مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

إنّنا لن نغلب أبداً ، وإذا قدّرنا الموت فلا يعني ذلك أنّنا لا نستطيع أن نمنح العمر السرمدي ، بل إنّ الهدف هو أن نذهب بقسم من الناس ونأتي بآخرين محلّهم ، وأخيراً نعيدكم خلقاً جديداً في عالم لا تعلمون عنه شيئاً : (عَلَى أَن نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لَا تَعْلَمُونَ).

ويمكن توضيح الدليل بالصورة التالية : إنّ الله الحكيم الذي خلق الإنسان وقدّر له الموت فطائفة يموتون وآخرين يولدون باستمرار ، من البديهي أنّ له هدف.

فإذا كانت الحياة الدنيا هي الهدف فالمناسب أن يكون عمر الإنسان خالداً وليس بهذا المقدار القصير المقترن مع ألوان الآلام والمشاكل.

وسنّة الموت تشهد أنّ الدنيا معبراً وليست منزلاً وأنّها جسر وليست مقصداً ، لأنّها لو كانت مستقرّاً ومقصداً للزم أن تدوم الحياة فيها.

وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يتحدث سبحانه عن رابع دليل للمعاد حيث يقول : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ).

هذا الدليل نستطيع بيانه بصورتين :

الاولى : إنّ خلق هذه الدنيا العظيمة وما فيها هل يمكن أن يكون لهدف صغير محدود ، كأن يعيش الإنسان فيها بضعة أيام؟ كلّا ليس كذلك ، وإلّا فإنّه يعني أنّ خلق العالم سيكون بدون هدف ، ولكن مما لا شك فيه أنّ هذه المخلوقات العظيمة قد خلقت لموجود شريف ـ مثل الإنسان ـ ليعرف الله سبحانه من خلالها ، معرفة تكون رأسماله الوحيد في الدار الآخرة ، فالهدف إذن هو الدار الآخرة ، وهذا دليل آخر على المعاد.

الثانية : هو أنّنا نلاحظ مشاهد المعاد في هذا العالم تتكرر أمامنا في كل سنة وفي كل زاوية وكل مكان ، حيث مشهد القيامة والحشر في عالم النبات ، فتحيى الأرض الميتة بهطول الأمطار الباعثة للحياة. قال تعالى : (إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى) (١).

(أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (٦٧)

هل أنتم الزارعون أم الله : استعرضنا لحدّ الآن أربعة أدلة من الأدلة السبعة التي جاء

__________________

(١) سورة فصّلت / ٣٩.

٨١

ذكرها في هذه السورة حول المعاد ، والآيات ـ مورد البحث واللاحقة لها ـ تستعرض الأدلة الاخرى المتبقّية والتي كل منها مصداق لقدرة الله اللا متناهية.

فالدليل الأوّل يرتبط بخلق الحبوب الغذائية ، والثاني يرتبط بخلق الماء ، والثالث يتعلق بالنار ، وهذه المحاور تشكّل الأركان الأساسية في الحياة الإنسانية.

يقول سبحانه في البداية : (أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ).

والله سبحانه هو الذي يخلق في وسط هذه البذرة الحياة ، فعندما توضع البذرة في محيط مهيّأ من حيث التربة والضوء والماء ، فإنّها تستفيد ابتداءاً من المواد الغذائية المخزونة فيها إلى أن تصبح برعماً وتولّد جذراً ، ثم تنمو بسرعة عجيبة مستفيدة من المواد الغذائية الموجودة في الأرض.

وفي الآية اللاحقة يؤكّد الدور الهامشي للإنسان في نمو ورشد النباتات فيقول : (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ).

«حطام : من مادة حطم تعني في الأصل كسر الشيء ، وغالباً ما تطلق على كسر الأشياء اليابسة كالعظام النخرة وسيقان النباتات الجافّة ، والمقصود هنا هو التبن.

ويحتمل أيضاً أنّ المقصود بالحطام هنا هو فساد البذور في التربة وعدم نموّها.

نعم ، تتعجبون وتغمركم الحيرة وتقولون : (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (١).

وإذا كنتم أنتم الزارعين الحقيقيين ، فهل بإمكانكم أن تمنعوا وتدفعوا عن زرعكم الأضرار والمصير المدمّر والنتيجة البائسة؟ وهذا التحدي يؤكّد لنا أنّ جميع امور الخلق من الله سبحانه.

(أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْ لَا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٧٤)

من الذي خلق الماء والنار : يشير سبحانه في هذه الآيات إلى سادس وسابع دليل للمعاد في هذا القسم من آيات سورة الواقعة ، التي تبيّن قدرة الله تعالى على إحياء الموتى ، بل

__________________

(١) مغرمون : من مادة غرامة بمعنى الضرر وفقدان الوقت والمال.

٨٢

في كل شيء : (أَفَرَءَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ). (ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ).

«مزن : يعني (الغيوم البيضاء) وفسّرها البعض بأنّها (الغيوم الممطرة).

إنّ هذه الآيات تجعل الوجدان الإنساني أمام استفسارات عدّة كي تأخذ إقراراً منه ، حيث يسأل الله سبحانه : هل فكّرتم بالماء الذي تشربونه باستمرار والذي هو سرّ حياتكم؟

وإذا لاحظنا في الآيات أعلاه عملية استعراض لماء الشرب ـ فقط ـ وعدم التحدث عن تأثيره في حياة الحيوانات أو النباتات فإنّ السبب هو الأهمية البالغة للماء في حياة الإنسان نفسه ، بالإضافة إلى أنّه قد اشير له في الآيات السابقة في حديث الزرع ، لذا لا حاجة لتكرار ذلك.

