درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

٣٢١
٣٢٢

بسم الله الرحمن الرحيم

اعلم ان من وضع عليه قلم التكليف اذا التفت الى الحكم الشرعي فاما ان يكون قاطعا به اولا ، وعلى الثاني اما ان يكون له طريق منصوب من قبل الشارع اولا ، وعلى الثاني اما ان يكون له حالة سابقة ملحوظة اولا ، وعلى الثاني اما ان يكون الشك في حقيقة التكليف واما يكون الشك في متعلقه ، وعلى الثاني اما يتمكن من الاحتياط واما لا يتمكن منه ، فالقاطع ومن له طريق معتبر الى الواقع يتبع ما عنده من القطع او الطريق ، والشاك ان لوحظت حالته السابقة فهو مورد الاستصحاب ، وإلّا فان شك في حقيقة التكليف فهو مورد البراءة ، وان شك في متعلقه وكان قادرا على الاحتياط فهو مورد الاشتغال ، وان لم يكن قادرا على الاحتياط فهو مورد التخيير.

وهم ودفع قد يتوهم عدم صحة ما ذكرنا من جهة ان المقسم في هذه المذكورات هو من وضع عليه قلم التكليف ، وهو اعم من المجتهد والمقلد ، مع ان احكام بعض الاقسام مختصة بالمجتهد كالقواعد المقررة للشاك.

فان قلت : لا يصح القول باختصاص الاحكام المقررة للشاك بالمجتهد للزوم عدم جواز رجوع المقلد اليه فيما استفاده منها ، فان الاحكام المختصة بالمجتهد لا يجوز للمقلد العمل بها كوجوب التصرف في مال الايتام والغيّب وفصل الخصومة وامثال ذلك مما يختصّ بالمجتهد.

قلت : لا ينافي اختصاص القواعد المقررة للشاك بالمجتهد رجوع المقلد اليه في الاحكام المستفادة من تلك القواعد مثلا المخاطب بقول الشارع : لا تنقض اليقين بالشك وان كان هو المجتهد ولكن الحكم الذي يبنى على بقائه هو الحكم الاولى

٣٢٣

المشترك بينه وبين المقلد ، فالافتاء به عبارة عن حكمه بوجوب العمل على طبق الحالة السابقة على كل احد ، بخلاف الاحكام الواقعية المختصة بالمجتهد لعدم استنباط المجتهد منها حكما آخر يشترك فيه المقلد بل هذه الاحكام احكام واقعية تعلقت بفعل المجتهد خاصة هذا.

ويدفع اصل الاشكال بعدم اختصاص الاحكام الثانوية بالمجتهد بل حالها حال الاحكام الاولية في اشتراكها بين المقلد والمجتهد من دون تفاوت اصلا ، لعدم التقييد في ادلة الاحكام الظاهرية وعدم الدليل من الخارج يدل على هذا الاختصاص الا توهم عدم قدرة المقلد على العمل بالخبر الواحد وعلى الفحص اللازم في العمل بالاصول ، ويدفعه ان العمل بالخبر الواحد ليس إلّا الاتيان بالفعل الخارجي الذي دل الخبر على وجوبه ، ومن الواضحات عدم خصوصية المجتهد فيه ، نعم الذي يختص بالمجتهد ولا يقدر عليه المقلد هو الاستظهار من الدليل والاستنباط منه ان الواجب كذا ، وهذا غير العمل بمدلوله ، والاخذ بالاحكام المتعلقة بالشك ليس مشروطا بعنوان الفحص عن الادلة حتى يقال ان المقلد لا يقدر عليه ، بل الحكم متعلق بالشك الذي ليس في مورده دليل واقعا ، والفحص انما يكون لاحراز ذلك ، فيكون نظر المجتهد في تعيين مدلول الدليل وانه ليس له معارض وفي احراز عدم وجود الدليل في مورد الشك متبعا للمقلد ، هذا.

اذا عرفت ما ذكرنا من اقسام المكلف واحكام كل منها على سبيل الاجمال ، فلنشرع في تفصيل كل من المذكورات في ضمن مباحث :

٣٢٤

المبحث الأوّل

في حجية القطع المتعلق بالتكليف

وينبغي التكلم في ثلاثة مقامات :

الأوّل : ان القطع هل يحتاج في حجيته الى جعل الشارع كما ان الظن كذلك اولا؟

الثاني : انه هل يمكن عقلا النهي عن العمل به اولا؟

الثالث : انه هل يقبل تعلق أمر المولى به ام لا؟

اما الكلام في المقام الأوّل :

فنقول : الحق عدم احتياجه الى الجعل ، فانه لو قلنا باحتياجه اليه لزم التسلسل ، لان الامر بمتابعة هذا القطع لا يوجب التنجز بوجوده الواقعي ، بل لا بد فيه من العلم ، وهذا العلم ايضا كالسابق يحتاج في التنجيز الى الامر ، وهكذا ، مضافا الى انه لو فرضنا امكان التسلسل لا يمكن تنجيز القطع لعدم الانتهاء الى ما لا يكون محتاجا الى الجعل ، وهذا واضح.

واما المقام الثاني :

فقد يقال في وجه عدم قابليته للمنع : ان المنع عن العمل بالقطع يوجب التناقض ، فان من علم بكون هذا خمرا وكون الخمر محرمة يحصل له من ضم هذه الصغرى الوجدانية الى تلك الكبرى المقطوع بها العلم بكون هذا حراما ، فيرى تكليف المولى ونهيه عن ارتكاب هذا المائع من دون سترة ولا حجاب ، فلو قال لا تعمل بهذا العلم رجع قوله الى الاذن في ارتكاب الخمر بنظر القاطع ، وهو التناقض.

