مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

بالرغم من أنّ الآية نزلت في مورد خاص ، إلّاأنّ لها مفهوماً عاماً ، وبملاحظة أنّ ما يرفع مقام الإنسان عند الله شيئان : الإيمان ، والعلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (١٣)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : نزلت في الأغنياء ، وذلك أنّهم كانوا يأتون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيكثرون مناجاته. [وهذا العمل بالإضافة إلى أنّه يشغل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ويأخذ من وقته فإنّه كان يسبّب عدم إرتياح المستضعفين منه ، وحيث يشعرهم بامتياز الأغنياء عليهم] فأمر الله سبحانه بالصدقة عند المناجاة. فلمّا رأوا ذلك ، انتهوا عن مناجاته. فنزلت آية الرخصة. [التي لامت الأغنياء ونسخت حكم الآية الاولى وسمح للجميع بالمناجاة ، حيث إنّ النجوى هنا حول عمل الخير وطاعة المعبود].

التّفسير

الصدقة قبل النجوى (إختبار رائع : في قسم من الآيات السابقة كان البحث حول موضوع النجوى ، وفي الآيات مورد البحث استمراراً وتكملة لهذا المطلب. يقول سبحانه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولُ فَقَدّمُوا بَيْنَ يَدَى نَجْوَيكُمْ صَدَقَةً).

ثم يضيف بقوله تعالى : (ذلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ).

أمّا كون الصدقة خير فإنّها كانت للأغنياء موضع أجر وللفقراء مورد مساعدة ، وأمّا كونها (أطهر) فلأنّها تغسل قلوب الأغنياء من حبّ المال ، وقلوب الفقراء من الغلّ والحقد.

ولكن لو كان التصدّق قبل النجوى واجباً على الجميع ، فإنّ الفقراء عندئذ سيحرمون من طرح المسائل المهمّة كاحتياجاتهم ومشاكلهم أمام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فلذا جاء في ذيل الآية إسقاط هذا الحكم عن المجموعة المستضعفة مما مكّنهم من مناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والتحدّث

١٢١

معه : (فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

وبهذه الصورة فإنّ دفع الصدقة قبل النجوى كان واجباً على الأغنياء دون غيرهم.

والطريف هنا أنّ للحكم أعلاه تأثيراً عجيباً وامتحاناً رائعاً أفرزه على صعيد الواقع من قبل المسلمين في ذلك الوقت ، حيث امتنع الجميع من إعطاء الصدقة إلّاشخص واحد ، ذلك هو الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهنا اتّضح ما كان يجب أن يتّضح ، وأخذ المسلمون درساً في ذلك ، لذا نزلت الآية اللاحقة ونسخت الحكم حيث يقول سبحانه : (ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَيكُمْ صَدَقَاتٍ).

حيث اتّضح أنّ حبّ المال كان في قلوبكم أحبّ من نجواكم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله واتّضح أيضاً أنّ هذه النجوى لم تكن تطرح فيها مسائل أساسية ، وإلّا فما المانع من أن تقدّم هذه المجموعة صدقة قبل النجوى ، خاصة أنّ الآية لم تحدّد مقدار الصدقة فبإمكانهم دفع مبلغ زهيد من المال لحلّ هذه المشكلة.

ثم يضيف تعالى : (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُون) (١٩)

حزب الشيطان : هذه الآيات تفضح قسماً من تآمر المنافقين وتعرض صفاتهم للمسلمين ، وذكرها بعد آيات النجوى يوضّح لنا أنّ قسماً ممّن ناجوا الرسول كانوا من المنافقين ، حيث كانوا بهذا العمل يظهرون قربهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ويتستّرون على مؤامراتهم ، وهذا ما سبّب أن يتعامل القرآن مع هذه الحالة بصورة عامّة.

١٢٢

يقول تعالى في البداية : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِم).

ثم يضيف تعالى : (مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ). فهم ليسوا أعوانكم في المصاعب والمشاكل ، ولا أصدقاءكم وممّن يكنون لكم الودّ والإخلاص ، إنّهم منافقون يغيّرون وجوههم كل يوم ويظهرون كل لحظة لكم بصورة جديدة.

ويضيف ـ أيضاً ـ واستمراراً لهذا الحديث أنّ هؤلاء ومن أجل إثبات وفاءهم لكم فإنّهم يقسمون بالأيمان المغلّظة : (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

وهذه طريقة المنافقين ، فيقومون بتغطية أعمالهم المنفّرة ووجوههم القبيحة بواسطة الأيمان الكاذبة والحلف الباطل ، في الوقت الذي تكون أعمالهم خير كاشف لحقيقتهم.

ثم يشير تعالى إلى العذاب المؤلم لهؤلاء المنافقين المصرّين على الباطل والمعاندين للحقّ ، حيث يقول تعالى : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا). وبدون شك فإنّ هذا العذاب عادل وذلك : (إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

ثم للتوضيح الأكثر حول بيان سمات وصفات المنافقين يقول سبحانه : (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ).

يحلفون أنّهم مسلمون وليس لهم هدف سوى الإصلاح ، في حين أنّهم منهمكون بفسادهم وتخريبهم ومؤامراتهم ... وفي الحقيقة فإنّهم يستفيدون من الاسم المقدس لله للصدّ والمنع عن سبيل الله تعالى ...

ويضيف تعالى في النهاية : (فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ). أي مذلّ.

إنّهم أرادوا بحلفهم الكاذب تحسين سمعتهم وتجميل صورتهم ، إلّاأنّ الله سيبتليهم بعذاب أليم مذلّ.

ولأنّ المنافقين يعتمدون في الغالب على أموالهم وأولادهم وهما (القوة الاقتصادية والقوة البشرية) في تحقيق مآربهم وحلّ مشاكلهم ، فإنّ القرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى بقوله تعالى : (لَّن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلدُهُم مّنَ اللهِ شَيْئًا).