وأخيراً ـ ولإكمال البحث في الآية اللاحقة ـ يقول سبحانه : (لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ). اجاج : من مادة أجّ وقد أخذت في الأصل من أجيج النار يعني إشتعالها وإحتراقها ، ويقال اجاج للمياه التي تحرق الفمّ عند شربها لشدّة ملوحتها ومرارتها وحرارتها.

وأخيراً نصل إلى سابع ـ وآخر ـ دليل للمعاد في هذه السلسلة من الآيات الكريمة ، وهو خلق النار التي هي أهمّ وسيلة لحياة الإنسان وأكثرها أهمية له في المجالات الصناعية المختلفة ، حيث يقول سبحانه : (أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ * ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشُونَ). تورون : من مادة ورى بمعنى الستر ، ويقال للنار التي تكون مخفية في الوسائل التي لها القابلية على الإشتعال والتي تظهر بشرارة ، ويقال ورى وايراء.

جملة (تورون) ـ بمعنى إشعال النار ـ بالرغم من أنّها فسّرت هنا بما يستفاد منه توليد النار ، إلّاأنّه لا مانع من أن تشمل الأشياء المشتعلة أيضاً كالحطب باعتباره ناراً خفيّة تظهر وقت توفّر الشروط المناسبة لها.

وفي الآية اللاحقة يضيف مؤكّداً الأبحاث أعلاه بقوله سبحانه : (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لّلْمُقْوِينَ).

إنّ عودة النار من داخل الأشجار الخضراء تذكّرنا برجوع الأرواح إلى الأبدان في الحشر من جهة ، ومن جهة اخرى تذكّرنا هذه النار بنار جهنم.

٨٣

يقول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم (١). جملة (مَتَاعًا لّلْمُقْوِينَ) إشارة إلى الفوائد الدنيوية لهذه النار.

يستنتج سبحانه نتيجة مهمّة بعد ما ركّز على أهميّة هذه النعم للإنسان وذلك بتسبيحه والشكر له تعالى باعتباره المصدر الوحيد لهذه النعم ... فيقول سبحانه في آخر آية مورد البحث : (فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ).

إنّ الله الذي خلق كل هذه النعم ، والتي كل منها تذكّرنا بقدرته وتوحيده وعظمته ومعاده ، لائق للتسبيح والتنزيه من كل عيب ونقص.

إنّه ربّ ، وكذلك فإنّه عظيم وقادر ومقتدر ، وبالرغم من أنّ المخاطب في هذه الآية هو الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّاأنّ من الواضح أنّ جميع البشر هم المقصودون.

(فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (٨٢)

المطهّرون ومعرفة أسرار القرآن : استمراراً للأبحاث التي جاءت في الآيات السابقة ، والتي تركّز الحديث فيها حول الأدلة السبعة الخاصة بالمعاد ، ينتقل الحديث الآن عن أهمية القرآن الكريم باعتباره يشكّل مع موضوع النبوة ركنين أساسيين بعد مسألة المبدأ والمعاد والتي بمجموعها تمثّل أهمّ الأركان العقائدية. يبدأ الحديث بقسم عظيم ، حيث يقول سبحانه : (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ).

وعندما يلاحظ الإنسان ـ طبقاً لتصريحات العلماء ـ أنّ في (مجرّتنا) فقط ألف مليون نجمة ، وتوجد في الكون مجرّات كثيرة ، وكل واحدة منها لها مسار خاص ، عندئذ ستتوضّح لنا أهمية هذا القسم القرآني.

ولهذا السبب فإنّه تعالى يضيف في الآية اللاحقة : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ).

وهذه بحد ذاتها تعتبر إعجازاً علميّاً للقرآن الكريم ، حيث في الوقت الذي كانت تعتبر النجوم عبارة عن مسامير فضائية رصّعت السماء بها فإنّ مثل هذا البيان القرآني الرائع في

__________________

(١) جامع البيان ٢٧ / ٢٦٢ ؛ وروح المعاني ٢٧ / ١٥٠.

٨٤

ظلّ ظروف وأوضاع يخيّم عليها الجهل ، محال أن يصدر من بشر عادي.

وتوضّح الآية اللاحقة ما هو المقصود من ذكر هذا القسم؟ حيث يقول سبحانه : (إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ).

وبهذه الصورة فإنّه يردّ على المشركين المعاندين الذين يصرّون بإستمرار على أنّ هذه الآيات المباركة هي نوع من التكهّن ـ والعياذ بالله ـ أو أنّه حديث جنوني أو شعر ، أو أنّه من قبل الشيطان ... فيردّ عليهم سبحانه بأنّه وحي سماوي وحديث بيّن وعظمته وأصالته لا غبار عليها ، ومحتواه يعبّر عن مبدأ نزوله.

نعم ، إنّ القرآن كريم وقائله كريم ومن جاء به كذلك ، وأهدافه كريمة أيضاً.

ثم يستعرض الوصف الثاني لهذا الكتاب السماوي العظيم حيث يقول تعالى : (فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ).

إنّه في لوح محفوظ في علم الله ، محفوظ من كل خطأ وتغيير وتبديل.

وفي ثالث وصف له يقول سبحانه : (لَّايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ).

ذكر الكثير من المفسرين ـ تماشياً مع بعض الروايات الواردة عن الأئمة المعصومين عليهم‌السلام ـ بعدم جواز مسّ (كتابة) القرآن الكريم بدون غسل أو وضوء.

كما اعتبر بعضهم أنّها إشارة إلى أنّ الحقائق والمفاهيم العالية في القرآن الكريم لا يدركها إلّا المطهّرون. فإنّ طهارة الروح في طلب الحقيقة تمثّل حدّاً أدنى من مستلزمات إدراك الإنسان لحقائق القرآن ، وكلّما كانت الطهارة والقداسة أكثر كان الإدراك لمفاهيم القرآن ومحتوياته بصورة أفضل.

