مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

وتتساءل الآية الكريمة عن هؤلاء مستفسرة عمّن يستطيع الإدّعاء منهم بأنّه قد أخذ عهداً من الله سبحانه في الإستجابة لميوله وأهوائه.

ويضيف سبحانه ـ استمراراً لهذه التساؤلات ـ كي يسدّ عليهم جميع الطرق ومن كل الجهات ، فيقول : (سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذلِكَ زَعِيمٌ). فمن منهم يضمن أنّ المسلمين والمجرمين سواء ، أو يضمن أنّ الله تعالى سيؤتيه كل ما يريد؟!

وفى آخر مرحلة من هذا الإستجواب العجيب يقول تعالى : (أم لهم شركاء فلياتوا بشركائهم إن كَانُوا صَادِقِينَ).

فالآية تطلب من المشركين تقديم الدليل الذي يثبت أنّ هذه الأصنام المنحوتة من الحجارة ، والتي لا قيمة لها ولا شعور ، تكون شريكة الله تعالى وتشفع لهم عنده.

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٤٥)

العجز عن السجود : تعقيباً للآيات السابقة التي استجوب الله تعالى فيها المشركين والمجرمين استجواباً موضوعياً ، تكشف لنا هذه الآيات جانباً من المصير البائس في يوم القيامة لهذه الثلّة المغرمة في حبّها لذاتها ، والمكثرة للادّعاءات ، هذا المصير المقترن بالحقارة والذلّة والهوان. يقول تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ).

وفي ذلك اليوم العظيم يدعى الجميع إلى السجود للباريء عزوجل ، فيسجد المؤمنون ، ويعجز المجرمون عن السجود.

وتعكس الآية اللاحقة صورة جديدة لحالتهم ، حيث يقول سبحانه : (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ).

هذه الآية الكريمة تصف لنا حقيقة المجرمين عندما يدانون في إجرامهم ويحكم عليهم ، حيث نلاحظ الذلّة والهوان تحيط بهم ، وتكون رؤوسهم مطأطئة تعبيراً عن هذه الحالة المهينة.

ثم يضيف تعالى : (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ). إنّهم لن يسجدوا أبداً ، لقد صحبوا روح التغطرس والعتوّ والكبر معهم في يوم القيامة فكيف سيسجدون؟

٢٤١

ثم يوجّه الباريء عزوجل الخطاب لنبيّه الكريم ويقول : (فَذَرْنِى وَمَن يُكَذّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ).

وهذه اللهجة تمثّل تهديداً شديداً من الواحد القهار لهؤلاء المكذبين المتمردين ، حيث يخاطب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : لا تتدخّل ، واتركني مع هؤلاء ، لُاعاملهم بما يستحقّونه.

ثم يضيف سبحانه : (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَايَعْلَمُونَ * وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ).

في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : إذا أحدث العبد ذنباً ، جدّد له نعمة فيدع الاستغفار فهو الإستدراج.

إذا أذنب عبد فإنّه لا يخرج من واحدة من الحالات الثلاث التالية :

إمّا أن ينتبه ويرجع عن خطئه ويتوب إلى ربّه.

أو أن ينزل الله عليه العذاب ليعود إلى رشده.

أو أنّه غير أهل للتوبة ولا للعودة للرشد بعد التنبيه له ، فيعطيه الله نعمة بدل البلاء وهذا هو : (عذاب الإستدراج). لذا يجب على الإنسان المؤمن أن يكون يقظاً عند إقبال النعم الإلهية عليه ، وليحذر من أن يكون ما يمنحه الله من نعم ظاهرية يمثّل في حقيقته (عذاب الإستدراج). ولذلك فإنّ المسلمين الواعين يفكّرون في مثل هذه الامور ويحاسبون أنفسهم باستمرار ، ويعيدون تقييم أعمالهم دائماً ، كي يكونوا قريبين من طاعة الله ، ويؤدّون حق الألطاف والنعم التي وهبها الله لهم.

في الكافي عن عمر بن يزيد قال : قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : إنّي سألت الله عزوجل أن يرزقني مالاً فرزقني ، وإنّي سألت الله أن يرزقني ولداً فرزقني ، وسألته أن يرزقني داراً فرزقني ، وقد خفت أن يكون ذلك استدراجاً ، فقال : أما ـ والله ـ مع الحمد فلا.

(أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٥٠)

استمراراً للاستجواب الذي تمّ في الآيات السابقة للمشركين والمجرمين ، يضيف الباريء عزوجل سؤالين آخرين ، حيث يقول في البداية : (أَمْ تَسَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ). أي : إذا كانت حجّتهم أنّ الاستجابة لدعوتك تستوجب أجراً مادياً كبيراً ، وأنّهم غير

٢٤٢

قادرين على الوفاء به ، فإنّه كذب ، حيث أنّك لم تطالبهم بأجر ، كما لم يطلب أي من رسل الله أجراً.

ثم يضيف واستمراراً للحوار بقوله تعالى : (أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ).

ولأنّ العناد واللامنطقية التي كان عليها أعداء الإسلام تؤلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتدفعه إلى أن يدعو الله عليهم ، لذا فإنّه تعالى أراد أن يخفّف شيئاً من آلام رسوله الكريم ، فطلب منه الصبر وذلك قوله تعالى : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ). أي انتظر حتى يهيء الله لك ولأعوانك أسباب النصر ، ويكسر شوكة أعدائك ، واعلم بأنّ الله ممهلهم وغير مهملهم ، وما المهلة المعطاة لهم إلّانوع من عذاب الإستدراج.

