درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

والبناء على الاكثر في الشكوك الصلاتية ، حيث ان كل ذلك من الفقه ، مع انطباق التعريف عليها.

ويمكن الدفع ، اما عن قاعدة الطهارة في الشبهة الحكمية فبالتزام انها من الاصول ، ولكن لكونها من القطعيات الغير المحتاجة الى البحث لم يبحثوا عنها ، واما عن البواقي فبالتزام اخراجها عن الحد بتقييد الاحكام بالكلية ، فالاستصحاب مثلا في الشبهات الحكميّة يكون من الاصول وفي الموضوعية يكون من الفقه ، واما وجه هذا التقييد فمجرد اصطلاح لا مشاحة فيه.

(*٢ ، ص ٣٣) قوله «دام ظله» ثم اعلم ان موضوع هذا العلم «الخ» موضوع كل علم وهو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ، اي الّتي تعرضه بلا واسطة في العروض هو نفس موضوعات مسائله ، كالفاعل والمفعول والمضاف اليه ونحوها في علم النحو ، وخبر الواحد والشك في الحكم بلا حالة سابقة او معها والشهرة وامثال ذلك في هذا العلم ، نعم حيث انه يترتب على انتساب المحمولات الخاصة الى هذه المتشتتات اثر واحد وفائدة فاردة فلا بد من عدم التباين الذاتي ووجود قدر مشترك في البين كان هو المؤثر ، في هذا الواحد حتى لا يلزم تأثر الواحد من المتعدد ، كما انه لو فرض تداخل العلمين في الموضوع الواحد كشف ذلك عن وجود جهتين بكل منهما يؤثر أثرا ، وإلّا يلزم تأثر الاثنين من الواحد ، فما هو الموضوع والمحمول عليه الاحكام في المسائل بالحقيقة انما هو الموضوعات الخاصة ، وانما يصح نسبة الموضوعية الى ذلك الجامع من باب الاتحاد ، نظيره ما اذا اخبرت بقضايا متعددة في مجلس واحد كان الموضوع في كل واحدة منها رجلا من اهل قم مثلا ، فكما يصح لك ان تقول موضوع تكلّمنا في هذا المجلس فلان وفلان وفلان كذلك صح لك ان تقول : موضوع كلامنا القميون ، وايضا نظيره ان انتساب الوجود او الوجوب الى الفرد يلازمه انتسابهما الى المهملة على وجه الحقيقة لا بالعرض والمجاز.

(*٣ ، ص ٣٣) قوله «دام ظله» وقد تكلف شيخنا المرتضى «قدس‌سره» «الخ» يرد على ما تكلّفه «قدس‌سره» اوّلا بانه لا بد من ملاحظة ان موضوع القضية في البحث الاصولي ما ذا؟ ولا شبهة في ان الموضوع خبر الواحد ، والمحمول قولهم حجة او ليس بحجة فلا داعي الى ارجاعه الى ما ذكره ، وهل هو الّا مثل ارجاع قضية «زيد قائم» الى «قيام زيد ثابت».

وثانيا ان هذا التوجيه لا يتمشى في الشرعية من الاصول العملية ، فان الشك لا كاشفية له عن السنة الواقعية ، والبناء العملي ليس إلّا عمل المكلف قد تعلق به خطاب الشرع مثل الصلاة والصوم ، والوجوب او الاباحة الذي هو الحكم ليس إلّا كوجوب الصلاة واباحة شرب الماء ، فليس في البين شيء يقال : انه هل تثبت به السنة الواقعية او لا ، نعم في العقلية منها يمكن القول بان البحث عن ان حكم العقل بقبح العقاب او الاشتغال ثابت او لا ، ولا

٢٤١

يتمشى ايضا في حجية الظواهر اذ ليس البحث عن خصوص ظواهر الكتاب والسنة بل يعم كلمات سائر الموالى بل غيرهم نعم المقصود معرفة حال خصوص الفاظ الكتاب والسنة ، لكن الكلام في موضوع البحث لا موضوع الغرض ، هذا.

وقد اورد عليه «قدس‌سره» في الكفاية (١) بما حاصله انه لو اريد بالثبوت الثبوت الوجداني يخرج البحث عن المسائل لان المسائل يبحث فيها عن الاحوال اللاحقة للموضوع بعد الفراغ عن اصل ثبوته ووجوده ، واما البحث عن اصل ثبوت الموضوع وانتفائه فداخل في المبادى ، ولو اريد به الثبوت التعبدي فالمراد به ليس إلّا وجوب العمل ، والاصولي لا يبحث عن وجوب العمل بالسّنّة الواقعية ، فانه راجع الى كون الامام عليه‌السلام مفترض الطاعة ، والبحث عنه شأن الكلامي لا الاصولي ، فما هو شأنه البحث عن وجوب العمل بخبر الواحد الحاكي للسنة ، وهذا. وان كان من المسائل لكن ليس عارضا للسنة بل للخبر.

واجاب عنه شيخنا الاستاذ «دام ظله» بان لنا اختيار الشق الاول والمنع عن لزوم كون المسألة بحثا عن العوارض اللاحقة للموضوع بعد الفراغ عن وجوده ، كيف؟ وعمدة البحث في علم الكلام عن وجود الصانع ووجود المعاد ، ولا داعي الى ارجاع البحث الى ان الموجود هل يكون منه الواجب اولا؟ او منه المعاد اولا؟ بل نقول : اي مانع عقلي او غير عقلي يمنع عن تشكيل علم يبحث فيه عن اصل وجود شيء في العالم وعدمه؟ واي شيء يمنع عن عدّ مثل هذا البحث علما ، ولنا اختيار الشق الثاني وما ذكره «قدس‌سره» من لزوم ارجاع المحمول الى الخبر وعدم امكان جعله للسنة غير لازم ، فان وجوب العمل بالخبر الحاكي اذا كان بعنوان الطريقية كما هو المفروض كان مقتضاه رفع التحيّر عن مؤداه ، بمعنى انه يصح ان يقال : انه قام على المودى وهو السنة الواقعية طريق معتبر حجة فيبحث على هذا عن ان السنة الواقعيّة هل تصير مما قام عليه الطريق الحجة بقيام الخبر الواحد عليها اولا ، وبالجملة للوجوب المذكور اضافتان احداهما الى الحاكي وهي كونه كالمحكي واجب العمل ، والاخرى الى المحكى وهي خروجه عن التحيّر وعدم الطريق اليه ، وحينئذ فاختيار الامر بيدنا ، ألا ترى انه كما يمكن ان يقال ، هل قول المرأة برؤية الهلال حجة اولا؟ كذلك يمكن ان يقال : هل الهلال يثبت شرعا بقول المرأة أو لا؟ وكذلك في المقام كما يمكن ان يقال : هل خبر الواحد حجة اولا؟ يمكن ان يقال هل السنة الواقعية تثبت تعبدا بخبر الواحد او لا؟ فالمراد بالسنّة ليس السنة المفروغ عن وجودها ، بل مفهومها ، كما هو الحال في قولنا : الهلال يثبت شرعا «الخ».

__________________

(١) الكفاية ، الامر الاوّل من المقدمة ، ج ١ ، ص ٦ و ٩.

٢٤٢

لا يقال : فعلى هذا الاستصحاب ايضا يجري فيه التوجيه المذكور لكونه رافعا للتحيّر عن الواقع.

فانا نقول : نعم ، ولكن انما يرفع التحيّر عن قبل الحكم الواقعي الذي هو مدلول السنة ، لا نفسها ، بخلاف الخبر فانه رافع التحيّر عن نفس السنة ، بمعنى قول المعصوم عليه‌السلام او فعله او تقريره ، هذا.

ويمكن جعل الموضوع ذوات الادلة بقول مطلق لا خصوص الادلة الاربعة ، ويراد بها الاشياء التي يمكن ببركة الحكم المحمول عليها من الشرع او العقل استكشاف حال من احوال الاحكام الكلية الالهية الواقعية بها ، وهي عبارة عن خبر الواحد والشك في الحكم والشهرة وسائر موضوعات مباحث الاصول ، دون ما ليس له هذه الاهلية مثل السماء والارض والجدار والشجر والمدر واشباهها ، حين ان كل حكم حمل عليها فلا يمكن الانتفاع بسببه في استكشاف حال من احوال الاحكام المذكورة.

(*٤ ، ص ٣٤) قوله «دام ظله» لا يتم في الاصول العملية «آه» وجه ذلك انه لا معنى للقول بانه هل تثبت السنة الواقعية بالشك او لا؟ كما هو معنى الدليلية إذ لا طريقية للشك بالنسبة الى الواقع اصلا نعم يصحّ ان يقال : ان الشك هل هو رافع التحيّر في مقام العمل او لا ، ولكنه لا ربط له بالدليلية ، واما ارجاع البحث فيها الى البحث عن الدليل بملاحظة ان البحث فيها يقع عن خبر لا تنقض ، وحديث الرفع ، واخبار الاحتياط ، والحكم العقلي من حيث كمية دلالتها وكيفيتها فجار في جميع مسائل الفقه.

