درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

ذلك من جهة الاعتماد على اصالة الحقيقة (١) كى لا يرفع اليد عنها حتى في صورة وجود ما يصلح للقرينية فغير معلوم ، وان كان قد يدّعى ان بناء العقلاء على الجرى على ما يقتضيه طبع الاشياء ما داموا شاكين في ثبوت ما اخرجها عن الطبيعة الاولية ، ومن ذلك بنائهم على صحة الاشياء عند شكهم في الصحة والفساد ، لان مقتضى طبع كل شيء ان يوجد صحيحا ، والفساد يجىء من قبل امر خارج عنه ، ولعل من هذا القبيل القاعدة المسلمة عندهم ، «كل دم يمكن ان يكون حيضا فهو حيض» فان مقتضى طبع المرأة ان يكون الدم الخارج منها دم حيض ، وغيره خارج عن مقتضى الطبع ، وعلى هذا نقول ان مقتضى طبع اللفظ الموضوع ان يستعمل في معناه الموضوع له ، لان الحكمة في الوضع تمكن الناس من اداء مراداتهم بتوسط الالفاظ ، فاستعماله في غيره انما جاء من قبل الامر الخارج عن مقتضى الطبع.

__________________

(١) هذا اشارة الى دفع ما اورد على شيخنا المرتضى ، حيث أرجع اصالة الحقيقة ونحوها الى اصالة عدم القرينة ، وحاصل الايراد ان الشك في تخلف الارادة الاستعمالية عن المعنى المنتقل اليه عند سماع مجموع الكلام إما من جهة احتمال انه كانت مع الكلام قرينة فسقطت في البين ، وإما من جهة احتمال عمد المتكلم الى اخفائها لحكمة ، والاول مدفوع باصالة عدم القرينة ، وأن الصورة التى وصلت الينا من الكلام هي بعينها ما صدر من المتكلم بلا زيادة ونقيصة ، والثاني مدفوع باصالة الحقيقة في مثل جئني باسد ، وباصالة الظهور في مثل جئني باسد يرمي ، فاين لنا موضع صح فيه الارجاع المذكور؟

وحاصل الدفع أنه في الشق الاول ان بنينا على أن اللفظ تمام الموضوع للحجية ، فالمرجع فيه اصالة الحقيقة او الظهور ، حسب اختلاف المثالين المتقدمين ، وان بنينا على انه بعض الموضوع ، والبعض الآخر خلوه عن القرينة ، فلا بد اولا من الرجوع الى اصالة عدم القرينة ، وتشخيص حال اللفظ بسببها ، ثم الرجوع بعد ذلك الى اصالة الحقيقة او الظهور ، لدفع الشك الآخر ، وحيث ان الظاهر هو الثاني ، بدليل سراية الاجمال من القرينة المتصلة دون المنفصلة ، صح الارجاع المذكور ، بل لو قيل بارجاع الكل الى أصالة الظهور صح ايضا بملاحظة ان مرجع أصالة عدم القرينة الى كون عدمها ظاهرا متبعا عند العقلاء. «منه ، قدس‌سره».

٣٦١

لكن الانصاف ان هذا البناء من العقلاء انما يسلم في مورد لم يحرز فيه كثرة الوقوع على خلاف الطبع ، واستعمال الالفاظ في معانيها المجازية ان لم نقل بكونه اكثر من استعمالها في المعاني الحقيقيّة بمراتب ، فلا اقل من التساوي ، فلم يبق الطبع الاولى بحيث يصح الاعتماد عليه ، هذا.

وكيف كان فالمتيقن من الحجية هو الظهور المنعقد للكلام خاليا عما يصلح لان يكون صارفا ، ولا يناط بالظن الفعلى بالمراد ، ولا يختص حجيته بمن قصد افهامه ، بل هو حجة على من ليس مقصودا بالخطاب ايضا بعد كونه موردا للتكليف المستفاد من اللفظ.

والدليل على ذلك كله بناء العقلاء وامضاء الشارع :

اما الاول فلشهادة الفطرة السليمة عليه ، فلو علم العبد بقول المولى : «اكرم كل عالم في هذا البلد» واحتمل عدم ارادته معناه الظاهر ، إما من جهة احتمال التورية وعدم كونه في مقام إفهام المراد ، وإما من جهة احتمال كون الكلام مشتملا على القرينة على خلاف الظاهر واختفى عليه ، او ظن احد الامرين من سبب غير حجة عند تمام العقلاء ، وفرضنا عدم تمكنه من الفحص عما يوجب صرف الكلام المذكور عن ظاهره ، فهل يصح له ان لا يأتى بمفاد اللفظ المذكور معتذرا بانى ما تيقنت ان المولى كان بمعرض تفهيم المراد ، او ما تيقنت عدم اشتمال الكلام على قرينة صارفة ، بل كان وجودها عندى محتملا ، او فهل يصح للمولى لو اتى العبد مفاد الكلام المذكور ـ في الفرض الذي فرضنا ـ ان يعاتبه او يعاقبه إن كان ما اتى به مبغوضا له واقعا ، فان رأينا من انفسنا انقطاع عذر العبد في المثال المذكور في صورة عدم الاتيان ، وصحة احتجاج المولى عليه عند العقلاء ، وانقطاع عذر المولى في صورة الاتيان ، وصحة احتجاج العبد عليه عندهم ، كما هو الواضح بادنى ملاحظة والتفات ، كان هذا معنى الحجية عندهم ، اذ لا نعنى بحجية ظواهر الالفاظ كونها كالعلم في ادراك الواقعيات ، حتى يشكل علينا بان الاخذ باحد طرفى الشك في ما كان المراد مشكوكا او

٣٦٢

الاخذ بطرف الوهم فيما كان موهوما كيف يكون كالعلم عند العقلاء.

وكذا الكلام فيما لو قطع بكلام للمولى خاطب به غيره مع كونه موردا للتكليف المشتمل عليه ذلك الكلام مع بذل جهده فيما يوجب صرف الكلام عن مقتضى ظاهره فانه بعد المراجعة الى العقلاء يقطع بانقطاع العذر بين العبد والمولى بذلك الكلام ، وان كان العبد غير مقصود بالخطاب اللفظى (١) ، هذا.

