مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

والمراد من الصلاة هنا الصلوات الخمس المفروضة ، والمراد من الزكاة الزكاة المفروضة ، ومن إقراض الله تعالى هو إقراض الناس ، وهذه من أعظم العبارات المتصورة في هذا الباب ، فإنّ مالك الملك يستقرض بمن لا يملك لنفسه شيئاً ، ليرغبهم بهذه الطريقة للإنفاق والإيثار واكتساب الفضائل منها وليتربى ويتكامل بهذه الطريقة.

وذكر الإستغفار في آخر هذه الأوامر يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى : وإيّاكم والغرور إذا ما أنجزتم هذه الطاعات ، وبأن تتصوروا بأنّ لكم حقّاً على الله ، بل اعتبروا أنفسكم مقصرين على الدوام واعتذروا لله.

نهاية تفسير سورة المزّمل

* * *

٣٠١
٣٠٢

٧٤

سورة المدثر

محتوى السورة : إنّ سورة العلق هي أوّل سورة نزلت في صدر البعثة ، والمدّثر هي السورة الاولى التي نزلت بعد الدعوة العلنية.

فإنّ سياق السور المكية التي تشير إلى الدعوة وإلى المبدأ والمعاد ومقارعة الشرك وتهديد المخالفين وإنذارهم بالعذاب الإلهي واضح الوضوح في هذه السورة.

يدور البحث في هذه السورة حول سبعة محاور ، وهي :

١ ـ يأمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بإعلان الدعوة العلنية ، ويأمر أن ينذر المشركين ، والتمسك بالصبر والإستقامة في هذا الطريق والإستعداد الكامل لخوض هذا الطريق.

٢ ـ تشير إلى المعاد وأوصاف أهل النار الذين واجهوا القرآن بالتكذيب والإعراض عنه.

٣ ـ الإشارة إلى بعض خصوصيات النار مع إنذار الكافرين.

٤ ـ التأكيد على المعاد بالأقسام المكررة.

٥ ـ إرتباط عاقبة الإنسان بعمله ، ونفي كل أنواع التفكر غير المنطقي في هذا الإطار.

٦ ـ الإشارة إلى قسم من خصوصيات أهل النار وأهل الجنة وعواقبهما.

٧ ـ كيفية فرار الجهلة والمغرورين من الحق.

٣٠٣

فضيلة تلاوة السورة : في المجمع عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : من قرأ في الفريضة سورة المدّثر كان حقّاً على الله أن يجعله مع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في درجته ، ولايدركه في حياة الدنيا شقاء أبداً.

وبديهي أنّ هذه النتائج العظيمة لا تتحقق بمجرد قراءة الألفاظ فحسب ، بل لابدّ من التمعن في معانيها وتطبيقها حرفياً.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) (١٠)

سبب النّزول

إنّ النفر الذين آذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم أبو جهل وأبو لهب وأبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وامية بن خلف والعاص بن وائل اجتمعوا وقالوا : إنّ وفود العرب يجتمعون في أيّام الحج ويسألوننا عن أمر محمّد ، فكل واحد منّا يجيب بجواب آخر ، فواحد يقول مجنون ، وآخر يقول كاهن ، وآخر يقول شاعر ، فالعرب يستدلون باختلاف الأجوبة على كون هذه الأجوبة باطلة ، فتعالوا نجتمع على تسمية محمّد باسم واحد ، فقال واحد إنّه شاعر ، فقال الوليد : سمعت كلام عبيد بن الأبرص وكلام امية بن أبي الصلت ، وكلامه ما يشبه كلامهما ، وقال آخر كاهن ، قال الوليد ومن الكاهن؟ قالوا الّذي يصدق تارة ويكذب اخرى ، قال الوليد ما كذب محمّد قط ، فقال آخر إنّه مجنون ، قال الوليد ومن يكون المجنون؟ قالوا مخيف الناس ، فقال الوليد ما أخيف بمحمّد أحد قط ، ثم قام الوليد وانصرف إلى بيته ، فقال الناس صبأ الوليد بن المغيرة ، فدخل عليه أبو جهل ، وقال ما لك يا أبا عبد الشمس؟ هذه قريش تجمع لك شيئاً ، زعموا أنّك احتججت وصبأت ، فقال الوليد : ما لي إليه حاجة ولكني فكرت في محمّد ، فقلت إنّه ساحر ، لأنّ الساحر هو الّذي يفرق بين الأب وابنه وبين الأخوين ، وبين المرأة وزوجها ، ثم إنّهم اجتمعوا على تلقيب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا اللقب ، ثم إنّهم خرجوا فصرخوا بمكة والناس مجتمعون ، فقالوا : إنّ محمّداً لساحر ، فوقعت الضجة في الناس أنّ محمّداً ساحر ، فلما سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك اشتد عليه ، ورجع إلى بيته محزوناً فتدثر بثوبه ،

٣٠٤

فأنزل الله تعالى (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ) (١).

التّفسير

قم وانذر الناس : لا شك من أنّ المخاطب في هذه الآيات هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن لم يصرح باسمه ، ولكن القرائن تشير إلى ذلك ، فيقول أوّلاً : (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ). فلقد ولى زمن النوم والإستراحة ، وحان زمن النهوض والتبليغ.

ثم يعطي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خمسة أوامر مهمة بعد الدعوة إلى القيام والإنذار ، تعتبر منهاجاً يحتذي به الآخرون ، والأمر الأوّل هو في التوحيد ، فيقول : (وَرَبَّكَ فَكَبّرْ).