والحل ان المسألة الاصولية هي نفس البراءة والاحتياط والتخيير ووجوب البناء على الحالة السابقة وموضوعها عمل المكلف لا ان الموضوع هو الامور المذكورة ، والمسألة الاصولية هو البحث عن احوال دلالتها كما وكيفا ، وهذا واضح.

(*٥ ، ص ٣٥) قوله «دام ظله» والذي يمكن تعقله ان يلتزم الواضع «الخ» قد يستشكل عليه بانه كما ان الزوجية لها آثار شرعا وعرفا وبعد انجعالها بانشاء من يعتبر بانشائه تترتب تلك الآثار ، كذلك علاقة اللفظ والمعنى ايضا لها آثار عرفا ومنها الحكم بان اللافظ اراده من اللفظ ، فاذا انجعلت بالجعل تترتب عليها آثارها قهرا.

واجاب عنه الاستاذ «دام ظله» بان جعل العلاقة بين اللفظ وذات المعنى لا يوجب إلّا انتقال السامع متى سمعه وتصوره اليه ، واما اسناده التصور الى المتلفظ كما هو الغرض العمدة من الوضع ـ وإلّا فصرف انتقاش المعنى التصوري والخطور بالبال ليس ثمرة للوضع فقط بل يحصل بقول «ما وضعت» فانه يوجب تذكّر السامع متى سمع اللفظ ـ فلا دليل عليه.

٢٤٣

فان قلت : نفرض جعل العلاقة بين اللفظ والذات المتصورة بالمعنى الحرفي.

قلت : غاية الامر انه حينئذ يوجب انتقال السامع الى تصور المتكلم اياه ، واما تصديقه بوجوده في نفس المتكلم فلا موجب له فالمحيص منحصر في القول بصدور تعهد من الواضع بالارادة عند التلفظ ، فانه يوجب تصديق المطلع عليه بارادته المعنى من اللفظ على حسب تعهده ، والحاصل ان ذات انشاء الوضع خاليا عن التعهد لا تترتب عليها النتيجة المذكورة ، ولا يمكن ان يقال : فعله بقصد ترتب هذه النتيجة يوجب ترتبها ، فان غاية الشيء لا بد من ترتبها على نفسه مع قطع النظر عن قصد القاصد اياه لاجلها ، وهذا بخلاف التعهد فانه موجب لترتب المتعهد به على الشيء المتعهد عنده ، كما هو امر واقع بحكم الوجدان.

(*٦ ، ص ٣٦) قوله «دام ظله» والحاصل انه كما يمكن ان يكون العام وجها «الخ» قد يقال : ان معنى جعل العام وجها للافراد ملاحظتها بنفس ملاحظة العام لا بلحاظ آخر عقيب لحاظ العام ، وفيه ان العام مغاير للافراد في ظرف الذهن والتحليل ، وان كانا متحدين في الخارج ، ولا يخفى ان الوضع يكون بازاء الموجود في الذهن عند تعريته عن كلا الوجودين وعن العدم ، وحينئذ فكيف يمكن لحاظ احد المتغايرين بلحاظ الآخر؟ وهل هو الا الخلف في تغايرهما؟ فالحق ان يقال : ان للافراد ملاحظتين ، ملاحظتها بالصورة التفصيلية ، وملاحظتها بوجه اجمالي ببركة العام بمعنى جعل العام معيارا وضابطا ، بان نلاحظه بما هو ثم نشير الى كلّ ما هو فرد لهذا المفهوم ، فالوجه الاجمالي ليس هو مفهوم العام بل مفهوم ما هو مندرج تحته ، وعلى هذا فمثل ذلك متأت في جانب الخاص ايضا ، فانه يقال ان للعام ملاحظتين : ملاحظته بصورته التفصيلية وملاحظته بوجهه الاجمالي على النحو المتقدم في العكس ، مثاله ما لو راينا شبحا من البعيد ولم نعلم انه انسان أو بقر او فرس بل او شجر او حجر فعند تجريده عن الخصوصيات الفردية تحصل في الذهن صورة اجمالية ، وهو ما يكون نوعا لهذا ، فالتجريد في مثل زيد وعمرو واشباههما من الافراد المعلومة النوع يوجب ملاحظة النوع تفصيلا ، وفي مثل الشبح والجزئي الغير المعلوم النوع يوجب ملاحظته اجمالا فقد صار الجزئي هاهنا آلة ملاحظة الكلي ، بمعنى ملاحظته بعنوان ما هو نوع لهذا ، كما كان الكلي آلة للحاظ الجزئي هناك بمعنى ملاحظته بعنوان ما هو فرد لهذا.

ثمّ على فرض القول بان العام في الفرض السابق وجه ومرآة للافراد نقول بامكان مثله في هذا الفرض ايضا ، فان جهة وجهية العام ليس إلّا الاتحاد الخارجي ، وهو مشترك فيما بين الطرفين ، فكما يمكن جعل ذلك المتحد مرآة لهذا المتحد بملاك الاتحاد كذلك يمكن العكس بعين تلك الجهة.

٢٤٤

(*٧ ، ص ٣٦) قوله «دام ظله» لعين تلك الجهة «آه» يمكن الخدشة بان الانتقال من الجزئي الى نوعه بعنوان اجمالي هو عنوان ما هو نوع لهذا الجزئي حاله حال الانتقال من زيد اذا جاء مع شخص آخر لا نعرفه بشيء من اوصافه الذاتية إلّا بعنوان اجمالي عرضي هو عنوان من هو غير زيد ، ولا يخفى ان ملاحظة زيد ليست قنطرة الى ملاحظة هذا الشخص بلا واسطة بل هو وسيلة لتصور العنوان العرضي ، فكذا الحال في المقام ، وهذا بخلاف العام فانه قنطرة لملاحظة افراده بلا واسطة عنوان آخر اصلا حتى عنوان الاتحاد ونحوه.

(*٨ ، ص ٣٦) قوله «دام ظله» احدهما ان معاني الحروف مفاهيم لوحظت في الذهن آلة «الخ» لا بد لتوضيح الاشكال من تمهيد مقدمة : وهي انه لا اشكال في ان ما هو المتحقق في الخارج في قضية «سيري من البصرة كذا» مثلا امور : الاول السير ، وقد افاده كلمة السير ، والثاني تخصصه بالاضافة الى المتكلم ، وقد افادته الهيئة التركيبية بين السير والياء ، والثالث تخصصه بكون مبدئه البصرة ، وبعد ما افيد ذات البصرة بكلمتها يبقى سهم كلمة من نفس معنى الابتداء ، وحينئذ نقول : قد ينتزع من هذا المتحقق الخارجي اعني تخصص السير بمبدئية البصرة مفهوم ذهني يكون نحو وجوده في الذهن نحو وجود استقلالي بحيث يكون لحاظ المتعلق معه وضع شيء في جنبه على خلاف وجوده في الخارج ، حيث كان نحو وجوده فيه نحو وجود العرض المتقوم بالمحل ، وهذا هو المدلول عليه بكلمة الابتداء ، وقد ينتزع منه مفهوم ذهني يكون سنخ وجوده في الذهن سنخ وجود العرض في الخارج ، ولا نعني بعروضه في الذهن مثل عروض الكلية للانسان في الذهن ، فان معنى عروض الكلية في الذهن ان الناظر متى لاحظ الملحوظ في النظرة الاولى يحكم بان هذا المتصور المتصف بوصف التعرية عن الخصوصيات يكون كليا ، فخارج الذهن الذي يتعقل فيه مفهوم الكلية يكون ذهنا آخر لا الخارج ، فمفهوم الكلية مفهوم مستقل غير قائم بغيره ، وان كان واقعها امرا عارضا على الامر الذهني ، بل المراد بالعروض الذهني في المقام كون المفهوم في عالم مفهوميته غير مستقل بالمفهومية ومحتاجا الى مفهوم آخر حتى يستند اليه ويقوم به ، وحقيقته ليست إلّا ربطا بين جوهرين ذهنيين وتخصصا ذهنيا لهما ، وهذا هو المدلول عليه بكلمة من.

