مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

يتعلق بنشر آيات الحق بواسطة الملائكة ، ثم فصل الحق عن الباطل ، وبعد ذلك إلقاء الذكر والأوامر الإلهية على الأنبياء بقصد إتمام الحجّة والإنذار.

والآن لابدّ أن نرى الغرض من هذه الأيمان ، الآية التالية ترفع الستار عن هذا المعنى ، فتقول : (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ).

إنّ البعث والنشور ، والثواب والعقاب والحساب والجزاء كلّها حق لا ريب فيه.

ثم ينتهي إلى تبيان علامات ذلك اليوم الموعود ، فيقول : إذا تحقق ذلك اليوم الموعود فإنّ النجوم سوف تنطفيء وتمحى : (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ).

وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ) أي انشقت.

(وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ). أي زالت وانقلعت من مكانها.

«طمست : من مادة طمس وهو محو وزوال آثار الشيء ؛ وهنا إشارة إلى محو نور النجوم.

«نسفت : من مادة نسف ـ على وزن حذف ـ وفي الأصل ، بمعنى وضع حبوب الغذاء في الغربال وتحريكه لعزل القشور عن الحبوب ، ويعني هنا تفتيت الجبال ثم نسفها في الريح ، ونستوحي من بعض آيات القرآن المجيد أنّ انقراض العالم يلازم وقوع حوادث مهولة بحيث يتلاشى نظام العالم بكامله ، وحلول نظام الآخرة الجديد مكان ذلك النظام.

ثم أشار القرآن بعد ذلك إلى ما يجري في البعث ، فيضيف : وفي ذلك الوقت يتمّ تعيين وقت للأنبياء والرسل ليأتوا إلى ساحة المحشر ويدلوا بشهادتهم : (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقّتَتْ) (١).

وهو كقوله : (فَلَنَسَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (٢).

ثم يضيف تعالى : (لِأَىّ يَوْمٍ أُجّلَتْ). أي لماذا تمّ تأخير هذه الشهادة ولأي وقت؟

ثم يقول : (لِيَوْمِ الْفَصْلِ). يوم فصل الحق عن الباطل ، فصل صفوف المؤمنين عن الكافرين ، والأبرار عن الأشرار ، ويوم حكم الله المطلق على الجميع.

ثم يبيّن عظمة ذلك اليوم أيضاً ، فيقول تعالى : (وَمَا أَدْرَيكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ).

إنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بعلمه الواسع وبنظره الحاد الذي كان يرى من خلاله أسرار الغيب لم يكن مطلعاً بصورة كاملة على أبعاد عظمة ذلك اليوم ، فكيف بسائر الناس.

__________________

(١) اقّتت أصلها وقّتت من مادة وقت ، ويعني توقيت الوقت لرسل الله تعالى.

(٢) سورة الأعراف / ٦.

٣٤١

وفي آخر آية من آيات بحثنا هدد الله تعالى المكذبين بيوم القيامة تهديداً شديداً وقال : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ).

«ويل : قيل هو الهلاك ، وقيل المراد به العذاب المتنوع ، وقيل هو وادٍ في جهنم مليء بالعذاب ؛ وتستخدم هذه الكلمة عادة فيما يخص الحوادث المؤسفة ، وهنا تحكي الآية عن مصير المكذبين المؤلم في ذلك اليوم.

المراد بالمكذّبين هنا هم المكذبون بيوم القيامة.

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً (٢٥) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً (٢٦) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٢٨)

هذه الآيات أيضاً تحذّر وبطرق مختلفة المنكرين للبعث ، وتوقظهم ببيانات مختلفة من نوم الغفلة العميق ؛ فتأخذ بأيديهم أوّلاً إلى ما مضى من التاريخ لتريهم الأراضي المترامية الأطراف التي كانت ملكاً للأقوام السابقين ، فيقول تعالى : (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ).

إنّ آثارهم واضحة على صفحات البسيطة. وليس على صفحات التاريخ فحسب.

(ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْأَخِرِينَ). لأنّها سنّة مستمرة لا تبعيض فيها ولا استثناء ، وهل يمكن أن يعاقب جماعة لجرم ما ، ويقبل ذلك الجرم من آخرين؟!

ولذا يضيف تعالى في الآية الاخرى : (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ).

هذه الآية هي بمنزلة بيان الدليل على هلاك الامم الاولى ويستتبعه هلاك الامم الاخرى ، لأنّ العذاب الإلهي ليس فيه جانب الثأر ولا الإنتقام الشخصي. بل إنّه تابع لأصل الإستحقاق ومقتضى الحكمة.

ثم يضيف مستنتجاً : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ).

«يومئذ : إشارة إلى يوم البعث الذي يعاقب فيه المكذبون بالعقوبات الشديدة ، والتكرار هو لتأكيد المطلب.

٣٤٢

ثم يمسك القرآن بأيديهم ليأخذهم إلى عالم الجنين ويريهم عظمة الله وقدرته وكثرة مواهبه في هذا العالم المليء بالأسرار ، ليفهموا قدرة الله تعالى على المعاد والبعث من جهة وأنّهم غارقون في نعمه اللامتناهية من جهة اخرى ، فيقول تعالى : (أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاءٍ مَّهِينٍ). أي تافه وحقير : (فَجَعَلْنهُ فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ).

مقرّ فيه ضمان لجميع ظروف الحياة والتربية والنمو والمحافظة على نطفة الإنسان ، فهو عجيب وظريف وموزون بحيث يثير إعجاب كل إنسان.

ثم يضيف تعالى : إنّ بقاء النطفة في ذلك المكان المكين والمحفوظ إنّما هو لمدة معينة : (إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ).