وفي رابع وآخر وصف للقرآن الكريم يقول تعالى : (تَنزِيلٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ).

إنّ الله المالك والباريء لجميع الخلق ، قد نزّل هذا القرآن لهداية البشر ، وقد أنزله سبحانه على قلب النبي الطاهر ، وكما أنّ العالم التكويني صادر منه وهو تعالى رب العالمين فكذلك الحال في المجال التشريعي ، فكل نعمة وهداية فمن ناحيته ومن عطائه.

ثم يضيف سبحانه : (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ). هل أنتم بهذا القرآن وبتلك الأوصاف المتقدمة تتساهلون ، بل تنكرونه وتستصغرونه في حين تشاهدون الأدلة الصادقة والحقّة بوضوح ، وينبغي لكم التسليم والقبول بكلام الله سبحانه بكل جديّة ، والتعامل مع هذا الأمر كحقيقة لا مجال للشك فيها.

٨٥

عبارة هذا الحديث في الآية الكريمة إشارة للقرآن الكريم.

«مدهنون : في الأصل من مادة دهن بالمعنى المتعارف عليه ، ولأنّ الدهن يستعمل للبشرة وامور اخرى ، فإنّ كلمة (أدهان) جاءت بمعنى المداراة والمرونة ، وفي بعض الأحيان بمعنى الضعف وعدم التعامل بجدية ... ولأنّ المنافقين والكاذبين غالباً ما يتّصفون بالمداراة والمصانعة ، لذا استعمل هذا المصطلح أحياناً بمعنى التكذيب والإنكار ، ويحتمل أن يكون المعنيان مقصودان في الآية.

وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يقول سبحانه إنّكم بدلاً من أن تشكروا الله تعالى على نعمه ورزقه وخاصة نعمة القرآن الكبيرة ، فإنّكم تكذّبون به : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ).

(فَلَوْ لَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٨٧)

عندما تصل الروح إلى الحلقوم : تكملة لأبحاث المعاد والردّ على المنكرين والمكذبين فإنّ القرآن الكريم يرسم لنا صورة معبّرة ومجسّدة لهذه اللحظات حيث يقول سبحانه : (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ) ولا تستطيعون عمل شيء من أجله.

والمخاطبون هنا هم أقارب المحتضر الذين ينظرون إلى حالته في ساعة الاحتضار من جهة ، ويلاحظون ضعفه وعجزه من جهة ثانية ، وتتجلّى لهم قدرة الله تعالى على كل شيء ، حيث إنّ الموت والحياة بيده ، وأنّهم ـ أي أقاربه ـ سيلاقون نفس المصير.

ثم يضيف سبحانه : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلكِن لَّاتُبْصِرُونَ).

نعم ، نحن الذين نعلم بصورة جيّدة ما الذي يجول في خواطر المحتضر؟ وما هي الإزعاجات التي تعتريه؟ نحن الذين أصدرنا أمرنا بقبض روحه في وقت معيّن ، إنّكم تلاحظون ظاهر حاله فقط ، ولا تعلمون كيفية إنتقال روحه من هذه الدار إلى الدار الآخرة.

ثم للتأكيد الأشد في توضيح هذه الحقيقة يضيف تعالى : (فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).

إنّ ضعفكم هذا دليل أيضاً على أنّ مالك الموت والحياة واحد ، وأنّ الجزاء بيده ، وهو الذي يحي ويميت.

٨٦

(فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٩٦)

مصير الصالحين والطالحين : هذه الآيات نوع من الخلاصة للآيات الاولى والأخيرة من هذه السورة ، كما أنّها تجسّد حالة التفاوت بين البشر في حالة الاحتضار ، وكيف أنّ قسماً منهم يلفظون أنفاسهم بهدوء وراحة في تلك اللحظات الصعبة ، وآخرين تلوح لهم من بعيد النار الحامية ، ويسيطر عليهم الخوف والاضطراب والهلع فيلفظون أنفاسهم بصعوبة بالغة.

يقول سبحانه في البداية : (فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ).

«روح : على وزن (قول) في الأصل بمعنى التنفّس ؛ والريحان : بمعنى النبات أو الشيء ذي العطر ، ثم اصطلح على كل شيء باعث للحياة والراحة ، كما أنّ الريحان يطلق على كل نعمة ورزق كريم. وبناءً على هذا فإنّ الروح إشارة إلى كل الامور التي تخلّص الإنسان من الصعوبات ليتنفّس براحة ، وأمّا الريحان فإنّه إشارة إلى الهبات والنعم التي تعود إلى الإنسان بعد إزالة العوائق.

والجدير بالملاحظة أنّ الحديث عن جنّة النعيم جاء بعد ذكر الروح والريحان وقد يستفاد من هذا أنّ الروح والريحان يكون من نصيب المؤمنين في الإحتضار والقبر والبرزخ ، وأمّا الجنة ففي الآخرة. في الأمالي للصدوق عن الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : (فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ) يعني في قبره ، وجنّة نعيم يعني في الآخرة.

ثم يضيف سبحانه : (وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ). وهم تلك الثلّة الصالحة من الرجال والنساء الذين يستلمون صحيفة أعمالهم بيدهم اليمنى كعلامة للفوز والنصر والنجاح (فَسَلمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ).

وبهذا الترتيب فإنّ ملائكة الله المختصّين بقبض الروح في لحظات الإنتقال من هذه الدنيا يوصلون سلام أصحاب اليمين إلى المحتضر. كما قال تعالى ـ في الآية (٢٦) من نفس السورة ـ في وصف أهل الجنة وكلامهم : (إِلَّا قِيلاً سَلمًا سَلمًا).