اذا تمهدت المقدمة فنقول : لو اخذ في الموضوع له لكلمة «من» علاوة على ذات الابتداء حقيقة اللحاظ المربوط بالغير ، وفي الموضوع له للفظة «الابتداء» خصوصية حقيقة اللحاظ الاستقلالي يرد في المقام اشكالات :

منها انه كيف يكون كيفيات اللحاظ واوصاف التصور كيفيات واوصافا للملحوظ والمتصور ، فان اللحاظ عارض الملحوظ ولا يمكن اخذه او اخذ ما يتأتي من قبله في موضوعه ، فانه دور

٢٤٥

صريح ، بل ليس الملحوظ الا الذات السّازجة والماهية البحتة التي ليس في مرتبتها شيء من الاشياء حتى الوجود والعدم ، فكيف بالاستقلال والتبعية؟ وهي المرادة بقولهم الماهية من حيث هي ليست إلّا هي.

ومنها انه يلزم كون المعنى في المقامين جزئيا حقيقيا ذهنيا ، ضرورة ان القيد حقيقة اللحاظ بخارجيتها النفسانية.

ومنها انه يوجب تصورا آخر للمعنى فان التصور الاول متمّم المعنى المستعمل فيه ، وتصور المستعمل فيه مما لا بد منه في الاستعمال.

ومنها انه يلزم امتناع امتثال مثل «سر من البصرة» الا على التجريد ، فان المفهوم بقيد الوجود الذهني كلي عقلي لا موطن له سوى الذهن ، ومستحيل الانطباق على الخارجيات.

هذا محصل الاشكالات الناشئة من قبل اخذ التصور في المعنى ، وقد عرفت عدم اختصاصها بالحروف بل يجري في الاسماء التي بمعناها ايضا.

وتوضيح الجواب عن الكل يحتاج الى تمهيد مقدمة : وهي انه لا شبهة في انه ليس لنا وراء عالم الذهن والخارج عالم آخر كان هو عالم المفاهيم ، وهذا معنى قولهم الماهية من حيث هي ليست إلّا هي ، بل لا بد من اشراب الوجود اياها ، ولا شك ان اشراب الوجود الذهني مانع عن الصدق على الخارجيات ، فصدق المفاهيم على الخارجيات لا يمكن إلّا بعد تعريتها عن الوجود الذهني ، كما هو الحال في النظرة الاولى ، ثم بعد هذه التعرية لا يلزم الانعدام الرأسي ، بل يبقى هنا شيء ويراه الانسان امرا منحازا عن كلا عالمي الذهن والخارج ، وهذا هو المسمّى عندهم بظرف التقرر ، وفي هذا النظر يقال : هذا اما موجود في الذهن او في الخارج او معدوم ، وبالجملة بعد الاشراب والسلب المذكورين يبقى لنا مشار اليه بهذا ، وهذا هو المعبّر عنه بالتخلية في عين التحلية ، واذا كان هذا حال اصل المفاهيم فالحال في الاوصاف المتحققة لها في الذهن يكون كذلك ايضا ، فلا يلزم من غمض العين عن حيث ذهنيتها زوالها بالمرة.

اذا تمهدت المقدمة فنقول ان مفهوم «من» مثلا كسائر المفاهيم بلا فرق ، في انه بعد التعرية المذكورة يصير كليا صادقا على الكثيرين مع ان واقعه موجود ذهني ، فحاله في ذلك حال مفهوم لفظ «الابتداء» بعينه ، بل ابتلاء الثاني اشد من الاول بالذهن ، حيث انه متصف في الذهن بوصف الاستقلال المضادّ لما في الخارج من وصف الاندكاك والافتقار ، فهو مضافا الى التجريد عن الوجود الذهني يحتاج الى التجريد عن هذه الصفة ايضا حتى ينطبق على الخارجيات ، واما مفهوم «من» فهو مشابه للخارج في وصف الاندكاك ، فلا يحتاج الى ازيد من التجريد عن الوجود الذهني ، وعلى هذا فيصحّ ان يقال ان الملحوظ على قسمين : لانه اما

٢٤٦

مستقل واما غير مستقل.

واما قولك : هذان من صفات اللحاظ فلا يصح تقسيم الملحوظ والمعنى اليهما فممنوع بكليته ، ألا ترى ان المفهوم اللابشرط يمتاز عن المشروط بشيء او بلا شيء مع ان ما به الامتياز امر ذهني ، وكذا الكلي والمصداق يتمايزان بأخذ التعرية عن الخصوصيات في الاول دون الثاني ، مع ان التعرية امر ذهني ، وكذا الحال في العام المجموعي والاستغراقي ، فكما يذكر ذلك عند تقسيم الملحوظ في عداد قسامة فيقال : ان من اقسام الملحوظ الانسان المعرّى والغير المعرّى ، وكذا الانسان المطلق والمقيد ، فكذلك حال الاستقلال وعدم الاستقلال في مقامنا ، وكما ان وصف التعرية والاطلاق لا بدّ من غض العين عن حيث ذهنيتهما حتى يصح الانطباق على الخارجيات ، ولا يوجب ذلك زوالهما رأسا ، بل اذا نظر الناظر بنظرة ثانية الى ما في النظرة الاولى يحكم بان هذا الذي تصوره هذا المتصور معرّى عن الخصوصيات مثلا ، فهكذا الحال في المقام ، ولهذا يمكن الاشارة الى القيد في النظرة الثانية ، فيقال هذا الابتداء الذي لاحظه هذا اللاحظ يكون كلّا على غيره وعارضا عليه.

واما قولك : ان اللحاظ عارض الملحوظ «الخ» ففيه ان عروض الوجود على الماهية ليس عروضا على الحقيقة ، وإلّا فليزم في الوجود الخارجي ايضا ثبوت الماهية اوّلا ثم عروض الوجود عليه ، وهو واضح الفساد.

واما قولك : انه يوجب تصورا آخر «الخ» ففيه ان عنوان الاستعمال وان كان متأخرا عن ذات المعنى لانه يحدث بالتلفظ مع الارادة ، لكن اللحاظ الذي يعتبر في الاستعمال ليس كلحاظ السامع متأخرا عن عنوان الاستعمال ، بل المتكلم يلحظ المعنى ثم يتلفظ ، ولا يحتاج الى لحاظ آخر متعلق بما يلفظ باللفظ واستعمله فيه ، فهذا اللحاظ متأخر عن المعنى لكنه غير محتاج اليه في الاستعمال ، والذي يحتاج اليه في الاستعمال وهو اللحاظ الاول غير متأخر عن المعنى ، بل قد عرفت ان الماهية ليست امرا وراء الوجود الخارجي او الذهني.

(*٩ ، ص ٣٦) قوله «دام ظله» والثاني انه لما كان المأخوذ فيها كونها آلة «الخ» حاصل تقرير هذه الشبهة بتقريب آخر ان الكلية تحتاج الى التعرية عن الخصوصيات ، والمعنى الحرفي اذا عرى عنها يخرج عن حقيقته ، لانه حينئذ يصير مستقلا ، وقد كان الاندكاك ماخوذا في حقيقته وماهيته حسب ما قررت من انه مما يتفاوت به الملحوظ لا كيفيات اللحاظ فقط ، وهذا اشكال يختصّ بالمعنى الحرفي ولا يجري فيما يرادفه من الاسماء كالابتداء ، وليس كالاشكال الاول جاريا في كليهما.

والجواب انه وان كان الاندكاك مأخوذا في حقيقته ، لكن خصوصيات الطرفين غير

٢٤٧

داخلة ، ولها دوال أخر ، فالمستعمل فيه للفظة «من» مثلا في جميع الموارد معنى واحد كلي وهو اصل الابتداء العاجز ، ومن لوازمه انك ايّ معنى فعل او شبهه قرّبت منه وركّبت معه يتقيد هذا المعنى به ويصير هو خصوصية طارية على هذا المعنى ، لكن هذا المعنى المتعلق لا ربط له بحقيقة معنى «من» ، وله دال آخر فكلّ من الدوالّ قد استعمل في معناه الموضوع له ، فمادة سرت قد استعملت في مفهوم السير ، وهيئته في النسبة التجزمية ، ولفظة «من» في مطلق المبدئية العاجزة ، والخصوصية انما حصلت من تركب هذه المعاني كما ان لفظ الرقبة في قولك «رقبة مؤمنة» قد استعمل في مطلق الرقبة ، والمؤمنة في مطلق المؤمنة ، والخصوصية انما حصلت من انضمامهما.

فان قلت : مقتضى موضوعية الجامع المحكي بمفهوم الابتداء المحتاج في التعقل الى المتعلق هو موضوعية الفرد الخاص الموجود في قولك «سرت من البصرة» على ان يكون القيد خارجا والتقيد داخلا لصدق ذلك العنوان عليه وايجاده معه.

قلت : حكم الموضوعية لا يسرى من الجامع الى افراده ، ألا ترى ان مفهوم الحيوان الناطق موضوع له للفظ الانسان مع عدم كون افراده كذلك.

فان قلت : ان التبادر يقضي بان معنى «من» خصوصيات الابتداء.

