درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

اذا عرفت ما ذكرنا فنقول : ان مراده «قدس‌سره» ان كان ما ذكر اولا فلا وجه للقطع بعدم جريان الاستصحاب ، ـ كما افاد ذلك عند تعرضه للقسم الثالث ـ حيث يقول : واما القسم الثالث وهو ما كان مقيدا بالزمان فينبغى القطع بعدم جريان الاستصحاب فيه «الخ» ، بل ينبغى القطع بصحة الاستصحاب فيه ، كما لا يخفى ، وان كان مراده «قدس‌سره» ، ما ذكرنا اخيرا فلا وجه لجعل الاستصحاب فيه اولى منه في نفس الزمان هذا.

وكيف كان الظاهر عدم الاشكال في صحة الاستصحاب في الاقسام الثلاثة اذا كان الاثر مترتبا على نفس بقائها من دون ان يحمل ويطبّق على جزئى في الخارج ، واما لو اريد مع تطبيقه كذلك ، كما اذا اريد ان يحكم باستصحاب الزمان بكون هذا الزمان المشكوك فيه نهارا مثلا ، فلا يصح إلا بالاصل المثبت.

وبعبارة اخرى : ان كان الحكم مرتبا على تحقق النهار ففي الآن الثاني يحكم به بالاستصحاب ويترتب عليه ذلك الحكم ، وان كان مرتبا على كون الزمان المشكوك فيه نهارا فلا يثبت بذلك الاستصحاب ، لان كون الزمان المشكوك فيه نهارا امر آخر يلازم بقاء النهار عقلا ، اللهم إلّا ان يعد من اللوازم الخفية التى لا يراها العرف واسطة ، فلا يضركما ياتى ان شاء الله.

ثم نقل «قدس‌سره» عن بعض معاصريه «انه في صورة تعلق الحكم بالموضوع المعتبر فيه الزمان لو شك بعد انقضاء ذلك الزمان في بقاء الحكم فهناك استصحابان : احدهما وجودى ، والآخر عدمى ، فيتعارض احدهما مع الآخر ، مثلا لو علمنا بوجوب الجلوس في يوم الجمعة الى الزوال ، ثم شككنا بعد الزوال ، فههنا اصلان : احدهما استصحاب وجوب الجلوس ، والآخر استصحاب عدمه ، ورد عليه «قدس‌سره» بان الزمان ان اخذ قيدا فليس هناك إلّا استصحاب العدم ، لان الجلوس المقيد بما بعد الزوال لم يكن واجبا قطعا ، وان اخذ ظرفا فليس هناك إلّا استصحاب الوجود ، لان عدم الوجوب انقطع بنقيضه ، فلا

٥٤١

يجرى فيه الاستصحاب ، بخلاف الوجوب ، فانه كان ثابتا قبل الزوال فيشك في بقائه بعده «انتهى ملخصا» (١).

اقول يمكن ان يوجه كلام المعاصر المذكور على نحو يسلم عما اورد عليه ، بان نختار الشق الاول ونقول : بان الزمان وان اخذ قيدا في الموضوع الذي تعلق به الوجوب إلا ان نسبة الوجوب الى المهملة عن اعتبار الزمان صحيحة ، لاتحاد المهملة مع الاقسام ، كما بينا ذلك في محله ، وبنينا على ذلك صحة اجراء اصالة البراءة في القيد المشكوك ، فراجع مسألة الاقل والاكثر (٢) ، وعلى هذا نقول : لو وجب الجلوس المقيد بما قبل الزوال فبعد انقضاء الزوال يمكن ان يقال ذات الجلوس كان واجبا قبل الزوال ونشك في بقائه ، فيحكم ببركة الاستصحاب ببقاء الوجوب لاصل الجلوس فيما بعد الزوال ، ويعارض باستصحاب عدم وجوب الجلوس المقيد بما بعد الزوال ، لانه بهذا القيد مشكوك الوجوب.

او نختار الشق الثاني ونقول : ان الزمان وان اعتبر ظرفا في الدليل الذي دل على ثبوت الحكم على الموضوع لكن بعد انقضاء ذلك الزمان كما انه يصح ان يلاحظ ذلك الفعل ويقال : انه كان واجبا في السابق ونشك في بقاء وجوبه ، كذلك يصح ان يلاحظ مقيد او يقال : إنّ هذا الموضوع المقيد لم يكن واجبا في السابق والآن كما كان ، فيتعارض الاصلان في طرف الوجود والعدم.

وفيه ان الشق الاول وان امكن تصوره ، لليقين السابق بوجوب حقيقة الجلوس على سبيل الاهمال والشك اللاحق كذلك ، لكنه راجع الى استصحاب القسم الثالث من الكلى ، وقد سبق من شيخنا المرتضى «قدس‌سره» اختيار عدم جريانه ، ونحن وان قلنا بصحته لكنه في المقام محكوم ، لان الشك فيه مسبب عن الشك في وجوب فرد آخر من الجلوس (٣) ، والاصل عدمه ، وعلى كل

__________________

(١) الفرائد ، ص ٧ ـ ٣٧٦.

(٢) ص ٨ ـ ٤٧٧.

(٣) قد سبق الاشكال في ترتب عدم الكلي على الاصل المثبت لعدم الفرد ، وعلى هذا ـ

٥٤٢

حال لا يصح القول بالتعارض هذا في الشق الاول.

واما الشق الثاني فاستصحاب الوجوب ليس له معارض ، فان مقتضى استصحاب عدم وجوب الجلوس المقيد بالزمان الخاص ان هذا المقيد ليس موردا للوجوب على نحو لوحظ الزمان قيدا ، ولا ينافي وجوب الجلوس في ذلك

__________________

فالحق في هذا القسم تسليم المعارضة ، نعم يمكن منعها في القسم الآخر والقول بان استصحاب الوجود في مطلق الجلوس حاكم على استصحاب العدم في الجلوس المقيد بما بعد الغاية ، توضيح ذلك ان تعلق الوجوب بالجلوس المقيد تارة يكون بالاصالة ، وهذا في المقام اما مقطوع العدم واما مستصحبه ، ولكن لا منافاة بينه وبين استصحاب الوجود في الجلوس المطلق ، واخرى يكون بالتبع لاجل سراية الحكم من الجلوس الكلي الى الجلوسات المقيدة ، وهذا هو الذي ينافي استصحاب عدمه في الفرد مع استصحاب الوجود في الكلي ، ولا يرفع هذه المنافاة بما ذكر في المتن. اذ فيه اولا انه متأتّ فيما اذا أدّى دليلان اجتهاديان مؤدى هذين الاستصحابين ، فكان مفاد احدهما ان كلي الجلوس واجب الى ما بعد الغاية ، ومفاد الآخر ان هذا الجلوس الشخصى المقيد بما بعدها غير واجب ، فلا شك ان العرف يحكم بالمعارضة بينهما. وثانيا مفاد استصحاب الوجوب الى ما بعد الغاية وان كان ملاحظة الزمان ظرفا للوجوب لكن الواجب ايضا مقيد لبا بذلك الظرف ، كما هو المشاهد في الامثلة العرفية ، واذا فالمنافاة اوضح.