ذكر كلمة (ربّ) وتقديمها على (كبّر) الذي هو يدل على الحصر ، فليس المراد من جملة فكبّر هو (الله أكبر) فقط ، مع أنّ هذا القول هو من مصاديق التكبير كما ورد في الروايات ، بل المراد منه أنسب ربّك إلى الكبرياء والعظمة اعتقاداً وعملاً ، قولاً فعلاً وهو تنزيهه تعالى من كل نقص وعيب ، ووصفه بأوصاف الجمال ، بل هو أكبر من أن يوصف ، ولذا ورد في الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في معنى الله أكبر : الله أكبر من أن يوصف.

ثم صدر الأمر الثاني بعد مسألة التوحيد ، ويدور حول الطهارة من الدنس فيضيف : (وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ). التعبير بالثوب قد يكون كناية عن عمل الإنسان ، لأنّ عمل الإنسان بمنزلة لباسه ، وظاهره مبين لباطنه.

ويمكن أن يكون المعنى هو اللباس الظاهر ، لأنّ نظافة اللباس دليل على حسن التربية والثقافة ، خصوصاً في عصر الجاهلية حيث كان الإجتناب من النجاسة قليلاً وإنّ ملابسهم وسخة غالباً ، وكان الشائع عندهم تطويل أطراف الملابس بحيث كان يُسحل على الأرض ، وما ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام في معنى أنّه : ثيابك فقصر (٢) ، ناظر إلى هذا المعنى.

والحقيقة أنّ الآية تشير إلى أنّ القادة الإلهيين يمكنهم إبلاغ الرسالة عند طهارة جوانبهم من الأدران وسلامة تقواهم ، ولذا يستتبع أمر إبلاغ الرسالة والقيام بها أمر آخر ، هو النقاء والطهارة.

ويبيّن تعالى الأمر الثالث بقوله : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ).

__________________

(١) التفسير الكبير ٣٠ / ١٨٩.

(٢) تفسير مجمع البيان ١٠ / ١٧٥.

٣٠٥

والأصل أنّ معنى الرجز يطلق على الإضطراب والتزلزل ، وفي القرآن الكريم غالباً ما استعمل لفظ الرجز بمعنى العذاب.

فإنّ للآية مفهوماً جامعاً ، وهو الإنحراف والعمل السيء ، وتشمل الأعمال التي لا ترضي الله عزوجل ، والباعثة على سخط الله في الدنيا والآخرة ، ومن المؤكّد أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد هجر واتقى ذلك حتى قبل البعثة ، وقد جاء هذا الأمر هنا ليكون العنوان الأساس في مسير الدعوة إلى الله ، وليكون للناس اسوة حسنة.

ويقول تعالى في الأمر الرابع : (وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ).

هنا المتعلق محذوف أيضاً ، ويدل على سعة المفهوم وكلّيته ، ويشمل المنّة على الله والخلائق ، أي فلا تمنن على الله بسعيك واجتهادك.

وبعبارة اخرى : لا تمنن على الله بقيامك بالإنذار ودعوتك إلى التوحيد وتعظيمك لله وتطهيرك ثيابك وهجرك الرجز ، ولا تستعظم كل ذلك ، بل أعلم أنّه لو قدمت خدمة للناس سواءاً في الجوانب المعنوية كالإرشاد والهداية ، أم في الجوانب المادية كالإنفاق والعطاء فلا ينبغي أن تقدمها مقابل منّة ، أو توقع عوض أكبر ممّا أعطيت ، لأنّ المنّة تحبط الأعمال الصالحة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَاتُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالْأَذَى) (١).

ويشير في الآية الاخرى إلى الأمر الأخير في هذا المجال فيقول : (وَلِرَبّكَ فَاصْبِرْ).

أي : اصبر في طريق أداء الرسالة ، واصبر على أذى المشركين الجهلاء ، واستقم في طريق عبودية الله وطاعته ، واصبر في جهاد النفس وميدان الحرب مع الأعداء.

والمعروف أنّ الصبر هو الثروة الحقيقية لطريق الإبلاغ والهداية.

ثم إنّ الآيات الشريفة وفي تعقيب لأمر ورد في الآيات السابقة في إطار القيام وإنذار المشركين ، تؤكّد مرّة اخرى على الإنذار والتحذير ، فيقول تعالى : (فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ).

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) (١٧)

__________________

(١) سورة البقرة / ٢٦٤.

٣٠٦

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : نزلت الآيات في الوليد بن المغيرة المخزومي ، وذلك أنّ قريشاً اجتمعت في دارالندوة ، فقال لهم الوليد : إنّكم ذوو أحساب ، وذوو أحلام ، وإنّ العرب يأتونكم فينطلون من عندكم ، على أمر مختلف. فاجمعوا أمركم على شيء واحد ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا : نقول إنّه شاعر. فعبس عندها وقال : قد سمعنا الشعر فما يشبه قوله الشعر. فقالوا : نقول إنّه كاهن. قال : إذا تأتونه فلا تجدونه يحدث بما تحدث به الكهنة. قالوا : نقول إنّه لمجنون. فقال : إذا تأتونه فلا تجدونه مجنوناً. قالوا : نقول إنّه ساحر. قال : وما الساحر؟ فقالوا : بشر يحببون بين المتباغضين ويبغضون بين المتحابين. قال : فهو ساحر ، فخرجوا. فكان لا يلقى أحد منهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّاقال : يا ساحر ، يا ساحر. واشتدّ عليه ذلك فأنزل الله تعالى (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثّرُ) إلى قوله (إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ).