واما الثاني اعنى امضاء الشارع لهذه الطريقة ، فلان الطريقة المرتكزة في جبلة العقلاء لو لم يرض بها الشارع لكان عليه الردع ، ولم يصدر منه ما يصلح لكونه رادعا الا الآيات الناهية عن العمل بغير العلم ، وهى لا تقبل لان تكون رادعة للعمل بالظواهر ، لعدم حجية مدلولها بالنسبة اليه قطعا ، لان الظواهر اما ليست بحجة اصلا ، واما حجة ، فعلى الاول ظواهر الآيات ايضا ليست بحجة ، لانها منها ، وعلى الثاني تخصيصها بها معلوم ، فلا تغفل.

بقي الكلام في خصوص ظواهر الكتاب المجيد التى ادعى اصحابنا الاخباريون عدم حجيتها ، والذي يمكن ان يكون مستندا لهم امور :

__________________

(١) هذا اذا كان ذلك الغير ناقلا الى الثالث ، او اصغى الثالث بنفسه الى الكلام ، مع بعد احتمال الاتكال على القرينة الحالية المعهودة بينهما ، بحيث لا يعتني به العقلاء ، فان احتمال خلاف الظاهر في هاتين الصورتين اما مسبب عن احتمال عمد الناقل مع كونه موثقا او سهوه او عن احتمال الاتكال المذكور مع بعده ، وكل هذه على خلاف اصل عقلائي.

واما الصورة الاخيرة مع قرب الاحتمال المذكور ، فالانصاف عدم الجزم بجريان اصالة عدم القرينة فيها تعبدا ، وان جزم به شيخنا المرتضى «قدس‌سره» في ظاهر كلامه ، والشاهد على ما ذكرنا انه لو كان الظاهر المذكور على خلاف الاحتياط ، وحصل للثالث ظن غير معتبر بعدم ارادته ولا محالة يتولّد منه ظنّ آخر بابتناء الكلام على القرينة المذكورة ، فلا نرى من انفسنا انه يجترى على الاقدام متمسكا بظاهر الكلام ، ولو كان الظاهر المذكور حجة لما كان فرق بين مخالفته للاحتياط والعدم ، ولا بين الظن الغير المعتبر بعدم ارادته والعدم. «منه ، قدس‌سره».

٣٦٣

احدها الاخبار المدعى ظهورها في المنع عن العمل بظواهر الكتاب المجيد.

والثاني العلم الاجمالى بوقوع التحريف فيه كما يظهر من الاخبار الكثيرة ايضا.

والثالث : العلم الاجمالي بورود التخصيص والتقييد في عموماته ومطلقاته ، ووقوع الاستعمالات المجازية فيه.

والرابع وجود المتشابه في الكتاب ، وعدم العلم بشخصه ومقداره ، والنهى عن اتباعه.

ولا يصلح شيء من الوجوه المذكورة للمنع :

أما الاخبار فلانها على طوائف : منها ما يدل على المنع عن التفسير بالرأى ، ومنها ما يدل على المنع عن مطلق التفسير ، ومنها ما يدل على المنع عن الافتاء بالكتاب ، معللا بعدم وجود علمه الا عند اهله. ولا ريب في ان الاوليين لا تمنعان عن العمل بالظواهر ، فان من عمل من اهل اللسان بعام صادر من مولاه لا يقال : انه فسر كلام مولاه ، فضلا عن صدق التفسير بالرأى عليه وأما الثالثة فلان من المحتمل قويا كون المنع مختصا بمثل ابي حنيفة وامثاله الذين كانوا يعملون بظواهر الكتاب من دون المراجعة الى من عندهم علمه ، ولا اشكال عندنا في ان هذا النحو من العمل بظواهر الكتاب غير جائز.

فان قلت : ان الظاهر من قوله عليه‌السلام في مقام الاعتراض على ابي حنيفة : «تعرف كتاب الله حق معرفته الخ» (١) ان المفتى بظواهر القرآن يجب ان يعرف القرآن حق معرفته ، وإلّا لا يجوز له الفتوى بها.

قلت : ليس في الخبر ما يدل على عدم جواز الافتاء بظواهر القرآن مطلقا ، بل المتيقن من مدلوله أن من اكتفى في مدارك فتاواه بالقرآن المجيد واعرض عن المراجعة الى كلمات العترة عليهم‌السلام كما كان ذلك ديدن ابي حنيفة وامثاله

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٦ من ابواب صفات القاضى ، الحديث ٢٧.

٣٦٤

لا يجوز له ذلك الا بعد العلم بحقيقة القرآن ، ولما لم يكن هذا العلم عند احد الا العترة الطاهرة عليهم‌السلام فلا يجوز لغيرهم الاكتفاء بالقرآن ، فلا يدل الخبر على المنع عن العمل بظواهر الآيات في حق الخاصة الذين ديدنهم الفحص والمراجعة في كلمات ائمتهم عليهم‌السلام ثم العمل بظواهر الآيات بعد عدم الظفر بما يوجب صرفها عن ظاهرها كما لا يخفى (١).

واما العلم الاجمالى بوقوع التحريف فبعد تسليمه يمكن ان يقال (٢) انه في

__________________

(١) هذا الجواب انما يتم بناء على مبنى شيخنا المرتضى «قدس‌سره» في اصالة عدم القرينة ، من كونها اصلا تعبديا ، وجه الابتناء أن الخبر يدل على انهم عليهم‌السلام هم المقصودون بالافهام في الخطابات القرآنية لا غير ، فتمسك غيرهم بتلك الخطابات مع احتمال انه كانت في البين قرينة ولم تصل الينا ، إما لاخفائهم عليهم‌السلام ايّاها لمصلحة ، وإمّا لذهابها عن ايدي الرواة باخفاء الظالمين ، مبني على جريان الاصل المذكور تعبدا.

واما على ما استشكلنا هناك فيشكل التمسك المذكور هاهنا ، اللهم إلّا ان يتشبث للجواز بذيل خبر الثقلين المشهور بين الفريقين ، بتقريب ان من الواضح عدم ارادة التمسك بهما منضمين ، فان فتوى المعصوم وان لم تنفك واقعا عن مدلول القرآن ، لكن لما كان استفادته غير ممكنة في حقّنا لا يصدق التمسك بالنسبة الينا ، بل المتمسك لنا منحصر في قول العترة ، فاذا ثبت أن المراد بالتمسك بالعترة هو على وجه الاستقلال ثبت ذلك في الكتاب ايضا بوحدة السياق.

