مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

«غلب : على وزن (قفل) ، جمع (أغلب) و (غلباء) ، بمعنى غليظ الرقبة ، فلآية إذن ترمز إلى الأشجار الشاهقة المتينة.

ثم يضيف : (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا).

«الأبّ : (بتشديد الباء) ، هو المرعى المُهيأ للرعي والحصد ، وهو في الأصل بمعنى التهيؤ ، اطلق على المرعى لما فيه من أعشاب يكون بها مهيئاً لاستفادة الحيوانات منه.

ويواجهنا سؤال : إذا كانت الآيات السابقة ذكرت بعض أنواع الفاكهة ، والآية المبحوثة تناولت الفاكهة بشكل عام ، هذا بالإضافة إلى ذكر ال حدائق في الآية السابقة والتي قيل أنّ ظاهرها يشير إلى الفاكهة ... فلِم هذا التكرار؟

الجواب : إنّ تخصيص ذكر العنب والزيتون والتمر (بقرينة ذكر النخل) ، إنّما جاء ذكرها لأهميتها المميزة على بقية الفاكهة.

أمّا لماذا ذكرت الحدائق بشكل منفصل عن الفاكهة؟ فيمكن حمله على ما للحدائق من منافع خاصة بها ، ولا تشترك الفاكهة فيها ، كجمالية منظرها وعذوبة نسيمها وما شابه ذلك ، بالإضافة إلى استعمال أوراق الأشجار وجذورها وقشور جذوعها كمواد غذائية (كالشاي والزنجبيل وأمثالها) ، أمّا بالنسبة للحيوانات ، فأوراق الأشجار المختلفة من أفضل أغذيتها عموماً ... فالآيات إذن كانت في صدد الحديث عن غذاء الإنسان والحيوان.

ولذلك ... جاءت الآية التالية لتوضيح هذا المعنى : (مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ).

والمتاع : هو كل ما يستفيد منه الإنسان ويتمتع به.

(فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) (٤٢)

صيحة البعث ... : وينتقل الحديث في هذه الآيات إلى يوم القيامة وتصوير حوادثه ، وما سيؤول إليه أحوال المؤمنين الكافرين ، كل بما كسبت يداه وقدّم.

فمتاع الحياة الدنيا وإن طال فهو قليل جدّاً في حساب حقيقة الزمن ، وأنّ خالق كل شيء لعظيم في خلقه وشأنه ، وأنّ المعاد حق ولابدّ من حتمية وقوعه.

ويقول القرآن الكريم : (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ).

٣٨١

«الصّاخة : من صخّ وهو الصوت الشديد الذي يكاد يأخذ بسمع الإنسان ، ويشير في الآية إلى نفخة الصور الثانية ، وهي الصيحة الرهيبة التي تعيد الحياة إلى الموجودات بعد موتها جميعاً ليبدأ منها يوم الحشر.

ولذا تأتي الآية التالية ، ولتقول مباشرة : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ).

ذلك الأخ الذي ما كان يفارقه وقد ارتبط به بوشائج الاخوة الحقة!

وكذلك : (وَأُمّهِ وَأَبِيهِ).

حتى : (وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ).

فوحشة ورهبة يوم القيامة لا تُنسي الأخ والام والأب والزوجة والأولاد فحسب ، بل وتتعدى إلى الفرار منهم ، وعندما ستتقطع كل روابط وعلاقات الإنسان الفرد مع الآخرين.

ولكن ... لِم الفرار؟ ... (لِكُلّ امْرِىٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ).

«يغنيه : كناية لطيفة عن شدّة انشغال الإنسان بنفسه في ذلك اليوم ، ولما سيرى من حادث مذهلة ، تأخذه كاملاً ، فكراً وقلباً.

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال له بعض أهله : يا رسول الله! هل يذكر الرجل يوم القيامة حميمه؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ثلاثة مواطن لا يذكر أحد أحداً : عند الميزان حتى ينظر أيثقل ميزانه أم يخفّ ، وعند الصراط حتى ينظر أيجوزه أم لا ، وعند الصحف حتى ينظر بيمينه يأخذ الصحف أم بشماله ، فهذه ثلاثة مواطن لا يذكر فيها أحد حميمه ولا حبيبه ولا قريبه ولا صديقه ، ولا بنيه ولا والديه ، وذلك قول الله تعالى : (لِكُلّ امْرِىٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (١).

وينتقل البيان القرآني ليصور لنا حال العباد بقسميهم في ذلك اليوم ، فتقول :

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ). أي مشرقة وصبيحة.

(ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ).

وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ).

تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ).

أي تغطيها ظلمات ودخان.

(أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ).

«مسفرة : من الأسفار ، بمعنى الظهور بياض الصبح بعد ظلام الليل.

__________________

(١) البرهان في تفسير القرآن ٥ / ٥٨٦.

٣٨٢

«غبرة : على وزن (غَلَبَة) ، من الغبار.

«قترة : من القتار ، وهو شبه دخان يغشي من الكذب.

«الكفرة : جمع (كافر) ، والوصف يشير إلى فاسدي العقيدة.

«الفجر : جمع (فاجر) ، والوصف يشير إلى فاسدي العمل.