التّفسير

الوليد بن المغيرة ... الثري المغرور : تواصل هذه الآيات انذار الكفار والمشركين كما في الآيات السابقة مع فارق ، وهو أنّ الآيات السابقة كانت تنذر الكافرين بشكل عام ، وهذه تنذر أفراداً معينين بتعابير قوية وبليغة بأشدّ الإنذارات ، فيقول تعالى : (ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا). والآيات الآتية نزلت في الوليد بن المغيرة كما قلنا.

ثم يضيف تعالى : (وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُودًا).

وقيل : إنّ أمواله بلغت حدّاً من الكثرة بحيث ملك الإبل والخيول والأراضي الشاسعة ما بين مكة والطائف ، وقيل إنّه يملك ضياع ومزارع دائمة الحصاد ، وله مائة ألف دينار ذهب ، وكل هذه المعاني تجتمع في كلمة الممدود.

ثم أشار تعالى إلى قوّته في قوله : (وَبَنِينَ شُهُودًا).

إذ كانوا يعينونه على حياته ، وحضورهم انس وراحة له ، إذ كان له عشرة بنين ، كما في الروايات.

ثم يستطرد بذكر النعم التي وهبها له. يقول تعالى : (وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا).

ولم يهبه ما ينفع من المال والأولاد فحسب ، بل أغدق عليه ما يريد من جاه وقوّة.

«التمهيد : من المهد وهو ما يستخدم لنوم الطفل ، ويطلق على ما يتهيأ من وسائل الراحة والمقام وانتظام الامور.

٣٠٧

ولكنّه كفر بما أنعم الله عليه وهو بذلك يريد المزيد : (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ). وليس هذا منحصراً بالوليد ، بل إنّ عبيد الدنيا على هذه الشاكلة أيضاً ، فلن يروى عطشهم مطلقاً ، ولو أعطوا الأقاليم السبعة لما اكتفوا بذلك.

والآية الاخرى تردع الوليد بشدّة ، يقول تعالى : (كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِأَيَاتِنَا عَنِيدًا).

ومع أنّه كان يعلم أنّ هذا القرآن ليس من كلام الجن أو الإنس ، بل متجذر في الفطرة ، وله جاذبية خاصة وأغصان مثمرة ، فكان يعاند ويعتبر ذلك سحراً ومظهره ساحراً.

«العنيد : من العناد وقيل هو المخالفة والعناد مع المعرفة ، أي أنّه يعلم بأحقّية الشيء ثم يخالفه عناداً ، والوليد مصداق واضح لهذا المعنى.

وأشار في آخر آية إلى مصيره المؤلم ، فيقول تعالى : (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا).

«سارهقه : من الإرهاق وهو غشيان الشيء بالعنف ، وتعني أيضاً فرض العقوبات الصعبة ، جاء بمعنى الإبتلاء بأنواع العذاب ، والصعود ، إشارة إلى ما سيناله من سوء العذاب ، ويستعمل في العمل الشاق.

ويحتمل أن يراد به العذاب الدنيوي للوليد بن المغيرة. قال مقاتل : ما زال الوليد بعد نزول الآية في نقص من ماله وولد حتى هلك (١).

(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقَالَ إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) (٢٥)

(فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ :) في هذه الآيات توضيحات كثيرة عمّن أعطاه الله المال والبنين وخالف بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. أي الوليد بن المغيرة. يقول تعالى : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ).

«قدّر : من التقدير ، وهو التهيؤ لنظم أمر في الذهن والتصميم على تطبيقه.

ثم يضيف في مذمته : (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ).

بعدئذ يؤكّد ذلك فيضيف : (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ). وهذا إشارة لما قيل في سبب النّزول حيث كان يرى توحيد الأقوال فيما يقذف به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فإنّ تكرار المعنى في الآيتين دليل على دهاء الوليد في تفكره الشيطاني ، ولذا كانت شدّة تفكره سبباً للتعجب.

__________________

(١) تفسير المراغي ٢٩ / ١٣١.

٣٠٨

بعدئذ يضيف الله تعالى : (ثُمَّ نَظَرَ). أي نظر بعد التفكر والتقدير نظرة من يريد أن يقضي في أمر مهمّ ليطمئن من استحكامه وانسجامه : (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ).

بهذه الأقوال يظهر عداءه للقرآن المجيد ، وذلك بعد تفكره الشيطاني ، وبقوله هذا صار يمدح القرآن من حيث لا يدري ، إذ أشار إلى جاذبية القرآن الخارقة وتسخيره للقلوب.

على كل حال هو إقرار ضمني بإعجاز القرآن. وليس للقرآن أي علاقة وتشبيه بأعمال السحرة ، فهو كلام رصين عميق المعاني وجذاب لا نظير له كما يقول الوليد ، فإنّه ليس من كلام البشر ، وإن كان كذلك لكانوا قد أتوا بمثله ، وهذا ما دعا إليه القرآن كراراً.

(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (٢٧) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) (٣٠)

المصير المشؤوم : في هذه الآيات بيان للعقوبات المؤلمة لمن أنكر القرآن والرسالة ، وكذب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ما أشارت إليه الآيات السابقة فيقول الله تعالى : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ).

«سقر : في الأصل من سقر على وزن فقر ، بمعنى التغير والذوبان من أثر حرارة الشمس ، هو من أحد أسماء جهنم ، كثير ما ذكر في القرآن.