ثم يضيف تعالى : (وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ).

والمقصود من هذا النداء هو ما ورد في قوله تعالى : (فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَن لَاإِلهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).

وبذلك فقد إعترف النبي يونس عليه‌السلام بترك الأولى ، وطلب العفو والمغفرة من الله تعالى.

ويضيف سبحانه في الآية اللاحقة : (لَّوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مّن رَّبّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ).

إنّ المقصود من (النعمة) في الآية أعلاه هو توفيق التوبة وشمول الرحمة الإلهية لحاله عليه‌السلام حسب الظاهر. لذا يقول الباريء عزوجل في الآية اللاحقة : (فَاجْتَبهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ).

وبذلك فقد حمّله الله مسؤولية هداية قومه مرّة اخرى ، وعاد إليه يبلّغهم رسالة ربّه ، مما كانت نتيجته أن آمن قومه جميعاً.

(وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) (٥٢)

يريدون قتلك ... لكنّهم عاجزون : هاتان الآيتان تشكّلان نهاية سورة القلم ، وتتضمّنان تعقيباً على ما ورد في بداية السورة من نسبة الجنون إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل الأعداء.

يقول تعالى : (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ). ليزلقونك : من مادة زلق بمعنى التزحلق والسقوط على الأرض ، وهي كناية عن الهلاك والموت.

٢٤٣

إنّهم يعجبون ويتأثّرون كثيراً عند سماعهم الآيات القرآنية بحيث يكادون أن يصيبوك بالعين (لأنّ الإصابة بالعين تكون غالباً في الامور التي تثير الإعجاب كثيراً) إلّاأنّهم في نفس الوقت يتّهمونك بالجنون ، وهذا يمثّل التناقض حقّاً ، إذ أين الجنون ولغو الكلام وأين هذه الآيات المثيرة للإعجاب والنافذة في القلوب؟

وفي آخر آية يضيف تعالى : (وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ).

حيث إنّ معارف القرآن الكريم واضحة ، وإنذاراته موقظة ، وأمثاله هادفة ، وترغيباته وبشائره مربّية ، وبالتالي فهو عامل وسبب ليقظة النائمين وتذكرة للغافلين ، ومع هذا فكيف يمكن أن ينسب الجنون إلى من جاء به؟

بحث

هل أنّ إصابة العين لها حقيقة : يعتقد الكثير من الناس أنّ لبعض العيون آثاراً خاصة عندما تنظر لشيء بإعجاب ، إذ ربّما يترتّب على ذلك الكسر أو التلف ، وإذا كان المنظور إنساناً فقد يمرض أو يجنّ ..

إنّ هذه المسألة ليست مستحيلة من الناحية العقلية ، كما جاء في بعض الروايات الإسلامية ـ أيضاً ـ ما يؤيّد وجود مثل هذا الأمر بصورة إجمالية.

في الكافي عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : رقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حسناً وحسيناً فقال : " اعيذكما بكلمات الله التامات وأسمائه الحسنى كلها عامة ، من شرّ السامّة والهامّة ، ومن شرّ كل عين لامّة ، ومن شرّ حاسد إذا حسد" ثم التفت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلينا فقال : هكذا كان يعوّذ إبراهيم إسماعيل وإسحاق.

نهاية تفسير سورة القلم

* * *

٢٤٤

٦٩

سورة الحاقَّة

محتوى السورة : تدور موضوعات سورة الحاقّة حول ثلاثة محاور :

الأوّل : وهو أهمّ محاور هذه السورة ، يرتبط بمسائل يوم القيامة وبيان خصوصياتها ، وقد وردت فيه ثلاثة أسماء من أسماء يوم القيامة وهي : (الحاقّة) و (القارعة) و (الواقعة).

أمّا المحور الثاني : فتدور أبحاثه حول مصير الأقوام الكافرين ، خصوصاً قوم عاد وثمود وفرعون ، وتشتمل على إنذارات شديدة لجميع الكّفار ومنكري يوم البعث والنشور.

والمحور الثالث تتحدث حول عظمة القرآن الكريم ، ومقام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وجزاء المكذّبين.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ومن قرأ سورة الحاقّة حاسبه الله حساباً يسيراً.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ) (٨)

٢٤٥

تبدأ هذه السورة بعنوان جديد ليوم القيامة. يقول تعالى : (الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَيكَ مَا الْحَاقَّةُ). والمراد من الحاقّة هو اليوم الذي سيتحقق حتماً.

ذهب أغلب المفسرين إلى أنّ (الحاقّة) اسم من أسماء يوم القيامة ، باعتباره قطعي الوقوع ، كما هو بالنسبة ل (الواقعة) في سورة (الواقعة).

«ما الحاقّة : تعبير لبيان عظمة ذلك اليوم ؛ والتعبير ب ما أدريك ما الحاقّة للتأكيد مرّة اخرى على عظمة الأحداث في ذلك اليوم العظيم حتى أنّ الباريء عزوجل يخاطب رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّك لا تعلم ما هو ذلك اليوم.

ثم تستعرض الآيات الكريمة اللاحقة مصير الأقوام الذين أنكروا يوم القيامة ، وكذلك نزول العذاب الإلهي في الدنيا ، حيث يضيف تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ).

