درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

على نفس المذكورات ، ولو قلنا بشمول الموصول في «ما لا يعلمون» الحكم ايضا لا يمكن مثل هذا التقدير فيه ، اذ لا معنى للمؤاخذة على الحكم.

وزاد شيخنا الاستاذ (١) اشكالا آخر ، وهو ان اسناد الرفع الى الحكم اسناد الى ما هو له ، اذ وظيفة الشارع رفع الحكم ووضعه ، واسناده الى الموضوع اسناد الى غير ما هو له ، فيكون اسنادا مجازيا ، فارادة الحكم والموضوع من الموصول لا تجوز ، إلّا ان يراد كل منهما مستقلا كما في استعمال اللفظ في المعنيين هذا.

ولكن الانصاف عدم ورود شيء مما ذكر :

اما قضية السياق فلان عدم تحقق الاضطرار في الاحكام وكذا الاكراه لا يوجب التخصيص في قوله عليه‌السلام «ما لا يعلمون» ولا يقتضى السياق ذلك ، فان عموم الموصول انما يكون بملاحظة سعة متعلقه وضيقه ، فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما اضطروا اليه» اريد منه كل ما اضطر اليه في الخارج ، غاية الامر لم يتحقق الاضطرار بالنسبة الى الحكم ، فيقتضى اتحاد السياق ان يراد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما لا يعلمون» ايضا كل فرد من افراد هذا العنوان ، ألا ترى أنه اذا قيل : «ما يؤكل وما يرى» في قضية واحدة لا يوجب انحصار افراد الاول في الخارج ببعض الاشياء تخصيص الثاني ايضا بذلك البعض ، وهذا واضح جدا.

واما ما ذكر «قدس‌سره» من الوجه الثاني فالتحقيق فيه انه لا يحتاج الى التقدير في القضية اصلا ، وتوضيح ذلك : انه تارة نلتزم بان الاحكام الواقعية في حال الجهل لا بد وان تكون باقية على فعليتها ، واخرى لا نلتزم بذلك ، وعلى اى حال نقول : اسند الرفع الى نفس ما لا يعلمون بنحو من المسامحة ، فعلى الاول المجهول سواء كان حكما او موضوعا ليس مرفوعا حقيقة ، اما الثاني فواضح ، واما الاول فلان المفروض بقاء الاحكام الواقعية على فعليتها في حال الجهل ، فلا بد

__________________

(١) تعليقة الفرائد «هنا» ص ١٠٨.

٤٤١

من احدى المسامحتين : إمّا جعل المجهولات مما يقبل الرفع ادعاء ، وإمّا حمل النسبة على التجوز ، وعلى الثاني ان كان المجهول حكما يمكن رفعه حقيقة ، بمعنى رفع فعليته في حال الجهل ، واما ان كان موضوعا فلا يقبل الرفع ، فالمتعين جعل ما لا يقبل الرفع مما يقبل الرفع ادعاء ثم نسبة الرفع الى الجميع حقيقة.

ومما ذكرنا يظهر ما فيما افاده شيخنا الاستاذ ايضا فلا تغفل.

وبالجملة الانصاف انه لا وجه لرفع اليد عن عموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ما لا يعلمون» للشبهات الحكمية.

ثم انك بعد ما عرفت ان نسبة الرفع الى ما لا يعلمون واخواته تحتاج الى وجه من المسامحة اعلم ان المصحح لهذه المسامحة إمّا ان يكون رفع جميع الآثار ، وإمّا خصوص المؤاخذة في الجميع ، وإمّا الاثر المناسب لكل من المذكورات ، وان قلنا بالاول فلو كان للشيء آثار متعددة يرتفع عند الجهل او النسيان او الاضطرار كلها ، مثل ما لو اضطر الى لبس الحرير الذي له الحرمة النفسية والمانعية للصلاة ، وكذا لو جهل بكونه حريرا ، او جهل بكون الحرير محرما ومانعا من الصلاة ، وان قلنا بان الثاني مورد الرفع ، فينحصر فيما له خصوص الأثر المذكور ، اعنى المؤاخذة ، وما لم يكن له ذلك خارج عن مورد الرواية ، وان قلنا بالثالث يشمل غير المؤاخذة ايضا ، لكن الفرق بينه وبين الاول أنه على الاول لو كان للشيء آثار متعددة يرتفع الكل ، بخلاف الاخير ، فانه يلاحظ ما هو انسب بالنسبة الى ذلك الشيء.