ونستخلص من كل ما تقدّم ، أنّ آثار فساد العقيدة لدى الإنسان وأعماله السيئة ستظهر على وجهه يوم القيامة.

وقد اختير الوجه ، لأنّه أكثر أجزاء الإنسان تعبيراً عمّاً يخالجه من حالات الغبطة والسرور أو الحزن والكآبة.

نهاية تفسير سورة عبس

* * *

٣٨٣
٣٨٤

٨١

سورة التكوير

محتوى السورة : هذه السورة تدور حول محورين أساسيين :

الأوّل : هو ما شرعت به السورة من تبيان علائم يوم القيامة ، وما يواجه العالم من تغييرات قبيل يوم القيامة.

الثاني : الحديث عن عظمة القرآن ومن جاء به ، وأثره على النفس الإنسانية ، بالإضافة إلى تكرار اليمين والقسم في آيات عدّة لإيقاظ الإنسان من غفلته.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان : ابي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ومن قرأ سورة إذا الشّمس كوّرت أعاذه الله تعالى أن يفضحه حين تنشر صحيفته.

وروى أبو بكر قال : قلت لرسول الله : يا رسول الله! أسرع إليك الشيب؟ قال : شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعمّ يتسائلون وإذا الشّمس كوّرت.

وتلاوة القرآن المقصودة في الحديث أعلاه ، ينبغي أن يكون بشروطها من : التأمل ، الإيمان والعمل.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (٩)

٣٨٥

يوم تطوى الكائنات فيه : نواجه في بداية السورة إشارات قصيرة ، مثيرة ومرعبة لما سيجري لنهاية العالم المذهلة ، فقد تحدثت هذه الآيات عن ثمانية علائم من ويوم القيامة.

وأوّل مشهد عرضته عدسة العرض القرآني ، هو : (إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ).

«كوّرت : من التكوير بمعنى الطي والجمع واللّف (مثل لف العمامة على الرأس).

فالمقصود هو : خمود نور الشمس وذهابه ، وتغيّر نظام تكوينها.

وكما بات معلوماً ... فالشمس في وضعها الحالي ، عبارة عن كرة مشتعلة ، على هيئة غازية ملتهبة ، وتتفجر الغازات على سطحها بصورة شعلات هائلة محرقة ، قد يصل إرتفاعها إلى مئات الآلاف من الكيلو مترات.

ولو قُدّر وضع الكرة الأرضية وسط شعلة منها ، فإنّها تستحيل فوراً إلى رماد وكتلة من الغازات.

ولكن ... عند حلول وقت نهاية العالم ، والإقتراب من يوم القيامة ، سيخمد ذلك اللهب المروع ، وستجمع تلك الشعلات ، فيطفأ نور الشمس ، ويصغر حجمها ... وهو ما اشير إليه بالتكوير.

وقد أيّد العلم الحديث هذه الحقيقة ، من خلال اعتقاده وبعد دراسات علمية كثيرة ، بأنّ الشمس تسير تدريجياً نحو الظلام والإنطفاء.

ويأتي المشهد الثاني : (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ).

«انكدرت : من الإنكدار ، بمعنى السقوط والتناثر ، واشتق من (الكدورة) ، وهي السواد والظلام.

ويمكن جمع المعنيين في الآية ، لأنّ النجوم في يوم القيامة ستفقد إشعاعها وتتناثر وتسقط في هاوية الفناء.

والمشهد الثالث : (وَإِذَا الْجِبَالُ سُيّرَتْ).

وقد ذكرنا مراحل فناء الجبال ، ابتداءً من السير والحركة وانتهاءً بتحولها إلى غبار متناثر (فراجع تفسير الآية ٢٠ من سورة النبأ).

وثم يأتي دور المشهد الرابع : (وَإِذَا الْعِشَارُ عُطّلَتْ).

«العشار : جمع (عشراء) ، وهي الناقة التي مرّ على حملها عشرة أشهر ، فأضحت على أبواب الولادة ، بعدما امتلأت أثداؤها باللبن.

٣٨٦

وهي من أحبّ وأثمن النوق لدى العرب زمن نزول الآية المباركة.

«عطلت : تركت لا راعي لها. فهول ووحشة القيامة ، سينسي الإنسان أحبّ وأثمن ما يمتلكه.

وينتقل المشهد الخامس إلى الوحوش : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ).

فالحيوانات الوحشية التي تراها في الحالات العادية تبتعد الواحدة عن الاخرى خوفاً من الإفتراس والبطش ، ستراها وقد جمعت في محفل واحد ، وكل منها لا يلتفت إلى ما حوله لما سيصاب به من رهبة وأهوال ذلك اليوم الخطير ، وكأنّها تقصد من اجتماعها هذا التخفيف عن شدّة خوفها وفزعها.

ونقول : إذا اضمحلت كل خصائص الوحشية للحيوانات غير الأليفة نتيجة لأهوال يوم القيامة ، فما سيكون مصير الإنسان حينئذ؟!

وتُصوّر البحار في المشهد السادس : (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجّرَتْ).