لقد كان (قوم ثمود) يسكنون في منطقة جبلية بين الحجاز والشام ، فبعث الله النبي صالح عليه‌السلام إليهم ، ودعاهم إلى الإيمان بالله ... إلّاأنّهم لم يستجيبوا له ، بل حاربوه وتحدّوه في إنزال العذاب الذي أوعدهم به إن كان صادقاً ، وفي هذه الحالة من التمرد الذي هم عليه ، سلّط الله عليهم (صاعقة مدمّرة) أنهت كل وجودهم في لحظات ، فخربت بيوتهم وقصورهم المحكمة ، وتهاوت أجسادهم على الأرض.

ثم تتطرق الآية اللاحقة لتحدثنا عن مصير (قوم عاد) الذين كانوا يسكنون في أرض الأحقاف الواقعة (في شبه جزيرة العرب أو اليمن) وكانوا ذوي قامات طويلة ، وأجساد قوية ، ومدن عامرة ، وأراض خضراء خصبة ، وحدائق نضرة وكان نبيّهم (هود) عليه‌السلام يدعوهم إلى الهدى والإيمان بالله ... إلّاأنّهم أصرّوا على كفرهم وتمادوا في طغيانهم وتمرّدوا على الحق ، فانتقم الله منهم شرّ إنتقام ، وأقبرهم تحت الأرض بعد أن سلّط عليهم عذاباً شديداً مؤلماً ، سنوضّح شرحه في الآيات التالية. يقول تعالى : (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ).

«صرصر : تقال للرياح الباردة ، أو المقترنة بصوت وضوضاء ، أو المسمومة ، وقد ذكر المفسرون هذه المعاني الثلاث في تفسيرها ، والجمع بين جميع هذه المعاني ممكن أيضاً.

«عاتية : من مادة عتو بمعنى التمرّد على القانون الطبيعي للرياح وليست على أمر الله.

ثم تبيّن الآية التالية وصفاً آخر لهذه الرياح المدمّرة ، حيث يقول تعالى : (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا).

٢٤٦

«حسوماً : من مادة حسم بمعنى إزالة آثار شيء ما ، ويقال : (حسم) أحياناً لوضع الشيء الحارّ على الجرح للقضاء عليه من الأساس.

لقد حطّمت وأفنت هذه الريح المدمّرة في الليالي السبع والأيّام الثمانية جميع معالم حياة هؤلاء القوم ، والتي كانت تتميّز بالابّهة والجمال ، واستأصلتهم من الجذور.

ويصوّر لنا القرآن الكريم مآل هؤلاء المعاندين بقوله تعالى : (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ).

إنّه لتشبيه رائع يصوّر لنا ضخامة قامتهم التي إقتلعت من الجذور ، بالإضافة إلى خواء نفوسهم ، حيث إنّ العذاب الإلهي جعل الريح تتقاذف أجسادهم من جهة إلى اخرى.

«خاوية : من مادة خواء في الأصل بمعنى كون الشيء خالياً ، ويطلق هذا التعبير أيضاً على البطون الجائعة ، وتطلق كذلك على الجوز الأجوف الفارغ من اللب.

ويضيف في الآية التالية : (فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مّن بَاقِيَةٍ).

نعم ، لم يبق اليوم أي أثر لقوم عاد ، بل حتى مدنهم العامرة ، وعماراتهم الشامخة ومزارعهم النضرة لم يبق منها شيء يذكر أبداً.

(وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) (١٢)

أين الآذان الواعية : بعد ما استعرضت الآيات الكريمة السابقة الأحداث التي مرّت بقومي عاد وثمود ، وتستمرّ هذه الآيات في التحدّث عن الأقوام الاخرى كقوم (نوح) وقوم (لوط) لتكون درساً وعبرة لمن وعى وكان له قلب سليم ... يقول تعالى : (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ).

ال خاطئة : بمعنى الخطأ و (لكليهما معنى مصدري) والمراد من الخطأ هنا هو الشرك والكفر والظلم والفساد وأنواع الذنوب.

«المؤتفكات : جمع (مؤتفكة) من مادة (ائتفاك) بمعنى الإنقلاب ، وهي هنا إشارة إلى ما حصل في مدن قوم لوط ، حيث إنقلبت بزلزلة عظيمة.

والمقصود ب (وَمِن قَبْلِهِ) هم الأقوام الذين كانوا قبل قوم فرعون ، كقوم شعيب ، وقوم نمرود الذين تطاولوا على رسولهم.

٢٤٧

ثم يضيف تعالى : (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً).

لقد خالف الفراعنة (موسى وهارون) عليهما‌السلام وواجهوهما بمنتهى العنف والتشكيك والملاحقة ... وكذلك كان موقف أهل مدينة (سدوم) من لوط عليه‌السلام الذي بعث لهدايتهم وإنقاذهم من ضلالهم ... وهكذا كان ـ أيضاً ـ موقف أقوام آخرين من رسلهم حيث التطاول ، والتشكيك والإعراض والتحدّي ..

إنّ كل مجموعة من هؤلاء الأقوام المتمرّدين قد إبتلاهم الله بنوع من العذاب ، وأنزل عليه رجزاً من السماء بما يستحقّون ، فالفراعنة أغرقهم الله سبحانه في وسط النيل الذي كان مصدراً لخيراتهم وبركة بلدهم وإعمار أراضيهم وديارهم ، وقوم لوط سلّط الله عليهم (الزلزال) الشديد ثم (مطر من الحجارة) ممّا أدّى إلى موتهم وفنائهم من الوجود.

