درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

كربلاء المشرّفة ، وأقام بها حوالي ثمان سنوات ، وأكمل بقيّة المباحث الاصوليّة طيلة إقامته هناك وكان ناظرا في تلك المباحث إلى ما أفاده المحقّق الخراساني في الكفاية وكانت مطبوعة حينذاك ، ثمّ هاجر هجرة ثانية إلى إيران بلدة أراك ، بدعوة العلّامة الحجّة الحاج السيّد إسماعيل ابن المرحوم آية الله الحاجّ الآغا محسن الأراكي «قدس‌سرهما» وأنشأ مجدّدا حوزة علميّة ، وأفاد إفادات كثيرة مدة ثمان سنوات تقريبا ، ثمّ هاجر في سنة ١٣٤٠ ه‍. ق. إلى بلدة قم المشرّفة ، وأسّس بها الحوزة العلميّة المباركة.

حوزته في قم المقدّسة : وقال صاحب أعيان الشيعة : ثمّ زار (أي الشيخ عبد الكريم رحمه‌الله) مدينة قم المباركة ، فاتّفقت رغبات جماعة من أهلها وغيرها على إقامته فيها ، فسألوه ذلك ، فأجابهم وبقى هناك مشتغلا بالتدريس وسائر الامور الدينيّة ، فتقاطر إليه الطلّاب من كلّ حدب وصوب ، وغصّت بهم المدارس حتى زاد عدد الطلّاب والعلماء على الألف ، وقام بأعباء تنظيم دراستهم وإعاشتهم ، واتّخذ في تربية الطلبة وتعليمهم مسلكا صحيحا على أتقن نظام وأحسن أسلوب ، حاز شيئا كثيرا من القبول عند العامّة والخاصّة (١).

وفي «طبقات أعلام الشيعة» : هبط (المترجم له) مدينة قم المشرّفة في شهر رجب سنة ١٣٤٠ ه‍ ، فنظّم من كان فيها من طلّاب العلم تنظيما عاليا وأعلن عن عزمه على جعلها مركزا علميّا يكون له شأنه في خدمة الإسلام وإشادة دعائمه ، وطفقت الحقوق الشرعيّة والهبات تتوالى عليه من شتى مدن إيران فوسّع العطاء على الطّلاب والعلماء وبذل عليهم بسخاء ، وسنّ نظاما للدراسة وقرّر ترتيبا مقبولا للإشراف على تعليم الطلّاب وإجراء الامتحان السنوي ، وأكثر من الترغيب بغية اجتذاب الناس وإدخال من يرغب في الحوزة العلمية ، والناس ـ بحمد الله ـ منذ ذلك الحين ذو عقيدة راسخة وإيمان ثابت واهتمام بشأن الدين ورجاله واحترام لحملته وطلّابه ، وقد أبدى في كل ذلك كياسة وكفاءة ، ودلّل على عقليّة جبّارة ، ونفس كبيرة ، وصدر رحب ولم يكن ليكنز الأموال الطائلة من الحقوق الشرعيّة عنده وتحت يده ، بل ائتمن بعض

__________________

(١) ـ أعيان الشيعة : ج ٨ ، ص ٤٢ ، طبعة دار التعارف.

٢١

أصحاب المتاجر من الصلحاء عليها ، وكان يصدر أمره بتوزيعها من قبله على مستحقّيها وعلى سائر المشاريع المخصّصة لها (١).

قال آية الله العظمى الشيخ الأراكي دام ظلّه : أنا أعتقد أنّ حدوث الحوزة العلميّة بقم ، وإجراء ما أخبر به الائمة المعصومون «عليهم‌السلام» من غروب العلم من الكوفة وطلوعه في قم على يد المرحوم الشيخ عبد الكريم كان من بركات وعنايات سيّد الشهداء (عليه‌السلام). وحكى في ذلك قصّة عجيبة ، والقصّة هكذا : حكي عن الحجّة الحاجّ آغا حسن فريد عن أبيه الحجّة الحاجّ آغا مصطفى زميل المترجم له «قدس‌سرهما» أنّ المترجم له «رحمه‌الله» رأى ليلة ـ حينما كان قاطنا في كربلاء قبل هجرته الثانية إلى أراك وقم ـ أنّه ناداه مناد لا يرى شخصه : إنّك ستموت بعد ثلاثة أو عشرة أيّام على الخلاف في النقل ، ثمّ إنّه «رحمه‌الله» لم يعتن بذلك ونسيه ، وكان مشتغلا باشتغالاته العلميّة ، حتّى إذا كان يوم الخميس خرج مع عدّة من زملائه إلى البساتين التي حول كربلاء ولم يلبث هناك شيئا حتى أخذه البرد الشديد وارتعدت فرائصه ولم يمنعه عن البرد لبس الألبسة ، فأركبوه ووصل البيت بشق النفس وهو على أردإ حال. ثمّ اشتدّ مرضه حينا بعد حين حتّى يئسوا منه ، ووجد نفسه في حالة الاحتضار إذ جاءه الملك الموكّل بقبض الأرواح لقبض روحه ، فتذكر ما رأى في المنام ، فتوجّه في تلك الحالة إلى حضرة سيد الشهداء (عليه‌السلام) قائلا : يا أبا عبد الله أعلم أنّ الموت حقّ ولكن يديّ صفر من الزاد ليوم المعاد. ألتمس منك الدعاء لتمديد عمري إلى أن لمقرّي واعدّ له عدّة ، فجاء ملك آخر وقال للأول : ارفع يدك عنه فقد مدّ في عمره بدعوة أبى عبد الله الحسين ، فوجد في نفسه قوة وطلب الماء وفرح أهله والحاضرون حوله ممّا رأوه فرحا شديدا ، بعد ما كانوا قبل لحظات يبكون عليه. ثمّ زال المرض عنه بسرعة من غير معالجة.

وكان الشيخ الحائري رحمه‌الله متمسكا بالائمة الأطهار (عليهم‌السلام) ، وكان في مقدّمة من خرج من أهل العلم بأمر السيّد الشيرازي في أيّام عاشوراء ، وهو يردد أشعارا

__________________

(١) ـ طبقات أعلام الشيعة : ج ٣ ، ص ١١٥٩ ، ١١٦٠.