«سجّرت : من التسجير ، بمعنى إضرام النار.

وإذا خالج القدماء التعجب والإستغراب لهذا الوصف القرآني ، فقد بات اليوم من البديهيات الكسبية ، لما يتركب منه الماء من عنصري الأوكسجين والهيدروجين ، القابلات للإشتعال بسرعة ، ولا يستبعد أن يوضع الماء ـ في إرهاصات يوم القيامة ـ تحت ضغط شديد ممّا يؤدّي إلى تجزئة وتفكيك عناصره ، وعندها سيتحول إلى كتلة ملتهبة من النار.

ويأتي درو المشهد السابع : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوّجَتْ).

فتبدأ المآلفة بخلاف حال الدنيا ... فالصالحون مع الصالحين ، والمسيؤون مع المسيئين ، وأصحاب اليمين مع أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال مع أصحاب الشمال ، فإذا ما جاور المؤمن مشركاً ، أو تزوج الصالح من غير الصالحة في الحياة الدنيا ، فتصنيف يوم لقيامة غير ذلك ، فهو يوم الفصل الحق.

ونصل إلى المشهد الثامن : (وَإِذَا الْمَوْءُدَةُ سِلَتْ * بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ).

«الموءودة : من الوأد على وزن (وعد) ، بمعنى دفن البنت حيّة بعد ولادتها.

وأطلق الأئمة الأطهار عليهم‌السلام مفهوم الوأد ، ليشمل كل قطع رحم وقطع مودّة ... حينما سئل

٣٨٧

الإمام الباقر عليه‌السلام عن معنى الآية ، قال : هو من قتل في مودّتنا وولايتنا (١).

ولا شك أنّ التفسير الأوّل ينسجم مع ظاهر الآية ، ولكن المفهوم والملاك قابلان للتوسع والشمول.

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ) (١٤)

يوم يرى الإنسان ما قدّم : فبعد مرحلة الفناء العام ، تأتي مرحلة الظهور الجديد للعالم ، لتقام محكمة العدل الإلهي ، ومن معالم هذه المرحلة : (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ).

فستنشر الصحف التي دوّنت فيها أعمال الناس من قبل الملائكة وكل سيعرف جزاءه بعد الإطّلاع على صحيفة أعماله ، كما تشير إلى ذلك الآية (١٤) من سورة الإسراء : (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا).

وسيكون نشر الصحف أمام الملأ العام لتقرّ عيون المحسنين سروراً ، ويقاسي المسيؤون العذاب النفسي.

ثم يضيف : (وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ).

«كشطت : من الكشط على وزن (كشف) ، بمعنى قلع جلد الناقة.

وما يراد من كشطت في الآية ، هو : رفع الحجب الفاصلة بين العالمين الدنيوي والعلوي ، التي تمنع رؤية الناس للملائكه أو الجنة والنار ، فيرى الإنسان حينها عالم الوجود شاخصاً أمام ناظريه شخوصاً حقيقياً.

فالآية قد تحدثت عن المرحلة الثانية للقيامة ؛ مرحلة ما بعد البعث.

ويتأكد ذلك بوضوح من خلال الآية : (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعّرَتْ).

فجهنّم موجودة في كل الأوقات ، ولكن حجب الدنيا هي المانعة من رؤيتها ، فالآية على سياق الآية (٤٩) من سورة التوبة : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ). وكما أنّ جهنم موجودة فالجنة كذلك بدلالة آيات قرآنية كثيرة.

ويبيّن البيان القرآني بذات السياق السابق : (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ).

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم ٢ / ٤٠٧.

٣٨٨

وهذا المعنى هو تكرار لما جاء في الآية (٩٠) من سورة الشعراء : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ).

«ازلفت : من زلف على وزن (حرف) .. وزلفى : على وزن (كُبرى) ، بمعنى القرب ، فيمكن أن يكون المراد هو : القرب المكاني ، أو القرب الزماني ، أو القرب من حيث الأسباب والمقدمات ، ويمكن أيضاً أن تحمل الكلمة جميع ما ذكر من معانٍ.

وتأتي الآية الأخيرة ـ من الآيات المبحوثة ـ لتتم ما جاء قبلها من جمل ، حيث تمثل جزاء الشرط للجمل السابقة والتي وردت في (١٢) آية : (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ).

فستحضر أعمال الإنسان كاملة ، ولا من محيص من العلم والإطّلاع بها في عالم الشهود والمشاهدة.

وقد ذكر القرآن الكريم هذه الحقيقة مرات عديدة في آيات مباركات ، منها : الآية (٤٩) من سورة الكهف : (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا) ، والآيتان (٧ و ٨) من سورة الزلزلة : (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

(فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ) (٢٥)

بعد أن تناولت الآيات السابقة مواضيع : المعاد ، مقدمات يوم القيامة ، وحوادث يوم القيامة ... تأتي الآيات أعلاه لتتحدث عن أحقية القرآن وصدق نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والآيات في حقيقتها تأكيد على ما جاء في الآيات السابقة لموضوع المعاد ، إضافة لذكرها صور بيانية منبهة على هذه الحقيقة.

وتشرع الآيات ب : (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ).