وأخيراً تعرّض بإشارة موجزة إلى مصير قوم نوح والعذاب الأليم الذي حلّ بهم. قال تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِى الْجَارِيَةِ).

إنّ طغيان الماء كان بصورة غطّى فيها السحاب ، ومن هنا جاء تعبير (طغى) حيث هطل مطر غزير جدّاً وكأنّه السيل ينحدر من السماء ، وفاضت عيون الأرض ، والتقت مياههما بحيث أصبح كل شيء تحت الماء (القوم وبيوتهم وقصور أكابرهم ومزارعهم وبساتينهم ...) ولم تنج إلّامجموعة المؤمنين التي كانت مع نوح عليه‌السلام في سفينته.

جملة (حملناكم) كناية عن حمل وإنقاذ أسلافنا وأجدادنا من الغرق ، وإلّا فنحن لم نكن في عالم الوجود حينذاك.

ثم يبيّن الله سبحانه الغاية والهدف من هذا العقاب ، حيث يقول تعالى : (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ).

إنّنا لم نرد الإنتقام منكم أبداً ، بل الهداية والخير والسعادة ، كنّا نروم أن تكونوا في طريق الكمال والنضج التربوي والوصول إلى ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان المكرم.

«تعيها : من مادة وعى في الأصل بمعنى الإحتفاظ بشيء معيّن في القلب ، وقد ذكرت هذه الصفة (الوعي) للآذان في الآيات مورد البحث ، وذلك بلحاظ أنّها تسمع الحقائق وتحتفظ بها.

تعقيب

فضيلة اخرى من فضائل الإمام علي عليه‌السلام : جاء في كثير من الكتب الإسلامية المعروفة أنّ

٢٤٨

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال عند نزول هذه الآية (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) : سألت ربّي أن يجعلها اذن علي. فكان علي عليه‌السلام يقول : ما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئاً قطّ فنسيته ، إلّاوحفظته (١).

وهذه فضيلة عظيمة لقائد الإسلام العظيم الإمام علي عليه‌السلام حيث يكون موضع أسرار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووارث علمه ، ولهذا السبب فإنّ الجميع كانوا يرجعون إليه ـ الموافق له والمخالف ـ بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك عندما يواجهون المشاكل الاجتماعية والعلمية المختلفة ، ويطلبون منه التدخّل في حلّها ، كما تحدّثنا بذلك كتب التواريخ بشكل تفصيلي.

(فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) (١٧)

الصيحة العظيمة : استمراراً لما تعرّضت له الآيات الاولى من هذه السورة ، والتي كانت تتعلق بمسألة الحشر والقيامة ، تعرض لنا هذه الآيات صورة عن الحوادث العظيمة في ذلك اليوم الرهيب باسلوب محرّك ومؤثّر في النفوس كي تحيط الإنسان علماً بما ينتظره من حوادث ذات شأن كبير في ذلك الموقف الرهيب. يقول تعالى في البداية : (فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ).

لقد بيّنا فيما سبق أنّ مما يستفاد من القرآن الكريم أنّ نهاية عالم الدنيا وبداية عالم الآخرة تكون بصوت مفاجىء عظيم ، وذلك ما عبّر عنه ب (نفخة الصور).

نفخة الصور فهي نفختان : (نفخة الموت) ، و (نفخة الحياة الجديدة) ، لكن المقصود في هذه الآية الكريمة هو (النفخة الاولى) التي تحصل فيها نهاية عالم الدنيا.

ثم يضيف تعالى : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً).

«دكّ : بمعنى (الأرض المستوية) ولأنّ الأرض غير المستوية تحتاج إلى الدك حتى تستوي ، لذا استعمل هذا المصطلح في الكثير من الموارد بمعنى الدق الشديد.

والمقصود في الآية مورد البحث هو الدقّ الشديد للجبال والأراضي اللامستوية بعضها ببعض بحيث تستوي وتتلاشى فيها جميع التعرجات.

__________________

(١) تفسير القرطبي ١٨ / ٢٦٤ ، وتفسير مجمع البيان ١٠ / ١٠٧.

٢٤٩

ثم يضيف تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ).

في ذلك اليوم العظيم لا تتلا شى فيه الأرض والجبال فحسب ، بل يقع حدث عظيم آخر ، وذلك قوله تعالى : (وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ). وذلك بيان لما تتعرّض له الأجرام السماوية العظيمة من إنفلاقات وتناثر وتلاشي.

(وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا). أرجاء : جمع رجا بمعنى جوانب وأطراف شيء معيّن.

ثم يقول تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ).

المقصود ب (العرش) هو (مجموعة عالم الوجود) حيث أنّه عرش حكومة الله سبحانه ، ويدبّر حكومته تعالى من خلاله بواسطة الملائكة الذين هم جاهزون لتنفيذ أمره سبحانه.

وفي تفسير علي بن إبراهيم أنّ حملة العرش ثمانية ؛ أربعة من الأوّلين وأربعة من الآخرين ، فأمّا الأربعة من الأوّلين فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، والأربعة من الآخرين : محمّد وعلي والحسن والحسينعليهم‌السلام.