٢٢

عليهم كان مطلعها :

يا علي المرتضى غوث الحجى كهف الورى

قم مغيثا ، آلك الأمجاد عن حد الظبى

فرأى الإمام المظلوم أبا عبد الله (عليه‌السلام) ، فأعطاه شيئا من السكّر (نقل) ، وكان عذوبة بيانه في الدرس وحلاوة محضره في خارج الدرس من آثار تلك العناية الحسينيّة. «انتهى كلام آية الله العظمى الأراكي».

سمت مكانة الحائري في نفوس الشعب الايرانى المسلم وغيره ، وغطّت شهرته علماء ايران على الإطلاق ، وصارت له حوزة علميّة يعتدّ بها ، وكيان تعقد عليه الآمال ، وصار كعبة الوفّاد ، وأصبحت قم شرعة الوارد ونجعة الرائد ، وثنيت له وسادة الزعامة والقيت إليه مقاليد الامور ، وأناط به أهل الحلّ والعقد ثقتهم ، وأجمعوا على تقديمه وتعظيمه. وقد اتفقت بعض الوقائع والحوادث في أوائل هجرته إلى قم ساعدت على دعم شخصيته وبناء كيانه وإبرازه إلى الوجود كزعيم روحي له وزنه ومقامه.

إبعاد علماء العراق : منها : أنّ المصلح الكبير الحجّة المرحوم الشيخ مهدي الخالصي عند ما احتجّ على الاستكبار البريطاني لعدم وفائه بما قطع على نفسه من الوعود للشعب العراقي بالاستقلال نفته الحكومة العراقيّة في ١٢ ذي القعدة سنة ١٣٤١ ه‍ إلى ايران ، فنهض العلماء تأييدا له واحتجّوا على تبعيده فقامت الحكومة الملكية العميلة بنفي مجموعة منهم أيضا ، منهم الحجج السيّد أبو الحسن الاصفهاني ، والميرزا محمّد حسين النائيني ، والسيّد على الشهرستاني ، والسيّد عبد الحسين الحجّة وغيرهم من العلماء ، واحتجّ آخرون على نفي هؤلاء العلماء فخرجوا من العراق مغضبين.

زار الشيخ الخالصي مدينة قم ورحل منها إلى خراسان فسكنها إلى وفاته ، وتفرّق الآخرون في البلاد. أمّا الاصفهاني والنائيني فقد كانا يومئذ أكبر علماء النجف وأشهر مراجعها فاستقبلا من الحدود من قبل مختلف طبقات الشعب ، وفي طليعتهم العلماء ، وأمر الحائري رجال العلم باستقبالهم على مسافة من قم ، وجاء أحمد شاه القاجاري إلى قم ومعه رجال دولته ، فصار دار الحائري مهبطا لهم.

[قال آية الله العظمى الأراكي : «انّما جاء أحمد شاه إلى قم قبل مجيئهما ، وأمّا عند مجيئهما فقد جاء من قبله رضا خان وكان حينذاك رئيس الوزراء لأحمد»].

٢٣

تولّى البهلوي بعد القاجاريّين السلطة ، وكان لتولّى البهلوي تأثير بارز في تقليص جهود الحائري والحدّ من نشاطه ، إذ رافقت ذلك أحداث ووقائع جسام ، وكانت سيرة البهلوي الخائن واضحة في عزمه الأكيد وتصميمه على القضاء على الدين ومحو كلّ أثر لرجاله وشعائره ورسومه ، فقد سجن العلماء الكبار ونفى عددا منهم ودسّ السمّ لآخرين وفعل الأفاعيل من هذا القبيل. كما كان الشيخ الحائري أيضا يعرف حقيقة أمر السلطة الّتي قفزت من قزوين إلى دست الحكم في طهران بغتة ؛ لقد كان يعلم جيّدا أنّ السلطة كانت تستمدّ قوّتها من الأجانب الذين لا همّ لهم إلا القضاء على الدّين الإسلامي الحنيف ومحو تعاليمه وقبر دستوره المقدّس «القرآن الكريم» فهم يطالبون بثاراتهم والخسائر الّتي منوا بها في الحروب الصليبيّة التي شنّوها ضد المسلمين ، كما ظهر للعالم صدق هذه الحقيقة بعد عشرين عاما تقريبا عند ما نحّي البهلوي عن الحكم وابعد في سنة ١٣٦١ ه‍.

أجل ، لقد كان الحائري يعرف خفايا الامور وأسرارها الدقيقة ، ويعلم أنّ المخطّط الذي رسمه أسياد ذلك الطاغية سينفّذ لا محالة. وكان يرى نفسه واحدا من المراجع الّذين لا يتورع الطاغية من سجنهم أو دس السمّ لهم ، أو خنقهم في غربة النفي أو قعر السجون.

وكانت هناك حوزات علميّة صغيرة في خراسان وطهران وتبريز وأصفهان وغيرها من بلاد إيران ، تمكّن الحاكمون من تفريق شملها والقضاء عليها ، وبقى همّهم منصرفا للقضاء على حوزة قم. إلا أنّ حنكة الحائري وإخوانه وصبرهم على المكاره وتحمّلهم للصّعاب قد حال دون ذلك ، وقد كان في قم على عهد الحائري من العلماء الكبار عدد غير قليل ؛ منهم : الشيخ أبو القاسم الكبير ، والشيخ أبو القاسم الصغير ، والميرزا جواد الملكي ، والسيّد حسين الكوچه حرمي ، والميرزا صادق التبريزي ، والسيّد فخر الدّين القمّي (شيخ الإسلام) ، والميرزا محمّد الكبير ، والميرزا محمّد الفيض ، والشيخ مهدي القمّي ، والسيّد محمّد باقر القزويني ، والشيخ محمّد تقي الإشراقي ، والشيخ محمّد تقي البافقي اليزدي ، والشيخ محمّد علي الحائري ، والشيخ نور الله الأصفهاني ، وعشرات غيرهم ممّن أسهم بقسط كبير في التدريس وفي مساندة ودعم الشيخ الحائري ومشايعته في الرأي. وقد تعرّض معظم من ذكرناهم لصنوف الإرهاب والتعذيب من لدن الملك

٢٤

الجاهل وحاشيته وحكومته الجائرة ، كلّ ذلك من أجل هدم ما بناه الشيخ وإضعافه. وكان الشيخ واثقا بأنّه هو المقصود ، وانّ تلك الاستفزازات تستهدف شخصه ، فقد كانوا يستفزّونه بين الآونة والاخرى لعلهم يجدون ذريعة يحتجون بها عليه ، ليواجه المصير المرسوم ، في وقت لا تتوفر فيه إمكانيات المواجهة والتصدي لكنّه كان يقظا على ذلك وغير غافل عنه.