٣٢٥

واورد على اصل الدعوى نقضا بورود النهى عن العمل بالظن القياسى حتى في حال الانسداد ، فاذا جاز النهى عن العمل بالظن عند الانسداد جاز النهى عن العمل بالعلم ، لان الظن في تلك الحالة كالعلم.

واجاب عن هذا الاشكال شيخنا الاستاذ «دام بقاؤه» ، «بان القياس بالظن القياسي ليس في محله ، لانّ العالم يرى الحكم الواقعي من غير سترة ولا حجاب ، فالمنع من اتّباعه راجع الى ترخيص فعل ما يقطع بحرمته او منع فعل ما يقطع بوجوبه ، فكيف يمكن ان يذعن به مع الاذعان بضده ونقيضه من الحكم المقطوع به في مرتبة واحدة ، وهي مرتبة الحكم الواقعي ، لانكشاف الواقع بحاقه من دون سترة موجبة لمرتبة اخرى غير تلك المرتبة ليكون الحكم فيها حكما ظاهريا لا ينافي ما في المرتبة الاخرى ، بخلاف الظن القياسي فان النهى عنه في صورة الانسداد اذا صح ببعض الوجوه الآتية لا يكون إلّا حكما ظاهريا لا ينافي الحكم الواقعي لو خالفه كما اذا اصابه ووافقه» هذا ما افاده دام بقاؤه من الجواب (١).

اقول : وهذا لا يستقيم على ما ذهب اليه (٢) من منافاة الحكمين الفعليين اللّذين تعلقا بموضوع واحد خارجي ، سواء كانا واقعيين ام ظاهريين ام مختلفين (٣) ، وحصر دفع التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري بجعل الواقعي

__________________

(١) تعليقة المحقق الخراساني على فرائد الشيخ الاعظم «قدس‌سرهما» ص ٤.

(٢) تعليقة المحقق الخراساني على فرائد الشيخ الاعظم «قدس‌سرهما» ص ٣٥.

(٣) هذا بناء على ما اجاب به في حاشيته على الرسائل ، ولكن عثرت بعد ذلك على كلام له «قدس‌سره» في الكفاية ، اورد فيه على نفسه عين ما اوردناه في المتن ، ثم أجاب عنه بقوله :

«قلت يمكن ان يكون الحكم فعليّا ، بمعنى انه لو تعلق به القطع على ما هو عليه من الحال لتنجز واستحق على مخالفته العقوبة ، ومع ذلك لا يجب على الحاكم رفع عذر المكلف برفع جهله لو امكن او بجعل لزوم الاحتياط عليه فيما امكن ، بل يجوز جعل أصل او أمارة مؤدّية اليه تارة والى ضدّه اخرى ، ولا يكاد يمكن مع القطع به جعل حكم آخر مثله او ضده ، كما لا يخفى». ـ

٣٢٦

انشائيا والظاهري فعليا ، وتوضيح الاشكال على هذا المبنى انه لا ينبغي الفرق بين القطع وبين الظن ، بل العمدة ملاحظة المقطوع والمظنون ، فان تعلق كل منهما بالحكم الفعلى فلا يعقل المنع ، اما في حال القطع فواضح ، واما في حال الظن فلان المنع عن العمل بالظن يوجب القطع بعدم فعلية الحكم الواقعي لو كان على خلاف الحكم الظاهري ، وهذا ينافي الظن بالحكم الواقعي الفعلي كما هو المفروض ، وهذا واضح ، واما ان تعلق كل منهما بالحكم الانشائي فلا مانع من الحكم على الخلاف ، ولا يتفاوت ايضا بين العلم والظن هذا.

واما على ما قلنا في دفع المنافاة بين الحكم الواقعي والظاهري : من اختلاف رتبتيهما فيرد اشكال آخر على اصل الدعوى ؛ بانه كما يتأخر رتبة الشك والظن بالحكم عن نفس الحكم كذلك رتبة العلم به ، لانه ايضا من العناوين المتأخرة عن الحكم ، فكما انه لا ينافي جعل حكم مخالف للواقع في موضوع الشك والظن لاختلاف رتبتيهما كذلك لا ينافي جعل حكم مخالف للواقع في مورد القطع لعين ما ذكر.

ويمكن ان يجاب على هذا المبنى بان العلم بالتكليف موجب لتحقق عنوان الاطاعة والمخالفة ، والاول علة تامة للحسن كما ان الثاني علة تامة للقبح ، وهما كعنواني الاحسان والظلم ، فكما انه لا يجوز المنع عن الاحسان والامر بالظلم عقلا كذلك لا يجوز المنع عن الاطاعة والامر بالمعصية والمخالفة ، ولا فرق عند العقل في تحقق هذين العنوانين بين اسباب القطع ، بخلاف الظن بالتكليف

__________________

ومقصوده «قدس‌سره» من ترتّب التنجز على العلم بهذه المرتبة من الحكم انما هو بعد البلوغ الى الفعلية من جميع الجهات ، بمعنى ان العلم بالفعلية من بعض الجهات منشأ لصيرورته فعليا من تمام الجهات شرعا ، ثم يترتب عليه التنجز بحكم العقل.

وعلى هذا يرد عليه أن تأثير العلم في فعلية الحكم شرعي ، فللشارع التصرف فيه من حيث السبب وغيره نفيا او اثباتا «منه ، قدس‌سره».