وهذا الحديث من الممكن أن يكون إشارة إلى مقام شفاعتهم للأوّلين والآخرين ، والشفاعة ـ عادةً ـ تكون لمن هم أهل لها ، وممّن لهم لياقة لنيلها ، ومع ذلك فإنّه يوضّح المفهوم الواسع للعرش.

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) (٢٤)

يا أهل المحشر : اقرؤا صحيفة أعمالي : قلنا في تفسير الآيات السابقة أنّ (نفخ الصور) يحدث مرّتين ، وكما ذكرنا فإنّ بداية الآيات تخبرنا عن النفخة الاولى ولم تستعرض تفاصيل النفخة الثانية ، واستمراراً للحديث في هذا الصدد ، وخصوصيات العالم الجديد الذي سيكون عند النفخة الثانية ، تحدّثنا هذه الآيات عن شيء من ذلك حيث يقول تعالى : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَاتَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ).

«تعرضون : من مادة عرض بمعنى عرض شيء معيّن ، بضاعة أو غيرها.

وممّا لا شك فيه أنّ جميع ما في الوجود ـ بشراً وغيره ـ هو بين يدي الله سبحانه ، سواء في

٢٥٠

هذه الدنيا أو في عالم الآخرة ، إلّاأنّ هذا الأمر يظهر ويتّضح بصورة أشد في يوم القيامة.

في ذلك اليوم لن يقتصر الوضوح والظهور على أعمال البشر الخفية فحسب ، بل على صفات وروحيات وأخلاقيات ونيّات الجميع فإنّها هي الاخرى تبرز وتظهر ، وهذا أمر عظيم جدّاً ، بل إنّه أعظم من إنفجار الأجرام السماوية وتلاشي الجبال ـ كما يقول البعض ـ حيث الفضيحة الكبرى للطالحين ، والعزّة والرفعة للمؤمنين بشكل لا نظير له.

لذا يقول سبحانه بعد ذلك : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ).

ثم يعلن بافتخار عظيم فيقول : (إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلقٍ حِسَابِيَهْ).

«ظن : في مثل هذه الموارد تكون بمعنى (اليقين) إنّه يريد أن يقول : إنّ ما تفضّل به الله تعالى عليّ كان بسبب إيماني بهذا اليوم ، والحقيقة أنّ الإيمان بالحساب والكتاب يمنح الإنسان روح التقوى ، والتعهّد والإحساس بالمسؤولية ، وهذا من أهمّ عوامل تربية الإنسان.

ثم يبيّن الله تعالى في الآيات اللاحقة جانباً من جزاء وأجر هؤلاء الأشخاص حيث يقول : (فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ).

وبالرغم من أنّ الجملة أعلاه تجسّد كل ما يستحقّ أن يقال في هذا الموضوع ، إلّاأنّه سبحانه يضيف للتوضيح الأكثر : (فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ).

إنّ الجنة تكون عالية ورفيعة بشكل لم ير أحد مثلها قطّ ، ولم يسمع بها ، ولم يتصور مثلها.

(قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ) (١). حيث لا جهد مكلّف ولا مشقة في قطف الثمار ، ولا عائق يحول من الإقتراب للأشجار المحمّلة بالثمار ، وجميع هذه النعم في متناول الأيدي بدون إستثناء.

وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يوجّه الباريء عزوجل خطابه المملوء بالحبّ والمودّة والإعتزاز إلى أهل الجنة بقوله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ).

وهكذا كانت هذه النعمة العظيمة التي منحها الله لهؤلاء المتقين جزاء أعمالهم الصالحة وإنّ الأعمال الخيّرة والمحدودة هي التي أثمرت هذه الثمار الكبيرة حيث ظل الرحمة الإلهية واللطف الرباني.

والسؤال المطروح هو : هل أنّ دعوة المؤمنين لأهل المحشر لقراءة كتاب حسابهم وصحيفة أعمالهم ـ طبقاً لما جاء في الآية الكريمة : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) ـ تعني أنّ صحيفة أعمالهم خالية من أي ذنب؟

__________________

(١) قطوف : جمع قطف بمعنى أن الثمر قد اقتطف ، وتأتى أحياناً بمعنى الثمار المهيئة للإقتطاف أيضاً.

٢٥١

وفي مقام الجواب يمكن أن نستفيد من بعض الأحاديث منها حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث يقول : يدني الله العبد يوم القيامة ، فيقرره بذنوبه كلّها ، حتى إذا رآى أنّه قد هلك. قال الله تعالى : إنّي سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ، ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه (١).

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (٢٦) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (٢٧) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) (٢٩)

كان الحديث في الآيات السابقة عن (أصحاب اليمين) حيث صحائف أعمالهم بأيديهم اليمنى ، ويوجّهون نداءهم إلى أهل المحشر بكلّ فخر للإطّلاع على صحيفة أعمالهم وقراءتها ، ثم يدخلون جنّات الخلد حيث تكون مستقرّهم الأبدي. أمّا هذه الآيات فتستعرض الطرف المقابل لأصحاب اليمين وهم (أصحاب الشمال) وتقدم مقارنة بين المجموعتين ، حيث يقول تعالى : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ).

(وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ).