وفي ذلك الوقت ، وتلك الظروف السوداء قاوم هذا العالم المخلص ديكتاتوريّة الملك وإباحيته ، ووقف في وجهه مجنّدا كلّ إمكانياته وقابلياته ، موطنا نفسه للعظام ، ومضحّيا في سبيل دعوته بكل ما يملك. ولم تفتّ في عضده أو توهّن من عزمه أو تسرّب اليأس والقنوط إلى نفسه كلّ تلك المحاولات اللئيمة ، والمساعي الخبيثة التي بذلها سماسرة السوء وزبانية الشرّ ، وأعداء الدّين والخير والفضيلة ، وهكذا بقي يقاوم كلّ ما يعترض طريقه من عقبات وعراقيل ، حتّى كلّل سعيه بالنجاح وانتصر ، وباء خصومه بالصفقة الخاسرة ، وعادوا يجرّون أذيال الفشل (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ)(١).

أجل ؛ في هذه الظروف كان الحائري يعمل على توسيع دائرة الحوزة العلميّة في قم ونشر الدعوة ودعم هيكل الدّين وإشادة مجد الإسلام بتنفيذ أحكامه وتطبيق نظامه. وهكذا نمت البذرة الصالحة في تلك التربة الطيّبة ، واتسعت الحوزة العلميّة اتساعا غير منتظر. وما مضت السنوات والأعوام حتّى ازدهرت الحياة الدينيّة والثقافيّة ، وتعدّدت الهيئات العلميّة. وإذا بالكيان الذي شادته البطولات الخارقة والهمم العالية ، ضخما جبارا يضاهي الثريّا رفعة وشموخا.

كان «قدس‌سره» كثير البرّ بالطلّاب والعلماء ، شديد العطف عليهم والعناية بهم ، ويرعى الصغير والكبير. وبالرغم من تعيينه لموزّعي الرواتب وتوكيله للثقات من أصحابه وتلامذته للقيام باللوازم والاستفسار عن النواقص ، مع ذلك كان يتولّى بعض الامور بشخصه ويباشرها بنفسه. وكان أعدّ لهم كلّ شيء قد يحتاجون إليه ، حتّى أنّه

__________________

(١) ـ سورة فصّلت : الآية ١٦.

٢٥

بنى مستشفى خاصّا لطلاب العلم (١) ليشعرهم بالكيان المستقلّ والكرامة الموفورة التي كانوا يتمتّعون بها. وفي الوقت الّذي كان فيه رجال السياسة والامراء والقادة والتجّار يتهافتون على بيته للثم أنامله وعرض أنفسهم لخدمته ، كان «رحمه‌الله» يدور على غرف الطلاب بمفرده للاطّلاع على أحوالهم وأساليب معيشتهم ، والوقوف على مدى عنايتهم بالدرس والمطالعة. فكان يحثّ الكسالى ويشوّقهم ، ويمدح النشطين ، ويمنح المتفوّقين في الامتحان جوائز قيّمة. وكان يوصي الكلّ بالإخلاص في العمل والالتزام بتقوى الله تعالى. ولم يسمع عنه ـ رغم كثرة من كان يعولهم من الطلاب ـ أنّه ردّ طالبا ، أو كسر خاطرا ، أو أخجل إنسانا ، ولذلك كان الكلّ ينظرون إليه نظرتهم إلى الأب الرءوف.

لما ذا لم يقم بالثورة؟

كان الحائري من أشدّ المسلمين غيرة على نواميس الشرع الشريف ، وقد تفانى في خدمة الدين منذ نعومة أظفاره ، وبذل نفسه ونفيسه في سبيل ذلك ، ولاقى من المتاعب والأذى ما ألمحنا إلى بعضه. ولم يكن فيه جبن ولا تخاذل ، وقد كان يرى بام عينيه ما يجري على مقربة منه ، ويسمع أصوات الاستنكار مرتفعة من كلّ جانب ، ولكنّه كان يرى نفسه واحدا من سائر المراجع ، لو قام بالثورة في وجه الطاغية لما اختلف مصيره عن زملائه ، ولذلك رأى أن صبره وسكوته أفضل ما داموا قد تركوه لحاله ، وأنّ ذلك أبقى للعمل الذي أوقف نفسه له ، وأنفع للكيان العلمي الّذي بدأ يرسخ ويقرب من الكمال ، وكان عمله هذا عين الصواب ، والامور مرهونة باوقاتها. وهكذا ظلّ كالطود الأشمّ يدير ذلك الكيان ، ويدرأ عنه المخاطر ، ويردّ عنه غائلة العدوّ رغم الكوارث والهنابث التي كانت تنزل بالشعب الإيراني المسلم على يد حاكمه الجبّار يوما بعد يوم ، ولا سيّما ما ينزل برجال الإصلاح والصلاح ، فكان يرى كبّار العلماء من

__________________

(١) ـ وذلك في عام ١٣٥٣ ه‍. أى قبل وفاته بعامين ، من ثلث المرحوم سهام الدّولة. ولذلك سمّي : مستشفى السهامية ، كما في تاريخ قم : صفحة ٢٧٦ ويقع بين مستشفى فاطميّة وثانوية الإمام الصادق (عليه‌السلام).