«الخنّس : جمع (خانس) ، من (خنس) وهو الإنقباض والإختفاء ، ويقال للشيطان : «الخنّاس ، لأنّه إذا ذُكر الله تعالى يخنس ، وكما ورد في الحديث الشريف : الشيطان يوسوس إلى العبد فإذا ذكر الله خَنَس.

٣٨٩

«الجوار : جمع (جارية) ، وهي الشئ الذي يتحرك بسرعة.

«الكنّس : جمع (كانس) ، من (كنس) ، وهو الإختفاء ، وكناس الطير والوحش : بيت يتخذه.

والمقصود بهذا القَسم كما روى عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أنّه قال في تفسير الآيات المذكورة : هي خمسة أنجم : زحل ، والمشتري ، والمريخ ، والزهرة ، وعطارد (١). والتي يمكن رؤيتها بالعين المجردة.

ونقول توضيحاً : لو تأمّلنا السماء عدّة ليال ، لرأينا أنّ نجوم السماء أو القبة السماوية تظهر وتغيب بشكل جماعي من دون أن تتغير الفواصل والمسافات فيما بينها ، وكأنّها لئاليء خيطت على قطعة قماش داكن اللون ، وهذه القطعة تتحرك من المشرق إلى المغرب ، إلّا خمسة كواكب قد خرجت عن هذه القاعدة ، فنراها تتحرك وليس بينها وبين بقيّة النجوم فواصل ثابتة ، وكأنّها لئاليء قد وضعت على تلك القطعة وضعاً ، من دون أن تخيّط بها.

وهذه الكواكب الخمس هي المقصودة في هذا التفسير ، وما نلاحظه من حركتها إنّما تكون لقربها منّا ولا نتمكن من تمييز حركات بقية النجوم لعظم المسافة فيما بيننا وبينها.

ومن جهة اخرى : ينبغي التنويه إلى أنّ علماء الفلك يطلقون على هذه الكواكب اسم (الكواكب المتحيرة) ، لأنّها لا تتحرك على خط مستقيم ثابت ، فنراها تسير باتجاه معين من الزمن ثم تعود قليلاً ومن ثم تتابع مسيرها الأوّل وهكذا ... ولهؤلاء العلماء بحوث علمية كثيرة في تحليل هذه الظاهرة.

وعليه ... يمكن حمل إشارة الآيات إلى الكواكب السيارة الجوار ، التي في سيرها لها رجوع الخنس ، ثم تختفي عند طلوع الفجر وشروق الشمس ... فهي تشبه غزالاً يتصيد طعامه في الليل وما أن يحّل النهار حتى يختفي عن أنظار الصيادين والحيوانات المفترسة فيذهب إلى كناسه ، ولذا وصفت الكواكب ب الكنّس.

فكأنّ القرآن الكريم يريد بهذا القسم المليء بالمعاني الممتزجة بنوع من الإبهام ، كأنّه يريد إثارة الفكر الإنساني ، وتوجيهه صوب الكواكب السيارة ذات الوضع الخاص على القبة السماوية ، ليتأمل أمرها وقدرة وعظمة خالقها سبحانه وتعالى.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ١٠ / ٢٨٠.

٣٩٠

ويعرض لنا القرآن لوحة اخرى : (وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ).

«عسعس : من العسعسة ، وهي رقة الظلام في طرفي الليل (أوّله وآخره). وبالرغم من اطلاق هذه المفردة على معنيين متفاوتين ، ولكن المراد منها في هذه الآية هو آخر الليل فقط بقرينة الآية التالية لها ، وهو ما يشابه القسم الوارد في الآية (٣٣) من سورة المدّثّر : (وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ).

ويأتي القَسم الثالث والأخير من الآيات : (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ).

ويأتي هذا الوصف في سياق ما ورد في سورة المدّثّر ، فبعد القسم بإدبار الليل ، قال : (وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ) ، فكأنّ الليل ستارة سوداء قد غطت وجه الصبح ، فما أن أدبر الليل حتى رفعت تلك الستارة فبان وجه الصبح مشرقاً ، وأسفر للحياة من جديد.

وتجسّد الآية التالية جواب القسم للآيات السابقة : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ).

فالجواب موجّه لمن اتّهم النبّي صلى‌الله‌عليه‌وآله باختلاق القرآن ونسبته إلى الباري جلّ شأنه.

وقد تناولت هذه الآية وما بعدها خمسة أوصاف لأمين وحي الله جبرائيل عليه‌السلام ، وهي الأوصاف التي ينبغي توفرها في كل رسول جامع لشرائط الرسالة ...

فالصفة الاولى : إنّه كريم : إشارة إلى علوّ مرتبته وجلالة شأنه.

ومن صفاته أيضاً : (ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ).

«ذي العرش : ذات الله المقدسة.

مع أنّ الله مالك كل عالم الوجود ، فقد وصف بذي العرش لما للعرش من أهميّة بالغة على غيره (سواء كان العرش بمعنى عالم ما وراء الطبيعة ، أو بمعنى مقام العلم المكنون).