نعم ، في ذلك اليوم العظيم ، وعندما يواجهها يبدأ يجأر ويصرخ ويطلق الزفرات الساخنة المتلاحقة من الأعماق على المصير السيء الذي أوصل نفسه إليه ، والشرّ الذي جلبه عليها ، ويتمنّى أن يقطع علاقته بماضيه الأسود تماماً ، ويتمنّى أن يموت ويفنى ويتخلّص من هذه الفضيحة الكبيرة المهلكة ، ويعبّر عن هذا الشعور قوله تعالى : (وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيْتَنِى كُنتُ تُرَابًا) (٢).

ثم يضيف تعالى مستعرضاً إعتراف المجرمين بذنوبهم فيقول : (مَا أَغْنَى عَنّى مَالِيَهْ). فالأموال التي كنت أجمعها في الدنيا لم تنقذني الآن ولم تعنّي ولم تدفع عنّي الأهوال أو تحلّ مشاكلي.

(هَلَكَ عَنّى سُلْطَانِيَهْ) فليست أموالي لم تسعفني في هذه الشدة فحسب ، بل إنّ قدرتي ومقامي وسلطتي هي الاخرى هلكت وزالت عنّي.

القصة المثيرة : نقلت في هذا المجال قصص كثيرة تؤكّد على المفاهيم العامة التي احتوتها الآيات الكريمة أعلاه ، كموضع شاهد وعبرة وتأييد لما ذهبت إليه الآيات المباركات ،

__________________

(١) في ظلال القرآن ٨ / ٢٥٦.

(٢) سورة النبأ / ٤٠.

٢٥٢

لتكون درساً لُاولئك الذين جعلوا (المال والسلطان) همّهم الأوّل ، وانغمسوا حتى الأذقان في الغفلة والغرور والذنوب من أجلهما ، ومن جملتها ما يلي :

في سفينة البحار عن كتاب النصائح لابن ظفر أنّه لمّا اشتدّ مرض الرشيد بطوس ، احضر طبيباً طوسياً فارسيّاً وأمر أن يعرض عليه مائه مع مياه كثيرة لمرضى وأصحاء فجعل يستعرض القوارير حتى رآى قارورة الرشيد فقال : قولوا لصاحب هذه الماء يوصى فإنّه قد انحلّت قواه وتداعت بنيته فاقيم وأمر بالذّهاب فدهب ويئس الرشيد من نفسه وتمثّل قائلاً :

إنّ الطبيب بطبّه ودوائه

لا يستطيع دفاع نَحب قد أتى

ما للطبيب يموت بالدّاء الذي

قد كان يُبرئ مثله فيما مضى

وبلغه أنّ الناس أرجفوا بموته فاستدعى بحمار وأمر فحمل عليه فاسترخت فخذاه فقال : انزلوني صدق المرجفون ثم استدعى بأكفان فتخير منها ما أعجبه وأمر فشقّ له قبر أمام فراشه ثم اطّلع فيه فقال : (مَا أَغْنَى عَنّى مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنّى سُلْطَانِيَهْ) فتوفى في يومه.

(خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (٣٥) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (٣٧)

خذوه فغلّوه : استمراراً للآيات السابقة التي كانت تتحدث عن (أصحاب الشمال) الذين يستلمون صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى ، فتنطلق الآهات والأنّات ، ويتمنّى أحدهم الموت ، يشير تعالى في الآيات أعلاه إلى قسم من العذاب الذي يلاقونه يوم القيامة فيقول : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ). غلّوه : من مادة (غلّ) ، والمراد هو السلسلة التي كانوا يربطون بها أيدي وأرجل المجرمين إلى أعناقهم مقترن بالكثير من المشقة والألم.

(ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ).

«السلسلة : في الأصل مأخوذة من مادة تسلسل بمعنى الإهتزاز والإرتعاش ، لأنّ حلقات السلسلة الحديدية تهتزّ وتتحرك.

إنّ هذه السلاسل الطويلة ليست لشخص واحد ، بل لمجاميع يربط كل منها بسلسلة.

«ذراع : بمعنى الفاصلة بين الساعد ونهاية الأصابع ، (وقياسها بحدود نصف متر) وكانت وحدة الطول المستعملة عند العرب ، وهي قياس طبيعي.

٢٥٣

وقال البعض : إنّ (الذراع) الوارد في الآية الكريمة هو غير الذراع المتعارف عليه ، حيث إنّ كل وحدة منه تمثّل فواصل عظيمة ، ويربط بهذا الزنجير جميع أهل جهنم.

وتتطرق الآيتان التاليتان لبيان السبب الرئيسي لهذا العذاب العسير ، فيقول تعالى : (إِنَّهُ كَانَ لَايُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ).

وكلّما كان الأنبياء والأولياء ورسل الله تعالى يدعونه للتوجه إلى (الواحد الأحد) لم يكن ليقبل ، ولذا فإنّ إرتباطه بالخالق كان مقطوعاً بصورة تامة.

(وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ).

وبهذا الشكل فإنّ هؤلاء قد قطعوا علاقتهم مع (الخلق) أيضاً.

ويستفاد من التعبير السابق ـ بصورة واضحة ـ أنّه يمكن تلخيص أهمّ الطاعات والعبادات وأوامر الشرع بهذين الأساسين : (الإيمان) و (إطعام المسكين) وهذا يمثّل إشارة إلى الأهمية البالغة لهذا العمل الإنساني العظيم.

ثم يضيف تعالى : (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ ههُنَا حَمِيمٌ). أي : صديق مخلص وحميم.

(وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ). أي : القيح والدم.