٨٧

ثم تستعرض الآيات الكريمة القسم الثالث الذين مرّ ذكرهم في أوائل هذه السورة عبر التصنيف الذي ذكر واصطلح عليهم ب (أصحاب الشمال) ، حيث يقول تعالى : (وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذّبِينَ الضَّالّينَ * فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ).

نعم ، إنّهم على مشارف الموت حيث يذوقون أوّل عذاب إلهي ، ويتجرّعون مرارة عقاب يوم القيامة في القبر والبرزخ.

وهذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ قسماً من الأشخاص الضالين من فصيلة الأفراد المستضعفين أو الجهلة القاصرين الذين ليس لديهم إصرار وعناد على الباطل ، يمكن أن تشملهم الألطاف الإلهية ، أمّا المكذبون المعاندون فإنّهم سيبتلون بالمصير البائس والعاقبة السيّئة التي تقدّم ذكرها.

وفي نهاية هذا الحديث يضيف سبحانه : (إِنَّ هذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ).

إنّ التعبير ب (فسبّح) ـ الفاء تفريعية ـ هو إشارة إلى أنّ ما قيل حول الأقسام الثلاثة هو عين العدالة ، وبناءً على هذا اعتبر (ربّك) منزّهاً من كل ظلم ، وإذا ما اريد الإبتعاد عن مصير أصحاب الشمال فعلينا أن نتنزّه من كل شرك وظلم المتلازمان مع إنكار القيامة.

وفي الدرّ المنثور : لما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ) قال : اجعلوها في ركوعكم. ولما نزلت (سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الْأَعْلَى) قال : اجعلوها في سجودكم.

نهاية تفسير سورة الواقعة

* * *

٨٨

٥٧

سورة الحديد

محتوى السورة : نستطيع أن نقسّم موضوعات هذه السورة إلى سبعة أقسام :

١ ـ الآيات الاولى من هذه السورة لها بحث جامع حول التوحيد وصفات الله تعالى.

٢ ـ يتحدث عن عظمة القرآن ، هذا النور الإلهي الذي أشرق في ظلمات الشرك.

٣ ـ يستعرض وضع المؤمنين والمنافقين في يوم القيامة ، وبهذا تعكس السورة في أبحاثها الاصول الإسلامية الثلاثة : التوحيد والنبوّة والمعاد.

٤ ـ تتحدث الآيات فيه عن الدعوى إلى الإيمان والخروج من الشرك ، وعن مصير الأقوام الضالة من الامم السابقة.

٥ ـ جزء مهم من هذه السورة يتحدث حول الإنفاق في سبيل الله ، وخصوصاً في تقوية اسس الجهاد في سبيل الله ، وأنّ مال الدنيا ليس له وزن وقيمة.

٦ ـ في قسم قصير من الآيات ـ إلّاأنّه وافٍ ومستدلّ ـ يأتي الحديث عن العدالة الاجتماعية والتي هي إحدى الأهداف الأساسية للأنبياء.

٧ ـ وفيه تتحدث الآيات عن سلبية الرهبانية والإنزواء الاجتماعي وأنّ ذلك يمثّل إبتعاداً عن الخط الإسلامي.

إنّ تسمية السورة ب (الحديد) هو لما جاء في الآية (٢٥) من ذكر كلمة الحديد.

٨٩

فضيلة تلاوة السورة : وردت في الروايات الإسلامية نقاط جديرة بالملاحظة حول فضيلة تلاوة سورة الحديد ، ومما لا شك فيه أنّ المقصود في التلاوة هي تلاوة التدبر والتفكر الذي يكون توأماً مع العمل.

في الدرّ المنثور عن عرباض بن سارية أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقرأ المسبحات قبل أن يرقد وقال : إنّ فيهنّ آية أفضل من ألف آية.

وفي الكافي عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : من قرأ المسبحات كلها قبل أن ينام ، لم يمت حتى يرى القائم عليه‌السلام ، وإن مات كان في جوار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣)

آيات للمتفكّرين : إنّ هذه السورة بدأت بقسم التوحيد ، الذي يشتمل على عشرين صفة من صفات الله سبحانه ، تلك الصفات التي بمعرفتها يصل الإنسان إلى مستوى عال من المعرفة الإنسانية بالله ، وتعمّق معرفته بذاته المقدسة ، وهذه الأوصاف والتي تشير إلى جانب من صفات جلاله وجماله ، كلما تعمق العلماء وأهل الفكر فيها توصّلوا إلى حقائق جديدة عن الذات الإلهية المقدسة.

في الكافي : عندما سئل الإمام عليّ بن الحسين عليهما‌السلام عن التوحيد فقال : إنّ الله عزوجل علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون فأنزل الله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، والآيات من سورة الحديد إلى قوله : (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) فمن رام وراء ذلك فقد هلك.

إنّ أوّل آية من هذه السورة بدأت بتسبيح وتنزيه الله عزوجل حيث يقول سبحانه : (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ).

وبعد ذكر صفتين من صفات الذات الإلهية يعني (العزة والحكمة) يتطرق إلى (مالكيته وتدبيره ، وقدرته في عالم الوجود) والتي هي من مستلزمات القدرة والحكمة ، حيث يقول تعالى : (لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ).

٩٠

إنّ مالكية الله عزوجل لعالم الوجود ليست مالكية اعتبارية وتشريعية ، إذ أنّها مالكية حقيقية وتكوينية. وهذا يعني أنّ الله سبحانه محيط بكل شيء ، وأنّ جميع العالم في قبضته وقدرته وتحت إرادته وأوامره ، لذا فقد جاء الحديث بعد هذا الكلام عن (الإحياء والإفناء) والقدرة على كل شيء.

الاختلاف بين العزّة والقدرة هو أنّ العزّة أكثر دلالة على تحطيم المقابل والقدرة تعني توفير الأسباب وإيجادها. وبناءً على هذا فإنّهما يعدّان وصفين مختلفين بالرغم من أنّهما مشتركان في أصل القدرة (يرجى ملاحظة ذلك).