وهذه الأموال ستصبح لعنة عليهم وطوقاً في أعناقهم وسبباً لعذابهم المؤلم ، كما يوضّح الله سبحانه ذلك في الآية (١٨٠) من سورة آل عمران : (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيمَةِ).

وفي ذيل الآية يهدّدهم ويقول : (أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

والعجيب أنّ المنافقين لا يتخلّون عن نفاقهم حتى في يوم القيامة أيضاً ، كما يوضّح الله

١٢٣

سبحانه ذلك في قوله : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ).

إنّ يوم القيامة يوم تتجلّى فيه الأعمال ، وحقيقة الإنسان التي كان عليها في الدنيا ، ولأنّ المنافقين أخذوا هذه الحالة النفسية معهم إلى القبر والبرزخ ، فإنّها ستتضح يوم القيامة أيضاً ، ومع علمهم بأنّ الله سبحانه لا يخفى عليه شيء وأنّه علّام الغيوب ، إلّاأنّهم ـ إنسجاماً مع سلوكهم المعهود ـ فإنّهم يحلفون أمام الله حلفاً كاذباً.

ثم يضيف عزوجل أنّهم بهذا اليمين الكاذب يظنّون أنّه بإمكانهم كسب منفعة أو دفع ضرر : (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْءٍ).

إنّ هذا التصور الواهي ليس أكثر من خيال.

وأخيراً تنتهي الآية بهذه الجملة : (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ). وبهذه الصورة سيفتضح.

وفي آخر آية مورد البحث يبيّن الباري عزوجل المصير النهائي للمنافقين العمي القلوب بقوله تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ).

«استحوذ : من مادة حوذ بمعنى الجزء الخلفي لفخذ البعير ، ولأنّ أصحاب الإبل عندما يسوقون جمالهم يضربونها على أفخاذها ، فقد جاء هذا المصطلح بمعنى التسلّط أو السوق بسرعة.

نعم ، إنّ المنافقين المغرورين بأموالهم ومقامهم ، ليس لهم مصير سوى أن يكونوا تحت سيطرة الشيطان واختياره ووساوسه بصورة تامّة ، وينسون الله بصورة كلية ، أنّهم ليسوا منحرفين فحسب ، بل إنّهم في زمرة الشيطان وهم أنصاره وحزبه وجيشه في إضلال الآخرين.

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢٢)

١٢٤

كان الحديث عن المنافقين وأعداء الله وبيان بعض صفاتهم وخصائصهم في الآيات السابقة ، واستمراراً لنفس البحث ـ في هذه الآيات التي هي آخر آيات سورة المجادلة ـ تطرح خصوصيات اخرى لهم ، ويتّضح المصير الحتمي لهم حيث الموت والإندحار. يقول تعالى في البداية : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِى الْأَذَلّينَ) (١). أي أذلّ الخلائق.

والآية اللاحقة دليل على هذا المعنى حيث يقول سبحانه : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى إِنَّ اللهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ).

وبنفس القدر الذي يكون فيه الله قويّاً عزيزاً فإنّ أعداءه يكونون ضعفاء أذلّاء ، وهذا بنفسه بمثابة الدليل على ما ورد في الآية السابقة من وصف الأعداء بأنّهم (فِى الْأَذَلّينَ).

ولقد اتّضح على مرّ العصور هذا الإنتصار للمرسلين الإلهيين في أوجه مختلفة ، سواء في أنواع العذاب الذي أصاب أعداءهم وصوره المختلفة كطوفان نوح وصاعقة عاد وثمود والزلازل المدمّرة لقوم لوط وما إلى ذلك ، وكذلك في الإنتصارات في الحروب المختلفة كغزوات بدر وحنين وفتح مكة ، وسائر غزوات رسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأهمّ من ذلك كلّه إنتصارهم الفكري والمنطقي على أفكار الشيطان وأعداء الحق والعدالة.

آخر آية مورد البحث ـ والتي هي آخر آية من سورة المجادلة ـ تعدّ من أقوى الآيات القرآنية التي تحذّر المؤمنين من إمكانية الجمع بين حبّ الله وحبّ أعدائه ، إذ لابدّ من اختيار طريق واحد لا غير ، وإذا ما كانوا حقّاً مؤمنين صادقين فعليهم اجتناب حبّ أعداء الله. يقول تعالى : (لَّاتَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ).

إنّ حبّ الآباء والأبناء والاخوان والعشيرة شيء ممدوح ، ودليل على عمق العواطف الإنسانية ، إلّاأنّ هذه المحبة حينما تكون بعيدة عن حبّ الله فإنّها ستفقد خاصيتها.

ثم يتطرّق القرآن الكريم إلى الجزاء العظيم لهذه المجموعة التي سخّرت قلوبها لعشق الله تعالى ، حيث يستعرض خمسة من أوصافهم والتي يمثّل بعضها مدداً وتوفيقاً من الله تعالى ، والآخر نتيجة العمل الخالص له سبحانه ... وفي بيان القسم الأوّل والثاني يقول تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مّنْهُ).

__________________

(١) يحادّون : من مادة محادّة بمعنى الحرب المسلّح وغير المسلّح ، أو بمعنى الممانعة.

١٢٥

ومن الطبيعي أنّ هذا الإمداد واللطف الإلهي لا يتنافي أبداً مع أصل حرية الارادة واختيار الإنسان ، لأنّ الخطوات الاولى في ترك أعداء الله قد قرّرها المؤمنون ابتداءً ، ثم جاء الإمداد الإلهي بصورة استقرار الإيمان حيث عبّر عنه ب (كتب).

هذه الروح الإلهية التي يؤيّد الله سبحانه المؤمنين بها هي نوع من الحياة المعنوية الجديدة التي أفاضها الله تعالى على المؤمنين.