أمّا وصفه ب ذي قوّة (أي : صاحب قدرة) ، لما للقدرة العظيمة والقوّة الفائقة من دور مهم وفعّال في عملية حمل وإبلاغ الرسالة.

«مكين : صاحب منزلة ومكانة.

والتعبير ب عند هو الحضور المقامي والقرب المعنوي.

وتتناول الآية التالية الصفة الرابعة والخامسة : (مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ).

ويستفاد من الروايات : إنّ جبرائيل ينزل أحياناً وبصحبته جمع كبير من الملائكة في حال ابلاغه للآيات القرآنية المباركة ، وهو ما يوحي بأنّه مطاع بينهم ، وهو ما ينبغي أن يكون في كل امّة تتبع رسولاً ، فلابدّ من إطاعتها له.

٣٩١

في تفسير مجمع البيان : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لجبرائيل عليه‌السلام : ما أحسن ما أثنى عليك ربّك! ذي قوّة عند العرش مكين ، مطاع ثّم أمين ، فما كانت قوّتك وما كانت أمانتك؟ فقال : أمّا قوّتي فإنّي بعثت إلى مدائن لوط ، وهي أربع مدائن في كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري ، فحملتهن من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماوات أصوات الدجاج ، ونباح الكلاب ، ثم هويت بهنّ فقلبتهن. وأمّا أمانتي ، فإنّي لم اؤمر بشيء فعدوته إلى غيره.

وينفي القرآن ما نُسب إلى النبي : (وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ).

«الصاحب : هو الملازم والرفيق والجليس ؛ والوصف هذا مضافاً إلى أنّه يحكي عن تواضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع جميع الناس ... فلم يرغب يوماً في الإستعلاء على أحد منكم ، فإنّه قد عاش بينكم حقبة طويلة ، وجالسكم ، فلمستم عن قرب رجاحة عقله وحسن درايته وأمانته ، فكيف تنسبون له الجنون؟!

ويؤكّد القرآن على الإرتباط الوثيق ما بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجبرائيل : (وَلَقَدْ رَءَاهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ). وهو الأفق الأعلى الذي تظهر فيه الملائكة ، حيث شاهد رسول الله جبرائيل.

وتأتي الصفة الخامسة : (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ).

«ضنين : من ضنّة على وزن (مِنّة) ، أي : البخل بالأشياء الثمينة والنفيسة ، فالأنبياء عليهم‌السلام منزّهون عن ذلك ، وإذا ما بخل الآخرون بما صار في حوزتهم من علم محدود ، فالنبّي فوق ذلك وأنزه مع ما له من منبع علم إلهي.

وتقول آخر الآيات المبحوثة : (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ).

فالآيات القرآنية ليست كحديث الكهنة الذي يأخذوه من الشياطين ، ودليلها معها ، حيث إنّ حديث الكهنة محشو بالأكاذيب والتناقضات ، ويدور حول محور ميولهم ورغباتهم ، في حين لا يشاهد ذلك في الآيات القرآنية إطلاقاً.

(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (٢٩)

إلى أين ... أيّها الغافلون : أكّدت الآيات السابقة ببيان جلي حقيقة كون القرآن كلام الله ... فمحتواه ينطق عن كونه كلاماً رحمانياً وليس شيطانياً ، وقد نزل به رسول كريم مقتدر وأمين ، وقام بتبليغه النبي الصادق الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي لم يبخل في البلاغ في شيء ، وما تهاون عن تعليم الناس فيما ارسل به.

٣٩٢

فيما توبخ الآيات أعلاه اولئك الذين عادوا القرآن وانحرفوا عن خطّ سير الرسالة الربّانية الهادية ، فتقول لهم بصيغة الإستفهام التوبيخي : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ).

وتأتي الآية الثانية لتقول : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ).

فالآية تتحدث بلسان الوعظ والتذكير ، عسى أن يستيقظ مَن تملّكه نوم غفلته.

لا يمكن للهداية والتربية أن تؤدّي فعلها بوجود المرشد الناحج فقط ، بل لابدّ من توفر عنصر الإستعداد وتقبل الهداية من قبل الطرف الآخر ، ولذلك ... فبعد الوعظ والتذكير جاءت الآية التالية لتبيّن هذه الحقيقة : (لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ).

فالآية الاولى قد ذكرت عمومية الفيض الإلهي في القرآن الكريم ، فيما خصصت الآية التالية عملية الإستفادة من هذا الفيض الجزيل وحددته بشرط الإستقامة.

وهذه القاعدة جارية في جميع النعم والمواهب الإلهية في العالم ، فإنّها عامة التمكين ، خاصة الإستفادة ، فمن لا يملك الإرادة والتصميم على ضوء الهدي القرآني لا يستحق فيض رحمة الله ونعمه.

ولكي لا يتصور بأنّ مشيئة وإرادة الإنسان مطلقة في سيره على الطريق المستقيم ، ولكي يربط الإنسان مشيئته بمشيئة وتوفيق الله عزوجل ، جاءت الآية التالية لتقول : (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).