اذا عرفت هذا فنقول : لو خلّينا وانفسنا لقلنا بان الظاهر ان نسبة الرفع الى المذكورات انما تكون بملاحظة رفع المؤاخذة ، لكن ينافيه (١) ما روى عن الصفوان

__________________

(١) يمكن ان يقال بعدم المنافاة لان نفس الحلف بالامور الثلاثة محرم شرعا ، فمن القريب جدا ان يكون المراد من قوله «أيلزمه ذلك» لزوم عصيان ذلك الحلف ، كما في قولهم عليهم‌السلام : «من رضى بفعل قوم لزمه ذلك» فالاشارة راجعة الى الحلف بملاحظة اثره وهو العقاب ، كما تكون راجعة في المثال المذكور الى الفعل بملاحظة اثره من الحسن والقبح ، ـ

٤٤٢

والبزنطى عن ابي الحسن عليه‌السلام بطريق صحيح ، في الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك ، أيلزمه ذلك؟ فقال : لا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وضع عن امتى ما اكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطئوا «الخبر» (١) فان الحلف على ما ذكر وان كان باطلا مطلقا ، إلّا ان استشهاد الامام عليه‌السلام على عدم لزومها مع الاكراه على الحلف بها ، يدل على عدم اختصاص الرفع برفع المؤاخذة ، فعلى هذا يدور الامر بين الاحتمالين الاخيرين : أحدهما جميع الآثار ، والثاني الاثر المناسب ، لكن الثاني مستلزم لملاحظات عديدة ، فيتعين الاول.

قال شيخنا الاستاذ في تعليقاته : ان ما يظهر من الخبر لا ينافي تقدير خصوص المؤاخذة ، مع تعميمها الى ما كانت مترتبة عليها بالواسطة ، كما في الطلاق والصدقة والعتاق ، فانها مستتبعة لها بواسطة ما يلزمها من حرمة الوطى في المطلقة ومطلق التصرف في الصدقة او العتق ، وبالجملة لو كان المقدر هو خصوص المؤاخذة الناشية من قبلها بلا واسطة او معها لا ينافيه ظاهرا الخبر «انتهى كلامه» (٢).

اقول : اسناد الرفع الى شيء لا يرتفع بنفسه ينصرف الى الاثر المترتب على ذلك الشيء من دون واسطة ، فان قلنا بتمام الآثار فهو تمام الآثار المترتبة على الشيء من دون واسطة ، وان قلنا بالمؤاخذة خاصة فهو ايضا من باب أنها اظهر الآثار للمذكورات ولو في خصوص المقام ، وعلى اي حال لا يشمل الآثار المترتبة على الشيء بواسطة او وسائط ، كما أن أخبار الاستصحاب الدالة علىفتخلص ان المراد من الرفع في مقامنا رفع خصوص المؤاخذة ، وهو وان امكن ان يكون بنحو التصرف لشرعي اعني اخذ التجريد في موضوع الحكم الواقعي لكن الظاهر بقرينة اطلاقات الادلة الواقعية كونه تقريرا لحكم العقل اعنى قبح العقاب بلا بيان. (م. ع. مد ظلّه).

__________________

(١) الوسائل ، الباب ١٢ من كتاب الايمان ، الحديث ١٢.

(٢) تعليقة الفرائد ، «هنا» ص ١٠٩.

٤٤٣

وجوب إبقاء ما كان تنصرف الى ابقاء الآثار بلا واسطة ، وكيف كان دلالة الخبر المذكور على كون المرفوع أعم من المؤاخذة غير قابلة للخدشة.

بقى الكلام في امور :

احدها : ان المراد بالرفع في هذا الخبر الشريف هو الدفع او الاعم منه ومن الرفع ، لا معناه الحقيقي الذي هو عبارة عن ازالة الشيء بعد ثبوته ، اذ هو غير واقع في بعض العناوين المذكورة قطعا.

الثاني : أن الاثر المرفوع انما هو الاثر الشرعي المرتب على هذه المذكورات بلا واسطة ، فالآثار العقلية او الشرعية المترتبة عليها بواسطة او وسائط خارجة عنه.

فان قلت : فعلى هذا ، الشبهات الحكمية خارجة عن مورد الرواية ، لان الحرمة المجهولة مثلا ليس لها أثر شرعا ، بل اثرها المؤاخذة ، وهي غير قابلة للتصرف الشرعي ، وهكذا الوجوب المجهول.