قلت من المعلوم بالوجدان أن معنى «من» لا يتفاوت بتفاوت التراكيب وانه معنى كلي ، وان كنت شاكا في ذلك فاخبرنا عن كلمة «من» في قولك : «من البصرة سرت» هل يفيد معنى عند العرف قبل التلفظ بلفظ البصرة اولا؟ وان افادت فهل هو إلّا مطلق المبدئية العاجزة الناقصة.

وان شئت توضيح المقام ازيد مما عرفت فنقول : انه لا شك في ان الجوامع كلها منتزعة عن الخارجيات ، ولا شك ان السير الخارجي من البصرة مثلا اذا حللته وجزّيته بنظر العقل حصل عندك ثلاثة اشياء ، الاول السير ، والثاني البصرة ، والثالث خصوصية كون السير مبتدأ من البصرة ، وهذا الثالث يمكن لحاظه بنحوين : الاول ان يلحظ ويتعقل مستقلا ، ومن حيث هو ، على عكسه في الخارج ، اذ هو في الخارج عاجز محتاج الى المتعلق ، وهو السير ، مندك فيه ، وفي الذهن تام مستغن عن غيره ، بحيث يكون لحاظ المتعلق معه وضع شيء في جنبه ، الثاني ان يلحظ على طبق وجوده الخارجي ، حذو النعل بالنعل ، فكما انه في الخارج محتاج الى المتعلق وموجود ببركة وجوده ، فكذا يتعقل في الذهن محتاجا الى متعلق خاص وببركة تعقله ، ولا شك ان هذا اعنى كونه محتاجا في التعقل الى المتعلق الخاص لا يوجب ان يكون لهذا المتعلق الخاص دخل في حقيقته ومعناه اصلا ، بل هو مقدمة لتعقله ، خارج عن حقيقته ، ألا ترى ان

٢٤٨

مفهوم الضرب لكونه عرضا يفتقر في الوجود الخارجي الى شخص زيد مثلا ، ومع ذلك لا يكون لزيد في معناه دخل اصلا ، فاذن لا فرق. بين الملحوظين بهذين اللحاظين الا في مجرد كيفية اللحاظ ، حيث انه في الاول بنحو الاستقلال على عكس الخارج ، وفي الثاني بنحو العجز والافتقار على طبقه ، ولا يعقل ان معنى واحدا بمجرد ان يختلف كيفية لحاظه يختلف حاله في الجزئية والكلية ، فكما ان الملحوظ بالنحو الاول كليّ جامع للابتداءات الخارجية العاجزة ، فكذا الملحوظ بالنحو الثاني ايضا كلي جامع لتلك الافراد بعينها من دون ان تكون دائرته اضيق من الاول اصلا ، غاية الامر ان الاول جامع مستقل للافراد العاجزة ، والثاني جامع عاجز للافراد العاجزة ، فلا فرق بين اللفظتين في عموم الوضع والموضوع له ، نعم بينهما فرق في كيفية الوضع ففي لفظة الابتداء لما أمكن الاشارة الى نفس المعنى فلهذا لا يحتاج في مقام الوضع الى الوجه ، بل يشار الى نفسه ، وفي الثاني لما لم يمكن الاشارة الى نفس. المعنى ضرورة منافاة الاشارة مع ما هو عليه من وصف العجز والافتقار فلهذا لا بد ان ينتزع منه في مقام الوضع اجمال ، ويجعل هذا الاجمال وجها له وعبارة عنه ، بحيث يكون الفرق بينه وبين الجامع الذي هو الموضوع له بالاجمال والتفصيل ، وذلك كمفهوم الابتداء المحتاج في التعقل الى المتعلق ، ولا يلزم اتفاق الحاكي والمحكى في جميع الجهات ، فيمكن ان يكون الاول معنى اسميا ، والثاني معنى حرفيا ، كما في المقام ، كما يمكن ان يكون الاول كليا والثاني جزئيا ، كما في مفهوم لفظ الجزئي ومحكيه ، وحينئذ فان اريد من الخصوصية في معنى «من» خصوصية بالنسبة الى معنى لفظ «الابتداء» فقد عرفت انّهما مفهومان متباينان ، حيث ان الاول مستقل باللحاظ والثاني مفتقر فيه الى الغير ، وان اريد الخصوصية بالنسبة الى مقسم القسمين ، وهو المعنى المجرد عن الكيفيتين الذي لم يوضع له لفظ فهي غير مختصة بمعنى «من» لجريانها في معنى لفظة «الابتداء» ايضا ، ضرورة اخصية القسم عن المقسم ، واما بالنسبة الى الخارج فهما متصادقان على طائفة واحدة من الخارجيات.

(*١٠ ، ص ٣٨) قوله «دام ظله» اذ لا يعقل الاختلاف في المتصور «آه» فان قلت : لا يعقل ايضا ان يكون الاختلاف الناشئ من قبل التصور دخيلا في المعنى بل لا بد ان يكون اختلاف انحاء التصور متأخرا عن المعنى ، وهنا الجامع بين التصور الاستقلالي والتصور الآلي الربطي اذا جرد عن الخصوصيتين لم يبق الا شيء واحد ، وكل من الخصوصيتين امر ذهني ، فلم يجىء التعدد الا من قبل الامر الذهني ، والتعدد في المعنى لا بدّ وان يكون مع قطع النظر عن الوجود الذهني محفوظا.

قلت : اولا قولك ان التعدد الجائي من قبل اللحاظ غير دخيل في المعنى ممنوع جدّا ، ألا

٢٤٩

ترى ان المطلق القسمي مع المقيد مفهومان قطعا مع ان التعدد بينهما ليس إلّا من قبل الاعتبار ، مع ان معنى المعنى والمفهوم ليس إلّا المتعقّل في الذهن ، ولا واقع ولا حقيقة للمفهوم سوى الذهن ضرورة انه ليس لنا عالم وراء الخارج والذهن كان هو عالم المفاهيم ، وحينئذ نقول : قد نتصور حالة كون الماء في الظرف على نحو الاندكاك في الماء كما في الخارج ، او حالة كون الظرف مستقرا فيه الماء على نحو الاندكاك في الظرف كما في الخارج ، وقد نتصور الظرفية على وجه الاستقلال ، ففي الاول يكون في البين مندك ومندك فيه ، وفي الثاني يكون في البين اشياء مستقلة عرضية ليس شيء منها مندكا في شيء ، وهذا الاندكاك والاستقلال ثابتان في الذهن حتى عند التجريد المتوقف عليه الاستعمال للتطبيق على الخارجيات ، ونقول في توضيح ذلك بالمثال : ان الكلية معقول ثانوي ، وهو عبارة عن حمل الطبيعي على افراده ، والحمل يتوقف على المغايرة ، والمغايرة متوقفة على حفظ حيث الذهنية ، اذ لولاها لما كان في البين شيء يحمل على الخارجيات ، ومع ذلك يتوقف الكلية على تجريد الطبيعي عن حيث الذهنية ، وبعد التجريد يكون في البين شيء ذهني يحمل ، وكذلك تتوقف الكلية على تجريد الطبيعي عن الخصوصيات وإلّا لما يصدق على الكثيرين ، ومع ذلك نحتاج الى تجريده عن وصف التجريد ، ضرورة ان الطبيعي بوصف التجريد لا تنطبق على الخارجيات ، وبعد التجريد عن هذا الوصف يبقى لنا ايضا شيء مجرد ، فكما ان تجريد الطبيعي عن وصف الذهنية والتجريد لا يورث انتفاء هذين الوصفين عنه واقعا وفي ظرف التقرر ، كذلك تجريد الاندكاكية والاستقلال في مقامنا بالنسبة الى المعنى الحرفي والاسمي لا يوجب انتفائهما رأسا.

فان قلت : المعاني الخاصة المندكة في المحالّ الخاصة كيف يمكن تعقلها بدون المحالّ الخاصة.

قلت : ينتزع العقل مما بين المعاني الجزئية العاجزة جامعا بلا مئونة زائدة في المقام على سائر المقامات فكما يتصور الظرفية المندكة في المحلّ الخاص كذلك يتصور ايضا مطلق الظرفية المندكة في محلّ ما ، والاحتياج الى محل ما هنا نظير الاحتياج الى فاعل ما في النسب المستفادة من الافعال ، ألا ترى ان لفظ ضرب في قولك : ضرب زيد قبل مجيء كلمة زيد يدلّ على النسبة الى فاعل ما ، وهذا المعنى العام هو المتصور حال استعمال الحروف ، ألا ترى ان الوجدان يشهد بان كلمة «في» في جميع القضايا يكون بمعنى وليس من باب المشترك اللفظي ، وهذا المعنى هو المستفاد من كلمة «في» المبدوّة بها القضية بعد التكلم بها وقبل التكلّم بالكلمة المتصلة بها ، وكما يمكن تصور هذا المعنى للمستعمل يمكن للواضع ايضا بلا فرق.