٣٢٧

فانه؟؟؟ بعد لم يصل الى حد يصلح لان يبعث المكلف الى الفعل ، لوجود الحجاب بينه وبين الواقع ، فلم يتحقق عنوان المخالفة والاطاعة (١) نعم لو حكم العقل بوجوب الاتيان بالمظنون من جهة الاحتياط وادراك الواقع كما في حال الانسداد فعدم الاتيان به على تقدير اصابة الظن للواقع في حكم المعصية ، لكن لا اشكال في ان هذا الحكم من العقل ليس الاعلى وجه التعليق بمعنى كونه

__________________

(١) وببيان آخر : القطع والظن والشك كلها مشتركة في انها عوارض لاحقة للحكم ، ولا يمكن لحاظها في موضوعه ، فالموضوع للحرمة مثلا ذات الخمر المعرّاة عن الاوصاف المذكورة ، لكن يمكن للشارع تعليق الحكم بملاحظة هذه التعرية في الوصفين ، لعدم لزوم المحذور ، ولا يمكنه هذه الملاحظة في القطع ، للزوم المحذور ، ولا نعنى بملاحظة التعرية في الاولين دخالتها بنحو التقييد ، حتى يكون الموضوع هو الخمر المعرّاة ، بل المراد ان لهذه الكيفية من ملاحظة الخمر وهي كيفية عرائها عن الوصفين في ذهن اللاحظ مدخلية في ترتّب حكمه ، ألا ترى ان التعرية عن الخصوصيات شرط في عروض وصف الكلية على الطبيعي ، وليس معناه ان الموضوع مثلا هو الانسان المعرى ، كيف وهو مباين مع الخارجيات ، بل بمعنى انه اذا لاحظناه بهذه الكيفية وهي عرائه عن الخصوصيات تعرضه الكلية ، واذا لاحظناه لا بتلك الكيفية لا تعرضه ، وسيجيء مزيد توضيح لذلك في محلّه ان شاء الله تعالى.

وحينئذ فنقول : حيث صح التعرية في الوصفين صح مجيء الحكم المخالف في موردهما ، وحيث لم يصح في العلم لم يصح ، واما وجه عدم الصحة في العلم فهو ان التكليف علة لتحقق المتعلق ، كالعلة التكوينية ، لكنه علة تشريعية تحتاج الى مساعدة جوارح المكلف ، وذلك انما يكون بعد العلم ، فلو منع عن تاثيره في هذا الحال كان منافيا لوضع التكليف ، وان شئت قلت : العلم بالحكم من غير فرق بين اسبابه وانحائه موضوع لوجوب الامتثال ، ودخالة الشارع في الحكم في هذه المرتبة راجعة الى دخالته في هذا الحكم العقلي يرفعه عن موضوعه بعد تحققه ، والحال انه غير قابل لذلك ، وهذا بخلاف الشك والظن ، فانه إما لا حكم للعقل في موردهما ، كما في الشبهة البدوية بعد الفحص ، وإما له حكم لكن ليس من باب وجوب الامتثال ، اذ ليس المحرك نفس الحكم ، كيف وهو مشكوك ، بل من باب وجوب الاحتياط ودفع الضرر المحتمل ، فلا يكون لحاظ التعرية عنهما منافيا مع وضع التكليف وعليته ، ويكون رافعا لهذا الحكم العقلي برفع موضوعه «منه : قدس‌سره».

٣٢٨

معلقا على عدم منع الشارع عن العمل بذلك الظن لا على وجه التنجيز كالاتيان بالمعلوم ، ومن ثم لو حكم الشارع بترك العمل بالظن في حال الانسداد لا ينافي حكم العقل.

ومحصل ما ذكرنا من الوجه ان المخالفة لكونها قبيحة بقول مطلق لا تقبل الترخيص ، والاطاعة لكونها حسنة كذلك لا تقبل المنع ، لا ان المنع عن العمل بالعلم مستلزم للتناقض حتى يرد عليه ما ذكرنا من الاشكال.

اما المقام الثالث :

اعنى قابلية العمل بالعلم اعنى الاطاعة لورود التكليف الشرعي المولوي عليه وعدمها فقد قيل في وجه عدم القابلية امور.

منها لزوم التسلسل لو تعلق الامر المولوى بالاطاعة ، لان الامر بالطاعة لو كان مولويا يحقق عنوان اطاعة اخرى ، فيتعلق الامر به لكونها اطاعة ، وهذا الامر ايضا يحقق عنوان الاطاعة فيتعلق الامر به ، وهكذا.

ومنها اللغوية ، لان الامر المولوي ليس إلّا من جهة دعوة المكلف الى الفعل وهي موجودة هنا فلا يحتاج اليه.

ومنها ان الاطاعة عبارة عن الاتيان بالفعل بداعي امره ، فلا يعقل ان يكون الامر بها داعيا اليها ، وإلّا لزم عدم تحقق موضوع الاطاعة ، ويستحيل ان يصير الامر المتعلق بعنوان داعيا الى ايجاد غير ذلك العنوان هذا.

وكلها مخدوشة اما الاول فلانه لا يوجد من الآمر الا انشاء امر واحد متعلق بطبيعة الاطاعة ، والقضية الطبيعية تشمل الافراد المتحققة بها ، فلا بأس بانحلال الامر المتعلق بالطبيعة الواحدة الى اوامر غير متناهية ، لانتهائها الى ايجاد واحد ، مضافا الى انقطاع هذه الاوامر باتيان المكلف فعلا واحدا ، وهو ما امر به اولا ، او انقضاء زمان ذلك الفعل.

واما الثاني فلانه يكفي في الخروج من اللغوية تاكيد داعى المكلف ، لانه من الممكن ان لا ينبعث بامر واحد ، ولكنه لو تعدد وتضاعفت الآثار ينبعث

٣٢٩

نحو الفعل.

واما الثالث فلان اتيان الفعل ابتداء بداعي الامر بالاطاعة ليس اطاعة للامر المتعلق به ، ولكن اتيانه بداعي الامر المتعلق به بداعي الامر بالاطاعة بحيث يكون الامر بالاطاعة داعيا الى ايجاد الداعي لا يضر بصدق الاطاعة ، ولا بكون الامر المتعلق به مولويا ، كما لا يخفى.