ثم يتطرق سبحانه إلى ذكر خمس صفات اخرى حيث يقول : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْأَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلّ شَىْءٍ عَلِيمٌ).

الوصف هنا ب (الْأَوَّلُ وَالْأَخِرُ) تعبير رائع عن أزليته وأبديته تعالى ، لأنّنا نعلم أنّه وجود لا متناهي وأنّه (واجب الوجود) أي أنّ وجوده من نفس ذاته ، وليس خارجاً عنه حتى تكون له بداية ونهاية ، وبناءً على هذا فإنّه كان من الأزل وسيبقى إلى الأبد.

إنّه بداية عالم الوجود ، وهو الذي سيبقى بعد فناء العالم أيضاً. وبناءً على هذا فإنّ التعبير ب (الْأَوَّلُ وَالْأَخِرُ) ليس له زمان خاصّ أبداً ، وليس فيه إشارة إلى مدّة زمنية معينة.

والوصف ب (الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) هو تعبير آخر عن الإحاطة الوجودية ـ أي وجود الله ـ بالنسبة لجميع الموجودات ، أي إنّه أظهر من كل شيء لأنّ آثاره شملت جميع مخلوقاته في كل مكان ، وهو خفي أكثر من كل شيء أيضاً لأنّ كنه ذاته لم يتّضح لأحد.

فإنّ أحد نتائج هذه الصفات المتقدمة هو ما جاء في نهاية الآية الكريمة : (وَهُوَ بِكُلّ شَىْءٍ عَلِيمٌ). إذ إنّ من كان في البداية ويبقى في النهاية ، وموجود في ظاهر وباطن العالم ... سيكون عالماً بكل شيء قطعاً.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (٦)

٩١

على عرش القدرة دائماً : تحدثت الآيات السابقة عن إحدى عشرة صفة للذات الإلهية المقدسة ، وتبيّن الآيات أعلاه أوصافاً اخرى حيث اشير في الآية الاولى مورد البحث إلى خمسة أوصاف اخرى من صفات جلاله وجماله. ويبدأ الحديث عن مسألة الخلقة حيث يقول سبحانه : (هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ).

لقد ذكرت مسألة الخلقة في (ستّة أيام) سبع مرّات في القرآن الكريم ، المرّة الاولى في الآية (٥٤) من سورة الأعراف ، والأخيرة هي هذه الآية مورد البحث (الحديد / ٤).

فإنّ المقصود من (اليوم) في هذه الآيات ليس المعنى المتعارف (لليوم) ، بل المقصود هو (الزمان) سواء كان هذا الزمان قصيراً أو طويلاً حتى لو بلغ ملايين السنين.

ثم تتطرق الآيات إلى مسألة الحكومة وتدبير العالم حيث يقول سبحانه : (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ).

إنّ زمام حكومة وتدبير العالم كانت دائماً بيده ولا زالت ، وبدون شك فإنّ الله تعالى ليس جسماً ، ولذا فليس معنى العرش هنا هو عرش السلطة ، والتعبير كناية لطيفة عن الحاكمية المطلقة لله سبحانه ونفوذ تدبيره في عالم الوجود.

ثم يستعرض نوعاً آخر من علمه اللا متناهي بقوله تعالى : (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا).

وفي رابع وخامس صفة له سبحانه يركّز حول نقطة مهمة حيث يقول : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

وكيف لا يكون معنا في الوقت الذي نعتمد عليه ، ليس في إيجادنا فحسب ، بل في البقاء لحظة بلحظة ـ أيضاً ـ ونستمدّ منه العون ، إنّه روح عالم الوجود.

الحقيقة أنّ الاحساس بأنّ الله معنا في كل مكان يعطي للإنسان عظمة وجلالاً من جهة ، ومن جهة اخرى يخلق فيه إعتماداً على النفس وشجاعة وشهامة ، ومن جهة ثالثة فإنّه يثير إحساساً شديداً بالمسؤولية ، لأنّ الله حاضر معنا في كل مكان ، وناظر ومراقب لأعمالنا ، وهذا أكبر درس تربوي لنا. وهذا الاعتقاد يمثّل دافعاً جدّياً للتقوى والطهارة والعمل الصالح في الإنسان ، ويعتبر رمز عظمته وعزّته.

وبعد مسألة الحاكمية والتدبير يأتي الحديث عن مسألة مالكيته سبحانه في كل عالم الوجود ، حيث يقول : (لَّهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ).

٩٢

وأخيراً يشير إلى مسألة مرجعيته فيقول تعالى : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).

نعم ، عندما يكون الخالق والمالك والمدبر معنا في كل مكان ، فمن البديهي أن يكون رجوعنا ورجوع أعمالنا إليه كذلك.

وفي آخر آية مورد للبحث يشير إلى صفتين اخريين بقوله تعالى : (يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ).

بالتدريج ينقص أحد الوقتين (الليل والنهار) ليضيف للآخر ، وتبعاً لذلك يتغير طول النهار والليل في السنة ، وهذا التغير يكون مصحوباً بالفصول الأربعة في السنة مع كل البركات التي تكون مختصة في هذه الفصول لبني الإنسان.

وتفسير آخر لهذه الآية هو : إنّ شروق وغروب الشمس لن يحدثا فجأة ودون مقدّمات ، بل يتمّ هذا التغيير بصورة تدريجية حتى يتهيّأ الجميع لذلك.

ويضيف سبحانه في النهاية : (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).

فكما أنّ أشعة الشمس الباعثة للحياة تنفذ في أعماق ظلمات الليل ، وتضيء كل مكان ، فإنّ الله عزوجل ينفذ كذلك في كل زوايا قلب وروح الإنسان ، ويطّلع على كل أسراره.