والذي ينبغي ان يقال في دفعها ان الشك في الوجوب التبعي للفرد ناش عن الشك في الوجوب الاصلي للكلي ، فاذا حكم بثبوت الوجوب للكلي كان من اثره ثبوت الوجوب التبعي للفرد ، وليس من اثر عدم الثبوت للفرد عدم الثبوت للكلي ، وان كانا متلازمين حتى في مرحلة الظاهر ، اذ لا يجتمع عدم وجوب الفرد ولو في الظاهر مع وجوب الكلي ولو ظاهرا.

فان قلت : ثبوت الوجوب للفرد اذا كان ثابتا للكلي انما بحكم العقل ، وليس الترتب شرعيا كما في ترتب طهارة الثوب على طهارة الماء ، والمعتبر في الحكومة المصطلحة ذلك. قلت :

كلا ، بل الحاكم بالترتب هو الشرع ، وشأن العقل انما هو ادراك ما حكم به الشرع ، فالشرع يحكم على الكلي ، وحكمه يسري الى الفرد ، والعقل يدرك ذلك ، واذا فاستصحاب الوجوب للكلي مثبت للوجوب في الفرد بعنوان الواقع ، واستصحاب العدم في الفرد لا يثبته في الكلي بهذا العنوان ، بل بعنوان الشك ، لمكان الملازمة بينهما حتى في الظاهر. (م. ع. مدّ ظلّه).

٥٤٣

الزمان الخاص (١) على نحو لوحظ الزمان ظرفا للوجوب.

[في الاستصحاب التعليقي والتقديري]

الامر الخامس : قد يطلق على بعض الاستصحابات الاستصحاب التقديري والتعليقي ، وهو ان يثبت الحكم المشروط بشيء المتعلق بموضوع في الآن السابق المشكوك بقائه لذلك الموضوع لاختلاف حال من حالاته ، مثل ان العنب كان حكمه النجاسة المعلقة على الغليان وبعد ما صار زبيبا ـ والمفروض عدم صيرورته بواسطة الجفاف موضوعا آخر عند العرف ـ يشك في أن النجاسة المعلقة على الغليان التي كانت ثابتة لهذا الموضوع حال كونه عنبا هل هي باقية بعد

__________________

(١) اقول : كيف لا ينافيه بعد رجوع ظرفية الزمان للوجوب الى تقيد الجلوس به لبّا؟ ألا ترى انه لو قيل : اجلس في الغد فلا يراد منه تعلق الوجوب بالاعم من الجلوس فيه او فيما بعده ، فالصواب في الجواب هو القول بحكومة الاصل الجاري في حكم الكلي على الجاري في حكم الفرد ، وبيانه ان الكلى والفرد وان كانا متحدين وجودا وعرضا ، فلا سببية بينهما لا بحسب الوجود ولا بحسب الحكم ، لكن مع ذلك يفترق قولنا اكرم العلماء مثلا مع قولنا اكرم هؤلاء ، في ان الاول مقيد لعلية جهة العالمية في وجوب اكرام كل فرد فرد ، وعلى هذا فاستصحاب حكم اكرم العلماء حيث انه مفيد لبقاء العلية حاكم على استصحاب عدم وجوب اكرام زيد ، ولعل هذا هو السر في استصحاب عدم نسخ حكم الكلي وتقدمه على استصحاب النفي في الافراد الحادثة ، وبهذا البيان تقدر على اثبات حكومة الاستصحاب التعليقي على التنجيزي المخالف ، فانا نقول : قضية «العصير اذا غلى يحرم» وان كان متحدا مع الحرمة الفعلية بعد الغليان ، ولكن الاول مفيد لعلية الغليان ، فاستصحابه رافع للشك في بقاء عليته ، وكما ان الاصل الحاكم بوجود العلية الشرعية حاكم على الاصل الجاري في طرف المعلول ، كذلك الاصل المفيد لبقاء وصف العلية الشرعية في ذات العلة. نعم ما ذكرناه انما يجري فيما اذا يسرى الحكم من الكلي الى الفرد ، واما في صورة العكس فلا مساغ لاثبات حكومة احد الاصلين على الآخر ، كما هو واضح ، فما في المتن من اثبات الحكومة في هذه الصورة محل منع. (م. ع. مدّ ظلّه).

٥٤٤

صيرورته زبيبا ام لا؟

لا اشكال في صحة هذا الاستصحاب ، لعدم الفرق في شمول ادلة الباب بين ما يكون الحكم المتيقن في السابق مطلقا او مشروطا ، ولا يتوهم ان الحكم المشروط قبل تحقق شرطه ليس بشيء ، اذ قد تقرر في محله تحققه ووجوده قبل وجود شرطه ، وكما ان وظيفة الشارع جعل الشيء حراما مطلقا مثلا كذلك وظيفته جعله حراما على تقدير كذا ، فاذا شك في بقاء الحرمة المعلقة في الآن الثاني يصح ان يجعل حرمة ظاهرية معلقة على ذلك الشرط ، واذا صح ذلك فشمول ادلة الاستصحاب مما لا ينبغى ان ينكر ، وهذا واضح.

وإنما الاشكال في تعارضه مع استصحاب الحكم الفعلي ، مثلا الزبيب اذا غلى فهناك حالتان في السابق يصح استصحاب كل منهما ، احداهما الحرمة على تقدير الغليان والثانية الاباحة الفعلية الثابتة قبل الغليان ، فهل يكون لاحدهما تقدم على الآخر ام لا؟ قال شيخنا المرتضى «قدس‌سره» ان استصحاب الحكم التعليقي مقدم لحكومته على استصحاب الحكم الفعلى (١).

