢٩٥

«الناشئة : من مادة نشأ وتعني الحادثة ، وقد ذكر هنا ثلاثة تفاسير لما يراد منها.

الأوّل : المراد به ساعات الليل الحادثة بالتوالي.

والثاني : إنّ المراد هو إحياء الليل بالصلاة والعبادة وقراءة القرآن.

والثالث : الحالات المعنوية والروحية والنشاط والجذوة الملكوتية التي تحصل في القلب الإنسان وروحه في هذه الساعات الخاصّة بالليل ، والتي تكون آثارها في روح الإنسان أعمق واستمرارها أكثر ، والتّفسيران الثاني والثالث متلازمان ، ويمكن جمعها في ما يراد بمعنى الآية.

والتعبير ب (أَشَدُّ وَطًا) : التأثيرات الثابتة والراسخة الحاصلة من شعاع هذه العبادات في روح الإنسان.

«أقوم : من القيام ، ويراد بكونها أثبت للقول وأصوب لحضور القلب.

«قيلاً : تعني القول ، وتشير هنا إلى ذكر الله وقراءة القرآن.

إنّ هذه الآية من الآيات التي تحتوي على أبلغ الأحاديث حول العبادة الليلية ، ورمز إظهار المحبة مع المحبوب في ساعات يختلي فيها الحبيب بحبيبه وأكثر من غيرها.

ويضيف في الآية الاخرى : (إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً).

أي إنّك مشغول بهداية الخلق وإبلاغ الرسالة وحلّ المشاكل المتنوعة ، ولا مجال لك بالتوجه التام إلى ربّك والإنقطاع إليه بالذكر ، فعليك بالليل والعبادة فيه.

وهناك معنى أدق وتفسير يناسب الآيات السابقة أيضاً هو : أنّك تتحمل في النهار مشاغل ثقيلة ومساعي كثيرة ، فعليك بعبادة الليل لتقوى بها روحك وتستعد للفعاليات والنشاطات الكثيرة في النهار.

وبعد الإشارة إلى العبادة الليلية ، والإشارة الإجمالية إلى الآثارها العميقة يذكّر القرآن بخمسة أوامر اخرى مكملة لتلك فيقول : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ).

والطبيعي أنّ المراد ليس ذكر الإسم فحسب ، بل التوجه إلى المعنى ، لأنّ الذكر اللفظي مقدمة للذكر القلبي ، والذكر القلبي يبعث على صفاء القلب والروح ويروي منهل المعرفة والتقوى في القلب.

ويقول في الأمر الثاني : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً).

«التبتل : من البتل على وزن (حتم) ، وتعني في الأصل الإنقطاع ، ولهذا سمّيت مريم

٢٩٦

العذارء عليها‌السلام بالبتول ، لأنّها لم تتخذ لنفسها زوجاً وسمّيت الزهراء عليها‌السلام بالبتول لأنّها كانت أفضل نساء عصرها في السيرة والسلوك ، وكانت بالغة درجة الإنقطاع إلى الله تعالى.

فالتبتل هو التوجه القلبي التام إلى الله تعالى ، والإنقطاع عن غيره إليه تعالى ، والإتيان بالأعمال الخالصة لله ، وكذا الخلوص له تعالى.

ثم ينتهي إلى الأمر الثالث فيقول : (رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً).

وهنا تأتي مسألة إيداع الامور إلى الله ، وذلك بعد مرحلة ذكر الله والإخلاص ، إيداع الامور للربّ الذي بيده الحاكمية والربوبية على المشرق والمغرب والمعبود الوحيد المستحق للعبادة ، وهذا التعبير في الحقيقة هو بمنزلة الدليل على موضوع التوكل على الله ، فكيف لا يتوكل الإنسان عليه ، ولا يودعه أعماله ، وليس في العالم الواسع من حاكم وآمر ومنعم ومولى ومعبود غيره؟

وبالتالي يقول في الأمر الرابع والخامس : (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً).