ويقول تعالى في ثالث مرحلة : (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا).

ويضيف في رابع مرحلة لهم : (رَضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ).

إنّ أعظم ثواب معنوي وجزاء روحاني لأصحاب الجنة في مقابل النعم المادية العظيمة في القيامة من جنان وحور وقصور هو شعورهم وإحساسهم أنّ الله راضٍ عنهم وأنّ رضى مولاهم ومعبودهم يعني أنّهم مقبولون عنده ، وفي كنف حمايته وأمنه ، حيث يجلسهم على بساط قربه ، وهذا أعظم إحساس ينتابهم ، ونتيجته رضاهم الكامل عن الله سبحانه.

وفي آخر مرحلة يضيف تعالى بصورة إخبار عام يحكي عن نعم وهبات اخرى حيث يقول : (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُوَن).

وليس المقصود بالفلاح هنا ما يكون في عالم الآخرة ونيل النعم المادية والمعنوية في يوم القيامة فحسب ، بل كما جاء في الآيات السابقة أنّ الله تعالى ينصرهم بلطفه في هذه الدنيا أيضاً على أعدائهم وستكون بأيديهم حكومة الحق والعدل التي تستوعب هذا العالم أخيراً.

نهاية تفسير سورة المجادلة

* * *

١٢٦

٥٩

سورة الحشر

محتوى السورة : تأخذ هذه السورة بصورة متميزة قصة حرب المسلمين مع بعض اليهود (يهود بني النضير) والتي انتهت بإخراجهم من المدينة وتطهير هذه المدينة المقدسة منهم.

وهذه السورة من السور المهمة والمثيرة والموقظة في القرآن الكريم ، ولها انسجام قريب جدّاً مع الآيات الأخيرة مع السورة السابقة ، والتي وعدت حزب الله بالنصر ، والنصر الوارد في هذه السورة يعدّ مصداقاً بارزاً لذلك النصر الموعود.

ويمكن تلخيص موضوعات هذه السورة في ستة أقسام هي :

١ ـ تتحدث عن تسبيح الله الحكيم العليم من قبل الموجودات جميعاً.

٢ ـ يوضّح قصة إشتباك المسلمين مع ناقضي العهد من يهود المدينة.

٣ ـ يستعرض القرآن قصة منافقي المدينة مع اليهود والتعاون بينهما.

٤ ـ يشمل مجموعة من التوجيهات والنصائح العامة لعموم المسلمين.

٥ ـ عبارة عن وصف بليغ للقرآن الكريم وبيان أثره في تطهير الروح والنفس.

٦ ـ يتناول قسماً مهماً من أوصاف جلال وجمال الذات الإلهية المقدسة ، وبعض أسمائه الحسنى ، وهذه الصفات تكون عوناً للإنسان في طريق معرفة الله سبحانه.

١٢٧

إنّ اسم هذه السورة مأخوذ من الآية الثانية فيها ، والتي تتحدث عن الحشر ، والذي يعني هنا تجمّع اليهود للرحيل عن المدينة ، أو حشر المسلمين اليهود لطردهم منها.

وأخيراً فإنّ هذه السور هي إحدى (سور المسبّحات) والتي بدأت بتسبيح الله ، وانتهت بتسبيح الله أيضاً.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن ابي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ومن قرأ سورة الحشر لم يبق جنّة ولا نار ، ولا عرش ولا كرسي ولا حجاب ، ولا السماوات السبع ولا الأرضون السبع ، والهوام والرياح والطير والشجر والدواب ، والشمس والقمر والملائكة ، إلّا صلّوا عليه ، واستغفروا له ، وإن مات من يومه أو ليلته مات شهيداً.

ومما لا شك فيه أنّ هذا من آثار التفكّر والتدبّر في محتوى هذه السورة وعند قراءتها.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (٢) وَلَوْ لَا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٤) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) (٥)

سبب النّزول

ذكر المفسرون والمحدّثون والمؤرّخون بصورة مفصّلة سبب نزول هذه الآيات ، وخلاصة ما ذكروه هي ما يلي :

كان بالمدينة ثلاث قبائل من اليهود وهم : بنو النضير ، وبنو قريظة ، وبنو قينقاع ، ويذكر أنّهم لم يكونوا من أهل الحجاز أصلاً ، وإنّما قدموا إليها واستقرّوا فيها ، وذلك لما قرأوه في

١٢٨

كتبهم العقائدية من قرب ظهور نبي في أرض المدينة ، حيث كانوا بإنتظار هذا الظهور العظيم.

وعندما هاجر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة عقد معهم حلفاً بعدم تعرّض كل منهما للآخر ، إلّاأنّهم كلّما وجدوا فرصة مناسبة لم يألوا جهداً في نقض العهد.

ومن جملة ذلك أنّهم نقضوا العهد بعد غزوة احد ، التي وقعت في السنة الثالثة للهجرة.

فقد ذهب كعب بن الأشرف زعيم قبيلة بني النضير مع أربعين فارساً إلى مكة ، وهنالك عقد مع قريش حلفاً لقتال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجاء أبو سفيان مع أربعين شخصاً ، وكعب بن الأشرف مع أربعين نفراً من اليهود ، ودخلا معاً إلى المسجد الحرام ووثقوا العهد في حرم الكعبة ، فعلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك عن طريق الوحي.

والمؤامرة الاخرى هي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دخل يوماً مع شيوخ الصحابة وكبارهم إلى حي بني النضير ، وذلك بحجّة إستقراض مبلغ من المال منهم كديّة لقتيلين من طائفة بني عامر ، قتلهما (عمرو بن اميّة) أحد المسلمين ، وربّما كان الهدف من ذلك هو معرفة أخبار اليهود عن قرب حتى لا يباغت المسلمون بذلك.