اقول : عندي فيما افاده «قدس‌سره» نظر فان الشك في بقاء الاباحة الفعلية وان كان مسببا عن الشك في جعل الحرمة التعليقية ، إلا ان ترتب عدم الاباحة من جهة ان العقل يحكم بثبوت الحرمة الفعلية عند تحقق الشرط وهي تضاد الاباحة ، وهذا الحكم العقلى وان كان من لوازم الحكم التعليقي سواء كان ظاهريا ام واقعيا ـ نظير الحكم بلزوم الامتثال ـ لكنه يصحح الاخذ بهذا اللازم ، وانه ليس قولا بالاصل المثبت ، ولا يصحح الحكومة ، لما عرفت من ان عدم الاباحة حينئذ من جهة عدم امكان الجمع بينهما ، وكما يترتب على الاستصحاب التعليقى عدم الاباحة بحكم العقل كذلك يترتب على استصحاب الحكم الفعلى عدم الحكم التعليقى بحكم العقل ، اذ لا يجتمع الاباحة ولو ظاهرا مع ما يكون

__________________

(١) الفرائد ، التنبيه الرابع ، ص ٣٨٠.

٥٤٥

علة لضدها.

وبعبارة أخرى ليس العصير بعد الغليان محكوما بالحرمة بحسب الدليل شرعا مع قطع النظر عن الشك حتى يكون حاكما على ما يقتضى اباحته بملاحظة الشك ، بل الحكم بالحرمة انما جاء من حكم العقل بفعلية الحكم المعلق عند تحقق ما علق عليه (١) ، والمفروض ان الحكم المعلق ايضا حكم مجعول للشاك ، فيصير فعليا للشاك ايضا بحكم العقل ، فتدبر.

ومما ذكرنا يظهر ما في كلام شيخنا الاستاذ «دام بقاه» (٢) من تصحيح الحكومة بكون اللازم من اللوازم العقلية للاعم من الواقعي والظاهري.

نعم لو قلنا بتقديم الاصل في الشك في السبب من جهة تقدمه على الشك في المسبب طبعا وان لم يكن من آثار الاصل الجاري في السبب رفع الشك عن المسبب شرعا صحت الحكومة هنا ، وسيجىء ان شاء الله عند ذكر تعارض الاصلين زيادة توضيح للمطلب ، فانتظر.

[في استصحاب حكم الشريعة السابقة]

الامر السادس : لو شك في بقاء الحكم الثابت في الشريعة السابقة فهل يحكم

__________________

(١) يمكن منع كونه من حكم العقل وانما نشأ من حكم الشرع ، بمعنى ان الارادة التعليقية اذا انقدحت في نفس الآمر او الفاعل وان كانت على المختار قبل حصول المعلق عليه متصفة بالوجود الفعلي ، لكنها عارية عن وصف الفاعلية ومحركية العضلات ، وانما يتحقق فيها هذه الصفة بعد حصوله ، فهذه الصفة امر نفساني لها واقع محفوظ يدركه العقل ، وليس من انشاءات العقل ، وعلى هذا فنقول : الاصل المثبت للحكم التعليقي مثبت لوصف الفاعلية بعد المعلق عليه بلسان الدليلية ، والاصل النافي لوصف الفاعلية لا ينفى الحكم التعليقي بذلك اللسان ، بل بلسان التخصيص ورفع الحكم الاستصحابي عن موضوعه الذي هو الشك ، فلهذا يكون الاصل المثبت في مقامنا مقدما على النافي ، من باب تقدم التخصّص على التخصيص. (م. ع. مدّ ظلّه).

(٢) تعليقة الفرائد ، هنا ، ص ٢٠٠.

٥٤٦

بالبقاء بواسطة الاستصحاب ام لا؟ توضيح المقام ان هذا الشك : تارة يفرض بعد القطع بنسخ اصل الشريعة السابقة ، واخرى يفرض بواسطة الشك في ذلك.

أما الاول فالحق جواز اجراء الاستصحاب والحكم ببقاء الحكم المشكوك فيه في هذه الشريعة ، فان المقتضى ـ اعنى عمومات الادلة ـ موجود ، وليس في المقام ما يصلح للمانعية عدا امور توهم كونها مانعة :

منها ، ان الحكم الثابت لجماعة لا يمكن اثباته في حق آخرين ، لتغاير الموضوع ، فان ما ثبت في حقهم مثله لا نفسه.

والجواب : اوّلا بالنقض باستصحاب عدم النسخ ، فان الحكم المفروض كان ثابتا لجماعة وثبت بالاستصحاب في حق الآخرين ، وثانيا بالحل ، وهو ان المستصحب كان حكما ثابتا للعنوان الباقي ولو بتبدل الاشخاص ، لا نفس الاشخاص ليلزم تعدد الموضوع ، فالموضوع هاهنا كالموضوع في الوقف على العناوين كالفقراء والطلبة وغيرهما ، هذا ملخص ما اجاب به شيخنا المرتضى «قدس‌سره» (١) ، وهو كلام متين.

واجاب ايضا بأنّا نفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين ، فاذا ثبت في حقه حكم في الشريعة السابقة وشك في بقائه في اللاحقة يجرى في حقه الاستصحاب ، ويكون هذا حكم الشخص المفروض ، وبعد وجود المعدومين في عصره يسرى الحكم المذكور اليهم ، لقيام الضرورة على اتحاد حكم اهل العصر الواحد (٢).

وهذا بظاهره مخدوش ، كما افاد شيخنا الاستاذ في حاشيته (٣) ، لان قضية الاشتراك تقتضى كون الاستصحاب حكما كليا ثابتا في حق كل من كان

__________________

(١ و ٢) الفرائد ، التنبيه الخامس ، ص ٣٨١.

(٣) تعليقة الفرائد ، ص ٢٠٠.

٥٤٧

على يقين من شيء فشك ، دون من لم يكن كذلك ، فتسرية الحكم الثابت بالاستصحاب في حق من كان موضوعا له الى من لم يكن موضوعا له ، مما لا وجه له اصلا.