فان قلت : المعنى الربطي الاندكاكي كيف يمكن ان يتعقل في الذهن على وجه

٢٥٠

الاستقلال ، وذلك لان بعض المعاني لم توجد في حقيقتها التبعية للغير في ايّ موطن تحقق ، وهذا مثل القيام ، فانه في الخارج لا توجد الا تبعا للمحل ، واما في الذهن فيمكن ان يوجد منفكا عن المحل ، وبعض المعاني يكون المأخوذ في ماهيتها التبعية في اي موطن تحقق ، ومن هذا القبيل الاضافات ، فالابوة لا يمكن تعقلها بدون تعقّل الذاتين المنتسبين ، والظرفية لا يمكن تعقلها بدون تعقل ذات الظرف والمظروف ، فاي فرق بين هذه المعاني الاضافية الاسمية وبين المعاني الحرفية.

قلت : فرق بين التعقل مع التعقل وبين التعقل في ضمن التعقل ، فالمحقق في الاضافات هو الاول والمتحقق في المعاني الحرفية هو الثاني ، فالمعنى الحرفي قائم بالغير ومندك فيه ، والاضافة ملحوظة بالاستقلال غاية الامر يتوقف تعقله على تعقل شيء آخر.

فان قلت : كيف يمكن انتزاع المفهومين ، مع ان منشأ الانتزاع شيء واحد خارجي ؛ وليس في البين شيئان خارجيان.

قلت : اما المعنى الاندكاكي فهو ينتزع عن الاشياء الخارجية بتجريدها عن الخصوصيات مع حفظ وصف اندكاكها في محل ما ، واما المعنى الاستقلالي فهو ينتزع عن المعاني الاستقلالية الجزئية المنتزعة عن الذوات الخارجية مع تجريدها عن وصف اندكاكها ، ولا يلزم ان يكون منشأ الانتزاع امرا خارجيا دائما ، ألا ترى ان الفوقية امر اعتباري وهو جزء لمنشا انتزاع الفوق ، فانه ينتزع عن الذات والفوقية ، وتمام منشأ انتزاع الفوقية الكلية هو الفوقيات الجزئية.

(*١١ ، ص ٣٨) قوله «دام ظله» ومن هنا تعرف انّ الحروف التي معانيها انشاءات ، الى قوله «دام ظله» وهكذا الكلام في هيئة افعل ونظائرها مما يتضمن معنى الانشاء «الخ» اعلم ان المعاني الحرفية على ثلاثة اقسام : الاول ما تقدم بيانه من المعاني التصورية ، الثاني المعاني الانشائية مثل ما وضع له هيئة افعل من الطّلب الخارجي الذي خارجه النفس ، بحيث لو لم يكن موجودا لزم كونها بلا معنى ، واما القسم الاول فهو كلي صادق على الذهن والخارج والموجود والمعدوم ، الثالث ما كان من قبيل الاشارة التي هي جزء معنى اسماء الاشارة ، وهذا ايضا من سنخ القسم الثاني إلّا ان اللفظ وضع لمعنى مركب من معنى تصوري اسمي ومن المعنى الحرفي المذكور.

وعلى كلّ حال فالشبهة في جزئية هذه المعاني هي ان المعاني الانشائية وجودات خارجية ، والوجود الخارجي لا يكون إلّا جزئيا.

والجواب ان الطلب مثلا لو وجد في الخارج وان كان محفوفا بالخصوصيات كالزمان والمكان والمتعلق والطالب والمطلوب منه إلّا ان شيئا من هذه الخصوصيات لا دخل له في

٢٥١

حقيقة الطلب اصلا ، فهيئة الامر موضوعة لحقيقة وجود الطلب فقط ، والخصوصيات خارجة عن معناها ، وبعبارة اخرى الطبيعة منفكة عن الخصوصيات الفردية لا توجد في الخارج ابدا ، ولا شك ان حال تلك الخصوصيات حال اصل الطبيعة في عدم دخل شيء من الوجود والعدم في ماهيتها ، ولهذا يصح زيد موجود وزيد معدوم مثلا ، فاذا اضيف الوجود الى الطبيعة في الخارج فلا محالة يكون له اضافتان : اضافة الى اصل الطبيعة ، واخرى الى الخصوصيات الفردية ، ففيما نحن فيه قد الغى جهة اضافته الى الخصوصيات ووضع اللفظ له بلحاظ اضافته الى اصل الطبيعة ، فنقول : ان وجود اصل الطلب بل كل طبيعة وان كان لا يقبل الاتصاف بالكلية والجزئية ، لانه خارجي وهما من عوارض الذهني ، ولكن مرادنا بالكلية انه متى دخل صورته في الذهن تتصف بالكلية.

فان قلت : الماهية اذا اخذت متقيدة بحقيقة الوجود فهي جزئية ، لان الوجود مساوق للتشخص.

قلت ليس المعتبر شخص الوجود ، بل جامع الوجود ، ولا نسلّم ان الوجود مطلقا مساوق للتشخص : توضيحه ان تعدد افراد طبيعة واحدة كما لا يكون من قبل تخالفها في العوارض الشخصية ، ضرورة ان فرض تشاكلها في جميع تلك العوارض لا يخرجها عن التعدد ، كذلك لا يكون من قبل وجود اصل تلك الطبيعة ، اذ لو فرض عدم بقاء شيء سوى وجود اصل تلك الطبيعة بلا زيادة شيء عليه لما كان تعدد في البين بالبديهة ، وانما هذا التعدد من قبل امر آخر لا يعلمه إلّا الله تعالى ، فوجود اصل الطبيعة امر وجداني لا يقبل التعدد ويقبل الصدق على الكثيرين ، وبعبارة اخرى الوجدان شاهد قطعي بان الوجودات الخارجية بينها قدر مشترك ، وهو صرف الوجود ، وليست اشياء متباينة بالكنه بلا جامع لها اصلا بحيث كان اطلاق لفظ الوجود عليها اطلاقا للّفظ المشترك على معانيه ، وهذا الجامع معروض للكثرة في قولنا : الخبز كثير ، والماء كثير مثلا ، ضرورة ان كل فرد فرد لا يكون معروضا لها وكذا مجموع الافراد ومن المعلوم ان هذا الوصف له نفس امرية ويكون صدقا في مورد وكذبا في آخر ، وايضا لو علمت اجمالا بوجود زيد أو عمرو ، فكل منهما مشكوك الوجود فلو لم يكن بينهما جامع الوجود فما يكون متعلق علمك؟

اذا عرفت ذلك فالمدعى انه يمكن ان يلغى الواضع في وضع هيئة الامر مثلا تلك الخصوصيات الفردية وينظر الى نفس الطلب المجرد ويضع الهيئة له ، وهذا المفهوم اعني صرف الوجود يشترك مع الماهية في ان كلا منهما جامع ينتزعه العقل من الخارجيات ويجرّده عن الخصوصية ويكون وضع اللفظ بازائهما في حال التجريد ، ويفارقها في ان الخارج ظرف لوجود

٢٥٢

الماهية ولنفس الوجود لا لوجوده وإلّا تسلسل ، وفي ان الماهية ـ لكونها معرّاة عن الوجود بقسميه والعدم ـ تحصل وتوجد في الذهن ، والوجود ليس ظرفه الا الخارج وإلّا انقلب الذهن خارجا ، وانما يمكن تعقل صورة الوجود في مقام اخذ الجامع من الوجودات الخارجية.

(*١٢ ، ص ٣٨) قوله «دام ظله» لا تخرج معانيها بما هي معانيها عن كونها كلّيات «آه» وبالجملة كما ان العلة التكوينية لتحقق اصل الجامع لا يستند اليه الا تحقق اصل الجامع وتكون الخصوصيات مستندة الى علل أخر ، وكذلك العلة التشريعية ، مثلا الأمر بالوضوء لا يستند اليه الا تحقق اصل الوضوء ، امّا كونه بالماء الحارّ فمستند الى الدواعي النفسانية للعبد ، فكذلك الحال في مستند الامر مثلا ، فما يستند اليها هو الدلالة على اصل الايجاب واما الخصوصيات الأخر فمستفادة من دوال أخر.

(*١٣ ، ص ٤١) قوله «دام ظله» فلو اردنا تصحيح الاستعمال بهذا النحو من التعدد يلزم الدور «الخ» فان كونه لفظا وكونه مرادا نظير كونه مستعملا وكونه مستعملا فيه ، او كونه دالا ومدلولا ، وجميع ذلك انما يتحقق بعد تحقق الاستعمال ، فاذا توقف الاستعمال ايضا على ذلك لزم الدور.