فبينما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتحدث مع كعب بن الأشرف إذ حيكت مؤامرة يهودية لإغتيال رسول الله وتنادى القوم : إنّكم لا تحصلون على هذا الرجل بمثل هذه الحالة وهاهو قد جلس بالقرب من حائطكم ، فليذهب أحدكم إلى السطح ويرميه بحجر عظيم ويريحنا منه ، فقام عمرو بن جحاش وأبدى إستعداده لتنفيذ الأمر ، وذهب إلى السطح لتنفيذ عمله الإجرامي ، إلّاأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علم عن طريق الوحي بذلك ، فقفل راجعاً إلى المدينة دون أن يتحدث بحديث مع أصحابه ، إلّاأنّ الصحابة تصوروا أنّ الرسول سيعود مرّة اخرى ، ولمّا عرفوا فيما بعد أنّ الرسول في المدينة عاد الصحابة إليها أيضاً.

وهنا أصبح من المسلّم لدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نقض اليهود للعهد ، فأعطى أمراً للإستعداد والتهيّؤ لقتالهم.

وجاء في بعض الروايات أيضاً أنّ أحد شعراء بنو النضير هجا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بشعر يتضمّن مسّاً بكرامة الرسول وهذا دليل آخر لنقضهم العهد.

وبدأت خطّة المسلمين في مواجهة اليهود وكانت الخطوة الاولى أن أمر رسول الله (محمّد بن سلمة) أن يقتل كعب بن الأشرف زعيم اليهود ، إذ كانت له به معرفة ، وقد نفّذ هذا العمل بعد مقدمات وقتله.

١٢٩

إنّ قتل كعب بن الأشرف أوجد هزّة وتخلخلاً في صفوف اليهود ، عند ذلك أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمراً للمسلمين أن يتحرّكوا لقتال هذه الفئة الباغية الناقضة للعهد.

وعندما علم اليهود بهذا لجأوا إلى قلاعهم المحكمة وحصونهم القوية ، وأحكموا الأبواب ، إلّا أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر أن تقلع أشجار النخيل القريبة من القلاع.

فقد إرتفع صوت اليهود عندما شعروا بالضيق ، وهم محاصرون في حصونهم ... فقالوا : يا محمّد ، لقد كنت تنهى عن هذا ، فما الذي حدا بك لتأمر قومك بقطع نخيلنا؟

فنزلت الآية (٥) من الآيات محل البحث وبيّنت بأنّ هذا العمل هو أمر من الله عزوجل.

واستمرّت المحاصرة لعدّة أيّام ، ومنعاً لسفك الدماء إقترح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليهم أن يتركوا ديارهم وأراضيهم ويرحلوا من المدينة ، فوافقوا على هذا وحملوا مقداراً من أموالهم تاركين القسم الآخر ... واستقرّ قسم منهم في أذرعات الشام ، وقليل منهم في خيبر ، وجماعة ثالثة في الحيرة ، وتركوا بقية أموالهم وأراضيهم وبساتينهم وبيوتهم بيد المسلمين بعد أن قاموا بتخريب ما يمكن لدى خروجهم منها (١).

التّفسير

بدأت هذه السورة بتنزيه وتسبيح الله وبيان عزّته وحكمته. يقول سبحانه : (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

وهذه مقدمة لبيان قصة يهود بني النضير ، اولئك الذين انحرفوا عن طريق التوحيد ومعرفة الله وصفاته.

التسبيح العام الوارد في الآية لجميع موجودات الأرض والسماء ، أعم من الملائكة والبشر والحيوانات والنباتات والجمادات يمكن أن يكون بلسان القال ويمكن أن يكون بلسان حال هذه المخلوقات حول دقّة النظام المثير للعجب لها في خلق كل ذرّة من ذرّات هذا الوجود ، وهو التسليم المطلق لله سبحانه والإعتراف بعلمه وقدرته وعظمته وحكمته.

ومن جهة اخرى فإنّ قسماً من العلماء يعتقدون أنّ كل موجود في العالم له نصيب وقدر من العقل والإدراك والشعور ، بالرغم من أنّنا لم ندركه ولم نطّلع عليه ، وبهذا الدليل فإنّ هذه المخلوقات تسبّح بلسانها ، بالرغم من أنّ آذاننا ليس لها القدرة على سماعها.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ٩ / ٤٢٥ ؛ وتفسير علي بن إبراهيم ٢ / ٣٥٨ ؛ وتفسير القرطبي ١٨ / ٢.

١٣٠

وبعد بيان المقدمة أعلاه نستعرض أبعاد قصة يهود بني النضير في المدينة حيث يقول سبحانه : (هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ).

«حشر : في الأصل تحريك جماعة وإخراجها من مقرّها إلى ميدان حرب وما إلى ذلك ، والمقصود منه هنا اجتماع وحركة المسلمين من المدينة إلى قلاع اليهود ، أو اجتماع اليهود لمحاربة المسلمين ، ولأنّ هذا أوّل اجتماع من نوعه فقد سمّي في القرآن الكريم بأوّل الحشر ، وهذه بحد ذاتها إشارة إلى بداية المواجهة المقبلة مع يهود بني النضير ويهود خيبر وأمثالهم.

ويضيف الباريء عزوجل : (مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ اللهِ). لقد كانوا مغرورين وراضين عن أنفسهم إلى حدّ أنّهم اعتمدوا على حصونهم المنيعة ، وقدرتهم المادية الظاهرية.

ولأنّ الله سبحانه يريد أن يوضّح للجميع أن لا قوّة في الوجود تقاوم إرادته ، فإنّ إخراج اليهود من أراضيهم وديارهم بدون حرب ، هو دليل على قدرته سبحانه ، وتحدّ لليهود الذين ظنّوا أنّ حصونهم مانعتهم من الله.