ويمكن ان يكون نظره الى ان المعدوم الذي يوجد في زمن المدرك للشريعتين متيقن لحكم ذلك المدرك في الشريعة الاولى وشاك في حكمه ايضا في هذه الشريعة ، فيحكم بادلة الاستصحاب ببقاء ذلك الحكم للشخص المدرك للشريعتين ، ثم يحكم بثبوته لنفسه بواسطة الملازمة الثابتة بالشرع ، وبعبارة اخرى : الحكم الثابت للمدرك للشريعتين بمنزلة الموضوع لحكمه ، وهذا الاستصحاب في حق المعدوم الذي وجد في عصره من الاصول الجارية في الموضوع ، فافهم.

ومنها : ان هذه الشريعة ناسخة لغيرها من الشرائع ، فلا يجوز الحكم بالبقاء.

وفيه : ان نسخ جميع الاحكام غير معلوم ، ونسخ البعض غير قادح.

لا يقال : انا نعلم بنسخ كثير من الاحكام السابقة ، والمعلوم تفصيلا ليس بالمقدار المعلوم اجمالا حتى ينحل.

لانا نقول : الافعال التى تعلق بها حكم الشرع بين ما علم تفصيلا بنسخ حكمه الثابت له في الشريعة السابقة ، وبين ما لم يعلم بذلك ، والثاني على ضربين : لانه إمّا ان يعلم حكمه الشرعي الثابت له في هذه الشريعة ، وإمّا لا ، والثاني على ضربين : لانه إمّا لم يعلم حكمه في الشريعة السابقة ايضا ، وإمّا يعلم ذلك ، ومجرى الاستصحاب هو القسم الاخير فقط ، وقد تقرر جواز اجراء الاصل في بعض اطراف العلم ان كان سليما من المعارض ، ودعوى العلم الاجمالي بوقوع النسخ في القسم الاخير مما لا يصغى اليه ، لانه في غاية الندرة كما لا يخفى.

ومنها : ما حكى عن المحقق القمى «قدس‌سره» من ان جريان الاستصحاب مبنى على القول بكون حسن الاشياء ذاتيا ، وهو ممنوع ، بل

٥٤٨

التحقيق انه بالوجوه والاعتبار.

والظاهر ان مراده «قدس‌سره» بكون حسن الاشياء ذاتيا الذي جعله مبنى لصحة الاستصحاب ليس كونها علة تامة للحسن ، وإلّا لكان النسخ محالا ، ولم يقع موردا للشك حتى يثبت عدمه بالاستصحاب ، بل مراده «قدس‌سره» ، كونها مقتضية ، وحاصل مرامه على هذا أن صحة استصحاب عدم النسخ مبنية على القول بان الفعل الذي كان حسنا في السابق كان من جهة اقتضائه لذلك ، حتى يرجع الشك في نسخه الى الشك في وجود المانع ، وأمّا ان قلنا بالوجوه والاعتبار فلا يجرى الاستصحاب ، لاحتمال ان يكون للزمان دخل في حسن ذلك الفعل ، فمقتضى بقاء الحسن غير محرز ، هذا غاية توجيه كلامه «قدس‌سره».

وفيه اولا : انه على هذا المبنى لا يصح استصحاب عدم نسخ حكم الشريعة اللاحقة ايضا لو شك في ارتفاعه ، لعين ما ذكر.

وثانيا : انا قلنا فيما مضى انه لا فرق على القول باخذ الاستصحاب من الاخبار بين ان يكون الشك في المانع او في المقتضى ، فراجع.

واما الثاني : اعنى صورة كون الشك في بقاء الاحكام السابقة من جهة الشك في نسخ اصل الشرع ، فنقول : انه لو فرض بقاء هذا الشك بعد التفحص الذي هو شرط للعمل بالاستصحاب فجواز التمسك به لهذا الشاك يبتنى على احد أمرين : إمّا ان يعلم ان هذا الحكم الاستصحابي حكم في كل من الشريعتين ، واما ان يعلم بان هذا الحكم ثابت في الشريعة اللاحقة ، لانه على الاول يعلم ان هذا الحكم غير منسوخ ، وعلى الثاني يعلم بان المجعول في حقه مثلا البقاء على الحكم السابق ، إمّا لكونه حكما واقعيا له ، وإمّا لكونه حكما ظاهريا.

فائدة

حكى عن بعض السادة أنه ابتلى بمخاصمة وقعت بينه وبين بعض علماء ،

٥٤٩

اليهود ، فتمسك العالم اليهودي لاثبات دينه باستصحاب نبوّة موسى على نبينا وآله وعليه‌السلام ، لاعتراف المسلمين على اصل ثبوتها وحقيتها ، قال : فعلى المسلمين اقامة الدليل على ارتفاعها وانقطاعها ، وهذه الشبهة قد اشار اليها الجاثليق لاثبات نبوة عيسى على نبينا وآله وعليه‌السلام في مجلس المأمون ، فاجابه الرضا عليه‌السلام بانى مقر بنبوة عيسى وكتابه وما بشر به امته وما اقرت به الحواريون ، وكافر بنبوة كل عيسى لم يقر بنبوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتابه ولم يبشر به امته (١) ، فاجابه الفاضل المذكور على حسب ذلك بانا نقول بنبوة موسى الذي اقر بنبوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا نقول بنبوة كل موسى لم يقر بنبوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاعترض عليه اليهودي بان موسى بن عمران حاله معهود وشخصه معروف ، قد ادعى النبوة وجاء بدين وشريعة ، وانتم تعرفون صحتها ولا يتفاوت ثبوت ذلك بين ان يقول بنبوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله اولا يقول بها ، فنحن نقول بنبوة ذاك الشخص المعهود وبقائها بحكم الاستصحاب ، فعليكم بابطاله «انتهى حكاية المخاصمة بين اليهودى وبعض السادة».

وقد اجابوا عن اشكال اليهودى باجوبة لا يهمنا ذكرها.

والحق في الجواب : ان اليهودى المذكور تارة يريد ان يتمسك بالاستصحاب لتكليف نفسه فيما بينه وبين ربه ، واخرى يريد الزام الخصم.

فان كان غرضه تكليف نفسه فنقول : بقاء نبوة موسى على نبينا وآله وعليه‌السلام الراجع الى بقاء احكامه في نفس الامر ملزوم لامرين : احدهما وجوب الاعتقاد والعلم بذلك الذي هو مقتضى الايمان ، والثاني وجوب العمل بتلك الاحكام.

فان اراد اثبات اللازم الاول بالاستصحاب فهو غير معقول ، لانه حكم

__________________

(١) توحيد الصدوق ، باب ذكر مجلس الرضا ، ص ٤٢٠ (طبعة الصدوق).