٢٦

زملائه يعانون آلام النفي والسجن ، ويعاملون بمنتهى القسوة ، ويدسّ لهم السمّ في المنفى ويموتون خنقا في السجون (١). ويرى السفور وقد فرض على المحجّبات وذوات العفّة والنجابة فرضا. وطلّاب العلوم الدينيّة يساقون إلى الخدمة العسكريّة زرافات ووحدانا ، والخمور تباع علنا حتّى في المدن المقدّسة كخراسان وقم وبالقرب من المراقد الطاهرة. وعزاء سيّد الشهداء وزيارة قبور آل محمّد بالعراق محظورة يعاقب عليها ، وأخيرا واقعة خراسان التي قتل فيها الوف من العلماء والسادة والأشراف والزوّار والغرباء في «مسجد گوهرشاد» الملاصق لحرم الإمام الرضا (عليه‌السلام) حيث وجّهت المدافع إليهم فدفنوهم بدمائهم ظلما وعدوانا ... لقد كان يرى ذلك كلّه بعينه أو يسمعه وقلبه يقطر دما ، لأنه لا يستطيع دفع الضرّ ، وكانوا ـ مع ذلك ـ يبدون له الاحترام ظاهرا ويجاملونه ، وكان هو يحافظ على الشكليات ليدفع بها الشرّ عن الباقين في بعض الحالات (٢).

وقال السيّد الأمين : «نزلنا في داره سنة ١٣٥٣ في قم ، فأنابنا عنه في صلاة الجماعة في الصحن الشريف مدة مقامنا بقم. وكان في مدرسته في قم نحو من ٩٠٠ طالب ، يجري على أكثرهم الأرزاق. وقد انحصرت الرئاسة العلميّة فيه في وقته في بلاد إيران وقلّد فيها. عاشرناه مدّة مقامنا عنده فوجدناه رجلا قد ملئ عقلا وكياسة وعلما وفضلا ، ومن وفور عقله أنّ الأموال كانت تجبى إليه من أقاصي ايران فيضعها عند بعض التجار ويصرفها على الطلبة بواسطة ذلك التاجر ، ويأخذ لنفسه معاشا معيّنا منها ، وهذا دليل على وفور عقله. وكان قد جاء سيل إلى قم قبيل ورودنا إليها فأتلفت دورا كثيرة تقدّر بثلاثة آلاف دار ؛ فأرسل البرقيّات إلى كافّة جهات إيران بطلب الاعانات. فجاءه من الشاه من طهران عشرة آلاف تومان أحضرها الرسول ونحن على الغداء فلم يمسّها ، وقال له : ادفعها للتاجر الفلاني ، واختار لجنة تألّفت من حاكم البلد وجماعة من وجهائها تجتمع كلّ ليلة برئاسته للنظر في كيفيّة توزيع الاعانات» (٣).

__________________

(١) ـ كالشهيد السيّد حسن المدرّس الذي سمّوه ثم خنقوه بعمامته.

(٢) ـ طبقات اعلام الشيعة : ج ٣ ص ١١٦٠ ـ ١١٦٥.

(٣) ـ اعيان الشيعة : ج ٨ ، ص ٤٢ ، ط دار التعارف.

٢٧

ولعلّ قبوله لإعانة الشاه واشراكه حاكم البلد في لجنة توزيع الإعانات من تلك الشكليّات التي قال عنها آغا بزرك الطهراني انّه كان يحافظ عليها ليدفع بها الشرّ عن الباقين في بعض الحالات ، ولهذا كانوا يبدون له الاحترام ويجاملونه في الظاهر.

وفاته ، وآثاره :

قال آغا بزرك الطهراني : وصار يرغب للعزلة وينزوي عن الناس ، لأنّه يرى ما يحلّ بهم ولا يقدر على مساعدتهم ، وهكذا كان حتّى مرض وتغلّبت عليه العوارض فتوفّى في ليلة السبت ١٧ ذي القعدة الحرام سنة ١٣٥٥ ه‍ فثلم الاسلام بموته ، وخسر المسلمون به زعيما كبيرا وركنا ركينا ، وداخل النفوس من الخوف والهلع ما لا مزيد عليه ؛ إذ كانوا يعتصمون به ويستظلّون بظلّه ، وقد جرى له تشييع عظيم قلّ نظيره. ودفن في رواق حرم فاطمة (عليها‌السلام) بقم ، حيث مقبرته المعروفة اليوم. وقد اتّجهت نيّة الحاكمين إلى محاربة الهيئة العلميّة منذ اللحظات الاولى لموته ، فقد عمدوا إلى تفريق المشيّعين بسرعة ، ثمّ منعوا من إقامة الفواتح عليه علنا ، فكانت تقام في الزوايا والبيوت شهورا.

وترك الحائري من الآثار :

كتاب الصلاة في الفقه ، والتقريرات في اصول الفقه من بحث استاذه الفشاركي ، وقد استخرج منه كتابه الآخر درر الاصول (١) ، وهو حاو لمباحث الاصول برمّتها ما عدا الاجتهاد والتقليد ، ويقال له : درر الفوائد أيضا. وقد طبع مجلده الأوّل في سنة ١٣٣٧ ه‍ والثاني في سنة ١٣٣٨ ه‍ ، وهو هذا الكتاب الّذي نقدّم له.

__________________

(١) ـ وقد ذكر المرحوم العلامة الشيخ محمد رضا الطبسي على ظهر نسخة من الكتاب ما هذا لفظه : «سمعت منه «طاب ثراه» : أن الجزء الأول استفادة من مجلس السيد المرحوم العلامة السيد محمد الفشاركي الاصفهاني ، والجزء الثاني استفادة من مجلس المحقق المرحوم الآخوند الخراساني صاحب الكفاية «أعلى الله مقامهم» وكان «ره» يذكر الآخوند في الدرس بالتعظيم والتجليل».

٢٨

أولاده :

قال : وله من الأولاد : الشيخ مرتضى ، وهو أحد علماء قم المعروفين (١). والشيخ مهدي ، وقد أرسله المرحوم السيّد البروجردي «قدس‌سره» وكيلا عنه إلى واشنطن بالولايات المتحدة الأمريكيّة مرشدا للمسلمين هناك (٢).