مدة لا يعلمها إلّاالله تعالى ، مدة مملوءة بالتغيرات والتحولات الكثيرة بحيث ترتدي النطفة في كل يوم لباساً جديداً من الحياة يؤدّي به إلى التكامل في داخل ذلك المخبأ.

ثم يستنتج من قدرته تعالى على خلق الإنسان الكامل والشريف من نطفة حقيرة بأنّ الله تعالى نعم القادر : (فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ). وهذا الدليل اعتمده القرآن مرات عديدة لإثبات مسألة المعاد منها قوله تعالى في أوّل سورة الحج : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لّنُبَيّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْىِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ).

ثم يعود في النهاية ليكرر تلك الآية وهو قوله : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ). الويل لُاولئك الذين يرون آثار قدرة الله تعالى ثم ينكرونها.

ثم يقول تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا).

«كفات : على وزن (كتاب) ، وكفت على وزن (كشف) هو جمع وضم الشيء للآخر ، ويقال أيضاً لسرعة طيران الطيور كفات لجمعه لأجنحته حال الطيران السريع حتى يتمكن من شق الهواء والتقدم أسرع.

والمراد هو أنّ الأرض مقر لجميع البشر ، إذ تجمع الأحياء على ظهرها وتهييء لهم جميع ما يحتاجونه ، وتضم أمواتهم في بطنها ، فلو أنّ الأرض لم تكن مهيئة لدفن الأموات لسببت العفونة والأمراض الناتجة منها فاجعة لجميع الأحياء.

ثم يشير تعالى إلى إحدى النعم الإلهية العظيمة في الأرض ، فيضيف : (وَجَعَلْنَا فِيهَا

٣٤٣

رَوَاسِىَ شَامِخَاتٍ) (١).

هذه الجبال التي قاربت بارتفاعها السماء ، واتصلت اصولها بالبعض الآخر قد لزمت الأرض كالدرع من جهة لحفظها من الضغط الداخلي والضغوط الناتجة من الجزر والمد الخارجي ، ومن جهة اخرى تمنع اصطكاك الرياح مع الأرض حيث تمدّ قبضتها في الهواء لتحركه حول نفسها وكذلك تنظم حركة الأعاصير والرياح من جهة ثالثة ، ولهذا تكون الجبال باعثة على إستقرار أهل الأرض.

وفي آخر الآية إشارة إلى إحدى البركات الاخرى للجبال فيضيف تعالى : (وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا). ماءاً سائغاً وباعثاً للحياة ، لكم ولحيواناتكم ولبساتينكم.

فإنّ كثيراً من العيون والقنوات هي من الجبال ، ومصدر الأنهار العظيمة هو من الجليد المتراكم على قمم الجبال ، حيث تعتبر من الذخائر المائية المهمّة للإنسان.

ثم يقول في نهاية هذا القسم : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ).

اولئك الذين ينكرون كل هذه الآيات وعلامات قدرة الله التي يرونها بأعينهم ، وكذلك يشاهدون النعم الإلهية التي غرقوا فيها ، ثم ينكرون البعث ومحكمة القيامة التي هي مظهر العدل والحكمة الإلهية.

(انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (٣٠) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٤٠)

في هذه الآيات تبيان لمصير المكذبين بيوم القيامة ، والمنكرين لتلك المحكمة الإلهية العادلة ، تبيان يدخل الرعب والرهبة في قلب الإنسان ، ويوضح أبعاد الفاجعة. يقول تعالى : (انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذّبُونَ). انطلقوا إلى جهنم التي طالما كنتم تستهزئون بها ، توجهوا

__________________

(١) رواسي : جمع راسية ، وهي الثابتات ؛ وشامخات : جمع شامخ ، أي عال ، وتأتي بعض العبارات كالقول (شمخ بأنفه) كناية عن التكبر (مفردات الراغب).

٣٤٤

إلى أنواع العذاب التي هيئتموها بأعمالكم السيئة.

ثم يعمد إلى مزيد من التوضيح حول هذا العذاب ، فيقول سبحانه : (انطَلِقُوا إِلَى ظِلّ ذِى ثَلثِ شُعَبٍ). توجهوا نحو ظلّ من دخان خانق له ثلاث شعب : شعبة من الأعلى ، وشعبة من الجهة اليمنى ، وشعبة من الجهة اليسرى ، وعلى هذا الأساس فإنّ دخان النار المميت هذا يحيط بهم من كل جانب ويحاصرهم.

ثم يقول تعالى : (لَّاظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِى مِنَ اللهَبِ). فليس في هذا الظل راحة ، ولا يمنع من الإحتراق بالنار لأنّه نابع من النار.

ثم يضيف وصفاً آخر لتلك النار المحرقة : (إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ). ليس كشرر نار هذه الدنيا التي لا تكون أحياناً إلّابمقدار رأس الإبرة.

ثم ينتهي في الآية الاخرى إلى وصف آخر من أوصاف هذه النار المحرقة ، فيقول تعالى : (كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ).

وإذا كان الشرر هكذا ، فكيف بالنار المحرقة نفسها ، وما جعل من العذاب الأليم في تلك النار؟!

ويعود مرة اخرى في آخر قسم من الآيات لينبّه بذلك التنبيه المكرر ، فيقول : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ).

ثم يبدأ فصلاً آخر من علامات ذلك اليوم المهول ، فيضيف تعالى : (هذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ).

نعم ، إنّ الله يختم في ذلك اليوم على أفواه المجرمين والمذنبين كقوله في الآية (٦٥) من سورة يس : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ).