وحاصل الاشكال في اتحاد الدال والمدلول يرجع الى امرين :

الاول اجتماع اللحاظين الاستقلالي والآلي في لحاظ واحد ، حيث ان لحاظ المحكي لحاظ استقلالي مصحح للحمل عليه وبه ، ولحاظ الحاكي فنائيّ غير مصحح لذلك ، وفي صورة الاتحاد يلزم اجتماع هذين اللحاظين المتنافيين في لحاظ واحد.

وتوهّم أن ايجاد اللفظ حيث انه من الافعال الاختياريّة ـ مسبوق بصورته الذهنية ، فهذا السبق يدفع الاشكال ، لان المحكي حينئذ وجوده الذهني والحاكي وجوده الخارجي فلا يجتمع اللحاظان.

مدفوع بانها ان لوحظت بوصف الذهنية لكان اللازم حينئذ الحكم عليه بما يناسب الصورة الذهنية ، ككونه كيف النفس ، ونحو ذلك ؛ ولو الغيت عنها هذه الصفة كانت عين ذي الصورة ، وحينئذ وان صح الحمل عليه بما يناسبه ؛ ككونه لفظا او مركبا من ثلاثة احرف ، إلّا انّه ارتفعت المغايرة من البين وبقى الاشكال.

الثاني اجتماع اللحاظين الفراغي واللافراغي في لحاظ واحد : اما الفراغي فلانه محتاج اليه لاجل الاستعمال ، اذ لا يتوجه الهمّ الى احضار امر في ذهن المخاطب الا بعد الفراغ عن اصل ثبوته ووجوده ، واما اللافراغي فلانه في مقام ايجاده ولا بد فيه من عدم الفراغ عن الوجود.

٢٥٣

ويمكن الجواب عن كلا الامرين : اما الاول فبكفاية التعدد الاعتباري اذ ليس مقام الاستعمال احوج الى الاثنينية من مقام الحمل ، والتعدد الاعتباري ـ كما في قولك زيد قائم ـ كاف للثاني ، فكذا الاول ، فان الافناء فعل النفس ، فالمغايرة الاعتبارية الحاصلة في ذلك العالم كاف لمقام الاستعمال ايضا ؛ وحينئذ نقول : لا اشكال في ان لوجود لفظة «ديز» جهتين : جهة اضافة الى الفاعل ، وجهة اضافة الى القابل فمن الحيثية الاولى نعبّر عنه بالايجاد ، ومن الحيثية الثانية نعبّر عنه بالوجود ، وهذان اعتباران متغايران مصححان لتخلل الفاء ولعناية العلية والمعلولية ، حتى يصح ان يقال : اوجدته فوجد ، ولا شك ان مقام الاستعمال وكون الشيء حاكيا ومحكيا لا يحتاج بازيد من مقام العلية والمعلولية الى التعدد والاثنينية ، وحيث كفى الاعتباران المذكوران للثاني فليكفيا للاول ايضا ، فالفاني هو وجود اللفظ بحيث انتسابه الى اللافظ ، والمفني فيه هو بحيث انتسابه الى ماهية اللفظ المخصوص.

واما الثاني فبأنّ النظر الفراغي على نحوين : الفراغ عن الوجود الثابت ، وهذا مناف مع مقام الايجاد ، والفراغ عن الوجود الذي سيثبت ، كما هو المتحقق في القضايا الحقيقية ، وهذا غير مناف معه وكاف لمرحلة الاستعمال ايضا ، كما لو اتى بلفظة «هذا» للاشارة الى موجود يثبت ويتكون في الخارج بنفس هذه اللفظة ، فان الوجدان شاهد بصحته ، وهذا نظير الاتيان بصيغة الماضي في مقام التعبير عن الامر المستقبل بملاحظة كونه محقق الوقوع ، فكما ان تحقق الوقوع في المستقبل مصحح للاتيان بصيغة المضي فكذلك مصحح لتحقق الاستعمال في مقامنا.

(*١٤ ، ص ٤١) قوله «دام ظله» لكن يمكن مع ذلك القول : بصحة قولنا : زيد لفظ او ثلاثي «الخ» ان قلت : الظاهر عدم صحة هذا الوجه ، وتوضيحه يحتاج الى تقديم مقدمتين :

اوليهما انه لا شك في انّ تركيب القضية لا يمكن إلّا في عالم الذهن بايقاع الحمل بين امرين ذهنيين في ظرف التقرر ، لوضوح اقتضاء الحمل وجود شيئين : احدهما موضوع ، والآخر محمول ، وصورة المحمول مجردة عن الموضوع ، ويقطع النظر عن وصفي الذهنية والتجريد ، ويحكم بان هذين الشيئين اللذين هما اثنان في ظرف التقرر واحدان في الخارج او في الذهن ، فكما يحتاج في تحقق القضية الى لحاظ الاتحاد اما خارجا واما ذهنا ليكون الحمل باعتباره ، كذلك لا محيص عن تجريد كل من الموضوع والمحمول عن الآخر ، وهو لا يتحقق في الخارج ، ضرورة كونهما فيه أمرا واحدا ، واذن فالموضوعية والمحمولية وصفان ذهنيان طارئان على المحل الذهني بلحاظ الحكاية عن الواقع ، لا على الخارجي بخارجيته ، فبمجرد تحقق زيد قائم في الخارج لا تتحقق القضية ما لم ترتب صورتها في ذهن ذاهن.

٢٥٤

والثانية انه لا بد ان يكون الموضوع منظورا اليه بالنظر الفراغي ، اعني ان يفرض مفروغ الوجود في موطنه من خارج او ذهن ، وان لم يكن موجودا واقعا فليفرض كذلك ـ كما في موضوع القضية الكاذبة ـ ضرورة ان ثبات شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له وبعد الفراغ عن نفسه ، ومفروغية كل شيء بحسبه ففي مثل «الانسان حيوان ناطق» او «زيد موجود» هي مفروغية الطبيعة المقرّرة بحسب ظرف التقرّر ، وفي مثل «زيد قائم» هي مفروغية الوجود الخارجي ، وفي مثل «علمى قليل» هي مفروغية الوجود الذهني.

اذا عرفت المقدمتين علمت ان زيدا في المثال لا يكون موضوعا من جهتين : إحداهما انه امر خارجي ، وقد مر في المقدمة الاولى ان الخارجي لا يتصف بالموضوعية. والثانية انه غير متصور بالتصور الفراغي بل بالتصور المقدمي للايجاد وهو غير كاف في الموضوع ، فلا بد ان يتصور ثانيا مفروغا عنه فيكون هذا المتصور الثاني موضوعا.

قلت : يمكن الجواب عن كلا الوجهين ، بان يقال ان ايجاده لا محالة حيث يكون فعلا اختياريا مسبوق بتصوره ، ويكون هذا التصور بعد الايجاد ايضا باقيا في الذهن ، فالحمل يقع بين هذا الوجود البقائي من تصوره وبين المحمول ، فلا يرد الوجه الاول ؛ وحيث ان متعلقه بعد الايجاد امر مفروغ الوجود اندفع الوجه الثاني ، والحاصل ان التصوّر قبل الوجود كان مقدمة للايجاد وغير كاف لمقام الحمل ، ولكن بعد الوجود يتصف بقاء ذلك التصور بالفراغ ، فيكفي حينئذ للحكم والحمل ، فتدبّر جيّدا.

(*١٥ ، ص ٧١) قوله «دام ظله» هذا في الجمل الخبرية واما الانشائيات «آه» وحاصل الكلام ان الاخبار والانشاء مشتركان في جهة ومفترقان من جهة : اما الجهة التي اشتركا فهي ان كلا منهما يحكي عن الصفة الخارجية التي خارجها النفس ، والكاشفية والأمارية التي هي شأن اللفظ جهة مشتركة بينهما وبين جميع الالفاظ الموضوعة ، ويفترق الانشاء والاخبار عن المعاني التصورية بان المعنى في الثانية هو المفهوم التصوري والصورة الذهنية التي هي الحاكية عن الخارج ونفس الامر ، مثل لفظ الطلب والتمني والاستفهام وغيرها ، واما الانشاءات والاخبارات فالمعنى فيها هو نفس الصفة بخارجيّتها وواقعها التي هي مصاديق مفاهيم الاخبار والطلب والتمني والترجي واقعا ، ويحمل هذه المفاهيم عليها بالحمل الشائع ، لكن لا تحمل بهذا الحمل المفاهيم المذكورة بقول مطلق الا على المصاديق الحقيقية النفس الامرية ، وهي الصفات النفسانية الخاصة ، وليست هي معاني للصيغ والانشاءات وانما معناها ايضا صفة نفسانية من سنخ تلك الصفات وتكون بجعل النفس ، والمفاهيم المذكورة تحمل عليها ايضا بهذا الحمل لكن مقيّدة بكونها انشائية ايقاعية فليفهم.