والآيتان السابقتان تبيّنان فلسفة أمر بين الأمرين التي أشار إليها الإمام الصادق عليه‌السلام ؛ فمن جهة ، إنّ الإرادة والقرار بيدكم ، ومن جهة اخرى ، يلزم تلك الإرادة وذلك القرار ما يشاء الله ربّ العالمين ... وإنّ خلقتم أحراراً مختارين ، فالحرية والإختيار منه جلّ اسمه ، ولولا إرادته ذلك لما كان.

فالإنسان ليس بمجبور على أعماله مطلقاً ، ولا هو بمختار بكلّ معنى الإختيار ، ولكن ... كما روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام : لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين. فكل ما للإنسان من : عقل ، فهم ، قدرة بدنية ، وقدرة على اتخاذ القرار ، كل ذلك من الله عزوجل ، فهو من جهة في حالة الحاجة الدائمة للإتصال به جلّ شأنه ، ولو شاء الله لتوقف كل شيء وانتهى ، وهو من جهة اخرى مسؤول عن أعماله لما له من حرية واختيار على تنفيذها.

نهاية تفسير سورة التّكوير

* * *

٣٩٣
٣٩٤

٨٢

سورة الإنفطار

محتوى السورة : لا تشذ السورة عن سياق سور الجزء الأخير من القرآن الكريم ، وتدور حول محور المسائل المتعلقة بيوم القيامة. تتضمن مجموع آياتها المواضيع التالية :

١ ـ أشراط الساعة ، وهي الحوادث الهائلة التي سيشهدها العالم أواخر لحظات عمره وعند قيام الساعة.

٢ ـ التذكير بالنعم الإلهية الداخلة في كل وجود الإنسان ، وكسر حالة غرور الإنسان ، وتهيئته للمعاد.

٣ ـ الإشارة إلى ملائكة تسجيل أعمال الإنسان.

٤ ـ بيان عاقبة المحسنين والمسيئين في يوم القيامة.

٥ ـ لمحات سريعة عما سيجري في ذلك اليوم العظيم.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : ومن قرأ هاتين السورتين : إذا السماء انفطرت ؛ وإذا السماء انشقت ، وجعلهما نصب عينه في صلاة الفريضة والنافلة ، لم يحجبه من الله حجاب ، ولم يحجزه من الله حاجز ، ولم يزل ينظر إلى الله وينظر الله إليه حتى يفرغ من حساب الناس.

ولا شك أنّ حصول ثواب السورتين إنّما يتمّ لمن وضعهما في أعماق روحه ، وبنى على أساسهما شخصيته وعمله ، وليس لمن يلوكهما في لسانه ولا غير.

٣٩٥

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) (٥)

عندما يحلّ الحدث المروع : تقدم لنا الآيات ـ مرّة اخرى ـ مشاهداً مروعة من يوم القيامة ، فتخبر عن تفطّر السماء من هول الكارثة : (إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ).

ثم تنتقل إلى ما سيصيب الكواكب ونظامها : (وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ).

فسينهدم العالم العلوي ، وستحدث الإنفجارات العظيمة المهيبة في كل النجوم السماوية ، وسيتخلخل نظام المنظومات الشمسية ، فتخرج النجوم من مساراتها لتصطدم الواحدة بالاخرى وتتلاشى فينتهي عمر العالم ويتناثر كل شيء ليُبنى على أنقاضه عالم جديد آخر.

«انفطرت : من الإنفطار ، بمعنى الإنشقاق.

«انتثرت : من النثر على وزن (نصر) ، بمعنى نشر الشيء وتفريقه ، والإنتثار : هو الإنتشار والتفرق. وباعتبار أنّ انتشار النجوم يؤدي إلى تفرقها في السماء (كحبات العقد المنفرط) فقد فسّرها الكثير من المفسرين ب (سقوط النجوم) ، وهو من لوازم معنى الإنتثار.

«الكواكب : جمع (كوكب) ، وله معان كثيرة ولكن أنّ المعنى الحقيقي هو (النجم المتلأليء) ، وما دون ذلك معان مجازية استعملت لعلاقة المشابهة.

إنّ هذه الامور تهدف إلى تعريف الإنسان بما سيحدث بالمستقبل الآت ، وتدعوه لخلاص نفسه من أهوالها ، وهو الكائن الضعيف وسط تلك الحوادث الجسام.

وينتقل البيان القرآني من السماء إلى الأرض ، فيقول : (وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ). أي اتصلت.

مع أنّ البحار متصلة فيما بينها قبل حلول ذلك اليوم (ما عدا البحيرات) ، لكن اتصالها سيكون بشكل آخر ، حيث ستفيض جميعها وتتمزق حدودها وتصير بحراً واحداً لتشمل كل الأرض ، بسبب الزلازل المرعبة وتحطم الجبال وسقوطها في البحار ... هذا أحد تفاسير الآية (٦) من سورة التكوير (الآنفة الذكر) : (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجّرَتْ).

وتتناول الآية التالية عرضاً لمرحلة القيامة الثانية ، مرحلة تجديد الحياة وإحياء الموتى ، فتقول : (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) ... واخرج الموتى للحساب.

٣٩٦

وبعد ذكر كل تلك العلائم لما قبل البعث ولما بعده ، تأتي النتيجة القاطعة : (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ).