٥٥٠

مجعول للشاك بوصف انه شاك ، ولا يمكن الايجاب على الشاك في امر ـ مع وصف انه كذلك ـ تحصيل الاعتقاد والعلم بذلك الامر ، نعم يمكن ان يجب على الشخص في حال الشك تحصيل العلم ، كما انه يجب على العباد تحصيل العلم بالمبدإ والوسائط والمعاد ، ولكن هذا التكليف راجع الى ايجاب ازالة تلك الحالة اعنى الشك ، لا انه تكليف متعلق بالموضوع الشاك ، والاول امر ممكن واقع ، والثاني محال لرجوعه الى اجتماع النقيضين.

وان اراد اثبات اللازم الثاني فهو ممكن ، إلّا انه عرفت ان التمسك بالاستصحاب مشروط بالفحص ، ولو تفحص اليهودي ورفع اليد عن العصبية وما اخذ من آبائه تقليدا لظهر له حقية مذهب الاسلام ، لوضوح الادلة والبراهين القائمة على صدقه ، بحيث لم يبق له حيرة ولا شك ، حتى يحتاج الى التمسك بالاستصحاب ، وهذا امر مقطوع لا ريب فيه اصلا ، نعم لو فرض محالا بقاء الشك له بعد الفحص فالتمسك بالاستصحاب لعمل نفسه بالاحكام السابقة ، ان كان الحكم الاستصحابي مجعولا في الشريعتين ، او الجرى على التكاليف الثابتة في شريعة موسى ، من جهة انه اما تكليف واقعي له او ظاهري ، مما لا مانع له ، ولا يضر ذلك احدا ، ولا ربط له في ابطال مذهب الخصم وحقية مذهبه ، كما هو ظاهر ، هذا اذا كان غرضه اثبات تكليف نفسه.

واما ان كان غرضه الزام الخصم ، كما هو ظاهر قوله : فعليكم اقامة الدليل «الخ» فنقول : من الامور المعتبرة في الاستصحاب المجعول في حقنا اليقين بامر في الزمن السابق ، والشك في ذلك الامر في الزمن اللاحق ، ونحن لو قطعنا النظر عن اخبار نبينا وكتابه الذي اخبر بنبوة موسى لا نعلم بوجود موسى فضلا عن نبوته ، ومع ملاحظة نبوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتابه واخباره بنبوة موسى على نبينا وآله وعليه‌السلام نعلم بنبوته ونعلم بنسخه ايضا ، فكيف تلزم ايها اليهودي بالاستصحاب جماعة ليس لهم علم بالامر السابق على تقدير ، وليس لهم شك في انقطاع ذلك الامر على تقدير آخر.

٥٥١

[في الاصل المثبت]

الامر السابع : نقض اليقين بالشك ليس امرا اختياريا للمكلف حتى يقع موردا للتكليف ، فالقضية بعد القطع بعدم كون ظاهرها مرادا محمولة بحكم العرف على النهى عن النقض عملا ، فمحصل المعنى حرمة نقض اليقين ووجوب الابقاء في حال الشك من حيث العمل ، فيختص مورد التكليف بما اذا كان لليقين السابق على فرض بقائه عمل يصح للشارع ان يجعله موردا للتكليف ، وحيث ان هذه القضية وردت لرفع تحير المكلف من جهة تكليفه الواقعي لزم ان يكون لليقين السابق على تقدير بقائه عمل متعلق للتكليف الشرعي ، وان لم يكن في السابق كذلك ، فخرج اليقين الذي لم يكن له على تقدير بقائه عمل اصلا ، وكذا ما لم يكن له عمل متعلق للتكليف الشرعي.

اذا عرفت هذا فنقول : ان كان المتيقن في السابق حكما من الاحكام الشرعية متعلقا بموضوع من الموضوعات او موضوعا خارجيا تعلق به الحكم الشرعي من دون واسطة فدخوله في مورد الاخبار مما لا اشكال فيه ، لان اليقين بالحكم له عمل ، وهو الاتيان بموضوع متعلق للحكم الشرعي ، وكذا اليقين بموضوع مورد للتكليف بلا واسطة ، مثلا لو تيقن بكون مائع خمرا فعمل هذا اليقين من حيث الطريقية ترك شرب ذلك المائع ، وابقاء عمل اليقين في الحالة الثانية ترك شربه ايضا ، فيرجع قوله : «لا تنقض اليقين بالشك» فيما لو كان المتيقن وجوب الصلاة ، مثلا الى ايجاب الصلاة ، وفيما لو كان كون المائع خمرا فشك الى حرمة شربه ، لان ترك الصلاة في الاول نقض لليقين بالوجوب عملا ، وكذا شرب ذلك المائع في الثاني.

ومن هنا عرفت معنى ما هو المعروف : من ان الاستصحاب في الاحكام الشرعية عبارة عن جعل الحكم المماثل للمتيقن ، وفي الموضوعات عبارة عن جعل آثارها ، مع وحدة الدليل الدال على ذلك ، فاضبط.

٥٥٢

ثمّ ان ما قلنا من انه لا بد ان يكون لليقين عمل ليس المراد كون ذلك العمل متعلقا للتكليف الشرعي مستقلا ، بل المراد اعم منه ومن ان يكون له دخل وربط بالموضوع المتعلق للحكم بنحو من انحاء الربط ، كالقيد والشرط ، فالميزان ان يكون لليقين عمل بواسطة الشرع سواء كان من جهة كون شيء موضوعا للتكليف مستقلا ، او من جهة دخله في الموضوع بنحو من الانحاء ، ضرورة ان تقييد مورد الادلة بالصورة الاولى مما لا وجه له اصلا ، لان مقتضى العموم عدم جواز نقض كل يقين له عمل يصح للشارع ان يحكم به.

واما ان لم يكن المتيقن في السابق حكما من الاحكام الشرعية ولا موضوعا رتب عليه الحكم شرعا بلا واسطة فهو على انحاء : احدها ما لا ينتهى الى أثر شرعى اصلا ، والثاني ما ينتهى اليه بنحو من الانحاء ، لا اشكال في خروج الاول من الادلة ، واما الثاني فهو على اقسام ، وكلها يسمى بالاصول المثبتة.

لكن يختلف بعضها مع بعض في الخروج عن مورد الادلة وضوحا وخفاء :

احدها ما ينتهى بواسطة اللوازم العادية او العقلية الى اثر شرعى.