ثم يضيف تعالى في القول : (وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ). ليس لهم الرخصة في الكلام ، ولا في الإعتذار والدفاع عن أنفسهم ، لأنّ الحقائق واضحة هناك ، وليس لديهم ما يقولوه ، نعم يجب أن يعاقب هذا اللسان الذي أساء الإستفادة من الحرية وسعى في تكذيب الأنبياء ، والإستهزاء بالأولياء ، وإبطال الحق وإحقاق الباطل .. يجب أن يعاقب على أعماله بالإقفال والختم ، لإبطال مفعوله ، وهذا عذاب شديد وأليم بحدّ ذاته أن لا يتمكن الإنسان هناك من الدفاع عن نفسه أو الإعتذار.

في روضة الكافي عن حماد بن عثمان قال : سمعت أبا عبدالله عليه‌السلام يقول في قول الله تبارك

٣٤٥

وتعالى (وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) : الله أجل وأعدل وأعظم من أن يكون لعبده عذر لا يدعه يعتذر به ، لكنه فلج فلم يكن له عذر.

ثم يكرر تعالى في نهاية هذا المقطع قوله : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ).

في المقطع الآخر يوجه الخطاب إلى المجرمين ليحكي عما يجري في ذلك اليوم فيقول تعالى : (هذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ). جمعنا في هذا اليوم جميع البشر من دون استثناء للحساب ، وفصل الخصام في هذه العرصة والمحكمة العظمى.

ويقول : والآن إذا كان لكم قدرة على الفرار من العقاب فاعملوا ما بدا لكم : (فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ).

هل تستطيعون دفع الفدية لتتحرروا؟

أو هل يمكنكم الهرب من دائرة نفوذ حكومتي؟

أو أنّ لكم القدرة على أن تخدعوا الملائكة الموكّلين بكم وبحسابكم؟

اعملوا ما بدا لكم ولكن اعلموا أنّكم لا تستطيعون!

ثم أنّه تعالى أعاد تلك الجملة المهددة والمنبّهة مرّة اخرى ، وقال : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ).

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (٥٠)

من المعلوم في منهج القرآن أنّه يمزج الإنذار بالبشارة ، والتهديد بالترغيب ، وكذلك يذكر مصير المؤمنين في مقابل مصير المجرمين لفهم المسائل بصورة أكثر بقرينة المقابلة ، وعلى أساس هذه السنّة المتّبعة في القرآن ، فإنّ هذه الآيات وبعد بيان العقوبات المختلفة للمجرمين في القيامة ، أشارت إلى وضع المتقين في ذلك اليوم فيقول تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى ظِللٍ وَعُيُونٍ). ثم يضيف : (وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ).

والظريف أنّهم في هذا المضيف الإلهي يستضافون بأحسن الوجوه ، كما هو الحال في الآية

٣٤٦

التالية إذ يقول لهم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

عبارة (بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) إشارة إلى أنّ هذه المواهب لا تعطى لأيّ كان من دون عمل ، ولا يمكن حصولها بالإدّعاء والتخيل والتصوّر ، وإنّما يمكن نيلها والحصول عليها بالأعمال الصالحة فقط.

«هنيء : على وزن (صبيح) هو كل شيء ليست فيه مشقة ولا يستتبعه قلق.

وهذا إشارة إلى أنّ فواكه الجنة وأغذيتها وأشربتها ليست كأغذية الدنيا وأشربتها التي تترك أحياناً آثاراً سيئة في البدن ، أو تترك أعراضاً غير مُرْضية.

ثم تؤكد الآية الاخرى على مسألة النعم وأنّها لا تمنح اعتباطاً فيضيف : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ).

وفي نهاية هذا المقطع يعيد تلك الآية : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ). الويل لمن يُحْرَم من كل هذه النعم والألطاف ، إذ إنّ عذاب حسرات هذا الحرمان ليس بأقل من نيران الجحيم المحرقة!

وبما أنّ إحدى عوامل إنكار المعاد الإهتمام بلذّات الدنيا الزائلة والميل إلى الحرية المطلقة للإنتفاع بهذه اللذّات ، يتوجه بالحديث في الآية التالية إلى المجرمين بلحن تهديدي فيقول : كلوا وتمتعوا بالملذات الدنيوية في هذه الأيّام القلائل ، ولكن اعلموا أنّ العذاب الإلهي ينتظركم ، لأنّكم مجرمون : (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ).

عبارة (إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ) تشير إلى أنّ مصدر العذاب الإلهي هو عمل الإنسان وذنبه ، الناشيء من عدم الإيمان أو الأسر في قبضة الشهوات.

ثم يكرر التهديد بجملة : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ). هم اولئك الذين غُرّروا وخدعوا بزخارف الدنيا ولذاتها وشهواتها واشتروا عذاب الله.

وأشار في الآية الاخرى إلى عامل آخر من عوامل الانحراف والتعاسة والتلوث ، وقال : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَايَرْكَعُونَ).

إنّهم لم يأبوا الركوع والسجود فحسب ، بل إنّ روح الغرور والكِبَر هذه كانت منعكسة على جميع أفكارهم وحياتهم ، فما كانوا يسلّمون لله ، ولا لأوامر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يقرّون بحقوق الناس ، ولا يتواضعون لله تعالى وللناس.

ثم يعيد هذه الآية للمرّة العاشرة والأخيرة إذ يقول : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ).