ويأتي هنا مقام الصبر والهجران ، لكثرة إتهامات الأعداء وإيذاءهم له في طريق الدعوة إلى الله ، فالفلاح إذا أراد قطف الورود ، عليه أن يصبر ويتحمل أذى الأشواك ، مضافاً إلى ذلك يلزم الإبتعاد عنهم وهجرانهم أحياناً ، وليبقى في مأمن من شرّهم ، ويعطيهم بذلك درساً بالغاً ، ولا يعني ذلك قطع سبل التربية والتبليغ والدعوة إلى الله.

يقول الطبرسي رحمه‌الله في تفسير مجمع البيان في ذيل الآية مورد البحث : وفي هذا دلالة على وجوب الصبر على الأذى لمن يدعو إلى الدين والمعاشرة بأحسن الأخلاق ، واستعمال الرفق ليكونوا أقرب إلى الإجابة.

(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً (١٧) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) (١٩)

٢٩٧

أشارت الآية الأخيرة من الآيات السابقة إلى أقوال المشركين البذيئة ، وعدائهم وإيذائهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أمّا في هذه الآيات فإنّ الله تعالى يهددهم بالعذاب الأليم ، ويدعوهم إلى ترك ما هم عليه ، ويواسي المؤمنين الأوائل ، فيقول تعالى شأنه : (وَذَرْنِى وَالْمُكَذّبِينَ أُولِى النَّعْمَةِ وَمَهّلْهُمْ قَلِيلاً). أي دعني وايّاهم ، واترك عقابهم لي ومهلهم قليلاً. لتتمّ الحجة عليهم ولتظهر ماهيتهم الحقيقية ، ويُثقلوا ظهورهم بالخطايا فعندها يحلّ عليهم غضبي.

ولم يمض كثير حتى ازدادت شوكة المسلمين ، ووجهوا ضرباتهم القوية لأعداء الرسالة ، وذلك في معارك بدر وحنين والأحزاب ، وبالتالي كان العذاب الإلهي ينتظرهم في البرزخ ، حتى يخلدوا بعد ذلك في النار في يوم القيامة.

ثم يقول مصرّحاً : (إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا).

«الأنكال : جمع (نكل) ، على وزن (فكر) وهي السلاسل الثقال ، وأصلها من نكول الضعف والعجز ، أي أنّ الإنسان يفقد الحركة بتقييد أعضائه بالسلاسل.

نعم ، لقد تنعموا في الدنيا وأخذوا حريتهم المطلقة ، ولهذا لابدّ لهم من القيود والنار.

وكذا يضيف : (وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا).

هذا مصير من كان يتلذذ بالطعام بعكس ما كان طعامهم في الدنيا الحرام ، حيث العذاب الأليم ، ولما تمتع به المغرورون والمستكبرون من الراحة غير المشروعة في هذه الدنيا ، والطعام الموصوف بالغصّة هو بحد ذاته عذاب أليم ، ثم يتبع ذلك بذكر العذاب الأليم على إنفراد ، وهذا يشير إلى أنّ أبعاد العذاب الاخروي لا يعلم شدّته وعظمته إلّاالله تعالى ، ولهذا ورد في حديث أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سمع قارئاً يقرأ هذه فصعق (١).

ثم يشرح ما يجري في ذلك اليوم الذي يظهر فيه هذا العذاب فيقول : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلاً).

«الكثيب : يراد به الرمل المتراكم ؛ والمهيل : من هيل ـ على وزن كيل ـ هو صبّ شيء ناعم كالرمل على شيء ، ويراد بالمعنى هنا الرمل الناعم وما لا يستقر ، والمعنى أنّ الجبال تتلاشى بحيث تظهر بهيئة الرمل الناعم ، وإذا ما ديست بالأقدام فإنّها تطمس فيها.

ثم يقارن بين بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومخالفة الأشداء العرب ، وبين نهوض موسى بن عمران بوجه الفراعنة فيقول تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً).

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ١٠ / ١٦٦.

٢٩٨

إنّ هدف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هدايتكم والإشراف على أعمالكم كما كان هدف موسى عليه‌السلام هداية فرعون وأتباعه والإشراف على أعمالهم.