ولذلك يضيف ـ استمراراً للبحث الذي ورد في الآية ـ قوله تعالى : (فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ). نعم ، إنّ هذا الجيش غير المرئي هو جيش الخوف الذي يرسله الله تعالى في كثير من الحروب لمساعدة المؤمنين ، وقد خيّم على قلوبهم ، وسلب منهم قدرة الحركة والمقاومة ، لقد جهّزوا وهيّأوا أنفسهم لقتال المهاجرين والأنصار غافلين عن إرادة الله تعالى ، حيث يرسل لهم جيشاً من داخلهم.

وفي نهاية الآية ـ بعنوان استنتاج كلي ـ يقول تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يَأُولِى الْأَبْصَارِ).

«اعتبروا : من مادة إعتبار وفي الأصل مأخوذة من العبور ، أي العبور من شيء إلى شيء آخر ، ويقال لدمع العين عبرة بسبب عبور قطرات الدموع من العين ، وكذلك يقال عبارة لهذا السبب ، حيث إنّها تنقل المطالب والمفاهيم من شخص إلى آخر ، وإطلاق تعبير المنام على تفسير محتواه ، بسبب أنّه ينقل الإنسان من ظاهره إلى باطنه.

وبهذه المناسبة يقال للحوادث التي فيها دروس وعظات عبر لأنّها توضّح للإنسان سلسلة من التعاليم الكليّة وتنقله من موضوع إلى آخر.

والتعبير ب اولى الأبصار إشارة إلى الأشخاص الذين يتعاملون مع الحوادث بعين

١٣١

واقعية ويتوغلون إلى أعماقها.

والمقصود من العبرة والإعتبار في الآية أعلاه هو الإنتقال المنطقي والقطعي من موضوع إلى آخر. يعني مقايسة الحوادث المتشابهة من خلال إعمال العقل.

وتضيف الآية اللاحقة : (وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا).

وبدون شك فإنّ الجلاء عن الوطن وترك قسم كبير من رؤوس الأموال التي جهدوا جهداً بليغاً في الحصول عليها ، هو بحدّ ذاته أمر مؤلم لهم ، وبناءً على هذا فإنّ مراد الآية أعلاه أنّه لو لم يحلّ بهم هذا العذاب ، فإنّ بإنتظارهم عذاباً آخر هو القتل أو الأسر بيد المسلمين ... إلّا أنّ الله سبحانه أراد لهم التيه في الأرض والتشرّد في العالم ، لأنّ هذا أشدّ ألماً وأسىً على نفوسهم ، إذ كلّما تذكّروا أرضهم وديارهم ومزارعهم وبساتينهم التي أصبحت بيد المسلمين ، وكيف أنّهم شردوا منها بسبب نقضهم العهد ومؤامراتهم ضدّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ ألمهم وحزنهم ومتاعبهم تضاعف وخاصة على المستوى النفسي.

وكان هذا عذاباً دنيوياً لهم ، إلّاأنّ لهم جولة اخرى مع عذاب أشدّ وأخزى ، ذلك هو عذاب الآخرة ، حيث يضيف سبحانه في نهاية الآية : (وَلَهُمْ فِى الْأَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ).

وبما أنّ ذكر هذه الحادثة مضافاً إلى تجسيد قدرة الله وصدق الدعوة المحمّدية ، فهي في نفس الوقت تمثّل إنذاراً وتنبيهاً لكل من يروم القيام بأعمال مماثلة لفعل بني النضير ، لذا ففي الآية اللاحقة يرشدنا سبحانه إلى هذا المعنى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).

«شاقّوا : من مادة شقاق وهي في الأصل بمعنى الشقّ والفصل بين شيئين ، وبما أنّ العدو يكون دائماً في الطرف المقابل ، فإنّ كلمة (شقاق) تطلق على هذا العمل.

وفي الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث نلاحظ جواباً على إعتراض يهود بني النضير على قطع المسلمين لنخيلهم ـ كما ورد في شأن النزول ـ بأمر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لتهيئة ظروف أفضل لقتال بني النضير أو لزيادة حزنهم وألمهم ، فيضطرّوا للنزول من قلاعهم ومنازلة المسلمين خارج القلعة ، وقد أثار هذا العمل غضب اليهود وحنقهم ، فقالوا : يا محمّد ، قد كنت تنهي عن الفحشاء ، فما بالك تقطع النخل وتحرقها؟ فنزلت الآية مبيّنة لهم أنّ ذلك من أمر الله سبحانه حيث يقول الباريء : (مَا قَطَعْتُم مّن لّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا

١٣٢

فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِىَ الْفَاسِقِينَ). لينة : من مادة لون تقال لنوع جيّد من النخل.

(وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (٧)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : قال ابن عباس : نزل قوله (مَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) الآية. في أموال كفار أهل القرى ، وهم قريظة وبنو النضير ، وهما بالمدينة. وفدك ، وهي من المدينة على ثلاثة أميال. وخيبر ، وقرى عرينة ، وينبع ، جعلها الله لرسوله ، يحكم فيها ما أراد. وأخبر أنّها كلّها له. فقال اناس : فهلا قسمها ، فنزلت الآية.

[وسنلاحظ أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قسّم هذه الأموال بين المهاجرين الفقراء في المدينة ، وعلى قسم من الأنصار من ذوي الفاقة].

التّفسير

حكم الغنائم بغير الحرب : بما أنّ هذه الآيات تكملة للآيات القرآنية السابقة التي تتحدث عن إندحار يهود بني النضير ، لذا فإنّ هذه الآيات تبيّن حكم غنائم بني النضير ، كما أنّها في نفس الوقت توضّح حكماً عاماً حول الغنائم التي يحصل عليها المسلمون بدون حرب ، كما ذكر ذلك في كتب الفقه الإسلامي بعنوان (الفيء).