ثم يبيّن عظمة وشدّة عذاب النار فيقول : (وَمَا أَدْرَيكَ مَا سَقَرُ). أي إنّ العذاب يكون شديداً إلى حدّ يخرج عن دائرة التصور ، ولا يخطر على بال أحدٍ ، كما هو الحال في عدم إدراك عظمة النعم الإلهية في الجنان.

(لَا تَبْقَى وَلَا تَذَرُ). قد تكون هذه الآية إشارة إلى أنّ نار جهنم بخلاف نار الدنيا التي ربّما تركت بعض ما ألقي فيها ولم تحرقه ، وإذا نالت إنساناً مثلاً نالت جسمه وصفاته الجسمية وتبقى روحه وصفاته الروحية في أمان منها ، وأمّا سقر فلا تدع أحداً ممن ألقي فيها إلّا نالته واحتوئه بجميع وجوده ، فهي نار شاملة تستوعب جميع من القي فيها.

ثم ينتقل إلى بيان وصف آخر للنار المحرقة فيضيف : (لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ).

إنّها تجعل الوجه مظلماً أسود أشد سواداً من الليل.

«بشر : جمع بشرة ، وتعني الجلد الظاهر للجسد.

«لوّاحة : من مادة لوح وتعني أحياناً الظاهر ، وأحياناً بمعنى التغيير ، ويكون المعنى

٣٠٩

بمقتضى التّفسير الأوّل : (أنّ جهنم ظاهرة للعيان).

كما جاء في الآية (٣٦) من سورة النازعات : (وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى). وبمقتضى التفسير الثاني يكون المعنى : أنّها تغير لون الجلود.

وفي آخر آية من آيات مورد البحث يقول تعالى : (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ).

إنّهم ليسوا مأمورين بالرحمة والشفقة ، بل إنّهم مأمورين بالعذاب والغلظة ، وأمّا الآية الاخرى التي تليها فإنّها تشير إلى أنّ هذا العدد هم ملائكة العذاب.

ومن هنا يتّضح ضعف وعجز أفكار اناس من قبيل أبي جهل. في تفسير مجمع البيان : قالوا : ولما نزلت هذه الآية قال أبوجهل لقريش : ثكلتكم امهاتكم أتسمعون ابن أبي كبشة يخبركم أنّ خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدّهم الشجعان أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم؟ فقال أبو الأسد الجمحي : أنا أكفيكم سبعة عشر : عشرة على ظهري وسبعة على بطني فاكفوني أنتم اثنين.

(وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَا ذَا أَرَادَ اللهُ بِهذَا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) (٣١)

لِمَ هذا العدد من أصحاب النار : ذكر الله سبحانه وتعالى كما قرأنا في الآيات السابقة عدد خزنة جهنم ومأموريها وهم تسعة عشر نفراً (أو مجموعة) ، وكذا قرأنا أنّ ذكر هذا العدد صار سبباً للحديث بين أوساط المشركين والكفار ، واتّخذ بعضهم ذلك سخرية ، وظنّ القليل منهم أنّ الغلبة على اولئك ليس أمراً صعباً ، الآية أعلاه والتي هي أطول آيات هذه السورة تجيب عليهم وتوضح حقائق كثيرة في هذا الصدد. فيقول تعالى أوّلاً : (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلِكَةً) (١). ملائكة أقوياء مقتدرون وكما يعبّر القرآن غلاظ ، شداد ، قساة ، في مقابل المذنبين بجمعهم الغفير وهم ضعفاء عاجزون.

__________________

(١) أصحاب النار : ذكرت هذه العبارة في كثير من آيات القرآن وكلّها تعني الجهنميين ، إلّافي هذا الموضع فإنّهابمعنى خزنة جهنم ، وذكر هذه العبارة يشير إلى أنّ كلمة سقر في الآيات السابقة تعني جهنم بكاملها وليس قسماً خاصّاً منها.

٣١٠

ثم يضيف تعالى : (وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا).

وهذا الإختبار من وجهين :

الأوّل : لأنّهم كانوا يستهزئون بالعدد تسعة عشر ، ويتساءلون عن سبب اختيار هذا العدد ، في حين لو وضع عدد آخر لكانوا قد سألوا السؤال نفسه.

والوجه الثاني : أنّهم كانوا يستقلون هذا العدد ويسخرون من ذلك بقولهم : لكل واحد منهم عشرة منّا ، لتكسر شوكتهم.

في حين أنّ ملائكة الله وصفوا في القرآن بأنّ نفراً منهم يؤمرون بإهلاك قوم لوط عليه‌السلام ويقلبون عليهم مدينتهم.

ثم يضيف تعالى أيضاً : (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ).

وسكوت هؤلاء اليهود وعدم اعتراضهم على هذا الجواب يدلّ على أنّه موافق لما هو مذكور في كتبهم ، وهذا مدعاة لإزدياد يقينهم بنبوّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصار قبولهم هذا سبباً في تمسك المؤمنين بإيمانهم وعقائدهم. لذا تضيف الآية في الفقرة الاخرى : (وَيَزْدَادَ الَّذِينَءَامَنُوا إِيمَانًا).

ثم تعود مباشرة بعد ذكر هذه الآية إلى التأكيد على تلك الأهداف الثلاثة ، إذ يعتمد مجدداً على إيمان أهل الكتاب ، ثم المؤمنين ، ثم على اختبار الكفار والمشركين ، فيقول : (وَلَا يَرْتَابُ الَّذِينَ أُتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهذَا مَثَلاً).