نعم ، فستتجلى حقائق الوجود ، وسيصير كل شيء بارز إنّه يوم البروز وسيرى الإنسان كل أعماله محضرة بخيرها وشرّها ، لأنّه يوم إزالة الحجب ، ورفع مبررات الغرور والغفلة ، وعندها ... سيعلم الإنسان ما قدّم لآخرته ، وما ترك بعده من آثار حسنها وسيئها ، مثل : الصدقة الجارية ، فعل الخير ، عمارة الأبنية ، الكتب التي ألفها ، ما سنّ من السنن ... فإن كان ما خلّفه خالصاً لله فسينال حسناته ، وإن كانت نيّتة في أفعاله غير خالصة لله ، فسيلاقي لتبعات أعماله.

وهذه نماذج من الأعمال التي ستصل نتائجها إلى الإنسان بعد الموت ، وهو : المراد من وأخّرت.

في الكافي عن هشام بن سالم عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلّاثلاث خصال : صدقة أجراها في حياته ، فهي تجري بعد موته ، وسنّة هدى سنّها ، فهي يعمل بها بعد موته ، أوولد صالح يدعو له.

وفي أمالي الصدوق عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : ستّ خصال ينتفع بها المؤمن بعد موته : ولد صالح يستغفر له ، ومصحف يقرأ منه ، وقليب [بئر] يحفره ، وغرس يغرسه ، وصدقة ماء يجريه ، وسنّة حسنة يؤخذ بها بعده.

فتعكس هذه الآيات والروايات أبعاد مسؤولية الإنسان أمام أعماله ، وتبيّن عظم المسؤولية ، فآثار فعل الخيرات أو المنكرات يصل إليه وإن امتدت آلاف السنين بعد موته.

(يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (١٠) كِرَاماً كَاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) (١٢)

لا داعي للغرور : تنتقل الآيات أعلاه من المعاد إلى الإنسان ، ببيان إيقاظي عسى أن ينتبه الإنسان من غفلة ما في عنقه من حق وما على عاتقه من مسؤوليات جسام أمام خالقه سبحانه وتعالى ، فتخاطب الآية الاولى الإنسان باستفهام توبيخي محاط بالحنان والرأفة الربانية : (يَا أَيُّهَا الْإِنسنُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ).

٣٩٧

فبمقتضى ربوبيته هو الحامي والمدبّر لأمر تربية وتكامل الإنسان ، وبمقتضى كرمه أجلس الإنسان على مائدة رحمته ، ورعاه بما أنعم عليه مادياً ومعنوياً ودون أن يطلب منه أيّ مقابل ، بل ويعفو عن كثير من ذنوب الإنسان بفضل كرمه ...

وفي المجمع : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما تلا هذه الآية قال : غرّه جهله.

ومن هنا يتقرّب لنا هدف الآية ، فهي تدعو الإنسان لكسر حاجز غروره وتجاوز حالة الغفلة ، وذلك بالاستناد على مسألة الربوبية والكرم الإلهي.

وتعرض لنا الآية التالية جانباً من كرم الله ولطفه على الإنسان : (الَّذِى خَلَقَكَ فَسَّوَيكَ فَعَدَلَكَ * فِى أَىّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ).

فالآيات المبحوثة ، إضافة لآيات اخر كثيرة تهدف وبشكلّ دقيق إلى تعريف الإنسان المغرور بحقيقته ، منذ كان نطفة قذرة ، مروراً بتصويره وتكامله في رحم امّه ، حتى فى أتمّ حالات نموه وتكامله ، وتؤكّد على أنّ حياة الإنسان في حقيقتها مرهونة بنعم الله ، وكل حيّ يفعم برحمة الله في كل لحظات حياته ، ولابدّ لكل حي ذي لبّ وبصيرة من أن يترجل من مطية غروره وغفلته ، ويضع طوق عبودية المعبود الأحد في رقبته ، وإلّا فالهلاك الحتمي.

وتتناول الآية التالية منشأ الغرور والغفلة : (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدّينِ).

فالكرم الإلهي ، ولطف الباري ونعمه ليست بمحفز لغروركم ، ولكنّكم آليتم على عدم إيمانكم بالقيامة ، فوقعتم بتلك الهاوية المظلمة.

وتأتي الآيات التالية لتوضح أنّ حركات وسكنات الإنسان كلّها مراقبة ومحسوبة ولابدّ من الإيمان بالمعاد وإزالة عوامل الغفلة والغرور ، فتقول : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ).

وهؤلاء الحفظة لهم مقام كريم عند الله تعالى ودائبين على كتابة أعمالكم : (كِرَامًا كَاتِبِينَ).

(يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ).

والحافظين : هم الملائكة المكلفون بحفظ وتسجيل أعمال الإنسان من خير أو شرّ ، كما سمّتهم الآية (١٨) من سورة (ق) بالرقيب العتيد : (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).

كما وذكرتهم الآية (١٧) من نفس السورة : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ).