٣٤٧

وفي آخر آية من آيات البحث ـ وهي آخر آية من السورة ـ يأتي السياق ممزوجاً بالعتاب ومليئاً بالملائمة ، فجاءت الآية بصيغة الاستفهام التعجبي ، إذ يقول (فَبِأَىّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ). إنّ من لم يؤمن بالقرآن الذي لو انزل على الجبال لتصدعت وارتجفت ، فسوف لن يسلم ولن يؤمن بأي كتاب سماوي ، ولا يقبل بأي منطق عقلائي ، وهذا يدّل على روح العناد والتعصب.

نهاية تفسير سورة المرسلات

* * *

٣٤٨

٧٨

سورة النبأ

محتوى السورة : تمتاز أغلب السور القرآنية في الجزء الأخير من القرآن بأنّها نزلت في مكة ، وتؤكّد في مواضيعها على مسألة : المبدأ ، المعاد ، البشارة والإنذار.

ويمكننا تلخيص محتوى السورة بما يلي :

١ ـ السؤال عن النبإ العظيم وهو يوم القيامة كحدث بالغ الخطورة.

٢ ـ الإستدلال على أمكانية المعاد والقيامة ، من خلال الإستدلال بمظاهر القدرة الإلهية في : السماء ، الأرض ، الحياة الإنسانية والنعم الربانية.

٣ ـ بيان بعض علامات بدء البعث.

٤ ـ تصوير جوانب من عذاب الطغاة الأليم.

٥ ـ التشويق للجنة ، بوصف أجوائها الفياضة بالنعم.

٦ ـ وتختم السورة بالإنذار الشديد من عذاب قريب ، بالإضافة لتصوير حال الذين كفروا.

واشتق اسم السورة من الآية (٢) ، ويطلق عليها أيضاً اسم سورة (عمّ) نسبة إلى أوّل كلمة وردت في السورة بعد البسملة.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ومن قرأ سورة عمّ يتسائلون سقاه الله برد الشراب يوم القيامة.

٣٤٩

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : من قرأ عمّ يتسائلون لم يخرج سنته إذا كان يدمنها في كل يوم حتى يزور البيت الحرام.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) (٥)

خبر هام : تأتي الآية الاولى لتستفهم بتعجب : (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ).

ودون انتظار للجواب ، تجيب الآية الثانية ما سُئل عنه في الآية الاولى : (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ). ذلك الخبر : (الَّذِى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ).

أورد المفسرون آراءً متباينة في المقصود من النبإ العظيم ، فمنهم من اعتبره إشارة إلى يوم القيامة ، ومنهم من قال بأنّه إشارة إلى القرآن الكريم ، ومنهم من اعتبره إشارة إلى اصول الدين من التوحيد حتى المعاد.

بنظرة دقيقة إلى مجموع آيات السورة وسياق طرحها ، وما ذكرته الآيات اللاحقة من ملامح القدرة الإلهية بعرض بعض مصاديقها في السماء والأرض ، وبعد هذا العرض تؤكّد إحدى الآيات : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا). ثم مخالفة وعدم تقبل المشركين لمبدأ المعاد ، كل ذلك يدعم التّفسير الأوّل القائل : بأنّ النبإ العظيم هو يوم القيامة.

«النبإ العظيم كمفهوم قرآني ـ مثل سائر المفاهيم القرآنية ـ له من السعة ما يشمل كل ما ذكر من معان ، وإذا كانت قرائن السورة تدلّ على أنّ المقصود منه المعاد ، فهذا لا يمنع من أن تكون له مصاديق اخرى.

ولذا نجد في روايات أهل البيت عليهم‌السلام وفي بعض روايات أهل السنّة أنّ النبإ العظيم بمعنى إمامة أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، حيث كانت مثار جدال ونقاش بين جمع من المسلمين ، وهناك من فسّر النبإ العظيم بالولاية بشكل عام.

ويضيف القرآن قائلاً : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ). فليس الأمر كما يقولون أو يظنون.

ويجدد التأكيد : (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ).

فسيعلمون في ذلك اليوم الواقع حتماً : (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِى

٣٥٠

جَنبِ اللهِ) (١). يوم ينهال العذاب الإلهي على الكافرين فيقولون بصرخات مستغيثة : (هَلْ إِلى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ) (٢).

بل وإنّ طلب العودة إلى الحياة لجبران خطيئاتهم سيطرح في اولى لحظات الموت ، حين تزال الحجب عن عين الإنسان فيرى بام عينيه حقيقة عالم الآخرة ، فيستيقن حياة البرزخ والمعاد ، ولا يبقى عنده إلّاأن يقول : (رَبّ ارْجِعُونِ * لَعَلّى أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) (٣).

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً (٦) وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً (٧) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً (٨) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً (١١) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً (١٢) وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً) (١٦)

كل شيء بأمرك يا ربّ ... : تجيب الآيات المذكورة على أسئلة منكري المعاد والمختلفين في هذا النبإ العظيم لأنّها تستعرض جوانب معينة من نظام الكون وعالم الوجود الموزون ، مع تبيانها لبعض النعم الإلهية الواسعة ذات التأثير الفعال في حياة الإنسان ، وذلك من جهة دليل على قدرة الباري عزوجل المطلقة ، ومنها قدرته على إعادة الحياة إلى الإنسان بعد موته.

ومن جهة اخرى إشارة إلى أنّ الكون وما فيه من دقّة تنظيم ، لا يمكن أن يُخلق لمجرد العبث واللهو ، بل لابدّ من وجود حكمة بالغة لهذا الخلق. في حين أنّه لو كان الموت يعني نهاية كل شيء ، فمعنى ذلك أنّ وجود العالم عبث وخالٍ من أيّة حكمة.

وبهذا فقد استدل القرآن الكريم على حقيقة المعاد بطريقين :

١ ـ برهان القدرة.

٢ ـ برهان الحكمة.