عبارة : (الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ) اطلقت على جميع الكفار والمعاندين والمحاربين لآيات الحق.

ثم يضيف حول كيفية استفادة المؤمنين والكفار والذين في قلوبهم مرض من كلام الله تعالى ؛ فيقول تعالى : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ).

إنّ الجمل السابقة تشير بوضوح إلى أنّ المشيئة والإرادة الإلهية لهداية البعض واضلال البعض الأخر ليس اعتباطاً ، فإنّ المعاندين والذين في قلوبهم مرض لا يستحقون إلّا الضلال ، والمؤمنون والمسلّمون لأمر الله هم المستحقون للهدى.

ويقول في نهاية الآية : (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِىَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ).

فالحديث عن التسعة عشر من خزنة النار ، ليس لتحديد ملائكة الله تعالى ، بل إنّهم

٣١١

كثيرون جدّاً أنّ الروايات تصفهم أنّهم يملؤون السماوات والأرض.

أوّل خطبة في نهج البلاغة للإمام علي عليه‌السلام حول هذا الموضوع حيث يقول : ثم فتق ما بين السماوات العلا ، فملأهنّ أطواراً من ملائكته ، منهم سجود لا يركعون ، وركوع لا ينتصبون ، وصافون لا يتزايلون ، ومسبحون لا يسأمون ، لا يغشاهم نوم العيون ، ولا سهو العقول ، ولا فترة الأبدان ، ولا غفلة النسيان ، ومنهم أمناء على وحيه ، وألسنة إلى رسله ، ومختلفون بقضائه وأمره ، ومنهم الحفظة لعباده والسدنة لأبواب جنانه ، ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم ، والمارقة من السماء العليا أعناقهم ، والخارجة من الأقطار أركانهم ، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم ، ناكسة دونه أبصارهم ، متلفعون تحته بأجنحتهم ، مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة ، وأستار القدرة ، لا يتوهمون ربّهم بالتصوير ولا يجرون عليه صفات المصنوعين ، ولا يحدّونه بالأماكن ، ولا يشيرون إليه بالنظائر.

(كَلَّا وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) (٣٧)

استمراراً للبحث مع المنكرين لنبوّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله واليوم الآخر تؤكّد الآيات التالية في أقسام عديدة على مسألة القيامة والجحيم وعذابها ، فيقول تعالى : (كَلَّا وَالْقَمَرِ).

وأقسم بالقمر لأنّه إحدى الآيات الإلهية الكبرى ، لما فيه من الخلقة والدوران المعظم والنور والجمال والتغييرات التدريجية الحاصلة فيه لتعيين الأيام باعتباره تقويماً حيّاً كذلك.

ثم يضيف : (وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ). (وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ) (١).

والليل وإن كان باعثاً على الهدوء والظلام وعنده سرّ عشاق الليل ، ولكن الليل المظلم يكون جميلاً عندما يدبر ويتجه العالم نحو الصبح المضيء وآخر السحر ، وطلوع الصبح المنهي للّيل المظلم أصفى وأجمل من كل شيء حيث يثير في الإنسان النشاط ويجعله غارقاً في النور والصفاء.

هذه الأقسام الثلاثة تتناسب ضمنياً مع نور الهداية (القرآن) واستدبار الظلمات

__________________

(١) أسفر : من مادة سفر على وزن (قفر) ويعني انجلاء الملابس وانكشاف الحجاب ، ولذا يقال للنساء المتبرجات (سافرات) وهذا التعبير يشمل تشبيهاً جميلاً لطلوع الشمس.

٣١٢

(الشرك) وعبادة (الأصنام) وطلوع بياض الصباح (التوحيد) ، ثم ينتهي إلى تبيان ما أقسم من أجله فيقول تعالى (إنّها لأحدي الكبر).

ثم يضيف تعالى : (نَذِيرًا لّلْبَشَرِ). لينذر الجميع ويحذرهم من العذاب الموحش الذي ينتظر الكفار والمذنبين وأعداء الحق.

وفي النهاية يؤكّد مضيفاً أنّ هذا العذاب لا يخص جماعة دون جماعة ، بل : (لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ). فهنيئاً لمن يتقدم ، وتعساً وترحاً لمن يتأخر.

(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٤٨)

لِم صرتم من أصحاب الجحيم : إكمالاً للبحث الذي ورد حول النار وأهلها في الآيات السابقة ، يضيف تعالى في هذه الآيات : (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ).

«رهينة : من مادة رهن وهي وثيقة تعطى عادة مقابل القرض ، وكأن نفس الإنسان محبوسة حتى تؤدّي وظائفها وتكاليفها ، فإن أدت ما عليها فكت وأطلقت ، وإلّا فهي باقية رهينة ومحبوسة دائماً. لذا يضيف مباشرة : (إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ).

إنّهم حطموا أغلال وسلاسل الحبس بشعاع الإيمان والعمل الصالح ويدخلون الجنة بدون حساب.

وأصحاب اليمين هم الذين يحملون كتبهم بيمينهم ، فهم ذوو إيمان وعمل صالح ، وإذا كانت لهم ذنوب صغيرة فإنّها تمحى بالحسنات وذلك بحكم : (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ) (١).