والاولى ان يقال في وجه المنع : ان الارادة المولوية المتعلقة بعنوان من العناوين يعتبر فيها ان تكون صالحة لان تؤثر في نفس المكلف مستقلا ، لان حقيقتها البعث الى الفعل ، وبعبارة اخرى هي ايجاد للفعل اعتبارا وبالعناية ، والامر المتعلق بالاطاعة مما لا يصلح لان يؤثر في نفس المكلف مستقلا ، لانه لا يخلو من امرين : اما ان يؤثر فيه امر المولى اولا؟ ، فعلى الاول يكفيه الامر المتعلق بالفعل وهو المؤثر لا غير ، لانه اسبق رتبة من الامر المتعلق بالاطاعة ، وعلى الثاني لا يؤثر الامر المتعلق بالاطاعة فيه استقلالا ، لانه من مصاديق امر المولى وقد قلنا انّ من شان امر المولى امكان تأثيره في نفس العبد على وجه الاستقلال.

هذا كلّه في القطع المتعلّق بالحكم الواقعي الذي يكون طريقا محضا اليه.

[القطع الموضوعي وأقسامه]

واما القطع الماخوذ في موضوع الحكم فلا اشكال في امكان تقييده بحصوله من سبب خاص ، كما لا اشكال في امكان اعتباره على وجه الاطلاق فيتبع دليل اعتباره.

ثم اعلم ان القطع المأخوذ في الموضوع يتصور على اقسام : احدها ان يكون تمام الموضوع للحكم ، والثاني ان يكون جزءا للموضوع بمعنى ان الموضوع المتعلق للحكم هو الشيء مع كونه مقطوعا به ، وعلى اى حال اما ان يكون القطع المأخوذ في الموضوع ملحوظا على انه صفة خاصة ، واما ان يكون ملحوظا على انه طريق الى متعلقه ، والمراد من كونه ملحوظا على انه صفة خاصة ملاحظته من

٣٣٠

حيث انه كشف تام ، ومن كونه ملحوظا على انه طريق ملاحظته من حيث انه احد مصاديق الطريق المعتبر ، وبعبارة اخرى ملاحظة الجامع بين القطع وسائر الطرق المعتبرة (١) ، فعلى هذا يصح ان يقال في الثمرة بينهما : انه على الاول لا يقوم ساير الامارات والاصول مقامه بواسطة الادلة العامة لحجيتها ، اما غير الاستصحاب من الاصول فواضح ، واما الاستصحاب وساير الامارات المعتبرة فلانها بواسطة ادلة اعتبارها توجب اثبات الواقع تعبدا ، ولا يكفى مجرد الواقع في ما نحن فيه ، لان للقطع بمعنى الكشف التام دخلا في الحكم ، اما لكونه تمام الملاك ، واما لكونه مما يتم به الموضوع ، وعلى الثاني فقيام الامارات المعتبرة وكذا مثل الاستصحاب لكونه ناظرا الى الواقع في الجملة مقامه مما لا مانع منه ، لانه فيما يكون القطع على هذا المعنى تمام الموضوع ففي صورة قيام احدى الامارات او الاستصحاب يتحقق مصداق ما هو الموضوع حقيقة ، وفيما يكون المعتبر هو الواقع المقطوع فالواقع يتحقق بدليل الحجية تعبدا والجزء الآخر وجدانا ، لان المفروض عدم ملاحظة القطع في الموضوع من حيث كونه كاشفا تاما ، بل من حيث انه طريق معتبر ، وقد تحقق مصداقه قطعا.

فان قلت : لو لم يكن العنوان الواقعي موضوعا للحكم كما هو المفروض فالامارات القائمة عليه لا يشملها دليل الحجية حتى تصير مصداقا للطريق المعتبر ، لان معنى حجيتها فرض مداليلها واقعة وترتيب آثار الواقع عليها ، والمفروض في المقام ان ما تعلق به الامارة ليس له اثر واقعي بل الاثر مترتب

__________________

(١) والجامع بينهما عبارة عن مطلق ثبوت الشيء بحيث صح حمل احكامه عليه بلا توسيط واسطة ، فكما يقال في صورة القطع بخمرية مائع : هذا خمر ، وكل خمر حرام ، بالغاء صفة القطع عن الوساطة ، كذلك في صورة قيام غيره من سائر الحجج المعتبرة ، فيقال : هذا خمر ، لا شيء قام على خمريته الحجة المعتبرة ، والمراد من قيام الأمارة مقام العلم الموضوعي على وجه الطريقية انما هو بملاحظة هذا الاثر ، أعني إثبات الواقع ، فاذا تحقق هذا الجزء وهو الواقع بدليل التنزيل تحقق الجزء الآخر ، وهو الطريق ، وجدانا «منه ، قدس‌سره».

٣٣١

على العلم ، ان كان تمام الموضوع ، والواقع المعلوم ان كان قيده.

قلت : اما فيما كان العلم تمام الموضوع لو لم يكن لمتعلقه اثر اصلا فما ذكرته حق لا محيص عنه ، لكن نقول بقيام الامارات فيما لو كان للمتعلق اثر آخر غير ما رتب على العلم ، مثل ان يكون الخمر موضوعا للحرمة واقعا وما علم بخمريته موضوعا للنجاسة مثلا ، فحينئذ يمكن احراز الخمر تعبدا بقيام البينة لكونها ذات اثر شرعي ، وبعد قيام البينة يترتب عليها ذلك الحكم الآخر الذي رتب على العلم من حيث انه طريق لتحقق موضوعه قطعا ، واما فيما كان العلم قيدا للموضوع فيكفي في اثبات الجزء الآخر كونه ذا اثر تعلقى بمعنى انه لو انضم الى الباقي يترتب عليه الاثر الشرعي ، وكم له من نظير ، فان اثبات بعض اجزاء الموضوع بالاصل او بالامارة والباقي بالوجدان غير عزيز.