والثاني ما ينتهى بواسطة الملازمة بينه وبين شيء آخر ؛ إمّا عقلا ، وإمّا عادة ، واما اتفاقا الى اثر شرعى.

والثالث ما يكون ملزومه اثرا شرعيا او موضوعا لاثر شرعى.

والرابع ان يكون لازمه اثرا شرعيا ، ولكن لم يكن ترتبه على ذلك الموضوع بشرعى ، كما لو احرز مقتضى الوجوب وشك في المانع ، فاصالة عدم المانع وان كان يترتب عليها الوجوب وهو حكم شرعى ، لكن ترتب هذا الحكم على وجود المقتضى وعدم المانع ترتب عقلى ، كما لا يخفى.

والخامس ان يكون المستصحب او اثره من الامور الانتزاعية التى منشأ انتزاعها بيد الشرع ، كاستصحاب الشرطية او عدمها ، او المانعية ، او عدمها ، بناء على عدم كونها من الامور المجعولة في حد ذاتها ، كما هو التحقيق.

اما خروج الثاني والثالث عن مورد الادلة فظاهر ، فان الابقاء العملى

٥٥٣

للشيء ليس اخذا بملازمه ، او اثر ملازمه في الوجود ، او ملزومه.

واما الرابع فقد يتوهم شمول دليل الاستصحاب له ، من جهة ان الحكم الشرعي وان كان ترتبه بحسب الواقع عقليا ، إلّا انه يمكن ان يرتبه الشارع عند الشك ، فان العقل غير حاكم بترتب الأثر عند الشك في المانع ، فالحكم به في حال الشك ليس خارجا عن وظيفة الشارع.

وفيه أن عنوان عدم المانع ووجوده كالمقتضى بعنوانه وكذا العلة ليس له اثر حتى عقلا ، فان مثل تلك العناوين انما ينتزع من تأثير شيء بعنوانه الخاص في شيء ، لا ان الآثار تتحقق بها ، وهذا واضح جدا.

واما الخامس فلا يبعد دخوله في الادلة ، حيث ان الحكم ببقاء ما هو من قبيله بجعل منشأ انتزاعه ، فهو مما تناله يد التصرف ، وليس خارجا عن وظيفة الشارع ودعوى انصراف الاخبار عن مثله ليس لها وجه ، والمسألة محل تأمل (١).

واما القسم الاول فالتحقيق فيه عدم دخوله في الاخبار وعدم شمولها له ، لان الابقاء العملى للشيء ينصرف الى اتيان ما يقتضيه ذلك الشيء بلا واسطة.

فان قلت : لو تيقن بشيء ليس له اثر الا بواسطة الوسائط فمقتضى اصالة الاطلاق في لفظ اليقين الحكم بدخول هذا المتيقن ايضا ، فيحكم بوجوب ترتيب الآثار مع الواسطة ، لانحصار الاثر فيها بالفرض ، واذا صح في ذلك يتم في غيره لعدم القول بالفصل.

__________________

(١) ولا يتوهم انه بناء على ما مر ـ من تفسير عدم نقض اليقين بمعاملة الشاك عمل المتيقن ـ لا يصح اجراء الاستصحاب في الشك في الجزئية واخواتها ، اذ لا عمل لليقين بهذه الامور ، لاستناد العمل الى اليقين بالتكليف الذي هو منشأ انتزاعها. فانه يجاب بان مقامنا ليس بأسوإ حالا من الاستصحاب الجاري في الموضوع مع ان العمل مستند الى اليقين بالحكم المرتب على ذلك الموضوع ، فكما يصح اسناد العمل الى اليقين بالموضوع مسامحة كذلك يجري نظير هذه المسامحة في مقامنا ايضا. (م. ع. مدّ ظلّه).

٥٥٤

قلت : قد قلنا بان المراد من نقض اليقين في القضية هو النقض العملى ، فكما تصرف بحكم دلالة الاقتضاء الى ذلك تصرف بحكم الانصراف الى ما يكون نقضا عمليا لنفس المتيقن ابتداء ، لا بواسطة الوسائط ، فاليقين بامر ليس له أثر شرعا بل ينتهى بالوسائط الى اثر شرعى ليس له نقض عملى ، على نحو ما ينصرف اليه القضية ، فلا تشمله.

ومن هنا يظهر انه لا يتفاوت الامر بين ان يكون هناك لفظ يدل على عموم افراد اليقين وضعا او لا يكون إلّا اطلاق لفظ اليقين ، اذ الدعوى المذكورة تتعلق بانصراف المادة ، فلو كانت مدخولة للفظ الكل ايضا لما دل الا على احاطة افراد ما دلت عليه المادة.

فان قلت : فعلى ما ذكرت لا يمكن اثبات اللوازم الشرعية الثابتة مع الواسطة في صورة قيام الامارة او الطريق على شيء ، فان معنى قول الشارع «صدق العادل» او «اعمل بالبينة» ليس إلّا جعل المؤدى بمنزلة الواقع فيما يترتب عليه ، واذا لم يكن لما اخبر به العادل اثر شرعا بل ينتهى بتوسط اللوازم العادية او العقلية الى اثر شرعى فمقتضى ما ذكرت في دليل الاستصحاب ان لا يشمله دليل الحجية هنا ايضا ، لان العمل بالاثر الشرعى المفروض ليس أخذا بمفاد خبر العادل ابتداء.

قلت : الوجه في ذلك ان الطرق والامارات انما اعتبرت من جهة كشفها عن الواقع وافادتها الظن النوعى به ، ولا اشكال في ان ما يكشف عن الملزوم يكشف عن اللازم بعد العلم بالملازمة ، فالظن النوعى المتعلق باللازم ظن حاصل من تلك الامارة ، ودليل حجيتها دل على اعتبار الظن النوعى الحاصل منها ، فهنا فردان من الكشف الحاصل منها ، فان كان كل منهما قابلا للاعتبار يشملهما دليل الحجية ، وان كان احدهما دون الآخر يدخل هو تحت دليل الحجية دونه.

وبهذا يظهر انه لو كان مفاد الامارة ابتداء امرا لم يكن شرعيا ولا موضوعا

٥٥٥

للاثر الشرعي ولكن ينتهى الى أثر شرعي بالف واسطة يثبت ذلك الاثر الشرعي ، لان الامارة تكشف عن وجود ذلك الاثر ويصير مظنونا بالظن النوعى الحاصل من تلك ، ولا يتوقف اثبات هذا الاثر الشرعي على اعتبار الامارة في الوسائط حتى يستشكل بانها ليست قابلة لان يعتبر فيها الامارة ، بل دليل الحجية يشمل الكشف الحاصل من تلك الامارة عن الاثر الشرعي ابتداء.