وقد عرضت الآيات الإحدى عشر ، اثنتي عشر نعمة إلهية ، باسلوب ملؤه اللطف والمحبّة ، مصحوباً بالاستدلال.

__________________

(١) سورة الزمر / ٥٦.

(٢) سورة الشورى / ٤٤.

(٣) سورة المؤمنون / ٩٩ و ١٠٠.

٣٥١

وتشرع الآيات بالإشارة إلى نعمة الأرض ، فتقول : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا).

«المهاد : المكان الممهّد الموطأ ؛ واختيار هذا الوصف للأرض ينم عن مغزىً عميق ..

فمن جهة : نجد في قسم واسع من الأرض الإستواء والسهولة ، فتكون مهيئة لبناء المساكن والزراعة.

ومن جهة ثانية : اودع فيها كل ما يحتاجه الإنسان لحياته من المواد الأوّلية إلى المعادن الثمينة ، سواء كان ذلك على سطحها أم في باطنها.

ومن جهة ثالثة : تحلل الأجساد الميتة التي تودع فيها ، وتبيد كل الجراثيم الناشئة عن هذه العملية بما أودع فيها الباري من قدرة على ذلك.

ومن جهة رابعة : ما لحركتها السريعة المنظمة ولدورانها حول الشمس وحول نفسها من أثر على حياة البشرية خاصة ، بما ينجم عنها الليل والنهار والفصول الأربعة.

وبما أنّ نعمة استواء الأرض وسهولتها قد تهمش نعمة الجبال ، فقد جاءت الآية التالية لتبيّن أهمية الجبال ودورها المهم في حياة الإنسان : (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا).

تشكل الجبال آيةً ربانية زاخرة بالعطاء ، وتؤدي وظائف كثيرة ، منها أنّها تحفظ القشرة الأرضية من الإنهيار أمام الضغط الحاصل من المواد المذابة داخلها ، وذلك لعمق تجذرها المترابط داخل الأرض ... وتحافظ عليها من تأثيرات جاذبية القمر في عملية المد والجزر ... وتشكل جدران الجبال سداً منيعاً للتقليل من آثار الرياح الشديدة والعواصف المدمرة ... وتقوم بخزن المياه وادخار أنواع المعادن الثمينة في باطنها ..

بالإضافة لكل ما ذكر ، فتوزيع الجبال على الأرض بالشكل الموجود وتعاملاً مع حركة الأرض يعمل على تنظيم حركة الهواء المحيط بالكرة الأرضية بالشكل الذي يؤثر إيجابياً على الحياة فوق الأرض. وفي هذا المجال ، يقول العلماء : لو كان سطح الكرة الأرضية مستوياً كلّه ، لتولدت عواصف شديدة لا يمكن السيطرة عليها جراء حركة الأرض وسكون الغلاف الجوي ، ولفقدت الأرض صلاحيتها بتوفير مستلزمات السكن للإنسان ، لأنّ استمرار الإحتكاك الحاصل من حركة الأرض الدائمة وسكون الغلاف الجوي سيؤدّي بلا شك إلى زيادة حرارة القشرة الأرضية مما يجعل الأرض غير صالحة لسكنى الإنسان.

وبعد أن بيّن القرآن هذين النموذجين من النعم الإلهية والآيات الآفاقية ، عرج إلى ذكر ما أنعم الباري على الإنسان من النعم والآيات الأنفسية فقال : (وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا).

٣٥٢

«الأزواج : جمع زوج ، المتشكل من الذكر والانثى ، ويخرج الإنسان إلى حياة الوجود من هذين الجنسين ، ويستمر وجوده في الحياة من خلال عملية التناسل التي تساهم في استقرار الإنسان من الناحيتين الجسمية ولنفسية ، كما تشير إلى هذا الآية (٢١) من سورة الروم : (وَمِنْءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً).

ويشير بعد ذلك إلى نعمة النوم ، فيقول : (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا).

«السبات : من السبت ، بمعنى القطع ، ثم استعملت بمعنى (تعطيل العمل) لأجل الإستراحة.

وبالرغم من أنّ النوم يشكّل ثلث حياة الإنسان ، ولكن الإنسان لا زال يجهل الكثير من خفاياه ، بل ولا زال الإنسان (منذ القديم وحتى الآن) لا يعرف سبب تعطيل بعض فعاليات الدماغ في مدّة معينة وتغمض العين أجفانها وتسكن جميع أعضاء البدن.

ومع أنّ ذكر النوم في الآية قد جاء باعتباره إحدى النعم الإلهية ، إلّاأنّ الآية المباركة قد تشير بذلك إلى الموت ، لما للنوم من شبه بالموت ، والإستيقاظ بالبعث.

وبعد الإنتهاء من ذكر نعمة النوم ، ينتقل القرآن الكريم لذكر نعمة الليل ، فيقول : (وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًا).

وتضيف الآية التالية مباشرة : (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا).

وشبّهت الآية الليل باللباس والغطاء الذي يُلقى على الأرض ليشمل كل من على الأرض ، وليجبر فعاليات الموجودات الحيّة المتعبة على الأرض بالتعطل عن الحركة وممارسة النشاطات ، ويخيم الظلام والسكون ليضفي على الأرض الهدوء ليستريح الناس من رحلة العمل والمعاناة خلال النهار ، وليتمكنوا من مواصلة نشاطهم لليوم التالي لأنّ النوم المريح لا يتيسر للانسان إلّافي أجواء مظلمة.

وبالإضافة لكل ما ذكر ، فحلول الليل يعني زوال نور الشمس وإلّا لانعدمت الحياة واحترقت جميع النباتات والحيوانات في حال استمرار شروق الشمس.