وفي الإحتجاج للشيخ الطبرسي عن الصادق عليه‌السلام حديث طويل وفيه يقول السائل : فما

٣٩٨

علة الملائكة الموكلين بعباده يكتبون عليهم ولهم والله عالم السر وما هو أخفى؟

قال : استعبدهم بذلك ، وجعلهم شهوداً على خلقه ، ليكون العباد لملازمتهم إيّاهم أشدّ على طاعة الله مواظبة ، وعن معصيته أشدّ انقباضاً ، وكم من عبد يهم بمعصية فذكر مكانهما فارعوى وكفّ ، فيقول ربّي يراني ، وحفظتي عليّ بذلك تشهد ، وأنّ الله برأفته ولطفه أيضاً وكّلهم بعباده ، يذبّون عنهم مردة الشيطان ، وهوام الأرض ، وآفات كثيرة من حيث لا يرون بإذن الله ، إلى أن يجيء أمر الله.

ويستفاد من هذه الرواية أنّ للملائكة وظائف اخرى إضافة لتسجيلهم لأعمال الإنسان كحفظ الإنسان من الحوادث والآفات ووساوس الشيطان.

(إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (١٦) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (١٩)

بعد ذكر الآيات السابقة لتسجيل أعمال الإنسان من قبل الملائكة ، تأتي الآيات أعلاه لتتطرق إلى نتائج تلك الرقابة ، وما سيصل إليه كل من المحسن والمسيء من عاقبة ، فتقول الآية الاولى : (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ).

والثانية : (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ).

«الأبرار : جمع (بار) وبَرّ على وزن (حق) ، بمعنى : المحسن ؛ والبِرّ بكسر الباء ـ كل عمل صالح ... والآية تريد العقائد السليمة ، والنيات والأعمال الصالحة.

«نعيم : وهي مفرد بمعنى النعمة ، ويراد به هنا الجنة.

«الفجّار : جمع (فاجر) من (فجر) ، وهو الشقّ الواسع ، والفجور : شقّ ستر الديانة والعفة ، والسير في طريق الذنوب.

«جحيم : من الجحمة ، وهي تأجج النار ، وتطلق الآيات القرآنية (الجحيم) على جهنم عادة.

ويمكن أن يراد بقوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ). الحال الحاضر ، أيّ : إنّ الأبرار يعيشون في نعيم الجنة حاليّاً ، وإنّ الفجّار قابعون في أودية النار ، كما

٣٩٩

يفهم من إشارة الآية (٥٤) من سورة العنكبوت : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ).

وتدخل الآية التالية في تفصيل أكثر لمصير الفجّار : (يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدّينِ).

فإذا كانت الآية السابقة تشير إلى أنّ الفجّار هم في جهنم حالياً ، فسيكون إشارة هذه الآية ، إلى أنّ دخولهم جهنم سيتعمق ، وسيحسون بعذاب نارها ، بشكل أشدّ.

«يصلون : من صلى على وزن (سعى) ، وصلى النار : دخل فيها.

ولزيادة التفصيل ، تقول الآية التالية : (وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ).

اعتبر كثير من المفسرين كون الآية دليلاً على خلود الفجّار في العذاب ، وخلصوا إلى أنّ المراد ب الفجّار هم الكفار ، لكون الخلود في العذاب يختص بهم دون غيرهم.

ف الفجّار : إذن : هم الذين يشقون ستر التقوى والعفة بعدم إيمانهم وتكذبيهم بيوم الدين ، ولا يقصد بهم ـ في هذه الآيات ـ اولئك الذي يشقّون الستر المذكور بغلبة هوى النفس مع وجود حالة الإيمان عندهم.

وتبيّن الآية أيضاً : إنّ عذاب أهل جهنم عذاب دائم ليس له انقطاع ، ولا يغيب عنهم ولو للحظة واحدة.

ولأهمية خطب ذلك اليوم العظيم ، تقول الآية التالية : (وَمَا أَدْرَيكَ مَا يَوْمُ الدّينِ).

(ثُمَّ مَا أَدْرَيكَ مَا يَوْمُ الدّينِ).

فإذا كانت وحشة وأهوال ذلك اليوم قد اخفيت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهو المخاطب في الآية ـ مع كل ما له من علم ب : القيامة ، المبدأ ، المعاد .. فكيف يا تُرى حال الآخرين.

وينتقل البيان القرآني للتعبير عن إحدى خصائص ذلك اليوم ، وبجملة وجيزة ، لكنّها متضمنة لحقائق ومعان كثيرة : (يَوْمَ لَاتَمْلِكُ نَفْسٌ لّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لّلَّهِ).

فستتجلّى حقيقة أنّ كل شيء في هذا العالم هو بيد الله العزيز القهار ، وستبان حقيقة حاكمية الله المطلقة ومالكيته على كل من تنكر لهذه الحقيقة الحقة ، وستنعدم تلك التصورات الساذجة التي حكمت أذهان المغفلين بكون فلان أميراً ورئيساً أو حاكماً ، وسينهار اولئك البسطاء الذين اعتبروا أنّ قدراتهم مستقلة بعد أن أكل الغرور نفوسهم وتكالب التكبر على تصرفاتهم في الحياة الدنيا الفانية.

نهاية تفسير سورة الإنفطار

* * *

٤٠٠