ومن هنا يظهر الجواب عن شبهة ربما يتوهم ورودها على الحكم بنفى الثالث بالخبرين اللذين تعارض مدلولهما ، وحاصل الشبهة ان دلالة كل منهما على نفى الثالث دلالة التزامية وبعد سقوطهما في المدلول المطابقى وعدم حجيتهما فعلا فيه كيف يؤخذ بمدلولهما الالتزامي الذي تبع لمدلولهما المطابقى ، وحاصل الجواب على ما عرفت هنا ان كشف كل منهما عن المعنى الالتزامى وان كان تبعا للكشف عن المطابقى في الوجود ولكن ليس تبعا له في الاعتبار والحجية ، لان كلا منهما كشف حاصل من الخبر ، فسقوط الكشف الاول عن الحجية بواسطة المعارض لا يلازم سقوط الثاني.

ومن هنا يعلم وجه اخذ ما يلازم مفاد الامارة في الوجود سواء كانت الملازمة عادية او عقلية او اتفاقية.

ومن هنا يعلم انه لو قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الظن لم يكن مناص من القول بالاصل المثبت ، لعدم انفكاك الظن بالملزوم عن الظن باللازم والظن باحد المتلازمين عن الظن بالآخر ، اللهم إلّا ان يقال بان بناء العقلاء على اعتبار الظن بالبقاء الحاصل من الكون السابق ، لا الظن بحدوث امر يلازم بقاء ذلك الشيء ، وعلى هذا يحمل عدم ذهابهم الى حجية الاصل المثبت مع ان بناء المعظم على حجيته من باب الظن.

وكيف كان بناء على التحقيق من اخذ الاستصحاب من الاخبار يجب ان يقتصر في مورده على ما اذا كان المستصحب حكما شرعيا او موضوعا لحكم

٥٥٦

شرعى من دون واسطة امر عادى او عقلي.

نعم يستثنى من ذلك ما اذا كانت الواسطة بين المستصحب وبين الحكم الشرعي من الوسائط الخفية ، والسر في ذلك ان العرف لا يرى ترتب الحكم الشرعي على تلك الواسطة بل يراه مرتبا على نفس المستصحب ، وخطاب لا تنقض اليقين بالشك كسائر الخطابات تعلق بالعنوان باعتبار مصاديقه العرفية ، لا الواقعية العقلية ، ولذا لا يحكم بواسطة دليل نجاسة الدم بنجاسة اللون الباقي منه بعد زوال العين ، مع انه من افراد الدم بنظر العقل والدقة بواسطة استحالة انتقال العرض ، فما يتوهم من ان المسامحة العرفية بعد العلم بخطائهم لا يجوز الاعتماد عليها وان المقام من هذا القبيل ناش عن عدم التامل (١) ، فان المدعى ان مورد الحكم بحسب الدقة هو المصاديق العرفية ، نعم لو ترتب حكم على عنوان باعتبار ما هو مصداقه بحسب الواقع لا يجوز الاعتماد على ما يراه العرف مصداقا من باب المسامحة ، وهذا واضح جدّا.

واستثنى شيخنا الاستاذ «دام بقاه» ايضا ما اذا كانت الملازمة بين الشيئين جلية بحيث يستلزم التنزيل في احدهما التنزيل في الآخر ، كالابوة

__________________

(١) هذا بناء على ما هو الحق من عدم اختصاص المرجعية للعرف في تعيين مفاهيم الخطاب ، بل يعم ذلك وتعيين المصاديق بعد تبين المفاهيم ، لا بمعنى تقييد الخطاب بهذا القيد حتى يكون مستهجنا ، بل بمعنى ان المتكلم مع العرف يجعل نفسه كواحد منهم فما يراه العرف مصداقا يكون موضوع حكمه بحسب الدقة حتى عند من يعلم بخطإ نظر العرف ، واما بناء على الاختصاص ولزوم تشخيص المصداق بنظر العقل ـ نعم من ينكشف عنده خطأ العرف فهو معذور ما دام جاهلا ـ فيشكل الحال في مثل مقامنا مما يتمحض الاختلاف في تشخيص المصداق ، لوضوح عدم الاختلاف بين العرف والعقل ، لا في الفاظ اليقين والشك والنقض ، ولا في هيئة تركيبها ، فكيف يصح اجراء الاستصحاب في مورد علم بخطإ نظر العرف في الحكم بمصداقيته ، كما في مورد خفاء الواسطة ، وكما في تبدل الاوصاف العرضية للموضوع ، فيما ياتي من مسألة اعتبار بقاء الموضوع بنظر العرف. (م. ع. مدّ ظلّه).

٥٥٧

والبنوة ، وهو كلام في غاية المتانة ، ولا يجب ان يكون لكل منهما اثر حتى يصح بلحاظه التنزيل ، بل وضوح الملازمة بينهما صار بحيث يعد اثر كل واحد منهما اثرا للآخر كما لا يخفى.

ثم انه لا باس بالاشارة الى بعض الموارد التى توهم كونه من الاصول المثبتة ، وقد ذكره شيخنا الاستاذ دام بقاه واجاب عنها :

منها : لو نذر التصدق بدرهم ما دام ولده حيا ، حيث توهم ان استصحاب حياته في يوم شك فيها لاثبات وجوب التصدق بدرهم مثبت ، لعدم ترتب الاثر الشرعي على حياة الولد في دليل من الادلة ، بل موضوع الوجوب هو الوفاء بالنذر ، وحياة الولد توجب ان يكون الدرهم المتصدق به وفاء للنذر ، ومثل هذا الاشكال جار في استصحاب حياة زيد لاثبات وجوب الانفاق من ماله على زوجته ، لان حياة زيد ليست موضوعة في الدليل ، بل الحكم مرتب على الزوج ، وزيد على تقدير حياته يوجب تحقق عنوان الزوجية ، وهو موضوع لوجوب الانفاق ، وامثال ذلك مما لا يسع لذكره المجال كثيرة.