لا يقال : اذا ورد من العترة حكم على خلاف ظاهر الكتاب فلا شك أنا ناخذ بقول العترة ، فكيف يصدق كون الكتاب متمسكا بالاستقلال لانّا نقول : كونه متمسكا انما هو على حدّ حجية ظاهر سائر الكلمات ، بحيث لا ينافي حجيته صدور قرينة على الخلاف.

ثم لا يخفى انه لا حاجة الى ملاحظة النسبة بين هذا الخبر والخبر المتقدم المانع لابي حنيفة عن التمسك معللا باختصاص معرفة القرآن بمن خوطب به ؛ وجه عدم الحاجة أن هذا الخبر كلام صدر عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في آخر وصيته وعند قرب رحلته ، وظهور مثل هذا الكلام اقوى من غيره كما لا يخفى. «منه ، قدس‌سره».

(٢) هذا الجواب بكلا شقيه انما يتم لو ادعى المانع العلم الاجمالي باسقاط خصوص آية مستقلة منفصلة عما اردنا التمسك بها مشتملة على قرينة بخلاف ظاهرها ، فان هذا من قبيل ـ

٣٦٥

غير آيات الاحكام ، من الموارد التى يكون التحريف فيها مطابقا لاغراضهم الفاسدة ، وثانيا لو سلمنا عدم اختصاص العلم الاجمالى بغيرها فغاية الامر صيرورتها من اطراف العلم الاجمالي ، اذ لا يمكن دعوى العلم الاجمالي في خصوصها قطعا ، وحينئذ نقول : لا تأثير لهذا العلم الاجمالي ، لخروج بعض اطرافه عن محل الابتلاء.

فان قلت : خروج بعض الاطراف عن محل الابتلاء انما يمنع عن تأثير العلم

__________________

المعارض فلا يضر احتماله البدوي مع الفحص ، او المقرون مع خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء ، ولكن انى لاحد هذه الدعوى؟ واما لو ادعى العلم الاجمالي باسقاط الاعم منه ومما كان جزءا متمما للآية مرتبطا بظاهرها فاصالة عدم القرينة غير جارية ، ولو فرضنا الشبهة بدوية الّا بناء على ما تقدم من شيخنا المرتضى «قدس‌سره» من كونها اصلا تعبديا ، بل لو احتمل التحريف بالزيادة فلا تجري حتى على مبناه ، للشك في اصل القرآنية.

فالحق في الجواب هو التشبث بذيل خبر الثقلين ، بتقريب أنه على وجه الاخبار بالغيب دالّ على انهما مرجعان باقيان بين الامة الى يوم القيامة ، لا بمعنى ان لهما في كل واقعة حكما يرفع الشك عنا ، بل بمعنى انهما ان حكما حكما كذلك يجب علينا اتباعه ، وهذا ملازم إما مع عدم التحريف رأسا ، كما عليه جم غفير من الاعاظم ، واما مع عدم اضراره بالتمسك على تقدير الوقوع ، وان شئت فاضمم هذا الخبر الى ما دل على جواز القراءة كما يقرأ الناس* فانه دال على ان كل ما يقرأه الناس يصح قراءته بعنوان القرآنية ، وهذا الخبر دال على ان كل ما يصح قراءته بهذا العنوان يصح التمسك به ، ينتج ان كل ما يقرأه الناس يصح التمسك به ، هذا.

مضافا الى موارد كثيرة في الاخبار احصاها شيخنا المرتضى «قدس‌سره» إما تمسك فيها الامام «عليه‌السلام» او الراوي ولم يكن في شيء منها تنبيه على المنع ، وهذا ايضا يوجب الاطمئنان بالجواز.

مع ان الزيادة المحرّفة ان كانت خارجة عما بين الدفتين فواضح عدم اضرارها ، وان كانت فيه فلا يحتمل كونها من قبيل الآية او السورة ، للزوم بطلان ما تحدّى به القرآن المجيد من عدم اتيان الجن والانس بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، نعم كونها من قبيل الكلمة الواحدة كتبديل كلمة أئمة ، بامة ، ممكن ، لكنه ايضا غير مضر بالتمسك ، لما عرفت. «منه ، قدس‌سره».

* الوسائل ، الباب ٧٤ من أبواب القراءة في الصلاة.

٣٦٦

الاجمالي في العمل بالاصول ، واما الظواهر فالعلم الاجمالي قادح للعمل بها مطلقا ، ولو كان بعض اطرافه خارجا عن محل الابتلاء ، والسر في ذلك ان الملاك في العمل بالاصول هو الشك ، فيعمل بها عنده إلّا ان يكون هناك مانع عقلى ، وليس إلّا فيما يكون العلم الاجمالى بثبوت تكليف فعلى ، بحيث يلزم من العمل بالاصول في الاطراف المخالفة القطعية ، وفيما خرج بعض الاطراف عن محل الابتلاء لم يكن التكليف الفعلى معلوما ، فلا مانع من العمل بالاصول ، واما الاخذ بالظواهر فملاكه الطريقية الى الواقع المعلوم انتفائها عند العلم الاجمالى بالخلاف مطلقا.

قلت : بناء العقلاء في الظاهر المستقر على عدم الاعتناء بالعلم الاجمالى بمخالفة ظاهر يحتمل ان يكون هو هذا الظاهر الذي هو محل الابتلاء او غيره مما لا يكون محلا للابتلاء ، أترى ان احدا من العقلاء يتوقف عن العمل بالظاهر الصادر من مولاه بمجرد العلم الاجمالي بمخالفة ظاهر مردد بين كونه ما صدر من مولاه وكونه ما صدر من مولى آخر لعبده.

واما العلم الاجمالي بورود المخصصات والمقيدات على عمومات الكتاب ومطلقاته ، فالجواب عنه انه ان ادعى العلم الاجمالى فيما بايدينا من الامارات ، فهو مانع عن العمل بالظواهر قبل الفحص ، واما بعده فيعلم بخروج المورد من الاطراف ، وان ادعى ذلك في الواقع ، فهو مانع عن العمل قبل الظفر بالمخصص والمقيد بالمقدار المعلوم بالاجمال ، إما علما وإما من الطرق المعلوم حجيتها ، اذ بعد الظفر كذلك ينحل العلم الاجمالى بالعلم التفصيلي والشك البدوى ، كما هو واضح.

واما كون القرآن مشتملا على المتشابه ، فالجواب ان المتشابه لا يصدق على ما له ظاهر عرفا ، ولو فرض الشك في شموله للظواهر فلا يجدى النهى المتعلق بعنوان المتشابه ، لان القدر المتيقن من مورده هو المجملات ، فلا يصير دليلا على المنع في الظواهر.