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٩) وَمَا لَكُمْ أَنْ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (١١)

الإيمان والإنفاق أساسان للنجاة : بعد البيان الذي تقدم حول دلائل عظمة الله في عالم الوجود وأوصاف جماله وجلاله ، تلك الصفات المحفّزة للحركة باتّجاه الله تعالى ، ننتقل الآن إلى جوّ هذه الآيات المفعم بالدعوة للإيمان والعمل ...

٩٣

يقول سبحانه في البداية : (ءَامِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ).

إنّ هذه الدعوة دعوة عامة لجميع البشر ، فهي تدعو المؤمنين إلى إيمان أكمل وأرسخ ، وتدعو ـ أيضاً ـ غير المؤمنين إلى التصديق والإيمان بما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذه الدعوة إلى الإيمان جاءت توأماً مع أدلة التوحيد التي تناولتها الآيات التوحيدية السابقة.

ثم يدعو إلى أحد الالتزامات المهمة للإيمان وهي : (الإنفاق في سبيل الله) حيث يقول تعالى : (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ).

إنّ للإنفاق مفهوماً واسعاً ولا ينحصر بالمال فقط ، بل يشمل ـ أيضاً ـ العلم والهداية والسمعة الاجتماعية ورؤوس الأموال المعنوية والمادية.

ثم يقول تعالى في الحثّ على الإنفاق : (فَالَّذِينَءامَنُوا مِنكُمْ وَأَنفِقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ).

إنّ وصف الأجر بأنّه كبير إشارة إلى عظمة الألطاف الإلهية والهبات الإلهية ، وأبديتها وخلوصها ودوامها ليس في الآخرة فحسب ، بل في عالم الدنيا أيضاً حيث إنّ قسماً من الأجر سوف يكون من نصيب الإنسان في الدنيا.

وبعد الأمر بالإيمان والإنفاق يعطي بياناً لكل منهما ، وهو بمثابة الاستدلال والبرهان ، وذلك بصورة استفهام توبيخي ابتداءاً ، حيث يستفسر عن علة عدم قبول دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حول الإيمان بالله فيقول سبحانه : (وَمَا لَكُمْ لَاتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).

يعني أنّكم إذا كنتم مستعدّين حقيقة وصدقاً لقبول الحق ، فإنّ دلائله واضحة عن طريق الفطرة والعقل ، وكذلك عن طريق النقل.

وجاءت الآية اللاحقة لتأكيد وتوضيح نفس هذا المعنى حيث تقول : (هُوَ الَّذِى يُنَزّلُ عَلَى عَبْدِهِءايَاتٍ بَيّنَاتٍ لّيُخْرِجَكُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ).

إنّ كلمة (رؤوف) جاءت هنا إشارة إلى محبته ولطفه الخاص بالنسبة إلى المطيعين ، في حين أنّ كلمة (رحيم) إشارة إلى رحمته بخصوص العاصين.

ثم يأتي استدلال آخر على ضرورة الإنفاق حيث يقول تعالى : (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثِ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ). أي أنّكم سترحلون عن هذه الدنيا وتتركون كل ما منحكم الله فيها ، وتذهبون إلى عالم آخر ، فلماذا لا تستفيدون من هذه الأموال التي جعلها الله تحت تصرفكم بتنفيذ أمره بالإنفاق.

ولأنّ للإنفاق قيماً مختلفة وأحوالاً متفاوتة الشرائط والظروف ، يضيف سبحانه : (لَا

٩٤

يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ). أي أنّ الذين بذلوا المال والنفس في الظروف الحرجة مفضّلون على الذين ساعدوا الإسلام بعد سكون الموج وهدوء العاصفة. لذلك وللتأكيد أكثر يضيف تعالى : (أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا).

وبما أنّ القسمين (الإنفاق والجهاد) مشمولان بعناية الحق تعالى مع اختلاف الدرجة ، فيضيف في النهاية : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى).

وهذا تقدير لعموم الأشخاص الذين ساهموا في هذا الطريق.

وكلمة (حسنى) لها مفهوم واسع ، حيث تشمل كل ثواب وجزاء وخير في الدنيا والآخرة.

ولكون قيمة العمل بإخلاصه لله سبحانه فيضيف في نهاية الآية : (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

نعم ، إنّه يعلم بكيفية وكميّة أعمالكم. وكذلك نيّاتكم ومقدار خلوصكم ، ولغرض الحثّ على ضرورة الإنفاق في سبيل الله ، ومن خلال تعبير رائع يؤكّد سبحانه ذلك في الآية مورد البحث بقوله : (مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا). فينفق مما آتاه الله في سبيل الله (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ).

والمراد من الإقراض لله تعالى هو كل إنفاق في سبيله ، وأحد مصاديقه المهمة الدعم الذي يقدّم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمة المسلمين من بعده ، كي يستعمل في الموارد اللازمة لإدارة الحكومة الإسلامية. لذا نقل في الكافي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : إنّ الله لم يسأل خلقه مما في أيديهم قرضاً من حاجة به إلى ذلك ، وما كان لله من حق فإنّما هو لوليّه.

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (١٣) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٥)

٩٥

لقد بشّر الله المنفقين في آخر آية من الآيات السابقة بالأجر الكريم ، واستمراراً للبحث فالآيات أعلاه تتحدث عن هذا الأجر ، وتبيّن مدى قيمته وعظمته في اليوم الآخر. يقول سبحانه : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم).

والمقصود من النور ـ في الواقع ـ تجسيم نور الإيمان ، لأنّ في ذلك اليوم تتجسّد أعمال البشر ، فيتجسّد الإيمان الذي هو نور هدايتهم بصورة نور ظاهري ، ويتجسّد الكفر الذي هو الظلام المطلق بصورة ظلمة ظاهرية.