يقول الله تعالى : (وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِن خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ).

«أفاء : من مادة فيء وهي في الأصل بمعنى الرجوع ، وإطلاق كلمة (فيء) على هذا اللون من الغنائم لعلّه باعتبار أنّ الله سبحانه قد خلق هذه النعم والهبات العظيمة في عالم الوجود في الأصل للمؤمنين ، وعلى رأسهم الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو أشرف الكائنات. وبناءً على هذا فإنّ الجاحدين لوجود الله والعاصين له بالرغم من إمتلاكهم للبعض من هذه النعم بموجب القواعد الشرعية والعرفية ، إلّاأنّهم يعتبرون غاصبين لها ، ولذلك فإنّ عودة

١٣٣

هذه الأموال إلى أصحابها الحقيقيين (وهم المؤمنون) يسمّى (فيئاً) في الحقيقة.

أوجفتم : من مادة إيجاف بمعنى السّوق السريع الذي يحدث غالباً في الحروب.

«خيل : بمعناه المتعارف عليه (وهي اسم جنس وجمعها خيول) (١).

«ركاب : من مادة ركوب وتطلق في الغالب على ركوب الجمال.

والهدف من مجموع الجملة أنّ جميع الموارد التي لم يحدث فيها قتال وفيها غنائم ، فإنّها لا توزّع بين المقاتلين ، وتوضع بصورة تامّة تحت تصرّف رئيس الدولة الإسلامية وهو يصرفها في الموارد التي سيأتي الحديث عنها لاحقاً.

ثم يضيف سبحانه أنّ الإنتصارات لا تكون غالباً لكم (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ).

نعم ، لقد تحقّق الإنتصار على عدو قوي وشديد كيهود (بني النضير) وذلك بالمدد الإلهي الغيبي ، ولتعلموا أنّ الله قادر على كل شيء.

ولابدّ للمسلمين أن يتعلّموا من ذلك دروس المعرفة الإلهية ، ويلاحظوا علائم حقّانية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويلتزموا منهج الإخلاص والتوكل على الذات الإلهية المقدسة في جميع ممارساتهم.

والآية اللاحقة تبيّن بوضوح مورد صرف (الفيء) الوارد في الآية السابقة وتقول بشكل قاعدة كليّة : (مَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ).

وهذا يعني أنّ هذه الغنائم ليست كباقي الغنائم الحربية التي يكون خمس منها فقط تحت تصرّف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وسائر المحتاجين ، والأربعة الأخماس الاخرى للمقاتلين.

وإذا ما صرّحت الآية السابقة برجوع جميع الغنائم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا يفهم من ذلك أن يصرفها جميعاً في موارده الشخصية ، وإنّما اعطيت له لكونه رئيساً للدولة الإسلامية ، وخاصة كونه المتصدّي لتغطية حاجات المعوزين ، لذا فإنّ القسم الأكبر يصرف في هذا المجال.

إنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يريد الأموال لُاموره الشخصية ، بل بعنوان قائد المسلمين ورئيس دولتهم يصرفها في الامور التي تحقّق مصلحة الدولة الإسلامية بشكل عام.

__________________

(١) يقول الراغب في المفردات : إنّ الخيل في الأصل من مادة (خيال) بمعنى التصوّرات الذهنية ، وخيلاء بمعنى التكبّر والتعالي على الآخرين لأنّه ناتج من تخيّل الفضيلة ، ولأنّ ركوب الإنسان على الحصان يشعر بالإحساس بنوع من الفخر والزهو غالباً ، لذلك أطلق لفظ الخيل على الحصان ، والنقطة الجديرة بالملاحظة أنّ خيل تطلق على الحصان وكذلك على راكبه.

١٣٤

ومما يجدر بالملاحظة أنّ هذا الحق ينتقل من بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الأئمة المعصومين عليهم‌السلام ومن بعدهم إلى نوّابهم. يعني (كل مجتهد جامع للشرائط) لأنّ الأحكام الإسلامية لا تعطّل ، والحكومة الإسلامية من أهمّ المسائل التي يتعامل المسلمون معها وقسم من هذه الاسس قنّنت ضمن الهيكل الاقتصادي العام للمجتمع الإسلامي ، كما أنّها تمثّل مبدأً أساسياً في النظام الاقتصادي للدولة الإسلامية.

ثم يستعرض سبحانه فلسفة هذا التقسيم الدقيق بقوله تعالى : (كَىْ لَايَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ). فيتداول الأغنياء الثروات فيما بينهم ويحرم منها الفقراء.

والمفهوم الذي ورد في هذه الآية يوضّح أصلاً أساسياً في الاقتصاد الإسلامي وهو : وجوب التأكيد في الاقتصاد الإسلامي على عدم تمركز الثروات بيد فئة محدودة وطبقة معيّنة تتداولها فيما بينها ، مع كامل الإحترام للملكية الشخصية ، وذلك بإعداد برنامج واضح بهذا الصدد يحرّك عملية تداول الثروة بين أكبر قطاع من الامة.

ويضيف سبحانه في نهاية الآية : (وَمَاءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).

وبالرغم من أنّ هذا القسم من الآية نزل بشأن غنائم بني النضير ، إلّاأنّ محتواها حكم عام في كل المجالات ، ومدرك واضح على حجية سنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وطبقاً لهذا الأصل فإنّ جميع المسلمين ملزمون بإتّباع التعاليم المحمّدية ، وإطاعة أوامر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإجتناب ما نهى عنه ، سواء في مجال المسائل المرتبطة بالحكومة الإسلامية أو الاقتصادية أو العبادية وغيرها.

(لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (١٠)

١٣٥

السمات الأساسية للأنصار والمهاجرين والتابعين : هذه الآيات ـ التي هي إستمرار للآيات السابقة ـ تتحدث حول طبيعة مصارف الفيء الستّة ، التي تشمل الأموال والغنائم التي حصل عليها المسلمون بغير حرب ، وقد أوضحت الآية المعني باليتامى والمساكين وأبناء السبيل ، مع التأكيد على المقصود من أبناء السبيل بلحاظ أنّهم يشكّلون أكبر رقم من عدد المسلمين المهاجرين في ذلك الوقت ، حيث تركوا أموالهم ووطنهم نتيجة الهجرة ، وكانوا فقراء بعد أن هجروا الدنيا من أجل دينهم. يقول تعالى : (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).

هنا بيّنت الآية ثلاثة أوصاف مهمة وأساسية للمهاجرين الأوائل ، تتلخص ب : «الإخلاص والجهاد والصدق.

وفي الآية اللاحقة يستعرض سبحانه ذكر مورد آخر من موارد صرف هذه الأموال ، ومن بين ما يستعرضه في الآية الكريمة أيضاً وصف رائع ومعبّر جدّاً عن طائفة الأنصار ، ويكمل البحث الذي جاء في الآية السابقة حول المهاجرين ، فيقول سبحانه : (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُو الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ).

«تبؤوا : من مادة بواء وهي في الأصل بمعنى تساوي أجزاء المكان. وبعبارة اخرى يقال : (بواء) لترتيب وتسوية مكان (ما) ، هذا التعبير كناية لطيفة لهذا المعنى ، وهو أنّ طائفة الأنصار ـ أهل المدينة ـ قد هيّؤوا الأرضية المناسبة للهجرة.

والتعبير (تَبَوَّءُو) يوضّح لنا أنّ الأنصار لم يهيّؤوا بيوتهم لاستقبال المهاجرين فحسب ، بل إنّهم فتحوا قلوبهم ونفوسهم وأجواء مجتمعهم قدر المستطاع للتكيّف في التعامل مع وضع الهجرة المرتقب.

وجملة (مِن قَبْلِهِمْ) يوضّح لنا أنّ كل تلك الامور كانت قبل هجرة مسلمي مكة ، وهذا أمر مهمّ.

ثم يتطرق سبحانه إلى بيان ثلاث صفات اخرى توضّح روحية الأنصار بصورة عامة ، حيث يقول تعالى : (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ).

فلا فرق بين المسلمين في وجهة نظرهم والمهمّ لديهم هو مسألة الإيمان والهجرة وهذا الحبّ كان يعتبر خصوصية مستمرّة لهم.

١٣٦

والأمر الآخر : (وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا). فهم لا يطمعون بالغنائم التي اعطيت للمهاجرين ، ولا يحسدونهم عليها ، ولا حتى يحسّون بحاجة إلى ما اعطي للمهاجرين منها.

ويضيف تعالى في المرحلة الثالثة إلى وصفهم : (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (١).

ومن هذه السمات الثلاث : المحبّة وعدم الطمع والايثار ، كانت تتشكّل خصوصية الأنصار المتميزة.

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بني النضير للأنصار : «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم ، وتشاركونهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ، ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة. فقال الأنصار : بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ، ولا نشاركهم فيها فنزلت الآية.

وفي نهاية الآية ـ ولمزيد من التأكيد لهذه الصفات الكريمة ، وبيان تأثيرها الإيجابي العميق ـ يضيف سبحانه : (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

«الشحّ : البخل مقترناً بالحرص عادةً ؛ ويوق : من مادة وقاية.

وفي الكافي عن الفضل بن أبي قرة قال : قال الصادق عليه‌السلام : تدري ما الشحيح؟ قلت : هو البخيل. قال : الشحّ أشدّ من البخل ، إنّ البخيل يبخل بما في يده ، والشحيح يشحّ على ما في أيدي الناس ، وعلى ما في يديه ، حتى لا يرى مما في أيدي الناس شيئاً إلّاتمنّى أن يكون له بالحلّ والحرام ، ولا يقنع بما رزقه الله.

وفي آخر آية مورد البحث يأتي الحديث عن آخر طائفة من المسلمين ، الذين عرفوا بيننا باصطلاح القرآن الكريم ب (التابعين) ، والذين يشكّلون المجموعة الغالبة من المسلمين بعد المهاجرين والأنصار الذين تحدّثت عنهم الآيات السابقة. يقول تعالى : (وَالَّذِينَ جَاءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ).

__________________

(١) خصاصة : من مادة خصاص بمعنى الشقوق التي توجد في جدران البيت ، ولأنّ الفقر في حياة الإنسان يمثّل شقّاً ، لذا عبّر عنه بالخصاصة.

١٣٧

وبهذا الترتيب فإنّ خصوصياتهم هي : (تربية النفس) و (الإحترام للسابقين في الإيمان) و (الإبتعاد عن الحسد والبغضاء).

والتعبير ب (إخوان) والإستمداد من الرؤوف الرحيم في نهاية الآية يحكي عن روح المحبّة والصفاء والاخوّة التي يجب أن تسود المجتمع الإسلامي أجمع ، فكل شخص يتمنّى صفة حسنة لا يتمنّاها لنفسه فحسب.

إنّ الآيد أعلاه لبيان هذه الحقيقة وهي أنّ أموال الفيء لا تنحصر بمحتاجي المهاجرين والأنصار فقط ، بل تشمل سائر المحتاجين من المسلمين على مرّ العصور.