٣٦٧

فتلخص مما ذكرنا عدم دليل يقتضى خروج ظواهر الكتاب عن الحجية ، فهى على حد غيرها باقية تحت قاعدة الحجية المستفادة من بناء العقلاء وامضاء الشارع ، فلا تحتاج الى ذكر الاخبار التى يدعى ظهورها في حجية ظواهر الكتاب مع كون كلها او جلّها مخدوشا.

هذا تمام الكلام في اعتبار الظواهر بعد الفراغ عن تشخيص نفس الظاهر.

واما تشخيص الظاهر والمتفاهم من معنى اللفظ ، فمحصل الكلام فيه ان الظن في تشخيص الظواهر إما يحصل من قول اللغوى ، وإما من احراز مورد الاستعمال بضميمة اصالة عدم القرينة ، وكل منهما لا دليل على حجيته.

اما الاول فلان غاية ما يستدل به عليه وجهان :

احدهما كونه خبرة ، وبناء العقلاء على الرجوع الى اصحاب الصناعات البارزين في فنهم فيما اختص بصناعتهم.

الثاني ان استنباط الاحكام من الادلة واجب على المجتهد ، ولا يمكن إلّا بالرجوع الى قول اللغوى في تشخيص معانى الالفاظ الواردة في الكتاب والسنة ، والدليل الثاني لو تم لدل على حجية كل ظن ولا اختصاص له بقول اللغوى.

وكيف كان فلا يتم كل من الوجهين : اما الاول فلعدم كون اهل اللغة خبرة فيما هو المقصود ، لان المقصود فهم المعاني الحقيقية للالفاظ وتشخيصها عن المعاني المجازية ، وليس وظيفة اللغوى الا بيان موارد الاستعمال ، واما كون المعنى الكذائى حقيقيا فلا يطلع عليه ، وان اطلع عليه بواسطة بعض الامارات فليس من هذه الجهة من اهل الخبرة ، والحاصل ان المنع من جهة تحقق الصغرى ، واما الكبرى اعنى بناء العقلاء على الرجوع الى ارباب الصناعات في صنعتهم فالانصاف انها لا تخلو عن قوة (١).

__________________

(١) وجه القوة ان احتمال الخطأ في حدسه صار موهونا كاحتمال الخطأ في الحس ، نعم لو احتمل تعمده الكذب فليس لنا اصل عقلائي يدفعه ، بل لا بد من حصول الاطمئنان او ـ

٣٦٨

واما الوجه الثاني ، فان كان المقصود انه لو لم يرجع الى الظن الحاصل من قول اللغوى لانسد باب الامتثال للاحكام الواقعية المعلومة اجمالا فهو راجع الى دليل الانسداد ، وهذا يكون ممنوعا على تقدير ، وخارجا عن محل الكلام على تقدير آخر ، لان المدّعي ان كان ممن يسلّم حجية قول الثقة وبهذا يحرز صدور تلك الاخبار المنقولة من الثقات فلا اشكال في انه ليس له دعوى العلم الاجمالى بوجود الاحكام ، لان معانى الفاظ الاخبار التى تكون حجة بالفرض معلومة غالبا ، فلم يبق له بعد ذلك العلم الاجمالى ، بل ينحل الى العلم التفصيلي والشك البدوي ، وان كان ممن لا يسلّم ذلك ، فيصح منه دعوى العلم الاجمالي لكن نتيجة تلك الدعوى مع انضمام باقي المقدمات المذكورة في دليل الانسداد كون الظن الحاصل من قول اللغوى من الظنون المطلقة الثابتة حجيتها بدليل الانسداد ، وهذا خارج عن محل البحث ، ولا ربط له بالمدعى ، لانا في مقام اثبات حجيته بالخصوص ، حتى يكون من الظنون الخاصة كحجية ظواهر الالفاظ.

وان كان المقصود حجيته مع قطع النظر عن الاحكام المعلومة اجمالا فوجوب اجتهاد المجتهد لا يقتضى وجوب العمل بالظن المذكور ، لان القاعدة تقتضى في مورد عدم العلم بالحكم الواقعى وعدم دليل خاص يرجع اليه الرجوع الى الاصول العملية في ذلك المورد.

ومما ذكرنا ظهر ان التمسك بالاحتياج الى قول اللغوى لا يثمر ابدا في المقام لانه مع ملاحظة دليل الانسداد خارج عما نحن فيه ، ومع قطع النظر عنه لا يحتاج الى الاخذ بقوله ، هذا.

مضافا الى ما عرفت من ان قول اللغوى لا ينحل به عقدة فيما هو مهمنا ، وهو تشخيص حقايق المعاني من مجازاتها.

__________________

القطع او امارة معتبرة «منه ، قدّس سره».

٣٦٩

هذا في الظن الحاصل من قول اللغوى.

واما اصالة عدم القرينة فالقدر المتيقن من بناء العقلاء على حجيتها انما هو في مورد احرز المعنى الحقيقى للفظ وشك في ارادة المتكلم اياه ، واما لو احرز المراد وشك في كون المراد معنى حقيقيا للفظ او مجازيا فلا نسلم بنائهم على كونه معنى حقيقيا له بملاحظة الاستعمال واصالة عدم القرينة (١) ولهذا اشتهر بين العلماء في قبال السيد القائل باصالة الحقيقة ان الاستعمال اعم من الحقيقة.

ولعل نظير ذلك ما لو ورد عام وعلم بعدم كون الفرد الخاص موردا لحكم ذلك العام ولكن شك في انه هل هو داخل في عنوان العام حتى يكون خروجه تخصيصا في العام او خارج عنه حتى يكون عدم كونه موردا لحكم العام من باب التخصص ، فانه يمكن ان يقال في ذلك بعدم معلومية بناء العقلاء على اصالة عدم التخصيص لاستكشاف حال عنوان ذلك الفرد بعد القطع بعدم كونه مشمولا للحكم.

ويمكن الفرق بين المثال وما نحن فيه ، بانه في المثال يرجع الشك الى الشك في المراد من اللفظ وان كان حكم هذا الفرد الخارجي الذي لا يعلم دخوله في اى عنوان مقطوعا ، واصالة عدم القرينة فيه يترتب عليها تشخيص المراد ، بخلاف ما نحن فيه ، فان المفروض عدم الشك في المراد من اللفظ ، هذا.