٢٥٥

واما الجهة التي يفترق فيها الاخبار والانشاء فهو ان الصفة النفسانية في الاخبار تكون من سنخ صفة القطع والجزم ، فكما انك لو اطلعت على قطع في شخص بقيام زيد كان هذا القطع حاكيا لك عن قيام زيد كذلك الصفة الاخبارية صفة نفسانية تحكي عما وراءها وهو الذي يعبر عنه بالحكم تارة وبالاخبار اخرى ، وهو عقد القلب من المتكلم على وقوع قيام زيد ، وايقاعه النسبة بين القيام وزيد ، فهذا الايقاع وعقد القلب : يحكي عن القيام مثلا ، كما ان صفة القطع كذلك ، ولو لم يكن هذا الحكم والايقاع لم يكن في البين حكاية ، ثم ان كان الخارج مطابقا لهذا الايقاع كان صدقا وإلّا كذبا ، كما ان القطع ان كان مطابقا للواقع لم يكن جهلا مركبا ، وإلّا كان جهلا مركّبا واما في الانشاء فسنخ الصفة النفسانية سنخ الارادة ، فكما ان الارادة المتعلقة بقيام زيد مثلا لا تحكي عن وقوع القيام في الخارج ، بل تقتضي وقوعه فيه فكذلك هذه الصفة المحكية بهيئة اضرب ايضا يكون من هذا القبيل.

فان قلت : ما ذكرت حق في مثل «زيد قائم» و «ليقم زيد» ولكن لا يتم في مثل «اطلب» الاخباري و «اطلب» الانشائي ، حيث ان الهيئة في الاول حاكية عن التجزّم بوقوع الطلب في موطنه وهو نفس المتكلم ، وهذا التجزم حاك عن هذا الطلب النفس الامري الخارجي ، ثم ان المحكي بهيئة «اطلب» الانشائي ايضا هو الصفة النفسانية التي تكون من مقولة الارادة ، وان شئت فعبّر عنه بالطلب الايقاعي ، وهذا الطلب الايقاعي ايضا يحكي عن الطلب الحقيقي الذي هو مصداق الطلب بالحمل الشائع ، فلم يتحقق فرق بين هذا الاخبار والانشاء ، حيث ان كلا منهما حاك عن الصفة النفسانية ، وتلك الصفة النفسانية حاكية عن وقوع مضمون الجملة في موطنه.

قلت : نعم لا اشكال في ثبوت الحكاية عن الطلب الواقعي للصفة النفسانية في كلتا هاتين القضيتين ، لكن الصفة المحكية باللفظ في إحداهما تكون من غير سنخ محكيتها ، وفي الاخرى تكون من سنخه ، فانّ المحكية بلفظ «اطلب» الاخباري هو التجزم ، وهو سنخ غير سنخ الطلب الواقعي الذي هو المحكي به ، والمحكي بلفظ «اطلب» الانشائي هو الطلب الايقاعي وهو متحد السنخ مع محكيّه الذي هو الطلب الحقيقي ، وهذا المقدار من الفرق كاف في امثال هذه القضايا التي يكون مضمونها من سنخ المعاني الانشائية ، مثل أتمنى ، وأترجي ، وأستفهم ، وأنهى ، وأمدح وأذم ، ونحوها ، اذا استعملت بطريق الاخبار معها اذا استعملت بطريق الانشاء.

(*١٦ ، ص ٧٧) قوله «دام عمره» وما قد يتوهم في التعبديات من انه قد يؤتى بالواجب بجميع ما اعتبر فيه ومع ذلك لم يسقط الامر لفقد التقرب الذي اعتبر في الغرض فهو بمعزل من الصواب «آه» فانّا اذا فرضنا تعلق الطلب بصرف وجود الطبيعة الذي هو ناقض العدم

٢٥٦

الاصلي ولو فرض ان الغرض الداعي الى الامر شيء اخصّ فاذا حصل صرف وجود الطبيعة فلا يعقل بقاء هذا الامر ، لانه يرجع الى طلب تحصيل الحاصل ، فان صرف الوجود الناقض للعدم بالنسبة الى الطبيعة لا يقبل التكرار ، فهو مع الوجود الشخصي الجزئي الحقيقي على السواء من هذه الجهة ، فكما انه لو امر بايجاد قتل زيد فقتله لا يمكن بقاء هذا الامر ، لان وجود هذا الفرد الشخصي من القتل لا يمكن تكراره ، فكذلك في المقام ، نعم لو امر بامر آخر بتحصيل الطبيعة واعطاء صرف الوجود اياها كان ممكنا لأنّ مرجعه الى ايجاد الطبيعة من كتم العدم ايضا ، فانها بملاحظة هذا الطلب الجديد لم يخرج من العدم الى الوجود وان خرج بملاحظة الطلب الاول ، والحاصل ان المعتبر خروج الطبيعة من العدم بعد الطلب ، فلا اعتبار بالوجود قبله ، فيمكن التكرار مع تعدد الطلب ولا يمكن بدونه ، فالقول ببقاء الطلب الواحد وعدم سقوطه مع حصول الطبيعة بعده بجميع قيودها المعتبرة في متعلق الطلب ليس إلّا طلبا للحاصل ، نعم يمكن ان يقال انه يستكشف من هذا الامر مع كون الغرض اخص انقداح طلب آخر في نفس المولى ، والحاصل نعلم ان له غرضا يكون بصدد اقتضاء تحصيله من العبد ، اما وجود الغرض فهو المفروض ، واما انقداح الاقتضاء في نفسه فبدلالة الامر الاول ، حيث انه لو لم يكن في نفسه الاقتضاء لما امر ، لكن هذا غير بقاء الامر الاول ، بل هو في الحقيقة امران ، غاية الامر ان مظهر احدهما اللفظ ومظهر الآخر حكم العقل والوجدان ، كما في صورة وجدان ولد المولى غريقا مع عدم التفات المولى (١).

ويمكن توجيه بقاء الامر الاول وعدم الحاجة الى امر آخر بتقريب آخر : وهو ان يقال : ان صيغة الامر تدل على طلب الطبيعة لا بصرف وجودها الناقض للعدم بل بوجودها الساري اللازم منه سراية الطلب الى كل فرد منها ، فينحل الى اوامر وموضوعات ، فعلى العبد ان يأتي بالوجود الثاني ايضا وكذا الثالث ، فصاعدا ، باقتضاء نفس الامر الاول ، لكن متى حصل الغرض كان مسقطا لسائر الاوامر المتعلقة بسائر الوجودات ، فان حصول الغرض ايضا مسقط للأمر كالامتثال ، كما في الواجب الكفائي ، حيث ان الكل مأمورون فكل مكلف مأمور بامر مستقل ولكن اتيان البعض يوجب حصول الغرض ، وبسببه يسقط الامر عن الباقين فهنا ايضا ما لم يحصل القيد الموجب لسقوط الغرض يجب الاتيان بالافراد باي مبلغ بلغت ، ومتى حصل سقط اوامر الباقي.

__________________

(١) هذا التوجيه نقله الاستاذ «دام ظله» عن استاذه المحقق المدقّق آغا ميرزا محمد تقى الشيرازى الحائرى دام عمره وتاييده (المؤلّف ، دام ظله العالى).

٢٥٧

وهذا وان كان وجها معقولا لتصور بقاء الامر الاول في التعبديات مع الاخلال بالقربة مع تصور سقوطه عند الاتيان بها ، لكن لا يلتزم بالمبنى قائله فانه يقول كما هو الحق : بدلالة الصيغة على مطلوبية صرف وجود الطبيعة لا وجودها الساري.

(*١٧ ، ص ٧٩) قوله «دام ظله» على عين المصلحة التي تقوم بالفعل الاختياري من دون تفاوت «آه» بان يكون هناك حقيقة واحدة كماهية الصلاة مطلوبة وكان مصداق هذه الطبيعة الواحدة بالنسبة الى اصناف الناس مختلفا ، فالاختلاف راجع الى صرف المصداق ، وإلّا فالماهية واحدة ، والخاصية واحدة ، كما هو الحاصل في صلاتي المسافر والحاضر.

(*١٨ ، ص ٧٩) قوله «دام ظله» لكن من غير سنخ تلك المصلحة القائمة بالفعل الاختياري «آه» بان كان حال الصلاة مع الوضوء والصلاة مع التيمم كحال الصلاة والصوم ، بحيث لو امكن اجتماع عنوانيهما في المكلف لكان كلاهما مطلوبا منه ، لكنه غير ممكن ، فلا يمكن ان يكون في حال واحد قادرا ومضطرا ، وهذا ايضا يمكن ان يكون مصلحة الاضطراري اهم من الاختياري ويمكن ان تكون مساوية ، وعلى تقدير الاهمية كون الزيادة واجب الاستيفاء وغير واجبة ، وعلى تقدير الوجوب كونه ممكن الاستيفاء وغير ممكنة ، فتبين ان الاقسام الاخيرة المذكورة بعد هذين القسمين جارية في كليهما ، لا في خصوص القسم الاول ، وهو صورة اشتمال الفعل الاضطراري على عين مصلحة الاختياري بلا تفاوت اصلا.