والجدير بالملاحظة هنا هو أنّ (الجزاء) و (العمل) لهؤلاء الجماعة متناسبان تماماً ، فبسبب قطع علاقتهم بالله ، فليس لهم هنالك من صديق ولا حميم ، كما أنّ سبب إمتناعهم عن إطعام المحتاجين فإنّ طعامهم في ذلك اليوم لن يكون إلّاالقيح والدم ، لأنّهم حرموا المساكين من الإطعام وتركوهم نهباً للجوع والألم في الوقت الذي كانوا يتمتّعون لسنين طويلة بألذّ وأطيب الأطعمة.

ويضيف سبحانه في آخر آية مورد البحث في قوله تعالى للتأكيد : (لَايَأْكُلُهُ إِلَّا الخَاطُونَ).

إنّ (خاطىء) تقال للشخص الذي يرتكب خطأً عمداً.

وبناءً على ما تقدم فإنّ طعام أهل جهنم خاصّ للأشخاص الذين سلكوا درب الشرك والكفر والبخل والطغيان تمردّاً وعصياناً وعمداً.

(فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (٣٨) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (٤٣)

٢٥٤

القرآن كلام الله قطعاً : بعد الأبحاث التي مرّت بنا في الآيات السابقة حول القيامة وما أعدّه الله سبحانه للمؤمنين والكفار ، يبيّن الباريء عزوجل في هذه الآيات بحثاً وافياً حول القرآن والنبوّة ، ليكون البحثان (النبوّة) و (المعاد) كلّاً منهما مكمّلاً للآخر. يقول تعالى في البداية : (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَاتُبْصِرُونَ). وهذه الجملة لها معنىً واسع ، حيث تشمل كل ما يراه البشر وما لا يراه. وبعبارة اخرى : تشمل كل عالم (الشهود) و (الغيب).

ثم تستعرض الآية اللاحقة جواب هذا القسم العظيم ، حيث يقول تعالى بأنّ هذا القرآن هو قول رسول كريم : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ).

والمقصود من الرسول هنا ـ بدون شك ـ هو الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله وليس جبرائيل.

والآية ذكرت كلمة رسول وهذا يعني أنّ كل ما يقوله الرسول فهو قول مرسله.

ثم يضيف تعالى : (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ).

تنفي هاتان الآيتان ما نسبه المشركون والمخالفون من تهم باطلة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ كانوا يقولون أحياناً : إنّه (شاعر) وإنّ هذه الآيات من شعره ، كما كانوا يقولون أحياناً : إنّه (كاهن) وإنّ الذي يقوله هو (كهانة).

الشعر في الغالب وليد الخيال ، ومعبّر عن الأحاسيس الجياشة في النفوس ، ولهذا فإنّه يجسّد حالة عدم الإستقرار وعدم التوازن صعوداً ونزولاً ، شدّة وإنخفاضاً ، في الوقت الذي نلاحظ أنّ القرآن الكريم ، وهو يمثّل قمّة الروعة والجاذبية ، فإنّه كتاب استدلالي ومنطقي في عرضه للمفاهيم ، وعقلاني في محتواه ، وما فيه من التنبّؤ المستقبلي لا يشكّل قاعدة أساسية للقرآن الكريم ، بالإضافة إلى أنّها صادقة جميعاً بخلاف ما عليه تنبّؤ الكهنة.

ويقول سبحانه في آخر آية ـ مورد البحث ـ كتأكيد على هويّة القرآن الربانية : (تَنزِيلٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ). وبناءً على هذا فإنّ القرآن الكريم ليس بشعر ولا كهانة ، وليس هو إنتاج فكر الرسول ، ولا قول جبرائيل ... بل إنّه كلام الله سبحانه ، حيث نزل بواسطة الوحي على القلب الطاهر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٥٢)

٢٥٥

استمراراً للأبحاث المتعلقة بالقرآن الكريم ، تستعرض الآيات التالية دليلاً واضحاً يؤكّد يقينية كون القرآن من الله سبحانه ، حيث يقول : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ).

ويذكّر سبحانه مرّة اخرى في الآية اللاحقة مؤكّداً ما سبق عرضه في الآيات السابقة (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لّلْمُتَّقِينَ). إنّ كتاب الله هذا أنزله للأشخاص الذين يريدون أن يطهّروا أنفسهم من الذنوب ، ويسيروا في طريق الحق ، ويبحثوا عن الحقيقة ، ويسعوا للوصول إليها ، أمّا من لم يصل إلى هذا الحد من صفاء النظرة وتقوى النفس ، فمن المسلّم أنّه لن يستطيع أن يستلهم تعاليم القرآن الكريم ويتذوّق حلاوة معرفة الحق المبين.

إنّ التأثير العميق الفذّ للقرآن الكريم الذي يحدثه في نفوس سامعيه وقارئيه ، هو بحدّ ذاته علامة على إعجازه وحقانيته.

ثم يضيف تعالى : (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذّبِينَ).

إنّ وجود المكذبين المعاندين لم يكن مانعاً أبداً من الدليل على عدم حقانيتهم.

إنّ المتقين وطلّاب الحق يتّعظون به ، ويرون فيه سمات الحق ، وإنّه عون لهم في الوصول إلى طريق الله سبحانه.

ويضيف في الآية اللاحقة : (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ).