مصادر ترجمته :

قال : وقد ذكر المترجم له وكتب في ترجمة أحواله ورحلاته ورئاسته للحوزة العلميّة مفصّلا صاحب «آئينه دانشوران» المطبوع جزؤه الأوّل في سنة ١٣٥٣ ه‍.

وألّف الفاضل الشيخ محمّد الرازي كتابه «آثار الحجّة ـ يا ـ تاريخ ودائرة المعارف حوزه علميّه قم» في جزءين طبعا في سنة ١٣٧٣ و ١٣٧٤ ه‍ خصّ الجزء الأوّل به وبسيرته وبزملائه إلى وفاته ، والثاني بالسيّد البروجردي وأعماله وتلامذته» (٣). وأرّخ وفاته الحجّة السيّد صدر الدّين الصدر «قدس‌سره» بأبيات نحتت على صخرة قبره قال فيها :

عبد الكريم آية الله قضى

وانحلّ من سلك العلوم عقده

أجدب ربع العمر بعد خصبه

وهدّ أركان المعاني فقده

كان لأهل العلم خير والد

وبعده أمست يتامى ولده

كوكب سعد سعد العلم به

دهرا وغاب اليوم عنه سعده

في شهر ذي القعدة غاله الردى

بسهمه يا ليت شلّت يده

في حرم الائمّة الأطهار في

شهر الحرام كيف حلّ صيده

دعاه مولاه فقل مؤرخا

(لدى الكريم حلّ ضيفا عبده)(١٣٥٥ ه‍)

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) ـ المتوفّى في ٢٤ / ٦ / ١٤٠٧ ه‍. ق ، وقد نعاه الإمام الخميني ـ أطال الله عمره الشريف ـ.

(٢) ـ عاد إلى طهران وهو بها اليوم يكتب ويدرّس احيانا في جامعة طهران في الفلسفة الإسلامية.

(٣) ـ طبقات اعلام الشيعة : ج ٣ ، ص ١١٦٧.

٢٩
٣٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وبه نستعين

الحمد لله الذي علّمنا معالم الدين ومعارج اليقين ، وأنار قلوبنا بلوامع السنّة والكتاب المبين ، ووفّقنا لتمهيد القواعد والقوانين لاستنباط أحكام سيّد المرسلين ، والصّلاة والسّلام على أشرف سفرائه المقرّبين محمّد خاتم النبيّين وعلى آله الطيّبين الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

أمّا بعد : فيقول العبد المذنب المستجير برحمة ربّه الكريم عبد الكريم الحائريّ غفر ذنوبه ، وستر عيوبه : لمّا صنّفت في سالف الزمان تصنيفا شريفا وتأليفا منيفا في علم الاصول ، وأودعت فيه غالب مسائلها المهمّة ، مراعيا فيه غاية الإيجاز والاختصار ، مع التوضيح والتنقيح ببيانات شافية وعبارات وافية ، بحيث يكون سهل التناول لطالبه ، مجتنبا عن ذكر ما لا ثمرة فيه وسمّيته ب «درر الفوائد» فجدّدت النظر فيه ، فألحقت به ما خطر ببالي الفاتر وفكري القاصر أخيرا ، ممّا اختلف فيه رأيي ، وأرجو من الله أن يكون نافعا لإخواني من أهل العلم ، وأن يجعله خير الزاد ليوم المعاد.

[تعريف علم الاصول]

فاعلم أن علم الاصول هو العلم بالقواعد الممهّدة لكشف حال الأحكام (١)

__________________

(١) المراد بالأحكام هو الأحكام الكلّيّة ، فلا ينتقض بالاصول الجارية في الشبهات الموضوعية (منه) دام ظلّه.

٣١

الواقعية المتعلّقة بأفعال المكلّفين (*١) ، سواء تقع في طريق العلم بها ، كما في بعض القواعد العقلية ، أو تكون موجبة للعلم بتنجزها على تقدير الثبوت ، أو تكون موجبة للعلم بسقوط العقاب كذلك ولعل هذا أحسن مما هو المعروف : من أنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية ، لاستلزامه الالتزام بالاستطراد في بعض المسائل المهمة ، مثل مسائل الاصول العملية ومسألة حجية الظن في حال الانسداد بناء على الحكومة ، لعدم تمهّدها لاستنباط الأحكام ، كما هو واضح.

وانما قيدنا القواعد بكونها الممهّدة لكشف حال الأحكام ، لخروج مثل علم النحو والصرف وامثالهما مما احتيج إليها في طريق كشف حال الأحكام وعلم الفقه ، أما الأول فلأن مسائله ليست ممهّدة لخصوص ذلك ، وأمّا الثاني فلأن مسائله هي الأحكام الواقعية الأولية ، وليس ما وراءها أحكام أخر تستكشف حالها بتلك المسائل.

اذا حفظت ما ذكرنا تقدر على دفع ما ربما متوهّم من دخول بعض مسائل الاصول في الفقه ، كمسألة الاستصحاب بناء على أخذه من الأخبار ، وما يشابهها. تقريره : أن الاستصحاب على هذا ليس إلا وجوب البناء على طبق الحالة السابقة ، بل يمكن هذا التوهّم فيه حتى بناء على اعتباره من باب الظن ، فيسري الاشكال في جلّ مسائل الاصول كحجية الخبر والشهرة وظاهر الكتاب وما أشبه ذلك ، بناء على أن الحجية ليست إلا وجوب العمل بالمؤدّى.

وحاصل الجواب أن مسائل الفقه ليست عبارة عن كل حكم شرعي متعلق بفعل المكلّف ، بل هي عبارة عن الأحكام الواقعية الأولية التي تطلب من حيث نفسها ، فكل ما يطلب من جهة كونه مقدمة لاحراز حال الحكم الواقعي فهو خارج عن مسائل الفقه ، ولا إشكال في أن تمام مسائل الاصول من قبيل الثاني.