وخاتمة المقال : إنّ تعاقب الليل والنهار وما فيهما من نظام دقيق آية بيّنة من آيات خلقه سبحانه وتعالى ، إضافة إلى أنّه تقويم طبيعي لتفصيل الزمن في حياة الإنسانية على مرّ التاريخ.

٣٥٣

وتأتي الآية التالية لتنقلنا من عالم الأرض إلى عالم السماء حين تقول : (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا).

قد يراد من العدد المذكور بالآية الكثرة ، للإشارة إلى كثرة الأجرام السماوية والمنظومات الشمسية والمجرات والعوالم الواسعة لهذا الوجود ، والتي تتمتع بخلق محكم وبناء رصين لا خلل فيه ... ويمكن أن يراد منه العدد ، للإشارة إلى أنّ الكواكب وما يبدو لنا منها إنّما تعود إلى السماء الاولى ، كما أشارت الآية (٦) من سورة الصّافات إلى ذلك : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ). وثمّة سماوات ستة وعوالم اخرى وراء السماء الاولى الدنيا خارجة عن حدود معرفتنا.

وبعد أن أشار القرآن إجمالاً إلى السماوات ، يشير إلى نعمة الشمس ، فيقول : (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا).

«الوهّاج : من الوهج ، بمعنى النور والحرارة التي تصدر من النار.

وإطلاق هذه الصفة على الشمس ، للإشارة إلى نعمتين كبيرتين وهما : (النور) و (الحرارة) ويتفرع عنهما نعم وعطايا كثيرة يزخر بها عالمنا.

ولا تتحدد فوائد نور الشمس بإضاءة الدنيا للإنسان ، بل لها أثر كبير في نمو سائر الكائنات الحيّة.

وإضافة لكل ما تقدم ، فلحرارة الشمس أثر أساس في : تكوّن الغيوم ، حركة الهواء ، نزول الأمطار ، وسقي الأراضي اليابسة.

ولأشعة الشمس كذلك الأثر البالغ في مكافحة الجراثيم ، لاحتوائها على الأشعة ما وراء الحمراء التي تقتل الجراثيم.

وأشعة الشمس في واقعها : نور صحي مجاني دائمي ، يصلنا بكيفية لا هي بالشديدة المحرقة ، ولا هي بالقليلة العديمة التأثير.

وبعد ذكر نعمة النور والحرارة يتناول القرآن نعمة حياتية اخرى لها إرتباط بأشعة الشمس ، ويقول : (وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا).

«المعصرات : جمع معصر ، من العصر بمعنى الضغط .. والكلمة تشير إلى أنّ الغيوم تقوم بعملية وكأنّها تعصر نفسها عصراً لكي ينهمر منها الماء على شكل أمطار.

«الثجاج : من الثج ، بمعنى سيلان الماء بكمية كبيرة ، وثجاج صيغة مبالغة ، ويراد بها هنا غزارة الأمطار المنهمرة نتيجة العصر الحاصل للغيوم.

٣٥٤

وبالإضافة لكون المطر منبعاً لكثير من مصادر الخير والبركة ، فهو : ملطف للجو ، مزيل للتلوثات الموجودة في الجو ، مخفض للحرارة ومعدل للبرودة ، مقلل لأسباب الأمراض ، يمنح الإنسان روحاً متجددة ونشاطاً ، ومع كل ذلك .. فقد ذكر القرآن ثلاث فوائد اخرى له : (لّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا.

(وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا). ألفافاً : أي إلتفّ بعضها ببعض لكثرة الشجر.

والآيتان تشيران إلى ما يستفيد منه الإنسان والحيوان من المواد الغذائية التي تخرج من الأرض ، فالحبوب الغذائية تشكل قسماً مهمّاً من المواد الغذائية (حبّاً) ، والخضر تشكل القسم الآخر (ونباتاً) ، وتأتي الفاكهة لتشكل القسم الثالث (وجنّات).

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً) (٢٠)

سيأتي اليوم الموعود : الآية الاولى من الآيات أعلاه بمثابة نتيجة لما تعرضت له الآيات السابقة ... (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا).

والتعبير ب يوم الفصل يحمل بين ثناياه إشارات كثيرة ، فسيحدث في ذلك اليوم :

فصل الحق عن الباطل.

فصل المؤمنين الصالحين عن المجرمين.

فصل الوالدين عن أولادهم ، والأخ عن أخيه ...

والميقات : من الوقت ، الميعاد من الوعد ، بمعنى الوقت المعين والمقرر ، وإنّما سمّيت الأماكن التي يحرم منها حجاج بيت الله الحرام ب المواقيت لأنّ الاجتماع فيها يكون في وقت معين.

ويتناول القرآن الكريم بعض خصائص ذلك اليوم العظيم ، فيقول : (يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا).

ويستفاد من آيات القرآن أنّ ثمّة نفختان عظيمتان ستحدثان باسم (نفخ الصور) .. ففي النفخة الاولى سينهار كل عالم الوجود ، ويخرّ ميتاً كل من في السماوات والأرض ، وفي النفخة الثانية يتجدّد عالم الوجود وتعود الحياة إلى الأموات مرّة اخرى ، ليقوم بعدها يوم القيامة وأمّا ما ورد في الآية فيختص بنفخة الصور الثانية.

٣٥٥

وتأتي الآية الاخرى لتقول : (وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا). فاتصل به عالم الإنسان بعالم الملائكة (١).

وتأتي الآية الأخيرة لتخبرنا عن حال الجبال في ذلك اليوم الحق : (وَسُيّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا).