ومما قررنا يظهر لك الجواب عن الاشكال الذي اورده شيخنا الاستاذ «دام بقاءه» في هذا المقام على شيخنا المرتضى «طاب ثراه» بما حاصله (١) ان قيام الامارات او بعض الاصول مقام القطع المأخوذ في الموضوع جزء على وجه الطريقية بمجرد الادلة العامة الدالة على حجيتها يوجب الجمع بين اللحاظين لحاظ الموضوعية ولحاظ الطريقية ، لان الملحوظ في التنزيل ان كان نفس الظن والعلم بمعنى ان الجاعل لاحظ الظن ونزله منزلة العلم في الآثار فاللازم من هذا الجعل ترتيب آثار العلم على الظن ولا يلزم منه ترتيب آثار الواقع على المظنون ، وان كان الملحوظ متعلقهما بمعنى ان الجاعل لاحظ العلم والظن مرآة للمتعلق فاللازم ترتيب آثار الواقع على متعلق الظن ، ولا يجوز على هذا ترتيب آثار العلم على الظن ، وعلى اي حال فلو تعلق الحكم بالخمر المعلومة مثلا فدليل حجية الامارة او الاستصحاب المنزّل للشك بمنزلة العلم يتصدى لتنزيل احد الجزءين للموضوع ، لان الجاعل لو اراد التنزيل في كليهما لزم ان يجمع بين لحاظ العلم

__________________

(١) تعليقة المحقق الخراساني على فرائد الشيخ الاعظم «قدّس سرهما» ص ٧.

٣٣٢

والظن في الامارة او العلم والشك في الاستصحاب طريقا وموضوعا ، وهو مستحيل.

وحاصل الجواب انه بعد ما فرضنا اعتبار العلم طريقا بالمعنى الذي سبق فادلة حجية الامارة او الاستصحاب وان لم تتعرض الا لتنزيل المؤدى منزلة الواقع تكفي في قيام كل منهما مقام العلم ، لاحراز الموضوع المقيد بعضه بالتعبد وبعضه بالوجدان ، كما عرفت.

ثم أنه (١) قد يتفصّى عن الاشكال بوجه آخر. وهو أنه بعد ثبوت الخمر مثلا

__________________

(١) كانت عبارة المتن السابقة من هنا الى اول بحث التجرى كما يلى :

ثم انه «دام بقائه» تفصى عن هذا الاشكال «بانه بعد تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، فالواقع التعبدى معلوم ، مثلا لو ورد دليل على حرمة الخمر المعلومة وقامت البينة على ان هذا خمر نعلم بواسطة دليل حجية البينة بان هذا خمر تعبدا ، فيتحقق هذا الموضوع بواسطة دليل الحجية والوجدان ، فدليل الحجية يوجب ثبوت الخمر تعبدا ، والعلم بان هذا خمر تعبدا وجداني».*

وفيه ان أخذ بعض اجزاء الموضوع تعبدا وبعضها وجدانا انما يكون فيما اذا كان الجزء الوجداني مما اعتبر في الدليل الاول ، كما اذا ترتب الحكم على الماء الكر الطاهر فنقول : كون هذا ماء وجداني وكونه كرا وطاهرا مثلا يتحقق بالاصل ، واما في مقامنا هذا فالجزء الوجداني ليس مما اخذ في الدليل الاول ، لان الموضوع فيه هو العلم بالخمر الواقعية لا الاعم منها ومن التعبدية حتى يتحقق هذا الجزء بالوجدان ، فلا بد في ترتيب اثر العلم بالخمر الواقعية على العلم بالخمر التعبدية من تنزيل آخر.

فان قلت : ان الحكم في الموضوعات المقيدة انما رتب على المقيد من حيث انه مقيد ، ولا شك في ان مجرد اثبات احد الجزءين بالاصل والآخر بالوجدان لا يوجب اثبات المقيد ، فلا محيص عن ذلك إلّا ان تلتزم بان المقيد بالقيد التعبدى بمنزلة المقيد بالقيد الواقعي ، فهنا نقول ايضا : يكفى في ترتب الحكم العلم بالخمر التعبدية.

قلت : الحكم المرتب على الماء الكر ليس مرتبا على المقيد اعنى العنوان البسيط ، بل الموضوع هو منشأ انتزاع ذلك العنوان اعنى الماء حال كونه كرا ، ولو سلمنا كون الموضوع هو ـ

٣٣٣

بالامارة تعبدا فالعلم بانه حمر تعبدا يعامل معه معاملة العلم بالخمر الواقعي ، ألا ترى أنه بعد اثبات الخمرية لمائع بالأمارة او بالاستصحاب نحكم بان شربه شرب الخمر ، فكما لا إشكال في اثبات شرب الخمر في المثال فلا بد ان لا يستشكل في ثبوت العلم بالخمرية فيما نحن فيه.

قلت : بين المثال وما نحن فيه فرق ، وهو انا متى اثبتنا قيدا كالخمرية لمحلّ بأصل او أمارة فمقتضاه إثبات كل اثر كان لذلك القيد لذلك المحل ، وعلى هذا فنقول : اثر الخمر الواقعي أن شربه حرام ، فاذا ثبت الخمرية تعبدا لمائع كان أثره ان شربه حرام كشرب الخمر ، وهذا المعنى لا يجيء فيما نحن فيه ، فانه لا يمكن ان يقال : إن اثر الخمر الواقعي أن العلم به موجب للحرمة ، بل الموضوع هو العلم بعنوان الخمرية ، وحيث لا ملازمة بين خمرية الشيء واقعا وكون العلم به علما بالخمر فلا يكفى الامارة القائمة على الخمرية في اثبات العلم بها.