لم يكن جيش فرعون مانعاً من العذاب الإلهي ، ولم تكن سعة مملكتهم وأموالهم وثراؤهم سبباً لرفع هذا العذاب ، ففي النهاية اغرقوا في أمواج النيل المتلاطمة إذ أنّهم كانوا يتباهون بالنيل ، فبماذا تفكرون لأنفسكم وأنتم أقل عدّة وعدداً من فرعون وأتباعه وأضعف؟ وكيف تغترون بأموالكم وأعدادكم القليلة؟!

«الوبيل : من الوبل ويراد به المطر الشديد والثقيل ، وكذا يطلق على كل ما هو شديد وثقيل بالخصوص في العقوبات ، والآية تشير إلى شدّة العذاب النازل كالمطر.

ثم وجه الحديث إلى كفار عصر نبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ويحذرهم بقوله : (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا).

في الآية الاخرى يبيّن وصفاً أدقّ لذلك اليوم المهول فيضيف : (السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً).

فما حيلة الإنسان الضعيف العاجز عندما يرى تفطر السماوات بعظمتها لشدّة ذلك اليوم؟!

وفي النهاية يشير القرآن إلى جميع التحذيرات والإنذارات السابقة فيقول تعالى : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ). إنّكم مخيرون في اختيار السبيل (فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً). ولا فضيلة في اتّخاذ الطريق إلى الله بالإجبار والإكراه ، بل الفضيلة أن يختار الإنسان السبيل بنفسه وبمحض إرادته.

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٠)

٢٩٩

فاقرؤوا ما تيسّر من القرآن : هذه الآية هي من أطول آيات هذه السورة وتشتمل على مسائل كثيرة ، وهي مكملة لمحتوى الآيات السابقة ، فيقول تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثِىَ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ).

الآية تشير إلى نفس الحكم الذي أمر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في صدر السورة من قيام الليل والصلاة فيه ، وما اضيف في هذه الآية هو اشتراك المؤمنين في العبادة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (بصيغة حكم استحبابي أو باحتمال حكم وجوبي) ، لأنّ ظروف صدر الإسلام كانت تتجاوب مع بناء ذواتهم والإستعداد للتبليغ والدفاع عنه بالدروس العقائدية المقتبسة من القرآن المجيد ، وكذا بالعمل والأخلاق وقيام الليل ، ولكن يستفاد من بعض الروايات أنّ المؤمنين كانوا قد وقعوا في إشكالات ضبط الوقت للمدة المذكورة (الثلث والنصف والثلثين) ولذا كانوا يحتاطون في ذلك ، وكان ذلك يستدعي إستيقاظهم طول الليل والقيام حتى تتورم أقدامهم ، ولذا بُني هذا الحكم على التخفيف ، فقال : (عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ).

ثم يبيّن دليلاً آخراً للتخفيف فيضيف تعالى : (عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللهِ وَءَاخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ).

وهذا تخفيف آخر كما قلنا في الحكم ، ولذا يكرر قوله : (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ).

والواضح أنّ المرض والأسفار والجهاد في سبيل الله ذكرت بعنوان ثلاثة أمثلة للأعذار الموجهة ولا تعني الحصر ، والمعنى هو أنّ الله يعلم أنّكم سوف تلاقون كثيراً من المحن والمشاكل الحياتية ، وبالتالي تؤدّي إلى قطع المنهج الذي امرتم به ، فلذا خفف عليكم الحكم.

إنّ وجوب القراءة في صدر الإسلام لوجود الظروف الخاصة لذلك ، واعطي التخفيف بالنسبة للمقدار والحكم ، وظهر الإستحباب بالنسبة للمقدار الميسر.

يستفاد من الروايات الإسلامية إنّ فضائل قراءة القرآن في حسن القراءة والتدبر والتفكر فيها. وفي تفسير مجمع البيان : روي عن الإمام الرضا عليه‌السلام عن أبيه عن جده صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «ما تيسّر منه لكم فيه خشوع القلب وصفاء السر.

ثم يشير إلى أربعة أحكام اخرى ، وبهذه الطريقة يكمل البناء الروحي للإنسان فيقول : (وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدّمُوا لِأَنفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

٣٠٠