وهنا يصدر هذا النداء الملائكي بإحترام للمؤمنين : (بُشْرَيكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

أمّا المنافقون الذين سلكوا طريق الظلام والكفر والذنوب والمعصية ، فإنّ صراخهم يعلو في مثل تلك الساعة ويلتمسون من المؤمنين شيئاً من النور ، لكنّهم يواجهون بالردّ والنفي ، كما في قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَءامَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ).

ويأتي الجواب على طلبهم بقوله تعالى : (قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا).

كان من الممكن أن تحصلوا على النور من الدنيا التي تركتموها وراءكم ، وذلك بإيمانكم وأعمالكم الصالحة ، إلّاأنّ الوقت انتهى ، وفاتت الفرصة عليكم ولا أمل هنا في حصولكم على النور.

(فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ). وهذا الباب أو هذا الجدار من نوع خاص وأمره فريد ، حيث إنّ كلاً من طرفيه مختلف عن الآخر تماماً ، حيث : (بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ).

ويمكن أن يكون هذا الباب من أجل أن يرى المنافقون من خلاله نعم الجنة ويتحسّرون عليها ، أو أنّ من كان قليل التلوّث بالذنوب وقد نال جزاءه من العذاب بإمكانه أن يدخل منها ويكون مع المؤمنين في نعيمهم.

غير أنّ هذا الحائط ليس من النوع الذي يمنع عبور الصوت حيث يضيف سبحانه : أنّ المنافقين (يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ). لقد كنّا نعيش معكم في هذه الدنيا فما الذي حدث وإنفصلتم عنّا وذهبتم إلى الروح والرحمة الإلهية وتركتمونا في قبضة العذاب؟

(قَالُوا بَلَى). كنّا معكم في أماكن كثيرة في الأزقّة والأسواق ، في السفر والحضر ، وكنّا

٩٦

أحياناً جيراناً أو في بيت واحد ... نعم كنّا معاً ، إلّاأنّ اختلافاتنا في العقيدة والعمل كانت هي الفواصل بيننا ، لقد كنتم تسيرون في خطّ منفصل عن خطّنا وكنتم غرباء عن الله في الاصول والفروع ، لذا فأنتم بعيدون عنّا ، ثم يضيفون : لقد إبتليتم بخطايا وذنوب كثيرة من جملتها :

١ ـ (وَلكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ) وخدعتموها بسلوك طريق الكفر والضلال.

٢ ـ (وَتَرَبَّصْتُمْ) وانتظرتم موت النبي وهلاك المسلمين وإنهدام أساس الإسلام ، بالإضافة إلى التهرّب من إنجاز كل عمل إيجابي وكل حركة صحيحة ، حيث تتعلّلون وتماطلون وتسوّفون إنجازها.

٣ ـ (وَارْتَبْتُمْ) في المعاد وحقّانية دعوة النبي والقرآن ..

٤ ـ وخدعتكم الآمال (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِىُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ).

هذه الأماني لم تعطكم مجالاً ـ حتى لحظة واحدة ـ للتفكر الصحيح ، لقد كنتم مغمورين في تصوراتكم وتعيشون في عالم الوهم والخيال ، واستولت عليكم امنية الوصول إلى الشهوات والأهداف المادية.

٥ ـ (وَغَرَّكُم بِاللهِ الْغَرُورُ). إنّ الشيطان غرّكم بوساوسه في مقابل وعد الله عزوجل ، فتارةً صوّر لكم الدنيا خالدة باقية واخرى صوّر لكم القيامة بعيدة الوقوع ، وفي بعض الأحيان غرّكم بلطف الله والرحمة الإلهية ، وأحياناً جعلكم تشكّون في أصل وجود الله العظيم الخالق.

وأخيراً فإنّ المؤمنين ـ بلحاظ ما تقدّم ـ يخاطبون المنافقين بقولهم : (فَالْيَوْمَ لَايُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا). وبهذا الترتيب يواجه المنافقون نفس مصير الكفار أيضاً ، وكلّهم رهينة ذنوبهم وأعمالهم القبيحة ، ولا يوجد لهم أي طريق للخلاص.

ثم يضيف سبحانه : (مَأْوَيكُمُ النَّارُ هِىَ مَوْلكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

الإنسان ـ عادةً ـ لكي ينجو من العقوبة المتوقعة في الدنيا ، يتوسل للخلاص منها إمّا بالغرامة المالية أو طلب العون والمساعدة من قوّة شفيعة ، إلّاأنّه في يوم القيامة تنقطع كل الأسباب والوسائل المادية المتعارف عليها في هذا العالم للوصول إلى المقاصد المرجوة.

وبهذه الصورة يوضّح القرآن الكريم أنّ الوسيلة الوحيدة للنجاة في ذلك اليوم هي الإيمان والعمل الصالح في الدنيا ، حتى أنّ دائرة الشفاعة محدودة للأشخاص الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً وليسوا من الغرباء مطلقاً عن الإيمان والذين قطعوا إرتباطهم بصورة كلية من الله وأوليائه وعصوا أوامره.

٩٧

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (١٨)

سبب النزول

في تفسير مجمع البيان : قيل : إنّ الآية الاولى نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة ، وذلك أنّهم سألوا سلمان الفارسي ذات يوم فقالوا : حدثنا عما في التوراة ، فإنّ فيها العجائب. فنزلت (الر تِلْكَءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) إلى قوله (لَمِنَ الْغَافِلِينَ) (١) فخبّرهم أنّ القرآن أحسن القصص وأنفع لهم من غيره ، فكفوا عن سؤال سلمان ما شاء الله. ثم عادوا فسألوا سلمان عن مثل ذلك ، فنزلت آية (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا) (٢) فكفوا عن سؤال سلمان ما شاء الله. ثم عادوا فسألوا سلمان ، فنزلت هذه الآية.