فحينئذ تغطّي حسناتهم سيئاتهم أو يدخلون الجنة بلا حساب ، وإذا وقفوا للحساب فسيخفف عليهم ذلك ويسهل ، كما جاء في الآية (٧ و ٨) من سورة الإنشقاق : (فَأَمَّا مَنْ

__________________

(١) سورة هود / ١١٤.

٣١٣

أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا).

في تفسير القرطبي : قال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : نحن وشيعتنا أصحاب اليمين ، وكل من أبغضنا أهل البيت فهم المرتهنون.

ثم يضيف مبيّناً جانباً من أصحاب اليمين والجماعة المقابلة لهم : (فِى جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ).

يستفاد من هذه الآيات أنّ الرابطة غير منقطعة بين أهل الجنان وأهل النار ، فيمكنهم مشاهدة أحوال أهل النار والتحدث معهم ، ولكن ماذا سيجيب المجرومون عن سؤال أصحاب اليمين؟ إنّهم يعترفون بأربع خطايا كبيرة كانوا قد ارتكبوها :

الاولى : (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ). لو كنّا مصلّين لذكّرتنا الصلاة بالله تعالى ، ونهتنا عن الفحشاء والمنكر ودعتنا إلى صراط الله المستقيم.

والثانية : (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ). وهذه الجملة وإن كانت تعطي معنى إطعام المحتاجين ، ولكن الظاهر أنّه يراد بها المساعدة والإعانة الضرورية للمحتاجين عموماً بما ترتفع بها حوائجهم كالمأكل والملبس والمسكن وغير ذلك.

وصرّح المفسرون أنّ المراد بها الزكاة المفروضة ، لأنّ ترك الإنفاق المستحب لا يكون سبباً في دخول النار.

والثالثة : (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ). نخوض : من مادة خوض على وزن (حوض) ، وتعني في الأصل الغور والحركة في الماء ، ويطلق على الدخول والتلوث بالامور ، والقرآن غالباً ما يستعمل هذه اللفظة في الإشتغال بالباطل والغور فيه.

(الخوض في الباطل) له معان واسعة فهو يشمل الدخول في المجالس التي تتعرض فيها آيات الله للإستهزاء أو ما تروج فيها البدع ، أو المزاح الوقح ، أو التحدث عن المحارم المرتكبة بعنوان الإفتخار والتلذذ بذكرها ، وكذلك المشاركة في مجالس الغيبة والإتهام واللهو واللعب وأمثال ذلك ، ولكن المعنى الذي انصرفت إليه الآية هو الخوض في مجالس الإستهزاء بالدين والمقدسات وتضعيفها وترويج الكفر والشرك.

وأخيراً يضيف : (وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدّينِ * حَتَّى أَتنَا الْيَقِينُ).

من الواضح أنّ إنكار المعاد ويوم الحساب والجزاء يزلزل جميع القيم الإلهية والأخلاقية ، ويشجع الإنسان على ارتكاب المحارم. على كل حال فإنّ ما يستفاد من هذه الآيات أنّ

٣١٤

الكفار هم مكلّفون بفروع الدين ، كما هم مكلّفون بالاصول ، وكذلك تشير إلى أنّ الأركان الأربعة ، أي الصلاة والزكاة وترك مجالس أهل الباطل ، والإيمان بالقيامة لها الأثر البالغ في تربية وهداية الإنسان ، وبهذا لا يمكن أن يكون الجحيم مكاناً للمصلين الواقعيين ، والمؤتين الزكاة ، والتاركين الباطل والمؤمنين بالقيامة.

وفي الآية الأخيرة محل البحث إشارة إلى العاقبة السيئة لهذه الجماعة فيقول تعالى : (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ). فلا تنفعهم شفاعة الأنبياء ورسل الله والائمة ، ولا الملائكة والصديقين والشهداء والصالحين ، ولأنّها تحتاج إلى عوامل مساعدة وهؤلاء أبادوا كل هذه العوامل ، فالشفاعة كالماء الزلال الذي تسقى به النبتة الفتية ، وبديهي إذا ماتت النبتة الفتية ، لا يمكن للماء الزلال أن يحييها.

وهذه الآية تؤكّد مرّةً اخرى مسألة الشفاعة وتنوع وتعدد الشفعاء عند الله ، وهي جواب قاطع لمن ينكر الشفاعة ، وكذلك تؤكّد على أنّ للشفاعة شروطاً وأنّها لا تعني اعطاء الضوء الأخضر لإرتكاب الذنوب ، بل هي عامل مساعد لتربية الإنسان وايصاله على الأقل إلى مرحلة تكون له القابلية على التشفع ، بحيث لا تنقطع وشائج العلاقة بينه وبين الله تعالى والأولياء.

(فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) (٥٦)

يفرّون من الحق كما تفرّ الحمر من الأسد : تتابع هذه الآيات ما ورد في الآيات السابقة من البحث حول مصير المجرمين وأهل النار ، وتعكس أوضح تصوير في خوف هذه الجماعة المعاندة ورعبها من سماع حديث الحق والحقيقة. فيقول الله تعالى أوّلاً : (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ). (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ).

«حمر : جمع (حمار) والمراد هنا الحمار الوحشي.

«قسورة : من مادة قسر أي القهر والغلبة ، وهي أحد أسماء الأسد.

٣١٥

فإنّ هذه الآية تعبير بالغ عن خوف المشركين وفرارهم من الآيات القرآنية المربية للروح ، فشبههم بالحمار الوحشي لأنّهم عديمو العقل والشعور ، وكذلك لتوحشّهم من كل شيء ، في حين أنّه ليس مقابلهم سوى التذكرة.

(بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً). وذلك لتكبّرهم وغرورهم الفارغ بحيث يتوقعون من الله تعالى أن ينزل على كل واحد منهم كتاباً.

وهذا نظير ما جاء في الآية (٩٣) من سورة الإسراء : (وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ).

ولذا يضيف في الآية الاخرى : (كَلَّا). ليس كما يقولون ويزعمون ، فإنّ طلب نزول مثل هذا الكتاب وغيره هي من الحجج الواهية ، والحقيقة : (بَل لَّايَخَافُونَ الْأَخِرَةَ).

والحق يقال إنّ الإيمان بعالم البعث والجزاء وعذاب القيامة يهب للإنسان شخصية جديدة يمكنه أن يغير إنساناً متكبراً ومغروراً وظالماً إلى إنسان مؤمن متواضع ومتقٍ عادل.

ثم يؤكّد القرآن على أنّ ما يفكرون به فيما يخصّ القرآن هو تفكّر خاطىء : (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ).

وفي الوقت نفسه لا يمكن ذلك إلّابتوفيق من الله وبمشيئته تعالى : (وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ). يعني أنّ الإنسان لا يمكنه الحصول على طريق الهداية إلّابالتوسل بالله تعالى وطلب الموفقية منه.

وفي النهاية يقول : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ). فهو أهل لأن يخافوا من عقابه وأن يتقوا في اتّخاذهم شريكاً له تعالى شأنه ، وأن يأملوا مغفرته ، وفي الحقيقة ، أنّ هذه الآية إشارة إلى الخوف والرجاء والعذاب والمغفرة الإلهية ، وهي تعليل لما جاء في الآية السابقة.

وهناك احتمالاً آخر ، وهو أن تؤخذ التقوى بمعناها الفاعلي ، أي أنّ الله أهل للتقوى من كل أنواع الظلم والقبح ومن كل ما يخالف الحكمة ، وما عند العباد من التقوى هو قبس ضعيف من ما عند الله.

إنّ الآية قد بدأت بالإنذار والتكليف ، وانتهت بالدعوة إلى التقوى والوعد بالمغفرة.

نهاية تفسير سوره المدّثّر

* * *

٣١٦

٧٥

سورة القيامة

محتوى السورة : كما هو واضح من اسم السورة فإنّ مباحثها تدور حول مسائل ترتبط بالمعاد ويوم القيامة إلّابعض الآيات التي تتحدث حول القرآن والمكذبين ، وأمّا الآيات المرتبطة بيوم القيامة فإنّها تجتمع في أربعة محاور :

١ ـ المسائل المرتبطة بأشراط الساعة.

٢ ـ المسائل المتعلقة بأحوال الصالحين والطالحين في ذلك اليوم.

٣ ـ المسائل المتعلقة باللحظات العسيرة للموت والإنتقال إلى العالم الآخر.

٤ ـ الأبحاث المتعلقة بالهدف من خلق الإنسان ورابطة ذلك بمسألة المعاد.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ومن قرأ سورة القيامة شهدت أنا وجبريل له يوم القيامة أنّه كان مؤمناً بيوم القيامة ، وجاء ووجهه مسفر على وجوه الخلائق يوم القيامة.

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : من أدمن قراءة لا اقسم وكان يعمل بها ، بعثها الله يوم القيامة معه في قبره ، في أحسن صورة تبشر وتضحك في وجهه حتى يجوز الصراط والميزان.

والجدير بالملاحظة أنّ ما كنّا نستوحيه من الروايات الواردة في فضائل تلاوة السور القرآنية قد صرّح بها الإمام هنا في هذه الرواية حيث يقول : من أدمن قراءة لا اقسم وكان يعمل بها ، ولذا فإنّ كل ذلك هو مقدمة لتطبيق المضمون.

٣١٧

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (١) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (٣) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (٥) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ) (٦)

قسماً بيوم القيامة والنفس اللوامة : تبدأ هذه السورة بقَسمين غزيرين بالمعاني ، فيقول تعالى : (لَاأُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيمَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ).

وفي العلاقة والرابطة الموجودة بين القسمين ؛ الحقيقة أنّ أحد دلائل وجود المعاد هو وجود محكمة الوجدان الموجودة في أعماق الإنسان ، والتي تنشط وتسر عند الإقدام لإنجاز عمل صالح ، وبهذه الطريقة تثيب صاحبها وتكافئه ، وعند إرتكاب الأعمال السيئة والرذيلة فإنّها سوف تقوم بتقريع صاحبها وتأنّبه وتعذبه إلى حدّ أنّه قد يقدم على الإنتحار للتخلص ممّا يمرّ فيه من عذاب الضمير.

عندما يكون (العالم الصغير) أي وجود الإنسان محكمة في قلبه ، فكيف يمكن للعالم الكبير أن لا يملك محكمة عدل عظمى؟

فمن هنا نفهم وجود البعث والقيامة بواسطة وجود الضمير الأخلاقي ، ومن هنا تتّضح الرابطة الظريفة بين القَسَمين. وبعبارة اخرى : فإنّ القسم الثاني هو دليل على القسم الأوّل.

ثم يستفهم تعالى في الآية الاخرى للتوبيخ فيضيف : (أَيَحْسَبُ الْإِنسنُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ* بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ).

ويمكن أن يكون ذلك إشارة لطيفة إلى الخطوط الموجودة في أطراف الأصابع والتي نادراً ما تتساوى هذه الخطوط عند شخصين.