بملاحظة ما جاء في القرآن الكريم بخصوص مصير الجبال ليوم القيامة تظهر لنا أنّ الجبال ستطويها مراحل متعاقبة ، تبدأ حركتها من : (وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا) (٢).

ثم تُحمل وتُدك : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً) (٣).

فتكون تلالاً من الرمال المتراكمة : (وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلاً) (٤).

فتصبح كأصواف منفوشة : (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ) (٥).

فتتحول غباراً متناثراً في الفضاء : (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنْبَثًّا) (٦).

ولا يبقى منها أخيراً إلّاالأثر ، كما أشارت لذلك الآية المبحوثة.

(إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً (٢٣) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً (٢٤) إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزَاءً وِفَاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَاباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً) (٣٠)

جهنم ... المرصاد الرهيب : بعد أن بيّن القرآن الكريم في الآيات السابقة بعض أدلة المعاد وتناول قسماً من حوادث يوم القيامة ، يذكر في هذه الآيات ما يؤول إليه حال المجرمين ، فيقول : (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا). وهي : (لِّلطَّاغِينَ مَابًا). وأنّهم : (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا).

«المرصاد : اسم مكان يختفى فيه للمراقبة ؛ والمآب : هو محل الرجوع ، ويأتي أحياناً بمعنى المنزل والمقر ، وهو المقصود في هذه الآية.

__________________

(١) الميزان في تفسير القرآن ٢٠ / ١٦٦ ذيل الآية مورد البحث.

(٢) سورة طور / ١٠.

(٣) سورة الحاقّة / ١٤.

(٤) سورة المزمّل / ١٤.

(٥) سورة القارعة / ٥.

(٦) سورة الواقعة / ٥ و ٦.

٣٥٦

والأحقاب : جمع (حقب) على وزن (قفل) ، بمعنى برهة زمانية غير معينة.

وتشير الآيات ـ بعد ذلك ـ إلى جانب صغير من عذاب جهنم الأليم ، بالقول : (لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا).

إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) ، إلّاظلّ من الدخان الغليظ الخانق كما أشارت إلى ذلك الآية (٤٣) من سورة الواقعة : (وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ). الحميم : هو الماء الحار جدّاً ؛ والغسّاق : هو ما يقطر من جلود أهل النار من الصديد والقيح.

في حين أنّ أهل الجنة يسقيهم ربّهم جلّ شأنه بالأشربة الطاهرة ، كما جاء في الآية (٢١) من سورة الإنسان : (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا).

ولكن ، لِمَ هذا العذاب الأليم؟ فتأتي الآية التالية : إنّما هو : (جَزَاءً وِفَاقًا).

ولِمَ لا يكون كذلك .. وقد أحرقوا في دنياهم قلوب المظلومين ، وتجاوزوا بتسلطهم وظلمهم وشرّهم على رقاب الناس دون أن يعرفوا للرحمة معنى ، فجزائهم يناسب ما اقترفوا من ذنوب عظام.

ويذكر القرآن سبب الجزاء فيقول : (إِنَّهُمْ كَانُوا لَايَرْجُونَ حِسَابًا).

وبعبارة اخرى : إنّ عدم الإيمان بالحساب سبب للطغيان ، فيكون الطغيان سبباً لذلك الجزاء الأليم.

لأنّهم تناسوا حساب يوم القيامة بالكلية : ولم يفرزوا له مكاناً في كل حياتهم.

ومباشرة يضيف القرآن القول : (وَكَذَّبُوا بَايَاتِنَا كِذَّابًا).

فقد أحكمت الأهواء النفسانية قبضتها عليهم حتى جعلتهم يكذبون بآيات الله تكذيباً شديداً ، وأنكروها إنكاراً قاطعاً ليواصلوا أمانيهم الإجرامية باتباعهم المفرط لأهوائهم النفسانية ونوازعهم الدنيوية.

ينبه القرآن الطغاة على وجود الموازنة بين الجرم والعقاب في العدل الإلهي ، فيقول : (وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنهُ كِتَابًا).

فلا تظنوا أنّ شيئاً من أعمالكم سيبقى بلا حساب أو عقاب ، ولا تساوركم الشكوك بعدم عدالة العقوبات المقررة لكم.

وفي هذا المجال ، يقول القرآن : (وَكُلُّ شَىْءٍ فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ

٣٥٧

مُّسْتَطَرٌ) (١) .. وفي موضع آخر يقول : (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَءَاثَارَهُمْ) (٢). ولذلك يصرخ المجرمون بالقول : (يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هذَا الْكِتَابِ لَايُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) (٣). حينما يستلمون كتابهم الحاوي على كل ما فعلوه في الحياة الدنيا.

وممّا لا شك فيه ، أنّ إدراك حقيقة الآيات الربانية بكامل القلب ، سوف يدفع الإنسان لأن يكون دقيقاً في جميع أعماله ، وسيكون اعتقاده الجازم بمثابة السدّ المنيع بينه وبين ارتكاب الذنوب ، ومن العوامل المهمّة والمؤثرة في العملية التربوية.

ويتغيّر لحن الخطاب في الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة ، فينتقل من التكلم عن الغائب إلى مخاطبة الحاضر : ويهدد القرآن بنبرات غاضبة اولئك المجرمين ، ويقول : (فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا).

وهذا هو جزاء اولئك الذين يواجهون دعوات الأنبياء الداعية إلى الله والإيمان والتقوى ، بقولهم : (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ) (٤).

حتى روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : هذه الآية أشدّ ما في القرآن على أهل النار (٥).