التّفسير

إلى متى هذه الغفلة : بعد ما وجّهت الآيات السابقة مجموعة من الإنذارات الصارمة والتنبّهات الموقظة ، وبيّنت المصير المؤلم للكفّار والمنافقين في يوم القيامة ، جاءت الآية الاولى مورد البحث بشكل استخلاص نتيجة كلية من ذلك ، فتقول : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ) (٣).

«تخشع : من مادة خشوع بمعنى حالة التواضع مقترنة بالأدب الجسمي والروحي ، حيث تنتاب الإنسان هذه الحالة ـ عادةً ـ مقابل حقيقة مهمّة أو شخصية كبيرة.

__________________

(١) سورة يوسف / ١ ـ ٣.

(٢) سورة الزمر / ٢٣.

(٣) يأن : من مادة إنا ، على وزن (ندا) ومن مادة (أناء) على وزن جفاء بمعنى الإقتراب وحضور وقت الشيء.

٩٨

ومن الواضح أنّ ذكر الله عزوجل إذا دخل أعماق روح الإنسان ، وسمع الآيات القرآنية بتدبّر فإنّها تكون سبباً للخشوع ، والقرآن الكريم هنا يلوم بشدة قسماً من المؤمنين لعدم خشوعهم أمام هذه الامور ، لأنّه قد إبتلي كثير من الامم السابقة بمثل هذا من الغفلة والجهل. وهذه الغفلة تؤدّي إلى قساوة القلب وبالتالي إلى الفسق والعصيان.

إنّ آية : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) ... من الآيات المثيرة في القرآن الكريم ، حيث تليّن القلب ، وترطّب الروح وتمزّق حجب الغفلة. لذلك نلاحظ بصورة مستمرة أنّ أفراداً مذنبين جدّاً قد هداهم الله إلى طاعته بعد سماعهم هذه الآية التي وقعت في نفوسهم كالصاعقة ، وأيقظتهم من سباتهم وغفلتهم التي كانوا فيها ، ولهذا شواهد عديدة حيث تنقل لنا كتب التاريخ العديد منها ، حتى أنّ البعض منهم أصبح في صفّ الزهّاد والعبّاد.

ولأنّ إحياء القلوب الميتة لا يكون إلّابالذكر الإلهي ، الحياة الروحية التي لن تكون إلّا بظل الخشوع والخضوع وخاصة في أجواء القرآن الكريم ... لذا فإنّ القرآن يشبّه عملية إحياء القلوب الميتة بإحياء الأراضي الميتة ، فكما أنّ هذه تحيا ببركة نزول الأمطار كذلك فإنّ القلوب تحيا بذكر الله سبحانه ... حيث يضيف سبحانه في الآية اللاحقة : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْأَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

هذه الآية تشير إلى إحياء الأراضي بوسيلة المطر ، كذلك فإنّ إحياء القلوب الميتة يكون بواسطة ذكر الله وقراءة القرآن المجيد الذي نزل من سماء الوحي على القلب الطاهر للنّبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وكلاهما جديران بالتدبر والتعقل.

ويرجع مرّة اخرى في الآية اللاحقة إلى مسألة الإنفاق ، والتي هي إحدى ثمار شجرة الإيمان والخشوع ، حيث يتكرر نفس التعبير الذي قرأناه في الآيات السابقة مع إضافة ، حيث يقول تعالى : (إِنَّ الْمُصَّدّقِينَ وَالْمُصَّدّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ).

إنّ المقصود من القرض الحسن لله في هذه الآيات والآيات المشابهة هو الإنفاق في سبيل الله ، بالرغم من أنّ القرض لعباد الله هو من أفضل الأعمال أيضاً.

٩٩

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١٩) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (٢٠)

استمراراً للبحث الذي تناولته الآيات السابقة في بيان حال المؤمنين وأجرهم عند الله تعالى ، تضيف الآيات التالية بهذا الصدد قوله تعالى : (وَالَّذِينَءَامَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبّهِمْ).

«الصدّيق : صيغة مبالغة من الصدق بمعنى الشخص الذي يستوعب الصدق جميع وجوده ، حيث يصدّق عمله قوله ، وهو النموذج التام للصدق.

«شهداء : جمع شهيد بمعنى الحضور مع المشاهدة. إلّاأنّ المراد من (الشهداء) في الآية مورد البحث قد يكون الشهادة على الأعمال ، كما يستفاد من الآيات القرآنية الاخرى ، فالأنبياء شهداء على أعمال اممهم ، ورسول الإسلام شاهد عليهم وعلى الامة الإسلامية ، والمسلمون أيضاً شهداء على أعمال الناس.

واحتمل البعض أنّ (شهداء) هنا هو الشهداء في سبيل الله ، أي الأشخاص المؤمنون الذين لهم أجر وثواب الشهادة ، يحسبون بمنزلة الشهداء.

ثم يضيف تعالى : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ).

إنّ هذا التعبير المختصر يشير إلى عظيم الأجر والنور الذي ينتظرهم.

وفي النهاية يضيف تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بَايَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ).

وذلك كي تتوضّح بهذه المقارنة والنتيجة التي آلت إليها المجموعتان ، والتي تتدرّج بين القمّة والقاع ، حيث إنّ القسم الأوّل في المقام العالي من دار الخلد ، والقسم الثاني في الدرك الأسفل من النار يندبون سوء حظّهم وإنحطاط مصيرهم.

وبما أنّ المجموعة الاولى كانت في أعلى مستويات الإيمان ، ففي المقابل أيضاً ذكرت الآية

١٠٠