ولا يخفى عليك أن ما ذكرنا من الميزان أسلم مما ذكر من أن مسائل الفقه

٣٢

عبارة عن كل حكم يقدر المقلد على العمل به بعد ما أفتى به المجتهد ، كحرمة الخمر مثلا ونظائرها ، بخلاف مسائل الاصول ، فانه لا يقدر على العمل بها وإن أفتى بها المجتهد ، كحجية خبر الواحد وأمثال ذلك ، فان هذا مخدوش ، بأن قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده وبالعكس من القواعد الفقهية ، ومن المعلوم عدم تمكن المقلد من العمل بها بعد فتوى المجتهد بتلك القاعدة ، بل يحتاج الى تعيين ما هو صغرى لتلك القاعدة.

[في موضوع علم الاصول]

ثم اعلم : أن موضوع هذا العلم () عبارة عن أشياء متشتتة تعرضها تلك المسائل كخبر الواحد ، والشهرة ، والشك في الشيء مع العلم بالحالة السابقة ، والشك في التكليف مع عدم العلم بالحالة السابقة ، وأمثال ذلك مما يبحث عن عوارضه في هذا العلم.

ولا تجمعها الأدلّة لا بعنوانها ولا بذواتها :

أمّا الأوّل فللزوم خروج مسائل حجية الخبر والشهرة والظواهر وأمثال ذلك ، مما يبحث فيه عن الحجية ، عن علم الاصول ، ودخولها في المبادى ، بل للزوم ذلك في مسألة التعادل والتراجيح ، لآن البحث فيها راجع أيضا الى الحجية في تلك الحالة ، والالتزام بذلك مع كونها معظم ما يبحث عنه في هذا العلم غير جائز.

وأمّا الثاني فلعدم تماميّته في تمام المسائل ، كالاصول العمليّة ، والالتزام بكونها استطرادا كما ترى.

وقد تكلّف شيخنا المرتضى «رحمه‌الله» () في إرجاع البحث عن حجّيّة الخبر إلى البحث عن الدليل ، حيث قال «قدس‌سره» إنّ البحث فيها راجع إلى أنّ السنّة الواقعية هل تثبت بخبر الواحد أم لا؟ (١) وأنت خبير بأنّ هذا على فرض

__________________

(١) الفرائد ، أوائل بحث حجّيّة خبر الواحد ، ص ٦٧.

٣٣

تماميّته في مسألة حجّيّة خبر الواحد وأمثالها لا يتمّ في الاصول العمليّة (*٤).

فالأوفق بالصواب أن يقال : لا تلتزم بكون الجامع بين شتات الموضوعات هو الأدلّة ، ولا بلزوم أن يكون للجامع بينها اسم خاصّ يعبّر به عنه.

فتلخص مما ذكرنا : أن وحدة العلم ليست بوحدة الموضوع ولا بوحدة المحمول ، بل إنما هي بوحدة الغرض المتعلق بتدوينه ، ولذلك يمكن أن يكون بعض المسائل مذكورا في علمين لكونه منشأ ، لفائدتين صار كل منهما سببا لتدوينه في علم.

إذا عرفت ما ذكرنا فلنشرع فيما هو المقصود وقد رتّبته على مقدّمات ومقاصد :

٣٤

أمّا المقدّمات

[في الوضع]

فمنها : ان الألفاظ ليست لها علاقة مع معانيها مع قطع النظر عن الوضع ، وبه يوجد نحو ارتباط بينهما ، وهل الارتباط المذكور مجعول ابتدائى للواضع بحيث كان فعله ايجاد ذلك الارتباط وتكوينه أوّلا ، أو فعل أمرا آخر ، والارتباط المذكور صار نتيجة لفعله؟ لا يعقل جعل العلاقة بين الأمرين اللذين لا علاقة بينهما أصلا ، والذي يمكن تعقّله أن يلتزم الواضع (*٥) انّه متى أراد معنى وتعقّله وأراد إفهام الغير تكلّم بلفظ كذا ، فاذا التفت المخاطب بهذا الالتزام ينتقل الى ذلك المعنى عند استماع ذلك اللفظ منه ، فالعلاقة بين اللفظ والمعنى تكون نتيجة لذلك الالتزام ، وليكن على ذكر منك ينفعك في بعض المباحث الآتية ان شاء الله ، وكيف كان الدالّ على التعهد تارة يكون تصريح الواضع ، واخرى كثرة الاستعمال ، ولا مشاحّة في تسمية الأول وضعا تعيينيا والثاني تعيّنيا.

ثم إنّ الملحوظ حال الوضع إمّا أن يكون معنى عاما كلّيا ، وإمّا أن يكون خاصا ، وعلى الأول إمّا أن يوضع اللفظ بازاء ذلك المعنى العام ، وإمّا أن يوضع بازاء جزئياته ، وعلى الثاني لا يمكن أن يوضع إلا بازاء الخاصّ الملحوظ ، فالأقسام ثلاثة : لأن الخاصّ الملحوظ إن لوحظت الخصوصية فيه حين الوضع فالموضوع له لا يكون إلا خاصا ، وإن جرد عن الخصوصية فهو يرجع الى تصور العام ، هكذا قال بعض الاساطين «دام بقاه» (١).

__________________

(١) في الكفاية ، الأمر الثاني من المقدّمة ، ج ١ ، ص ١٠ (طبعة المشكيني).

٣٥

أقول : يمكن أن يتصور هذا القسم ، أعني ما يكون الوضع فيه خاصا والموضوع له عاما فيما اذا تصور شخصا وجزئيا خارجيا من دون أن يعلم تفصيلا بالقدر المشترك بينه وبين سائر الأفراد ، ولكنه يعلم إجمالا باشتماله على جامع مشترك بينه وبين باقي الأفراد مثله ، كما اذا رأى جسما من بعيد ولم يعلم بأنه حيوان أو جماد ، وعلى أي حال لم يعلم أنه داخل في أي نوع؟ فوضع لفظا بازاء ما هو متحد مع هذا الشخص في الواقع ، فالموضوع له لوحظ إجمالا وبالوجه ، وليس الوجه عند هذا الشخص إلا الجزئي المتصور ، لأنّ المفروض أن الجامع ليس متعقّلا عنده إلا بعنوان ما هو متحد مع هذا الشخص.