[في التجرى]

ثم انك قد عرفت مما سبق عدم تجويز العقل الاقدام على مخالفة القطع المتعلق بالتكليف ، فلو اقدم على ذلك وصادف قطعه الواقع فلا شبهة في استحقاقه العقوبة ، واما لو لم يصادف فوقع النزاع والاختلاف بين العلماء «قدّس سرهم» في حكمه.

__________________

البسيط. فنقول انه من الوسائط الخفية التي لا يريها العرف واسطة ، ولاجل احد هذين الوجهين نقول : يكفى في ترتب الحكم ثبوت جزء بالوجدان والباقى بالاصل ، وهذا لا يتم في الخمر المعلومة ، لان كون هذا المائع خمرا في الواقع لا يستلزم كون العلم المتعلق به هو العلم بكونه خمرا ، كما ان العلم بكونه خمرا لا يستلزم كونه خمرا في الواقع وبعبارة اخرى ؛ مجرد تعلق علم بهذا المائع وكونه خمرا في الواقع لا يكون منشأ لانتزاع الخمر المعلومة بخلاف كون هذا الماء كرا فتدبر.* تعليقة المحقق الخراساني «قدس‌سره» ص ٧.

٣٣٤

وتحقيق المبحث ان يقال : ان النزاع يمكن ان يقع في استحقاق العقوبة وعدمه ؛ فيكون راجعا الى النزاع في المسألة الكلامية ، ويمكن ان يقع النزاع في ان ارتكاب الشيء المقطوع حرمته هل هو قبيح ام لا؟ فيكون المسألة من المسائل الاصولية التى يستدل بها على الحكم الشرعي ، ويمكن ان يكون النزاع في كون هذا الفعل اعنى ارتكاب ما قطع بحرمته مثلا حراما شرعا او لا ، فتكون من المسائل الفقهية.

فان كان النزاع في الاخير فالحق عدم اتصاف الفعل المذكور اعنى ما قطع بحرمته بالحرمة الشرعية ، توضيح ذلك : ان شرب الماء المقطوع خمريته في الخارج ينتزع منه عناوين : منها شرب الماء ، ومنها شرب مقطوع الخمرية ، ومنها شرب مقطوع الحرمة ، ومنها شرب المائع ، ومنها التجرى ، ولا اشكال في عدم كون الاخير منها اختياريا للفاعل فانه لم يكن محتملا لخطأ اعتقاده ، فلم يقدم على هذا العنوان عن التفات ، وهكذا الاول منها ، وباقى العناوين وان كان اختياريا للفاعل ، ضرورة ان مجرّد كون الفرد الصادر عنه غير الفرد المقصود مع اشتراكهما في الجامع لا يخرج الجامع عن كونه اختياريا ، إلّا انه من المعلوم عدم النزاع في شيء من تلك العناوين غير عنوان مقطوع الحرمة ، وقد عرفت مما مضى عدم قابلية هذا العنوان للحكم المولوى ، فان هذا الحكم نظير الحكم بحرمة المعصية ووجوب الاطاعة هذا.

واما ما يظهر من كلام شيخنا الاستاذ «دام ظله» من ان الفعل المتجرى به لا يكون اختياريا اصلا حتى بملاحظة العام الشامل للفرد المقصود وغيره فلعله من سهو القلم.

قال «دام ظله» في طى استدلاله على عدم كون التجرى حراما شرعا ما لفظه (١) : مع ان الفعل المتجرى به او المنقاد به بما هو مقطوع الوجوب او الحرمة لا يكون اختياريا ، كى يتوجه اليه خطاب تحريم او ايجاب ، اذ القاطع لا يقصده

__________________

(١) تعليقة المحقق الخراساني على فرائد الشيخ الأعظم «قدّس سرهما» ص ١٢.

٣٣٥

إلّا بما قطع انه عليه من العنوان الواقعي الاستقلالي ، لا بهذا العنوان الطارى الآلي ، بل لا يكون اختياريا اصلا اذا كان التجرى او الانقياد بمخالفة القطع بمصداق الواجب او الحرام او موافقته ، فمن شرب الماء باعتقاد الخمرية لم يصدر منه ما قصده ، وما صدر منه لم يقصده ، بل ولم يخطر بباله ، لا يقال : ان ما صدر منه لا محالة يندرج تحت عام يكون تحته ما قصده ، فيسرى اليه قصده ، مثل شرب المائع في المثال ، فانّه يقال : كلا ، كيف يصير العام المتحقق في ضمن خاص مقصودا واختياريا بمجرد قصد خاص آخر قصد بخصوصيته؟ نعم لو عمد الى خاص تبعا للعام وصادف غيره من افراده لم يخرج عن اختياره ، بما هو متحد مع ذلك العام ، وان كان بخارج عنه بما هو ذلك الخاص «انتهى موضع الحاجة من كلامه دام بقائه».