بحث

الصحابة في ميزان القرآن والتاريخ : يصرّ بعض المفسرين ـ بدون الإلتفات إلى الصفات التي مرّت بنا في الآيات السابقة لكل من المهاجرين والأنصار والتابعين ـ على إعتبار جميع الصحابة بدون استثناء متّصفين بجميع الصفات الإيجابية (للمهاجرين والأنصار والتابعين) وأنّهم نموذج يقتدى بهم من حيث نزاهتهم وطهرهم والتسامح فيما بينهم ، وكل خلاف صدر منهم أحياناً سواء في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو من بعده فإنّهم يغضّون النظر عنه ، وبهذا اعتبروا كل مهاجر وأنصاري وتابع شخصاً محترماً ومقدّساً بصورة عامة ، دون الإلتفات إلى أعمالهم وتقييمها حسب الموازين الشرعية.

إلّا أنّ الملاحظ أنّ في الآيات أعلاه رفض واضح إزاء هذا الفهم ، حيث تحدّد الآية التقييم وفق ضوابط وموازين دقيقة للمهاجرين الحقيقيين والأنصار والتابعين.

ففي المهاجرين : الإخلاص والجهاد والصدق.

وفي الأنصار : المحبة للمهاجرين والإيثار ، والإبتعاد عن كل حرص وبخل.

وفي التابعين : بناء أنفسهم ، والإحترام للسابقين في الإيمان ، والإبتعاد عن كل بغض وحسد.

إنّنا في الوقت الذي نحترم فيه السابقين في خطّ الرسالة والإيمان ، يجدر بنا أن ندقّق في سوابقهم وملفّ فعالهم ، سواء على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو المخاضات المختلفة التي حدثت بعده في التاريخ الإسلامي ، وعلى أساس الضوابط والمعايير الإسلامية المستلهمة من هذه الآيات المباركات نحكم لهم أو عليهم ، وعندئذ نقوّي أواصرنا مع من بقي على العهد ، ونقطعها أو نحدّدها ـ بما يناسب ـ مع من ضعفت روابطهم أو قطعوها مع تلك الموازين والضوابط ، وهذا هو المنطق الصحيح والمنسجم مع حكم القرآن والعقل.

١٣٨

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (١٣) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) (١٤)

سبب النّزول

في تفسير روح البيان : إنّ قسماً من منافقي المدينة ـ كعبد الله بن ابي وأصحابه ـ أرسلوا إلى بني النضير وأبلغهم بما يلي : لا تخرجوا من دياركم وأقيموا في حصونكم فإنّ معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون حصنكم ويموتون عن آخرهم قبل أن يوصل إليكم وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان فطمع بنو النضير فيما قاله اللعين وهو جالس في بيته حتى قال أحد سادات بني النضير وهو سلام بن مشكم لحيي بن أخطب الذي كان هو المتولي لأمر بني النضير والله يا حيي إنّ قول ابن ابي لباطل وليس بشيء وإنّما يريد أن يورطك في الهلكة حتى تحارب محمّداً فيجلس في بيته يتركك فقال حيي نأبى الاعداوة محمّد والا قتاله فقال سلام فهو والله جلاؤنا من أرضنا وذهاب أموالنا وشرفنا وسبى ذرارينا مع قتل مقاتلينا فكان ما كان كما سبق في أوّل السورة وفيه حجة بينة لصحة النبوة واعجاز القرآن.

التّفسير

دور المنافقين في فتن اليهود : بعد بيان ما جرى ليهود بني النضير في الآيات السابقة ، وبيان حالة الأصناف الثلاثة من المؤمنين ، يتعرّض القرآن الكريم الآن لشرح حالة المنافقين ودورهم في هذا الحادث ، وفي البداية يتحدث مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث يقول سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ

١٣٩

وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ).

وهكذا فإنّ هؤلاء المنافقين وعدوا طائفة اليهود بامور ثلاثة ، وجميعها كانت كاذبة.

ولهذا السبب يقول القرآن الكريم بصراحة : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).

أجل ، لقد كان المنافقون كاذبين دائماً ، والكاذبون منافقين غالباً.

ثم ... للإيضاح والتأكيد الأكثر حول كذب المنافقين يضيف سبحانه :

(لَئِنْ أُخْرِجُوا لَايَخْرُجُونَ مَعَهُمْ).

وَلَئِن قُوتِلُوا لَايَنصُرُونَهُمْ).

وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ).

ثُمَّ لَايُنصَرُونَ).

والآية اللاحقة تتحدث عن سبب هذا الإندحار ، حيث يقول سبحانه : (لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُورِهِم مِّنَ اللهِ).

ولأنّهم لا يخافون الله ، فإنّهم يخافون كل شيء خصوصاً إذا كان لهم أعداء مؤمنون مثلكم : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّايَفْقَهُونَ).

ثم يستعرض دليلاً واقعياً واضحاً يعبّر عن حالة الخوف والاضطراب حيث يقول سبحانه : (لَايُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ).

«قرى : جمع قرية ، أعمّ من المزروعة وغير المزروعة ، وتأتي أحياناً بمعنى الناس المجتمعين في مكان واحد.

«محصّنة : من مادة حصن بمعنى مسوّرة ، وبناءً على هذا فإنّ (القرى المحصّنة) تعني القرى التي تكون في أمان بوسيلة أبراجها وخنادقها والمواضع التي تعيق تقدّم العدو فيها.

نعم ، بما أنّهم خرجوا من حصن الإيمان والتوكل على الله ، فإنّهم بغير الإلتجاء والإتّكاء على الجدران والقلاع المحكمة لا يتجرّؤون على مواجهة المؤمنين.

ثم يوضّح أنّ هذا ليس ناتجاً عن جهل بمعرفة فنون الحرب ، أو قلة في عددهم وعدّتهم ، أو عجز في رجالهم ، بل إنّ (بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ).

ولهذا السبب ـ واستمراراً لما ورد في نفس الآية ـ نستعرض سبباً آخر من أسباب إندحار المنافقين ، حيث يقول سبحانه : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ).

١٤٠