(*١٩ ، ص ٨٠) قوله «دام ظله» واما ما وقع بمقتضى النظر في ادلتها «آه» وليعلم ان في كلمات الفقهاء في هذا المقام تناقضا ، فانهم ذكروا ان المضطر لو عمل بما هو وظيفته في حال الاضطرار كفاه ذلك عن القضاء ، فلا يجب عليه اذا تمكن من الفعل التام الاختياري قضائه تداركا لما فات من وصف كماله ، ككون الصلاة مع الطهارة المائية ، وذكروا ايضا أنّه لو حصل لنفسه مقدمات الاضطرار كما لو اهرق مائه حتى يصير فاقد الماء اما في خصوص ما بعد دخول الوقت او مطلقا ولو قبل دخوله فقد اثم.

وانت خبير بان مقتضى الكلام الاول معلومية او احتمال ان تكون الصلاة مع الطهارة الترابية مثلا مشتملة على عين مصلحة الصلاة مع الطهارة المائية او مع زيادة في الثانية لا يجب استيفائها ، ومقتضى الكلام الثاني معلوميّة ان تكون مشتملة على مرتبة نازلة وتكون الزيادة واجب الاستيفاء وغير ممكنة بان يكون اتيان الناقص مفوّتا للمحلّ بالنسبة الى الزيادة.

فان قلت : مقتضى الكلام الاوّل ايضا وهو سقوط القضاء يمكن جمعه مع هذا الفرض ، ولا يتعين معه الاشتمال على عين مصلحة الاختياري.

قلت : لا شبهة في انه ليس لنا في البين مقدمة خارجية مع قطع النظر عن الادلة اللفظية

٢٥٨

ثابتة باجماع ونحوه ، وهي كون الاتيان بالناقص مفوّتا للمحل بالنسبة الى ادراك الزائد وبعد فرض هذا فلا بدّ من النظر الى الادلة وان المستفاد منها ما ذا؟ ولا يخفى ان مقتضى قوله عليه‌السلام : «اقض ما فات» بعمومه هو وجوب القضاء في كل مورد يصدق الفوت ، وبذلك يقع احتمال سقوط المحل عن القابلية وفوت محل التدارك ، بل يستكشف بقاء المحل ، إلّا اذا علم من مقدمة خارجية ، والمفروض في المقام انتفائها ، وحينئذ فلا يخفى صدق الفوت اذا علمنا بان في الصلاة مع الطهارة المائية وصفا زائدا هو فائت في الصلاة مع الطهارة الترابية ، وكذلك في سائر افراد الاضطرارية ، فان في كل منها جهة نقص بالنسبة الى الاختيارية ، فيصدق الفوت فيها من هذه الجهة ، فبمقتضى العموم المذكور يجب القضاء ولا يعتنى باحتمال تفويت المحل ، ولا شك انه لا اثم في تحصيل الاضطرار حينئذ ، واما ان شككنا في صدق الفوت بان احتملنا اشتمال الاضطراري على عين مصلحة الاختياري او علمنا عدم الصدق ، فان علمنا ذلك فلا قضاء ولا اثم في تحصيل الاضطرار ايضا ، اما في الثاني فواضح ، واما في الاول فلكون الشك في اصل التكليف بالنسبة الى وجوب القضاء وحرمة تحصيل الاضطرار ، وأصالة البراءة تقتضى الاباحة في كليهما.

فثبت ان الجمع بين عدم القضاء والاثم في تحصيل الاضطرار لا يمكن إلّا مع مقدمة خارجية مثبتة لكون الاضطراري مفوتا ومسقطا للمحل عن قابلية تدارك ما فات ، كما في الصلاة في آخر الوقت مع ادراك ركعة من الوقت ، فانه آثم ولا قضاء ، فان النقيصة هنا من اصل فوت الوقت ولا يمكن تداركه باعادة الوقت فلا يمكن القضاء ، فلهذا لا يجب ولكنه يأثم لتفويته المصلحة اللزومية الجائية من قبل اتيان بقية الصلاة في الوقت.

وقد تنبه لما ذكرنا العالم الجليل الحاج ميرزا محمّد حسين نجل الحاج ميرزا خليل «قدّس سرهما» في حاشية نجاة العباد في مسألة من اجنب نفسه في شهر رمضان قبل طلوع الفجر مع العلم بضيق الوقت عن ادراك الغسل وسعته لادراك التيمم ، فاختار الماتن انه عصى وصحّ الصوم المعين ، فعلّق «قدس‌سره» هنا بقوله : «الظاهر عدم كونه عاصيا» وكذا في مسألة ما لو ارتفع حدث الحيض والنفاس في الليل فاخّرت الغسل بسوء اختيارها حتى ضاق الوقت إلّا عن التيمم ، فاختار الماتن أنها تنتقل الى التيمم مع الاثم ، وعلق هو «قدس‌سره» بقوله : «لا اثم كما تقدم».

(*٢٠ ، ص ٨١) قوله «دام ظله» فحالها حال التكاليف المتعلقة بالافعال في حال الاضطرار «آه» لا يخفى انه لا يجرى هنا وجهان من الوجوه المذكورة في الواقعيات الثانوية ، وهما كون امتثال الامر الظاهري مشتملا على مرتبة ناقصة من مصلحة الواقع مع وجوب

٢٥٩

استيفاء الزائد إمّا مع امكان الاستيفاء ، او بدونه ، وذلك لأن المبنى وهو القول بالسببية والموضوعية انما قيل به في جواب اشكال ابن قبة من لزوم تفويت المصلحة والالقاء في المفسدة ، وتحليل الحرام وتحريم الحلال ، فاجيب بان ما فات من مصلحة الواقع متدارك بمصلحة نفس سلوك الامارة ، وما اوقع فيه من مفسدة الواقع متدارك ايضا بمصلحة السلوك ، ولا يخفى انه مع نقصان مصلحة السلوك عن مصلحة الواقع على وجه كان الزيادة بالغة حدّ الوجوب لا معنى للتدارك ويبقى المحاذير بحالها فلا بد اما من المساواة او اهمية مصلحة السلوك عما في الواقع.

ولا يجري ايضا احتمال الاشتمال على مصلحة مباينة لما في الواقع ، فانه خلاف ما يلتزمون به من التخيير في موارد الطرق الظاهرية بين تحصيل العلم بالواقع وبين العمل بمؤدى الطريق. ولو كان الثاني مشتملا على مصلحة ملزمة مباينة لما في الواقع لكان المتعين تعيين كليهما على المكلف ، فيعمل او لا بمؤدى الطريق ثم يصير بصدد تحصيل العلم بالواقع.

فتحصّل ان الوجه الذي يندفع به اشكال ابن قبة ويستقيم معه ما يلتزمون به من التخيير منحصر في وجه واحد وهو اشتمال مؤدى الطريق على عين مصلحة الواقع بتمامها او بمقدار لزوم الاستيفاء ، هذا كله على تقدير ان يكون اختيار السببية للتفصّي عن اشكال ابن قبة.

وامّا ان كان من جهة الاستظهار من الدليل فيدور تعيين احد الوجوه مدار الاستظهار منه.

(*٢١ ، ص ٨٢) قوله «دام ظله» وهو بعد العلم بالثبوت مورد للاشتغال «آه» انما يرجع الى هذا الاصل ويحتاج اليه لو لم يكن في ادلة الواقعيات اطلاق متعرض لحال ما اذا احتمل فوت المحل لها ، بان كان المفاد ـ فيما اذا قام الامارة على عدم وجوب السورة مثلا وكان الواقع وجوبها ـ ان الصلاة مع السورة واجبة حتى عند احتمال عدم بقاء المحل لها ، فيستكشف بهذا الاطلاق بقاء المحل وعدم فوته فلا بد من فرض عدم الاطلاق كذلك حتى يرجع الى اصالة الاشتغال.

والحق انّ لادلة الواقعيات اطلاقا بالنسبة الى فعل ما ادى اليه الامارة وعدمه فالدال على عدم الاجزاء اوّلا هو الاطلاق ، وتنزلا هو الاصل.

فان قلت : ما الفرق بين المقام والواقعيات الثانوية حيث قلت هناك : لو شككنا عند ارتفاع العذر في بقاء المحل وعدمه يرجع الى اصالة البراءة ، وهنا تقول : لو شككنا في ذلك عند ارتفاع الجهل بالواقع فالمرجع اصالة الاشتغال.

قلت : الفرق انه هنا يكون الامر الواقعي في حال الجهل به الذي هو موضوع الظاهري

٢٦٠