اقول : لا شك في ان كل عنوان يكون ملتفتا اليه حال ايجاده وكان بحيث يقدر على تركه يصير اختياريا ، وان لم يكن موردا للغرض الاصلى ، مثلا لو شرب الخمر مع العلم بكونها خمرا ، لا لانها خمر بل لانها مائع بارد ، يصح ان يعاقب عليه لانه شرب الخمر اختيارا ، وان لم يكن كونها خمرا داعيا ومحركا له على الشرب ، لانه يكفى في كون شرب الخمر اختياريا صلاحية كون الخمرية رادعة له وكونه قادرا على تركه ، ونظير هذا محقق فيما نحن فيه بالنسبة الى الجامع ، فان من شرب مائعا باعتقاد انه خمر يعلم بان هذا مصداق لشرب المائع ويقدر على تركه ، فكيف يحكم بعدم كون شرب المائع اختياريا له ، فان خص العنوان الموجود اختيارا بما كان محطا للارادة الاصلية للفاعل فاللازم ان يحكم في المثال الذي ذكرنا بعدم كون شرب الخمر اختياريا ، لعدم تعلق الارادة الاصلية بعنوان الخمر كما هو المفروض ، ولا اظن احدا يلتزم به ، وان اكتفى في كون العنوان اختياريا بمجرد كونه معلوما وملتفتا اليه حين الايجاد ، بحيث يصلح لان يكون رادعا له ، فحكمه بعدم كون الجامع فيما نحن فيه اعنى شرب المائع اختياريا لا وجه له ، وكيف كان فالحكم بعدم اختيارية العناوين المنطبقة على الفعل المتجرى به باسرها حتى الجامع لما هو واقع وما هو مقصود مما لا ارى له وجها.

٣٣٦

فالاولى ما قلنا في المقام ، ومحصله ان العناوين المتحققة مع الفعل المتجزى به بين ما لا يكون اختياريا ، وبين ما لا شبهة في عدم تحريمه ، وبين ما لا يكون قابلا لورود النهى المولوى عليه.

هذا على تقدير جعل النزاع في الحرمة الشرعية.

واما لو كان مجرى النزاع كون الفعل المتجرى به قبيحا او لا؟ فالذي يقوى في النظر عدم كونه قبيحا اصلا ، فانا اذا راجعنا وجداننا لم نر شرب الماء المقطوع خمريته الا على ما كان عليه واقعا قبل طرو عنوان القطع المذكور عليه ، والذي اوقع مدعي قبح الفعل في الشبهة كون الفعل المذكور في بعض الاحيان متحدا مع بعض العناوين القبيحة ، كهتك حرمة المولى والاستخفاف بامره تعالى شانه وامثال ذلك مما لا شبهة في قبحه. وانت خبير بان اتحاد الفعل المتجرى به مع تلك العناوين ليس دائميا ، لانا نفرض الكلام فيمن اقدم على مقطوع الحرمة ، لا مستخفا بامر المولى ولا جاحدا لمولويته ، بل غلبت عليه شقوته ، كاقدام فساق المسلمين على المعصية ، ولا اشكال في ان نفس الفعل المتجرى به مع عدم اتحاده مع تلك العناوين لا قبح فيه اصلا.

ومن هنا يظهر الكلام على تقدير جعل النزاع في استحقاق العقوبة ، وانه لا وجه لاستحقاق الفاعل من حيث انه فاعل لهذا الفعل الخارجي العقوبة بعد عدم كونه محرما ولا قبيحا عقلا.

نعم قد يقال : باتصاف بعض الافعال الموجودة في النفس مما هو موجب لتحريك الفاعل نحو الفعل بالقبح ، وبسببه يستحق موجده العقوبة ، بيان ذلك : ان الفعل الاختياري لا بد له من مقدمات في النفس ، بعضها غير اختيارية ، من قبيل تصور الفعل وغايته والميل اليه ، وبعضها اختيارية ؛ من قبيل الارادة ، فما كان من قبيل الاول لا يتصف بحسن ولا قبح ، ولا يستحق الشخص المتصف به مثوبة ولا عقوبة ، ضرورة ان ما ذكر منوط بالافعال الاختيارية. وما كان منها من قبيل الثاني يتصف في محل الكلام بالقبح ، كما انه في الانقياد يتصف

٣٣٧

بالحسن ، ويستحق الموجد له في النفس العقوبة ، فيما نحن فيه ، كما يستحق المثوبة في الانقياد ، والحاصل ان نفس العزم على المعصية قبيح وان لم يترتب عليه المعصية ، نعم لو انجر الى المعصية يكون اشد قبحا.

فان قلت : كيف يمكن ان تكون الارادة اختيارية ، والمعتبر في اختيارية الشيء ان يكون مسبوقا بها ، فلو التزمنا في الارادة كونها اختيارية لزم التسلسل.

قلت : انما يلزم التسلسل لو قلنا بانحصار سبب الارادة في الارادة ، ولا نقول به ، بل ندعى انها قد توجد بالجهة الموجودة في المتعلق اعنى المراد ، وقد توجد بالجهة الموجودة في نفسها ، فيكفي في تحققها احد الامرين ، وما كان من قبيل الاول لا يحتاج الى ارادة اخرى ، وما كان من قبيل الثاني حاله حال ساير الافعال التي يقصدها الفاعل بملاحظة الجهة الموجودة فيها ، ولازم ما ذكرنا انه قد يقع التزاحم بين الجهة الموجودة في المتعلق والموجودة في الارادة ، فحينئذ ترجيح احدى الجهتين يستند الى ارادة اخرى ، فلو فرضنا كون الفعل مشتملا على نفع ملائم لطبع الفاعل وكون ارادته مشتملة على ضرر يخالف طبعه فترجيح ارادة الفعل انما هو بعد ملاحظة مجموع الجهتين والاقدام على الضرر المترتب على تلك الارادة ، ولا نعنى بالفعل الاختيارى الا هذا.