__________________

(١) هذا بناء على القول بكون أصالة عدم القرينة اصلا تعبديا ، واما على ما قدمنا من ان مرجعها الى أصالة عدم السهو في كل من المتكلم والناقل فيمكن احراز الوضع احيانا بسببها ، كما لو نقل الناقل ان المتكلم قال جئني بأسد ، ونعلم من الخارج انه اراد الرجل الشجاع ، ولكن نحتمل وجود «يرمى» في الكلام وسها عنه الناقل ، وعلى تقدير وجوده نشك في انه قرينة صارفة او معينة لبعض الافراد ، فاصالة عدم سهو الناقل جارية ويثبت بسببها الوضع «منه ، قدس‌سره».

٣٧٠

[في الاجماع المنقول]

ومنها ، الاجماع المنقول بالخبر الواحد

وتحقيق المقام فيه يبتنى على بيان امور :

منها : ان الاجماع في مصطلح العامة عرف بتعاريف ، فعن الغزالى انه اتفاق امة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على امر من الامور الدينية ، وعن الفخر الرازى انه اتفاق اهل الحل والعقد من امة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على امر من الامور ، والمراد من اهل الحل والعقد على ما نبه عليه غير واحد منهم المجتهدون ، وعن الحاجبى انه اجتماع المجتهدين من هذه الامة في عصر على امر ، واما اصحابنا فقد اوردوا له حدودا كلها متحدة او متقاربة معه ، فعرّفه العلامة بما ذكره الفخر الرازى ، وعرّفه بعضهم بانه اجتماع رؤساء الدين من هذه الامة في عصر على امر ، والحاصل انه من المعلوم انه ليس لاصحابنا رضوان الله عليهم اصطلاح جديد في الاجماع ، وانما جروا فيه على ما جرت عليه العامة ، نعم قد يتسامح في اطلاق الاجماع على اتفاق طائفة خاصة يعلم منه قول الامام عليه‌السلام لوجود ملاك الحجية وهو قول الامام عليه‌السلام وعدم الاعتناء بمخالفة غيره.

ومنها : ان مستند حجية الاجماع امور ثلاثة :

احدها دخول شخص الامام عليه‌السلام في جملة المجمعين ضرورة انه لو اتفق هذا النحو من الاتفاق اعنى اتفاق اهل العصر ، او اتفاق امة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، او اتفاق العلماء منهم ، او اهل الحل والعقد منهم ، او الرؤساء منهم كان الامام عليه‌السلام احد هؤلاء قطعا ، لعدم خلو العصر عن وجوده عليه‌السلام.

والثاني ما ذهب اليه شيخ الطائفة من قاعدة اللطف ، وحاصله انه اذا

٣٧١

اجتمع المجتهدون في عصر على حكم من الاحكام الشرعية يقطع بمطابقته للواقع ، اذ لو لا ذلك للزم على الامام عليه‌السلام ، اظهار المخالفة من باب اللطف. وحيث لم يظهر المخالفة نقطع باتحاد رأيه مع رأى العلماء.

والثالث ما ذهب اليه المتأخرون من الحدس ، وحاصله ان اتفاق علمائنا الاعلام الذين ديدنهم الانقطاع الى الائمة عليهم‌السلام في الاحكام ، وطريقتهم التحرز عن القول بالراى والاوهام ، مع ما يرى من اختلاف انظارهم ، مما قد يؤدي بمقتضى العقل والفطرة السليمة الى العلم بان ذلك قول ائمتهم ومذهب رؤسائهم ، ولا اختصاص لهذه الطريقة باستكشاف قول المعصوم عليه‌السلام بل قد يستكشف بها عن رأى ساير الرؤساء المتبوعين ، مثلا اذا رأيت تمام خدمة السلطان الذين لا يصدرون إلّا عن رأيه اتفقوا على اكرام شخص خاص يستكشف من هذا الاتفاق أنّ هذا انما هو من توصية السلطان.

ومنها : ان الطريق الاول مما لا يمكن تحصيله في عصر الغيبة لانه مبنى على استقصاء آراء اشخاص يكون هو عليه‌السلام منهم ، ولا يعرف شخصه تفصيلا ، ومن المعلوم عدم الاتفاق لاحد في هذه الاعصار ، والطريق الثاني ليس صحيحا لعدم تمامية البرهان الذي اقيم عليه ، فانه بعد غيبة الامام عليه‌السلام بتقصير منا كل ما يفوتنا من الانتفاع بوجوده الشريف وبما يكون عنده من الاحكام الواقعية قد فاتنا من قبل انفسنا ، فلا يجب عليه عقلا ان يظهر المخالفة عند اتفاق العلماء ، اذا كان اتفاقهم على خلاف حكم الله الواقعي ، فانحصر الامر في الطريق الثالث.

اذا عرفت هذا فنقول ، انه لو نقل الاجماع ناقل فهذا النقل لا يخلو من وجوه :

احدها ان ينقل اتفاق جماعة يلازم قول الامام عند المنقول اليه.

والثاني ان ينقل اتفاق جماعة ليس كذلك عنده قطعا ، وهذا على قسمين احدهما انه حصل للمنقول اليه بعض الامارات او الفتاوى بحيث حصل له من

٣٧٢

مجموع ما عنده وما نقله الناقل على تقدير صدقه العلم بقول الامام عليه‌السلام والثاني انه ليس عنده شيء آخر يحصل بانضمامه الى المنقول العلم.

والثالث ان ينقل الاجماع ولا يعلم ان هذا الناقل حصّل قول الامام عليه‌السلام بطريق ملازم له عندنا ايضا او بغير ذلك الطريق.

لا ينبغى الاشكال في حجية نقل الاجماع ان كان على الوجه الاول بالنسبة الى الكاشف والى المنكشف ، بناء على حجية الخبر الواحد ، اما بالنسبة الى الكاشف فلانه اخبار عن امر محسوس فيؤخذ هذا الامر المحسوس المخبر به تعبدا ، ويستكشف منه لازمه ، واما بالنسبة الى المنكشف فلانه وان لم يكن من الامر المحسوس ولكن لما كان طريق الاطلاع عليه هو المحسوس يلحق به ، نظير الاخبار بالعدالة فانه يقبل من المخبر لاستكشافها من لوازمها المحسوسة.