والحاصل : أنّه كما يمكن أن يكون العام وجها لملاحظة الخاص () لمكان الاتحاد في الخارج كذلك يمكن أن يكون الخاص وجها ومرآة لملاحظة العام لعين تلك الجهة () ، نعم فيما اذا علم بالجامع تفصيلا لا يمكن أن يكون الخاص وجها له ، لتحقق الجامع في ذهنه تفصيلا بنفسه ، لا بوجهه ، فليتدبّر.

ثم إنه لا ريب في ثبوت القسمين : أعني ما يكون الوضع فيه خاصا والموضوع له كذلك ، كوضع الأعلام الشخصية ، وما يكون الوضع فيه عاما والموضوع له كذلك ، كوضع أسماء الأجناس ، وأمّا الأخير فهو على تقدير إمكانه كما مرّ غير ثابت.

وأما الوضع العام والموضوع له الخاص فقد يتوهّم أنه وضع الحروف وما أشبهها كأسماء الإشارة ونحوها ، ومما يمكن أن يكون منشأ التوهّم أمران :

أحدهما : ان معاني الحروف مفاهيم لوحظت في الذهن آلة () لملاحظة حال الغير ، مثلا : لفظه «من» موضوعة للابتداء الذي لوحظ في الذهن آلة ومرآة لملاحظة حال الغير ، ولا إشكال في أن مفهوم الابتداء وإن كان بحسب ذاته كلّيا ولكن بعد تقييده بالوجود الذهني يصير جزئيا حقيقيا ، كما أن المفهوم بعد تقييده بالوجود الخارجي يصير جزئيا كذلك.

والثاني : انه لما كان المأخوذ فيها كونها آلة () لتعرف متعلّقاتها الخاصة

٣٦

فهي تصير جزئيا ، إذ لا تعقل لها بدونها ، مثلا : لا يمكن تعقّل معنى لفظة «من» إلا بعد ارتباطه بالسير والبصرة ونظيرهما ، فلهما ولنظائرهما من العناوين الخاصة دخل في مفهوم معنى لفظة «من» ، وهكذا غيرها من الألفاظ الأخر التى وضعت لمعنى حرفي.

هذا والحق : أن معاني الحروف كلّها كلّيات وضعت ألفاظها لها وتستعمل فيها ، ولا تحتاج هذه الدعوى بعد تعقل المدعى الى دليل آخر ، إذ من المعلوم أنه ما دعى القائل بجزئية المعنى الحرفي إلا عدم تعقل كونه كلّيا ، فنقول : إنّه لا إشكال في أن بعض المفاهيم نحو وجودها في الخارج هو الوجود التبعي ، فهي موجودة بالغير لا بنفسها ، وهذا واضح لا يحتاج إلى البيان.

وأيضا : لا إشكال في ان تلك المفاهيم قد تتصور في الذهن مستقلّة أي من دون قيامها بالغير ، كما أن الانسان يلاحظ مفهوم لفظ الضرب في الذهن مستقلا ، وهذا المفهوم بهذا النحو من الوجود ليس في الخارج ، إذ لا يوجد في الخارج الا تبعا للغير ، وقد يتصور تلك المفاهيم على نحو ما تتحقق في الخارج ، فكما أنها باللحاظ الأول كلّيات كذلك باللحاظ الثاني ، اذ حقيقتها لم تتغير باختلاف اللحاظين ، وكما أن قيد الوجود الذهني ملغى في الاول وينتزع الكليّة منها كذلك في الثاني ، نعم تصورها على النحو الثاني في الذهن يتوقف على وجود مفهوم آخر في الذهن يرتبط به ، كما أن وجودها في الخارج يتوقف على محلّ يقوم به ، ولا يوجب مجرد احتياج الوجود الذهني لتلك المفاهيم الى شيء آخر ترتبط به كون ذلك جزء منها ، كما أن مجرد احتياج الوجود الخارجي منها الى محل خاص لا يوجب كونه جزء منها.

مثلا حقيقة الابتداء يتحقق لها ثلاثة أنحاء من الوجود : أحدها الوجود النفس الأمري الواقعي القائم بالغير ، والثاني الوجود الذهني المستقل بالتصور ، والثالث الوجود الذهني على نحو الوجود النفس الأمري ، وهو الوجود الآلي والارتباطي ، وكما أن تصور مفهوم الابتداء على الأول من الأخيرين لا يوجب

٣٧

صيرورته جزئيا بل ينتزع منه الكلّية بعد تعريته عن الوجود الذهني ، كذلك تصوره على الثاني منهما ، إذ لا يعقل الاختلاف في المتصور (*١٠) باختلاف أنحاء التصور ، فهذا المفهوم باللحاظ الأول هو معنى لفظ الابتداء ، وباللحاظ الثاني معنى لفظة «من» ، فمعنى لفظ «من» مثلا حقيقة الابتداء الآلي والربطي ، ولا شكّ أنه كلّي كحقيقة الابتداء الاستقلالي ، نعم تحقّق الأول في الذهن يحتاج الى محل يرتبط به ، كما أن تحققه في الخارج يحتاج الى محل يقوم به ، وكما أن احتياجه في الخارج الى محل خاص خارجي لا يوجب جعل ذلك المحل جزء لمعنى اللفظ كذلك احتياجه في الوجود الذهني الى محل لا يوجب كونه جزء لمعنى اللفظ أيضا.

وأنت اذا احطت بما تلوناه عليك تعرف بطلان كلا الأمرين اللّذين أوجبا توهّم جزئية معاني الحروف :

أمّا تقييدها بالوجود الذهني فلما مرّ في طيّ البيان ، من أن المقصود كونها كلّيات مع قطع النظر عن التشخص الذهني ، إذ بملاحظة ذلك التشخص ليست معاني أسماء الأجناس أيضا كلّيات ، اذ المفهوم المقيد بالوجود الذهني الاستقلالي بقيد انه كذلك أيضا جزئى لا ينطبق على كثيرين ، فكما أن الوجود الاستقلالي في الذهن في معاني أسماء الأجناس لا يخرجها عن الكلّية ، لكون الوجود الذهني ملغى عند اعتبار المعنى ، كذلك الوجود الآلي في الذهن في معانى الحروف.