وفي الآية الاخرى إشارة إلى أحد العلل الحقيقة لإنكار المعاد فيقول : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنسنُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ). إنّهم يريدون أن يكذبوا بالبعث وينكروا المعاد ، ليتسنى لهم الظلم وارتكاب المحارم والتنصل عن المسؤولية أمام الخلق.

ثم يضيف بعد ذلك : (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيمَةِ).

أجل ، إنّه يستفهم مستنكراً عن وقوع يوم القيامة ويهرب ممّا كُلّف به لكي يفسح لنفسه طريق الفجور أمامه.

٣١٨

بحث

(محكمة الضمير أو القيامة الصغرى : نستفيد من آيات القرآن المجيد أنّ للنفس الإنسانية ثلاث مراحل :

١ ـ النفس الأمارة : وهي النفس العاصية التي تدعو الإنسان إلى الرذائل والقبائح باستمرار ، وتزيّن له الشهوات.

٢ ـ النفس اللوامة : وهي ما اشير إليها في الآيات التي ورد البحث فيها ، وهي نفس يقظة وواعية نسبياً ، فهي تزل أحياناً لعدم حصولها على حصانة كافية مقابل الذنوب ، وتقع في شبك الآثام إلّاأنّها تستيقظ بعد فترة لتتوب وترجع إلى مسير السعادة.

وهذا هو ما يذكرونه تحت عنوان (الضمير الأخلاقي) ويكون هذا قوياً جدّاً عند بعض الأفراد ، وضعيفاً وعاجزاً عند آخرين ، ولكن النفس اللوامة لا تموت بكثرة الذنوب عند أي إنسان.

٣ ـ النفس المطمئنة : وهي النفس المتكاملة المنتهية إلى مرحلة الإطمئنان والطاعة والمنتهية إلى مقام التقوى والإحساس بالمسؤولية وليس من السهل انحرافها.

إنّ النفس اللوامة هي كالقيامة الصغرى في داخل الروح والتي تقوم بمحاسبة الإنسان ، ولذا تحس أحياناً بالهدوء والإستقرار بعد القيام بالأعمال الصالحة وتمتليء بالسرور والفرح والنشاط.

هذه المحكمة الداخلية العجيبة لها شبه عجيب بمحكمة القيامة.

أ) إنّ القاضي والشاهد والمنفذ للأحكام واحد ، كما في يوم القيامة : (عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ) (١).

ب) إنّ هذه المحكمة ترفض كل توصية ورشوة وواسطة ، كما هو الحال في محكمة يوم القيامة ، فيقول تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّاتَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ) (٢).

ج) إنّ محكمة الضمير تحقق وتدقق في الملفات المهمّة بأقصر مدّة وتصدر الحكم بأسرع وقت ، وهذا هو ما نقرأهُ أيضاً في محكمة البعث : (وَاللهُ يَحْكُمُ لَامُعَقّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (٣).

__________________

(١) سورة الزمر / ٤٦.

(٢) سورة البقرة / ٤٨.

(٣) سورة الرعد / ٤١.

٣١٩

د) مجازاتها وعقوباتها ليست كعقوبات المحاكم الرسمية العالمية ، فإنّ شرر النيران تتقد في الوهلة الاولى في أعماق القلب والروح ، ثم تسري إلى الخارج ، فتعذب روح الإنسان أوّلاً ، ثم تظهر آثارها في الجسم وملامح الوجه وطبيعة النوم والأكل ، فيعبّر تعالى عن ذلك في قوله : (نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) (١).

ه) عدم إحتياج هذه المحكمة إلى شهود ، بل إنّ المعلومات التي يعطيها الإنسان المتهم بنفسه والذي يكون شاهداً على نفسه هي التي تقبل منه ، نافعة كانت له أم ضارة ؛ كما تشهد ذرات وجود الإنسان حتى يداه وجلده على أعماله في محكمة البعث ، فيقول تعالى : (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم) (٢).

وهذا التشبيه العجيب بين المحكمتين دليل آخر على فطرية الإعتقاد بالمعاد ، لأنّه كيف يمكن أن يكون في الإنسان الذي يعتبر قطرة صغيرة في محيط الوجود العظيم هكذا حساب ومحاكم مليئة بالرموز والأسرار في حين لا يوجد حساب ومحاكم في هذا العالم الكبير؟ فهذا ما لا يصدق.

(فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلَّا لَا وَزَرَ (١١) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) (١٥)

أنهت الآيات السابقة بسؤال كان قد وجهه المنكرون للبعث يوم القيامة ، وهو يوم القيامة متى يأتي ذلك اليوم؟ وهذه الآيات هي التي تجيب عن هذه السؤال.

فتشير أوّلاً إلى الحوادث السابقة للبعث ، أي إلى التحول العظيم وإنعدام القوانين في الأنظمة الكونية فيقول تعالى : (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ). بمعنى اضطراب العين ودورانها من شدّة الخوف والرعب : (وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ).

وفي ما يراد بالجمع بين الشمس والقمر ، فيحتمل أن ينجذب القمر تدريجياً بواسطة الشمس باتجاهها ثم اجتماعهما معاً بعد ذلك ، وينتهي بالتالي ضياؤهما.

فيقول تعالى في سورة التكوير : (إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ). أي إذا أظلمت الشمس ، ونعلم

__________________

(١) سورة الهمزة / ٦ و ٧.

(٢) سورة فصّلت / ٢٠.

٣٢٠