وكذا لا ينبغى الاشكال في حجيته على الاول من شقى الثاني بالنسبة الى الكاشف ، وجعل مقدار ما اخبر به العادل بمنزلة المحصّل ، واستكشاف الواقع بضميمة ما عنده من الامارات ، كما انّه لا ينبغى الاشكال في عدم حجيته ، على الثاني من شقى الوجه الثاني لان العلم بتحقق هذا القدر لا يستلزم العلم بالواقع ، ولا اشكال في ان التعبد بالخبر الواحد لا يفيدنا ازيد من العلم.

واما اذا نقل الاجماع على الوجه الثالث فهل لنا دليل على حجيته اولا؟ (١) وما يمكن ان يستدل به عليه مفهوم آية النبأ ، بناء على ثبوت المفهوم لها ، وحاصل تقريب الدلالة انها تدل بمفهومها على حجية اخبار العادل مطلقا ، سواء كان عن حس او عن حدس ، غاية الامر انه خرج ما علم كونه عن حدس غير قريب من الحس وبقى الباقى او يقال : بان الخارج وان كان الاخبار عن الحدس

__________________

(١) قد يقال بامكان الاستدلال ببناء العقلاء ، فانه على اتباع خبر الثقة من غير تفتيش عن كونه من حسّ او حدس ؛ وفيه عدم احراز ذلك البناء منهم ، ولعل عدم تفتيشهم من جهة وثوقهم باستناد الخبر إمّا الى حسّ نفس المخبر به او آثاره ولوازمه «منه ، قدس‌سره».

٣٧٣

البعيد عن الحس واقعا لكن لما كان المخصص منفصلا بعد استقرار ظهور العام في وجوب العمل بكل ما يخبر به العادل سواء كان عن حدس او عن حس فاللازم التمسك بحكم العام فيما لم يعلم دخوله تحت عنوان المخصص هذا.

وفيه منع المفهوم للآية كما ستعرف ، ومنع ظهوره في الاعم من الاخبار عن حدس بعيد عن الحس ، فان مقتضى التعليل في ذيل الآية هو وجوب الاعتناء باحتمال الندم المستند الى فسق المخبر ، ومن المعلوم انه ليس إلّا من جهة قوة احتمال تعمده الكذب بخلاف العادل ، وكذا منع كون الخارج من تحته ما يعلم انه عن حدس بعيد ، ومنع جواز التمسك بعموم العام في صورة الشك في وجود المخصص الذي علم عنوانه مفصلا ، نعم يجوز التمسك في المخصص المنفصل لو كان مجملا مرددا بين الاقل والاكثر ، مع اشكال فيه ايضا مر بيانه في بحث العام والخاص.

ويمكن ان يقال في تقريب حجية الاجماع المنقول : ان جهة الشك في عدم مطابقته للواقع تنحصر في امور : احدها احتمال تعمده الكذب ، والثاني احتمال خطائه في الحدس ، والخطاء الذي يحتمل في حقه اما من جهة استكشاف فتوى جماعة اخبر بفتواهم ، كما اذا استكشف فتوى جماعة في مسألة فرعية من جهة اتفاقهم على الاصل الذي ينطبق عليها بمقتضى اجتهاد الناقل ، واما من جهة الكشف عن رأى الامام عليه‌السلام بواسطة قول جماعة لا ينبغى عادة حصول العلم بقولهم.

فان كان الشك من جهة الاول فادلة حجية خبر العادل ـ وان قلنا باختصاص مفادها في الغاء احتمال الكذب ـ ترفع هذا الشك.

وان كان من جهة الثاني فالظاهر من قول الناقل : ان المسألة اجماعية ، تحصيل الاجماع في خصوص تلك المسألة ، وهذا الظاهر حجّة ترفع ذلك الشك.

وان كان من جهة انه استكشف رأى الامام عليه‌السلام من سبب غير عادى فظاهر حاله يرفع هذا الشك ، نعم لو تبين منه في موارد ان دعواه الاجماع

٣٧٤

كانت مستندة الى الاجماع على القاعدة او مستندة الى اتفاق جماعة ليس اتفاقهم سببا عاديا لاستكشاف رأى الامام عليه‌السلام فلا يجوز الركون الى نقله ، واما ما لم يعلم حاله فادلة حجية قول العادل بضميمة ظاهر لفظه وظاهر حاله تنتج وجوب الاخذ بالاجماع الذي نقله.

وفيه بعد تسليم بقاء ظهور كلام ناقل الاجماع في الاتفاق على الفرع انه لا يبعد حصول العلم للناقل بواسطة اتفاق جماعة وعدم حصوله لنا ، ولا يلزم في الصورة المفروضة ان يكون حصول علمه بسبب

غير عادى حتى يكون على خلاف مقتضى الاصل العقلائى ، لامكان ان يكون ذلك منه من جهة حسن ظنه بتلك الطائفة لم يكن ذلك للمنقول اليه.

فتحصل من جميع ما ذكرنا عدم الدليل على حجية الاجماع المنقول بالخصوص إلّا اذا كان الاجماع المنقول بحيث لو اطلعنا عليه علما حصل لنا العلم او كان بحيث لو ضممنا اليه الامارات الموجودة عندنا حصل لنا العلم.

تتميم

قد يقال : بناء على ان مفهوم الآية ليس متعرضا الا لحيثية الغاء احتمال تعمد الكذب لا ينفعنا في الاخذ بخبر العادل حتى في المحسوسات اذا احتملنا كون الحجية الفعلية منوطة بشرط آخر ، اذ هى على التقدير المذكور ليست متعرضة للحجية الفعلية حتى يدفع ذلك الشرط المحتمل باطلاقها.

والجواب انه بعد الفراغ عن احتمال تعمد الكذب ليس المانع من حمل مفاد قول القائل على الواقع إلّا احتمال الخطاء في الحس ، ومقتضى الاصل عند العقلاء عدمه ، فاذا انضم ذلك الحكم المستفاد من الشرع الى تلك القاعدة المتفق عليها عند العقلاء فلا يعقل بقاء التحير ، نعم يمكن عدم كون الخبر بعد فرض الغاء احتمال الكذب حجة فعلية الا مع شرط زائد كالتعدد ونحوه ، لكن ان ثبت ذلك بالدليل فيرجع الى عدم امضاء الشارع ذلك الاصل المحفوظ عند

٣٧٥

العقلاء الا مع وجود ذلك الشرط ، وما لم يدل دليل على ذلك فمقتضى القاعدة العمل بالاصل المرتكز في اذهان العقلاء ، ومن هنا يظهر ان عدم قبول شهادة الفاسق حتى مع العلم بعدم تعمده الكذب ليس منافيا لما ادعينا ، اذ اشتراط العدالة في الشهادة ثبت من الشرع ، لا من جهة احتمال تعمد الكذب في الفاسق ، وبعد ثبوت ذلك نستكشف عدم امضاء الشارع ذلك الاصل العقلائى في مورد شهادة الفاسق.