وقد اجاب عنه «دام بقاه» بقوله : والتحقيق في دفع هذه الغائلة ان يقال : ان مثل الولد في المثال وان لم يترتب على حياته اثر شرعي في خصوص خطاب ، إلّا ان وجوب التصدق قد رتب عليه لعموم الخطاب الدال على وجوب الوفاء بالنذر ، فانه يدل على وجوب ما التزم به الناذر بعنوانه الخاص على ما التزم به من قيوده وخصوصياته ، فانه لا يكون وفاء لنذره الا ذلك ، وبالجملة انما يجب بهذا الخطاب ما يصدق عليه الوفاء بالحمل الشائع ، وما يصدق عليه الوفاء بهذا الحمل ليس إلّا ما التزم به بعنوانه بخصوصياته ، فيكون وجوب التصدق بالدرهم ما دام الولد حيا فى المثال مدلولا عليه بالخطاب ، لاجل كون التصدق به كذلك وفاء لنذره ، فاستصحاب حياة الولد لاثبات وجوب التصدق غير مثبت ، ووجه ذلك اى سريان الحكم من عنوان الوفاء بالوعد او العقد او النذر وشبهه من الحلف والعهد الى تلك العناوين الخاصة المتعلق بها احد هذه الامور

٥٥٨

حقيقة هو ان الوفاء ليس إلّا امرا منتزعا عنها ، وتحققه يكون بتحققها ، وانما اخذ في موضوع الخطاب ذلك دونها ، لانه جامع لها مع شتاتها وعدم انضباطها بحيث لا يكاد ان تندرج تحت ميزان او يحكى عنها بعنوان غيره كان جامعا ومانعا كما لا يخفى ، وهذا حال كل عنوان منتزع عن العناوين المختلفة المتفقة في الملاك للحكم عليها المصحح لانتزاعه عنها ، كالمقدمية والضدية ونحوهما ، ولاجل ذلك يكون النهى المتعلق بالضد بناء على اقتضاء الامر بالشيء له من باب النهى في المعاملة او العبادة لا من باب اجتماع الامر والنهى.

لا يقال : ان الغصب مثلا له عنوان منتزع ، فكيف اذا اجتمع مع الصلاة يكون من باب اجتماع الامر والنهى لا النهى في العبادات والمعاملات.

لانا نقول : ان الغصب وان كان منتزعا إلّا انه ليس بمنتزع عن الافعال بما هي صلاة بل بما هي حركات وسكنات ، كما ينتزع عنها عنوان الصلاة ايضا ، وهذا بخلاف عنوان الضد ، فانه منتزع عن الصلاة بما هي صلاة فيما اذا زاحمت هي كذلك واجبا مضيقا ، فاذا اقتضى الامر به النهى عن ضده يكون النهى متعلقا بالصلاة ، فاحفظ ذلك فانه ينفعك «انتهى ما افاده دام بقاه بالفاظه» (١).

اقول : ان اراد ان عنوان الوفاء بالنذر ليس له دخل في المطلوبية بل المطلوب في نفس الامر هو العناوين الخاصة بخصوصياتها ، وانما جىء بهذا العنوان لمجرد الاحتواء على المطلوبات الخاصة نظير هؤلاء في قولك : «اكرم هؤلاء» كما هو ظاهر كلامه ، ففيه انه من المعلوم ان اعطاء الدرهم على تقدير حياة الولد انما وجب لكونه مصداقا للوفاء بالنذر لا لخصوصية فيه مع قطع النظر عن هذا العنوان ، وان اراد ان الحكم المتعلق بهذا العنوان يسرى الى مصاديقه التى منها اعطاء الدرهم على تقدير حياة الولد ، فهو حق لا ريب فيه ، إلّا انه لا

__________________

(١) تعليقة المحقق الخراساني على الفرائد ، التنبيه السادس من تنبيهات الاستصحاب ، ص ٦ ـ ٢٠٥

٥٥٩

اختصاص لهذا الكلام بالعناوين المذكورة في كلامه من الوفاء بالنذر والعهد وامثال ذلك ، بل الاحكام المتعلقة بكل عنوان تسرى الى مصاديقه وان كان من العناوين التي يضاف الوجود اليها في الخارج كالانسان مثلا.

والاولى في الجواب ان يقال : ان الوفاء بالنذر كسائر العناوين اذا تعلق به الحكم يسرى الى مصاديقه في الخارج ، ومن مصاديقه اعطاء الدرهم على تقدير حياة الولد بعد الالتزام بذلك ، فاعطاء الفقير الدرهم على تقدير حياة الولد متعلق للتكليف الشرعي من حيث كونه مصداقا للنذر ، فاذا شك في حياة الولد تستصحب ويترتب عليها الحكم من دون التوسط.

ومنها : استصحاب وجود شرط شيء او عدم مانعة او بالعكس ، اذ يتخيل انه لا اثر شرعا يترتب على وجود احدهما ، او عدمه والشرطية والمانعية من الاحكام الوضعية ، وهي على التحقيق غير مجعولة ، وجواز الدخول في المشروط والممنوع وعدم جوازه ليسا بشرعيين ، بل عقليان لاستقلال العقل بهما (١).

والجواب انه ان اراد استصحاب مصداق الشرط والمانع ، اعنى ما جعله الشارع شرطا او مانعا ، سواء اعتبر في المكلف به مثل الطهارة والحدث ام في التكليف كالزوال ومثله ، فلا اشكال في صحة الاستصحاب ، بل مورد بعض اخبار الباب هو استصحاب الطهارة ، اذ كما ان تقييد موضوع الحكم بالطهارة وظيفة للشارع كذلك الاكتفاء بالطهارة المشكوكة او عدم الاكتفاء بها. وكذلك جعل الحكم المشروط بشرط لم يعلم تحققه عند اقتضاء الاستصحاب تحققه ، او عدم جعله ، عند اقتضاء الاستصحاب عدم تحققه ، والحاصل انه كما ان ايجاب الصلاة المقيدة بالطهارة وظيفة للشارع كذلك الاكتفاء بالصلاة مع الطهارة المشكوكة التى علم بتحققها سابقا ايضا وظيفة له ، وكما ان ايجاب اكرام العالم بشرط العدالة وظيفة للشارع كذلك ايجاب اكرام العالم المشكوك

__________________

(١) تعليقة المحقق الخراساني على الفرائد ، التنبيه السادس من تنبيهات الاستصحاب ، ص ٦ ـ ٢٠٥

٥٦٠