إنّ هؤلاء الكفرة الذين يتحدّون القرآن الكريم اليوم ويكذّبونه ، فإنّهم غداً حيث (يوم الظهور) و (يوم البروز) وهو في نفس الوقت (يوم الحسرة) يدركون مدى عظمة النعمة التي فرّطوا بها بسبب لجاجتهم وعنادهم ، وما جلبوه لأنفسهم من أليم العذاب.

ولكي لا يتصور أحد أنّ التكذيب والتشكيك كان بلحاظ غموض وإبهام مفاهيم القرآن الكريم ، فيضيف في الآية اللاحقة : (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ).

يعني أنّ القرآن الكريم هو (يقين خالص). أو بتعبير آخر : أنّ لليقين مراحل مختلفة ، حيث يحصل أحياناً بالدليل العقلي كما في حصول اليقين بوجود النار من خلال مشاهدة دخّان من بعيد ، لذا يقال لمثل هذا الأمر (علم اليقين).

وحينما نقترب أكثر ونرى إشتعال النار بام أعيننا ، فعند ذلك يصبح اليقين أقوى ويسمّى عندئذ ب (عين اليقين).

وعندما يكون اقترابنا أكثر فأكثر ونصبح في محاذاة النار أو في داخلها ونلمس حرارتها

٢٥٦

بأيدينا ، فإنّ من المسلّم أنّ هذه أعلى مرحلة من مراحل اليقين ، وتسمّى ب (حق اليقين).

والآية أعلاه تقول : إنّ القرآن الكريم في مثل هذه المرحلة من اليقين ، ومع هذا فإنّ عديمي البصيرة ينكرونه ويشكّكون فيه.

وأخيراً يقول سبحانه في آخر آية من سورة الحاقّة : (فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ).

والجدير بالملاحظة ـ هنا ـ أنّ مضمون هذه الآية والآية السابقة قد جاء بتفاوت يسير مع ما ورد في سورة الواقعة ، وهذا التفاوت هو أنّ الآية وصفت القرآن الكريم هنا بأنّه (حق اليقين) أمّا في نهاية سورة (الواقعة) فكان الحديث عن المجاميع المتباينة للصالحين والطالحين في يوم القيامة.

نهاية تفسير سورة الحاقّة

* * *

٢٥٧
٢٥٨

٧٠

سورة المعارج

محتوى السورة : المعروف بين المفسرين هو أنّ سورة المعارج من السور المكّية ، ولكن بعض آياتها مدنية ؛ وهناك روايات تدلّ على أنّ الآيات الاولى من هذه السورة هي آيات مدنية. فإنّ لهذه السورة أربعة أقسام :

١ ـ يتحدث عن العذاب السريع الذي حلّ بأحد الأشخاص ممن أنكر أقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : لو كان هذا القول حقّاً فلينزل عليّ العذاب. فنزل الآيات (١ ـ ٣).

٢ ـ ذكر الكثير من خصوصيات يوم القيامة ومقدماتها وحالات الكفار في ذلك اليوم.

٣ ـ توضّح هذه السورة بعض الصفات الإنسانية الحسنة والسيّئة والتي تعيّن هذا الشخص من أهل الجنان أم من أهل النار.

٤ ـ يشمل إنذارات تخصّ المشركين والمنكرين وتبيان مسألة المعاد وينهى السورة بذلك.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ومن قرأ سأل سائل أعطاه الله ثواب الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون.

من البديهي أنّ الإنسان يحصل على مثل هذا الثواب العظيم إذا كانت قراءته بإيمان وعقيدة ، وثم يقترن ذلك بالعمل.

٢٥٩

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (١) لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ) (٣)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : الحاكم أبوالقاسم الحسكاني عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام قال : لما نصّب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاً عليه‌السلام يوم غدير خم وقال : " من كنت مولاه فعليّ مولاه". طار ذلك في البلاد ، فقدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله النعمان بن الحرث الفهري فقال : أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّاالله وأنّك رسول الله ، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها. ثم لم ترض حتى نصّبت هذا الغلام فقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فهذا شيء منك أو أمر من عند الله؟ فقال : " والله ، الّذي لا إله إلّاهو إنّ هذا من الله". فولى النعمان بن الحرث وهو يقول : أللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء! فرماه الله بحجر على رأسه فقتله ، وأنزل الله تعالى : (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ).

التّفسير

العذاب العاجل : من هنا تبدأ سورة المعارج حيث تقول : (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ).

هذا السائل كما قلنا في سبب النزول هو النعمان بن الحارث أو النضر بن الحارث.

ثم يضيف بأنّ هذا العذاب خاص بالكفار ولا يستطيع أحد دفعه عنهم : (لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ).

وتصف الآية الاخرى من ينزل العذاب منه ، وهو الله ذي المعارج فتقول الآية : (مِّنَ اللهِ ذِى الْمَعَارِجِ). أي صاحب السماء التي يعرج إليها الملائكة.

«المعارج : جمع معرج بمعنى المصعد أو المكان الذي منه يصعدون ، إذ إنّ الله جعل للملائكة مقامات مختلفة يتوجهون بها إلى قربه بالتدريج ، وقد وصف الله تعالى بذي المعارج.

نعم ، الملائكة المأمورون بتعذيب الكفار والمجرمين ، والذين هبطوا على إبراهيم عليه‌السلام ، وأخبروه بأنّهم قد امروا بإبادة قوم لوط.

(تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَرَاهُ قَرِيباً) (٧)

٢٦٠