ويمكن ان يقال ايضا بان مانعية الفسق في باب الشهادة او اشتراط العدالة ليست راجعة إلى عدم إمضاء الأصل المذكور ، فلو شهد الفاسق وعلمنا بعدم تعمده الكذب علمنا بالاصل المذكور في احراز الواقع ، لكن الموضوع لحكم الواقع في باب دفع الخصومات ليس مجرد احراز الواقع باى طريق ، بل هو خصوص البينة العادلة ، فلا تنافي بين احراز الواقع وعدم جواز الحكم على طبقه فليتدبر.

* * *

ومما قلنا في الاجماع المنقول يظهر الكلام في التواتر المنقول (١) ، ان اردنا

__________________

(١) الحق في المقام عدم المقايسة بالاجماع المنقول ، بناء على المشهور في تعريف التواتر ، من عدم تقوم مفهومه بحصول العلم للسامع فعلا ، وتقومه بكون الكثرة في المخبرين بحد يفيد العلم عادة ، إذ بناء على هذا يكون له واقع محفوظ كالامور الخارجية مثل الخمر ، فلا يصح مقايسته بمثل الاجماع الذي هو ـ بناء على مذاق المتأخرين من علمائنا ـ متقوم بحصول القطع برأى المعصوم حدسا ، ولو من قول اثنين او ثلاثة مثلا ، فلا واقع له محفوظ ، فلو فرض أن التواتر ايضا عبارة عن كون الخبر بحيث يفيد العلم للسامع فعلا ولو من قول واحد او اثنين او ثلاثة صح التقسيم المذكور في المتن ، من فرض الاثر تارة للواقع واخرى لنفس التواتر ، إما في الجملة ، وإما عند هذا الشخص ، وأنه في الاول يدور ترتيبه مدار كون ما أخبر به من الاخبار مفيدا لقطع السامع ، إما مستقلا او مع ضم ما عنده من الاخبار او القرائن ، فان كان كذلك يرتب وإلّا فلا ، وفي الثاني يرتّب مطلقا ، وفي الثالث لا يرتّب ، للقطع بانتفاء العلم للمنقول اليه.

وأمّا بناء على المشهور فلا يصح هذا التقسيم ، بل لا اشكال في ترتيب آثار الواقع للملازمة العادية بالفرض بين ما اخبر به العادل وبين الواقع ، فيجب على الوسواسي الخارج

٣٧٦

اثبات الواقع الذي ادعى الناقل تواتر الاخبار عليه ، واما ان اردنا ترتيب آثار نفس التواتر فان كان الاثر مرتبا على التواتر في الجملة ولو عند واحد فيؤخذ به بلا اشكال ، لان احتمال عدم تحقق التواتر عنده ملغى بحكم الادلة الدالة على وجوب الغاء احتمال الكذب عمدا ، وان كان مرتبا على التواتر عند المنقول اليه فلا يؤخذ به ـ وان كان المنقول اخبار عدة لو اطلع عليه المنقول اليه تحقق له العلم ـ لان المفروض عدم تحقق العلم للمنقول اليه بواسطة اخبار تلك العدة ، فالتواتر عنده منتف قطعا ، وبعبارة اخرى حصول العلم باخبار جماعة ليس كالامور الواقعية حتى يثبت باخبار العادل ، كالكرية والقلة للماء وامثال ذلك ، بل يختلف باختلاف الموارد والاشخاص ، فمن حصل له العلم باخبار جماعة تحقق له التواتر واقعا دون من لم يحصل له العلم وحينئذ فاخبار العادل بتحقق التواتر لما لم يوجب حصول العلم فعلا للمنقول اليه لم يتحقق له موضوع الحكم وهو التواتر عنده.

[في الشهرة]

ومن الظنون التى ادعى حجيتها بالخصوص الظن الحاصل من فتوى

__________________

عن المعتاد ايضا ترتيب الاثر باخبار العادل بالعدد المذكور ، كما يجب عليه عند تحصيله بنفسه ذلك العدد ، وليس تشخيص مصداق التواتر ايضا امرا محتاجا الى إعمال النظر بل هو كالامور الحسية ماخوذ من مباديها ، واما آثار نفس التواتر فلا اشكال في ترتيب ما كان مرتبا عليه بدون اخذ العلم في موضوعه ، وكذا فيما اخذ فيه العلم طريقا ، كما لا اشكال في عدم ترتيب اثر ما اخذ فيه صفة.

كما انه لو فرض تقوّم التواتر بحصول العلم التعليقي للسامع ، بمعنى كونه بحيث لو وصل اليه لعلم فيجرى فيه من حيث آثار الواقع تفصيل الاجماع المنقول ، ومن حيث آثار نفس التواتر يرتب ما كان مرتبا عليه في الجملة وما كان مرتبا على التواتر عنده ايضا لو احرز كونه بحيث يحصل العلم له لو وصل اليه ولو فرض اخذ العلم المذكور صفة ايضا. كما هو واضح «منه ، قدس‌سره».

٣٧٧

المشهور.

وما يمكن (١) ان يستدل به عليها امران :

احدهما : الادلة الدالة على حجية خبر الواحد ، اما بدلالتها على ذلك لمفهوم الموافقة كما قد يتوهم ، بدعوى ظهورها في ان اعتباره ليس من باب الخصوصية بل هو من باب الكشف عن الواقع ، فتدل على اعتبار ما كان كشفه اتم منه ، واما من جهة تنقيح المناط بعد استفادته من تلك الادلة.