وأمّا احتياجها الى محال في الذهن ترتبط بها فلما مرّ أيضا ، من أن الاحتياج في التحقق الى شيء لا يوجب كون ذلك الشيء جزء للمعنى.

ومن هنا تعرف أن الحروف التي معانيها انشاءات (*١١) أيضا لا تخرج معانيها بما هي معانيها عن كونها كلّيات (*١٢) ، وإنما التشخص جاء من قبل احتياج تحقق تلك المعاني ، مثلا : لفظة «ياء» النداء موضوعة لحقيقة النداء المتحقق في الخارج ، وهو يحتاج الى المنادي الخاص بالكسر ـ والمنادى الخاص

٣٨

ـ بالفتح ـ والدالّ على تلك الخصوصيات امور أخر غير هذه اللفظة ، وما يكون مستندا الى لفظة «يا» ليس إلا حقيقة النداء الخارجي ، ولا إشكال في أن هذا مع قطع النظر عمّا جاء من قبل أمور أخر كلّي ، وبعبارة اخرى : ينتقل السامع من لفظة «يا زيد» الصادر من المتكلّم أن خصوص زيد منادى بنداء هذا المتكلّم ، وهذا المعنى ينحل الى أجزاء : أحدها وقوع حقيقة النداء ، والثاني كون المنادي ـ بالكسر ـ هذا المتكلم الخاص ، والثالث كون المنادى ـ بالفتح ـ زيدا ، والذي أفادت لفظة «يا» هو الجزء الأول ، والباقي جاء من قبل غيره ، نعم يحتاج تحقق هذا المعنى ـ أعني حقيقة النداء الخارجي ـ الى باقي الخصوصيات.

وهكذا الكلام في هيئة افعل ونظائرها مما يتضمن معنى الانشاء ، مثلا : يقال : إن هيئة افعل موضوعة لحقيقة الطلب الايقاعي من دون أن يكون لمشخصات أخر دخل في معنى الهيئة ، ولا إشكال في أن تلك الحقيقة لا تتحقق إلا مع وجود الطالب الخاص ، والمطلوب منه كذلك ، والطلوب كذلك ، ولكن بعد تحقق الطلب المشخص بهذه المشخصات ما يستند فهمه الى الهيئة هو حقيقة الطلب ، وأما المشخصات الأخر فلها دوالّ أخر غيرها ، فمدلول الهيئة كلّى وإن صار جزئيا بواسطة تلك الخصوصيات التى جاءت من قبل غيرها.

ثمّ لا يخفى عليك أن المعنى الاسمي والحرفي مختلفان بحسب كيفية المفهوم ، بحيث لو استعمل اللفظ الموضوع للمعنى الحرفي في المعنى الاسمي أو بالعكس يكون مجازا أو غلطا ، فان مفهوم الابتداء الملحوظ في الذهن استقلالا يغاير الابتداء الملحوظ في الذهن تبعا للغير ، والتقييد بالوجود الذهني وإن كان ملغى في كليهما ، لكن المتعقل في مفاد لفظ الابتداء غيره في مفاد لفظ «من».

وبعبارة اخرى : المقامان مشتركان في تعرية المفهوم من حيث كونه متعقلا في الذهن ، لكن يختلف ذات المتعقل في مفاد لفظ الابتداء معها في مفاد لفظ «من» ، فلا يحتاج الى الالتزام بأن المعنى والموضوع له في كليهما واحد وانما

٣٩

الاختلاف في كيفية الاستعمال : بأن الواضع ـ بعد ما وضع لفظ الابتداء ولفظ «من» لمعنى واحد وهو حقيقة الابتداء ـ جعل على المستعملين ان لا يستعملوا لفظ الابتداء إلا على نحو إرادة المعنى مستقلا ، ولفظ «من» إلا على نحو إرادة المعنى تبعا ، هذا وقد أطلنا الكلام لكون المقام من مزالّ الاقدام.

[في استعمال اللفظ في ما يناسبه]

ومنها : أنه لا إشكال في أنه قد يحسن استعمال اللفظ في غير معناه الموضوع له ، إمّا لمناسبة بين المعنيين ، وإمّا لمناسبة بين اللفظ والمستعمل فيه ، كاستعمال اللفظ في اللفظ ، فإنه يصحّ وإن لم يكن له معنى وضع له ، كاستعمال لفظ ديز في نوعه.

ومن هنا يظهر أن استعمال اللفظ في غير معناه لا يحتاج الى ترخيص الواضع ، بل هو بالطبع ، اذ لو لا ذلك لم يصحّ استعمال اللفظ المهمل في اللفظ ، إذ لا وضع له بالفرض.

ثم إن استعمال اللفظ في اللفظ على انحاء : تارة يستعمل في نوعه ، واخرى في صنفه ، وثالثة في شخص مثله ، ومثال كل منها واضح ، وهل يصحّ استعماله في شخصه أم لا؟ قيل : لا ، لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول أو تركب القضية من جزءين : بيان ذلك أنه إن اعتبرت دلالته على نفسه حينئذ لزم الاتحاد ، وإلّا لزم تركّب القضية من جزءين ، فان القضية اللفظية حينئذ حاكية عن المحمول والنسبة ، لا الموضوع مع امتناع تركّب القضية إلا من ثلاثة أجزاء ، ضرورة امتناع النسبة بدون الطرفين.

اقول : ينبغي للمستدل أن يقتصر على قوله «لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول» لأن عدم اعتبار دلالته على نفسه حتى يلزم تركّب القضية من جزءين خلاف الفرض ، لأن المفروض إطلاق اللفظ وإرادة شخصه ، والانصاف عدم جواز استعمال اللفظ في شخص نفسه ، لما ذكره المستدل من الاتحاد ، فان قضية

٤٠