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً (٣١) حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً (٣٢) وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً (٣٣) وَكَأْساً دِهَاقاً (٣٤) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً (٣٥) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً (٣٦) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً) (٣٧)

ممّا وعد الله المتقين : كان الحديث في الآيات السابقة منصباً حول خاتمة المجرمين والطغاة وما يلاقونه من أليم العذاب وموجباته ، وينتقل الحديث في الآيات أعلاه لتفصيل بعض ما وعد الله المؤمنين والمتقين من النعم الخالدة والثواب الجزيل ، عسى أن يرعوي الإنسان ويتبع طريق الحق من خلال مقايسته لما يعيشه كل من الفريقين ، على ضوء تفكيره بمصيره الأبدي. فيقول مبتدءً الحديث : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا).

__________________

(١) سورة القمر / ٥٢ و ٥٣.

(٢) سورة يس / ١٢.

(٣) سورة الكهف / ٤٩.

(٤) سورة الشعراء / ١٣٦.

(٥) تفسير الكشاف ٤ / ٢١٠ ؛ وتفسير الصافي ٥ / ٢٧٦.

٣٥٨

ومن مفردات الفوز والسعادة : (حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا).

وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في خصوص العنب أنّه قال : خير فواكهكم العنب.

ويتطرق القرآن إلى نعمة اخرى ممّا وعد الله به المتقين في الجنة ، فيقول : (وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا).

«الكواعب : جمع كاعب ، وهي البنت حديثة الثدي ، للإشارة إلى شباب زوجات المتقين في الجنة ؛ والأتراب : جمع ترب ، ويطلق على مجموعة الأفراد المتساوين في العمر. قيل : إنّها من الترائب وهي : اضلاع الصدر ، وذلك لما بينهما من شبه من حيث التساوي والتماثل.

وتأتي النعمة الرابعة : (وَكَأْسًا دِهَاقًا).

وهو مُذك للعقل ، منشط للروح ومنعش للقلب.

ودفعاً لما يتبادر إلى الأذهان من تبعات شراب الدنيا الشيطاني ، يقول القرآن : (لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا).

فالجنة خالية من : الأكاذيب ، الهذيان ، التهم ، الإفتراءات ، تبرير الباطل ، بل وكل ما كان يؤذي قلوب المتقين في الحياة الدنيا .. إنّها الجنة! وخير تصوير لها ما جاء في الآية (٦٢) من سورة مريم : (لَّايَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلمًا).

وفي آخر المطاف يذكر القرآن الكريم تلك النعمة المعنوية التي تفوق كل النعم علوّاً : (جَزَاءً مِن رَبّكَ عَطَاءً حِسَابًا).

وأيّة بشارة ونعمة أسمى وأجل ، من أن أكون وأنا العبد الضعيف ، موضع ألطاف وإكرام الله جلّ وعلا.

وفي آخر آية من الآيات المبحوثة ، يضيف : (رَّبّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ).

وبما أنّ صفة الرحمن تشمل رحمة الله العامّة لكل خلقه ، فيمكن حمل إشارة الآية إلى أنّ الله تبارك وتعالى يشمل برحمته أهل السماوات والأرض في الحياة الدنيا ، إضافة لما وعد به المؤمنين من عطاء دائم في الجنة.

وذيل الآية يقول : (لَايَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا).

٣٥٩

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقَالَ صَوَاباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً) (٤٠)

رأينا في الآيات السابقة أنّها تحدثت عن بعض عقوبات الظالمين والطواغيت ، وبعض المواهب والنعم المتعلقة بالصالحين في يوم القيامة ، وتتناول الآيات أعلاه بعض صفات وحوادث يوم القيامة ، وتشرع بالقول ب (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلِكَةُ صَفًّا لَّايَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقَالَ صَوَابًا).

وبلا شك فإنّ قيام الروح والملائكة صفّاً يوم القيامة ، وعدم تكلمهم إلّابإذنه سبحانه ، إنّما هو مثولاً للأوامر الإلهية وطاعة ، كما هو حالهم قبل قيام القيامة ، فهم بأمره يعملون ولكن في يوم القيامة سيتجلّى أمتثالهم لله أكثر وبشكل أوضح.

والمراد من الروح في الآية المبحوثة هو كونه أحد ملائكة الله العظام ، والذي يبدو من بعض الآيات أنّه أعظم من جبرائيل وبدلالة ما روى على بن إبراهيم عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : هو ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل.

وعلى أيّة حال ، فسواء كان الروح من الملائكة أو من غيرهم ، فإنّه سيقف يوم القيامة مع الملائكة صفّاً بانتظار أوامر الخالق سبحانه ، وسيكون هول المحشر بشكل بحيث لا يقوى أيّ من الخلق للتحدث معه.

في تفسير مجمع البيان : روى معاوية بن عمار عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال سئل عن هذه الآية ، فقال : نحن والله المأذون لهم يوم القيامة والقائلون.

قال : جعلت فداك ما تقولون؟

قال : نُمجّد ربّنا ، ونصلّي على نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ونشفع لشيعتنا ، فلا يردنا ربّنا.

ونستفيد من هذه الرواية : أنّ الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام سيقفون صفّاً يوم القيامة مع الملائكة والروح ، وسيكونون من المأذون لهم في الكلام والشفاعة ، وسيكون حديثهم منصباً حول الذكر والثناء والتسبيح للباري عزوجل.

ويشير القرآن واصفاً ذلك اليوم الذي يقوم فيه الناس والملائكة أجمعون يوم الفصل ،

٣٦٠