والخدشة في كليهما واضحة ، اما الاول فلان ما يكون من باب مفهوم الموافقة يعتبر فيه دلالة اللفظ عليه عرفا ، بحيث يكون مسوقا لافادة المفهوم ، كدلالة قوله تعالى (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) (٢) على حرمة الضرب ، لان المعلوم من هذه القضية انها سيقت لافادة حرمة الايذاء ، وانما ذكر الفرد الخفى فيها لافادة ان الايذاء باى مرتبة كان محرّم ، ولا اشكال في ان العرف لا يفهم من القضية الدالة على حجية الخبر الواحد انها سيقت لبيان اعتبار مطلق الظن ، واما الثاني

__________________

(١) قد يقال بامكان استفادة حجية الشهرة من آية النّبأ بملاحظة التعليل المذكور فيها ، بناء على ثبوت المفهوم لها ، اذ يستفاد حينئذ بقرينة المقابلة كون الحكم في نبأ العادل بالحجية معللا بعدم المعرضية للخطإ بمقدار نبأ الفاسق ، ويستفاد من هذا أن ما كان عدم معرضيته للخطإ اقوى حجة بطريق اولى ، ولا باس بتسمية ذلك بمفهوم الموافقة.

وفيه بعد الغض عما في تسميته بمفهوم الموافقة ـ لما ذكر في المتن ـ أنه ليس المراد بالجهالة معناها اللغوي ، وهو عدم العلم ، كيف؟ وإلّا يلزم عدم جريان البراءة في الشبهات البدوية ، بل المراد معناها العرفي ، وهو الخروج عن طريقة العقلاء ، فمفهوم الآية ـ على القول به ـ عدم وجوب التبين في نبأ العادل ، لاجل عدم كون العمل به سفاهة بل كونه عملا بالحجة وعقلائيّا ، لا بمعنى الحجية الشرعية ، اذ الظاهر من تعليل الحكم بشيء ثبوته مع قطع النظر عن الحكم ، بل بمعنى الحجية العقلائية ، ففي الحقيقة يكون عدم وجوب التبين معللا بالحجية العقلائية ، ومن المعلوم انتفائها فى الشهرة الفتوائية التي مبناها على الحدس «منه ، قدس‌سره».

(٢) سورة الاسراء : الآية ٢٣.

٣٧٨

فلانه ان اراد تنقيح المناط الظنى فلا يفيد ، لعدم الدليل على اعتبار هذا الظن ، وان اراد تنقيح المناط القطعي فأنّى لاحد القطع بذلك ، فان ظهور الادلة في كون اعتبار الخبر من باب الطريقية مسلّم ، ولكن ليست الطريقية عبارة عن مجرد حصول الظن ، بل هي مطابقة مورده غالبا مع الواقع ، بحيث يكون مواقع التخلف في غاية الندرة ، وما لم يكن كذلك ولو احتمالا لا يحصل لنا القطع بتحقق المناط ، فلا يجوز لنا الحكم باعتبار كل ظن حصل لنا بمجرد جعل الشارع خبر العادل حجة وان كان ذلك الظن اقوى من الظن الحاصل من الخبر ، لامكان التخلف في الكل او الغالب ، ولو فرضنا العلم بمطابقته غالبا فلا نعلم حصول تلك المرتبة من الغلبة التى رآها الشارع في الخبر. هذا.

الامر الثاني : بعض الاخبار الواردة في تعارض الخبرين الدال على الاخذ بالشهرة كقوله عليه‌السلام «خذ بما اشتهر بين اصحابك» (١) بدعوى ان المورد وان كان مما تعارض فيه الخبران لكن العبرة بعموم الجواب لا بخصوص المورد.

وفيه ان الموصول عبارة عن الخبر لا كل شيء ، وهو واضح ، وان سلمنا عمومه فالاشتهار عبارة عن الوضوح لا الشهرة في الاصطلاح ، وان سلمنا فغاية الامر كون الشهرة مرجحة ، ولا تلازم بين المرجحية والحجية مستقلة.

[في الخبر الواحد]

ومما قام الدليل على اعتباره بالخصوص في الجملة الخبر الواحد.

واعلم ان اثبات الحكم الشرعى من الالفاظ المنقولة عن المعصومين عليهم‌السلام بعد الفراغ عن امور متعلقة بعلم الكلام يتوقف على امور اربعة : احدها احراز ان هذه الالفاظ صادرة عنهم عليهم‌السلام ، والثاني احراز ان صدورها انما كان لاجل افادة الحكم الواقعي لا للخوف والتقية او مصالح

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ج ٣ ، الباب ٩ من ابواب صفات القاضى ، الحديث ٢.

٣٧٩

أخر اقتضت اظهار الحكم على خلاف ما هو ثابت في الواقع ، والثالث احراز ظواهر الالفاظ وتشخيص ما هو المتفاهم منها عرفا ، والرابع احراز ان الظواهر منها مرادة للمتكلم ، وهذا البحث انعقد للاول من هذه الامور ، والثلاثة الاخيرة بين ما يكون مفروغا عنه وما يكون محلا للنظر.

ثم لا يخفى ان موضوع النزاع في هذا المبحث ليس إلّا في الخبر الواحد ، اذ ليس النزاع هنا الا في حجيته وعدمها ، فلا وجه لجعل الموضوع هو السنة الواقعية وجعل النزاع في ثبوته بالخبر الواحد تحفظا لموضوع علم الاصول ، لان الالتزام بكون الموضوع في هذا العلم هو الادلة الاربعة ليس له ملزم ، وقد اشبعنا الكلام في ميزان علم الاصول والفقه في اول الكتاب.

وكيف كان فاستدل المانع بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم ، ومنها التعليل المذكور في ذيل آية النبأ ، والروايات الدالة على عدم قبول الخبر المخالف للكتاب ، وردّ ما لم يوافقه ، وانه باطل زخرف ، والاجماع المحكى من السيد ، بل المحكى عنه انه بمنزلة القياس في كون تركه معروفا لدى الاصحاب.

والجواب اما عن الآيات فبأنها بعد تسليم دلالتها عمومات قابلة للتخصيص ، وبعد دلالة الدليل على حجية الخبر تخصص به ، بل الدليل الدال على حجية الخبر حاكم على تلك العمومات ، لان لسان تلك الادلة جعل مفاد الخبر بمنزلة الواقع.

واما عن التعليل المذكور في آية النبأ فيأتى عند ذكرها ان شاء الله.

واما عن الاخبار فبانها بين طوائف :

منها ما يدل على عدم جواز العمل بالخبر الواحد عند التعارض ، وهذه الطائفة ـ مع انها اخبار آحاد لا يجوز التمسك بها لعدم حجية الخبر الواحد ـ لا تثبت المنع عن العمل مطلقا.

ومنها ما يدل على وجوب العرض على الكتاب ، وهو بين طائفتين : إحداهما ما يدل على طرح الخبر الذي يخالف الكتاب ، والثانية ما يدل على طرح الخبر

٣٨٠