والدليل على ان الارادة قد تتحقق لمصلحة في نفسها هو الوجدان ، لانا نرى امكان ان يقصد الانسان البقاء في المكان الخاص عشرة ايام بملاحظة ان صحة الصوم والصلاة التامة تتوقف على القصد المذكور ، مع العلم بعدم كون هذا الاثر مرتبا على نفس البقاء واقعا (١) ونظير ذلك غير عزيز فليتدبر في المقام ،

__________________

(١) توضيح ذلك انا كما نقول في قبال الاشعري بان الوجدان شاهد بان حركة اليد مثلا تصدر باختيار منّا ، وليست كحركة المرتعش ، كذلك نقول هاهنا بان الوجدان شاهد بان قصد بقاء العشرة متمشّ هنا في المثال ، وما نرى من عدم تمشي القصد نحو الفعل الغير المقدور كالطيران فلاجل «ان الارادة علة لايجاد متعلقها» ولهذا قاصد العشرة يبقيه نفس قصده في ذلك المكان ما لم يحصل قاسر ، فلهذا لا بد لها من متعلق مقدور. ـ

٣٣٨

فان قلت : ان مجرد كون الفعل قبيحا بحكم العقل لا يوجب استحقاق العقوبة من المولى ، لان العقوبة تابعة للتكليف المولوى ، ولذا قيل : ان التكاليف الشرعية الطاف في التكاليف العقلية ، ومعنى هذا الكلام ان الاوامر والنواهى الصادرة من الله تعالى توجب زيادة بعث للعباد نحو الفعل والترك ، لكونها موجبة للمثوبة والعقوبة ، ولو كان حكم العقل بالحسن والقبح كافيا فيهما لما كانت التكاليف الالهية ألطافا ، ولا يمكن ان يقال : باستكشاف حكم الشرع هنا بقاعدة الملازمة ، لانا نقول : ـ مضافا الى منع تلك القاعدة ، بناء على عدم كفاية الجهات الموجودة في الفعل للتكليف ، اذ قد يكون الفعل حسنا عقلا ولا يامر به الشارع ، او يكون قبيحا ولا ينهى عنه ، لعدم المصلحة في النهى عنه ـ إن الملازمة المذكورة انما تنفع فيما يكون قابلا للتكليف المولوى ، وليس المقام كذلك ، لان حال النهى المتعلق بارادة المعصية كحال النهي المتعلق بها.

قلت : فرق بين العناوين القبيحة ، فان منها ما لا يكون لها ارتباط خاص

__________________

وايضا لو لا اختيارية الارادة كيف يصح الامر بها وقد وقع في الشريعة كما في النية المعتبرة في باب العبادات.

ثم لا يخفى انه لو لا اختيارية الارادة كان تعذيب العاصي من جهة بعده الناشئ من خبث ذاته كتعذيب الحمار من جهة كونه حمارا الذي هو قبيح بحكم العقل.

لا يقال : ينافي اختياريتها ان الكتاب والسنة قد وقع في غير موضع منهما التحذير عن العصيان الخارجي والترغيب نحو الاطاعة الخارجية ، ولم يقع في موضع منهما تحذير وترغيب بالنسبة الى الارادة القلبية ، بل ورد أن نية السوء لا تكتب.

لانا نقول : بل يمكن الاستشهاد من قولهم «عليهم‌السلام» نية السوء لا تكتب أنها اختيارية ، من جهة ورود هذه القضية في مقام المنة نعم حيث لا يمكن نفي القبح عن العصيان الخارجي رأسا فيلتزم في مورده باشدية القبح ، لاجتماع الملاكين ، والعفو المستفاد من قولهم «نية السوء لا تكتب» لا يشمل النية المقرونة بالعصيان ، فيكون العقاب في مورده اشد كالقبح «منه ، قدس‌سره».

٣٣٩

بالمولى من حيث انه مولى ، كالظلم على الغير مثلا ، ومنها ما له ربط خاص به ، كالظلم على نفس المولى والخيانة بالنسبة اليه ، ففي الاول لو لم يتعلق به النهى المولوى فلا وجه لعقاب المولى ، بل هو كاحد العقلاء يجوز له ملامة الفاعل من حيث انه عاقل ، واما الثاني فيصح عقوبته من حيث هو مولى له. هذا محصل الكلام في المقام.

واما استدلالهم على حرمة الفعل المتجرى به وكونه معصية بالاجماع ، فمدفوع ، بعدم كشفه عن قول المعصوم عليه‌السلام في المسائل العقلية ، مضافا الى مخالفة غير واحد ، واما مسألة سلوك الطريق المظنون خطره ، فهو وان كان يظهر الاتفاق فيه منهم على كونه عصيانا ، إلّا انه يمكن القول بكون الظن عندهم تمام الموضوع للحرمة الواقعية فيخرج عن محل الكلام.

واما ما ذكر من الدليل العقلى المعروف ، فمحصل الجواب انا نختار ثبوت العقاب على من اصاب دون من اخطأ ، واما ما اورد على ذلك من لزوم ابتناء العقاب على امر غير اختياري ، ففيه ان مدخلية امور غير اختيارية في صحة العقاب مما لا تضر عقلا ، اذ ما من فعل اختياري الا كان للامور الغير الاختيارية دخل فيه ، كتصور الفاعل والميل اليه ، وانما يمنع العقل من العقاب على ما لا يرجع بالأخرة الى الارادة والاختيار.

وينبغى التنبيه على امور :

[في العلم الاجمالي]

احدها : ان العلم الاجمالى هل له اثر بحكم العقل ، او حاله حال الشك البدوى؟ وعلى الاول فهل يوجب حرمة المخالفة القطعية فقط ، او يوجب الموافقة القطعية ايضا؟ وعلى اىّ حال هل يصح للشارع الترخيص في خلاف ما اقتضاه ام لا؟ وبعبارة اخرى هذا الاثر منه هل هو على نحو العلية التامة ، بحيث لا يقبل المنع ، او على نحو الاقتضاء؟

٣٤٠