قلت : المؤاخذة وان لم تكن قابلة للرفع والوضع بنفسها ، لكنها قابلة لهما بواسطة منشأها ، فانه للشارع ان يثبت المؤاخذة بايجاب الاحتياط في حال الجهل ، فاذا لم يوجب الاحتياط يرتفع المؤاخذة ، فيصح اسناد رفعها الى الشارع ، مضافا الى امكان القول بان نسبة الرفع الى الشبهات الحكمية ليست بملاحظة الآثار ، بل بملاحظة نفسها ، لان الحكم بنفسه مما تناله يد الجعل.

الثالث : انه لا اشكال في قبح مؤاخذة الناسى والعاجز والمخطى عقلا ، وعلى هذا يستشكل في الرواية من جهتين :

احداهما عدم اختصاص رفع المؤاخذة عن هذه المذكورات بالامة المرحومة.

والثانية ان الرواية في مقام المنة ، واى معنى للمنة في رفع ما هو قبيح عند العقل.

ثم لا يخفى انه لا يرتفع الاشكال بجعل المرفوع تمام الآثار ، اذ منها المؤاخذة ، فانضمام الآثار التي يصح رفعها امتنانا الى ما لا يصح كذلك غير صحيح ،

٤٤٤

وهذا التوجيه نظير ما قيل في ان الرفع انما هو بملاحظة مجموع التسعة ، فما اورده شيخنا المرتضى «قدس‌سره» (١) على التوجيه الثاني من انه شطط من الكلام وارد على الاول ايضا بعينه ، فلا تغفل.

وكيف كان فالاولى أن يقال ـ كما افاده شيخنا المرتضى «قدس‌سره» (١) اخيرا بان النسيان وكذا الخطأ ، قد يكون من جهة مسامحة المكلف وعدم المبالاة في الحفظ ، وقد يكون غير مستند اليه ، والقبيح مؤاخذة الناسى والمخطى مثلا اذا لم يكونا مستندين اليه ، وأمّا في صورة الاستناد اليه فليست المؤاخذة قبيحة ، فيصح ان يرفع الشارع المؤاخذة عن الناسى ومثله ، بان لا يوجب عليهم التحفظ اوّلا.

الرابع : ان بنينا على أن المرفوع تمام الآثار فيمكن ان يقال : لو نسى جزء من اجزاء الصلاة واتى بالباقي كانت مجزية ، ولا يجب عليه الاعادة بعد الالتفات ، اذ من الآثار الجزئية ، فهي مرفوعة في حال النسيان ، فيدل الخبر على ان المكلف به للناسى هي الصلاة من دون ذلك الجزء المنسى.

والاشكال بأن الجزئية غير قابلة للرفع لانها من الآثار الوضعية التى قلنا بعدم الجعل فيها ، مدفوع ، بما مر في رفع المؤاخذة ، من أنها وان كانت غير قابلة للجعل بنفسها ، إلّا أنها قابلة له من جهة منشأ انتزاعها ، هذا.

ولكن ما قلنا انما هو مبنى على صحة اختصاص الناسى بالتكليف ، كما هو التحقيق والمحقق في محله ، واما على مذهب شيخنا المرتضى «قدس‌سره» من عدم امكانه فلا يصح الاستدلال ، كما لا يخفى.

الخامس : لو شك في مانعية شيء للصلاة فالحديث بناء على حمله على تمام الآثار ينفع لصحة صلاته ما دام شاكا ، واذا قطع بكونه مانعا يجب عليه اعادة تلك الصلاة في الوقت ، وقضاؤها في خارجه ، كما هو مقتضى القاعدة في

__________________

(١ و ٢) الفرائد ـ ذيل البحث عن الخبر ـ ص ١٩٦.

٤٤٥

الاحكام الظاهرية ، واما لو شك في انطباق عنوان ما هو مانع على شيء فلا يبعد ان يقال بالاجزاء (١) وان علم بعد الفعل بالانطباق ، كما لو صلى مع لباس شك في أنه مأكول اللحم او غيره ، مثلا ، اذ مقتضى رفع الآثار عن هذا المشكوك تخصيص المانع بما علم انه من غير المأكول ، ولا يمكن هذا القول في الاول ، اذ يستحيل تخصيص المانع بما اذا علم مانعيته فتدبر جيدا.

ومن جملة ما استدل به على البراءة صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج ، فيمن تزوج امرأة في عدتها قال : اذا كان بجهالة فليزوجها بعد ما تنقضى عدتها ، فقد يعذر الناس في الجهالة بما هو اعظم من ذلك ، قلت : باى الجهالتين اعذر؟ بجهالته ان ذلك محرم عليه ، ام بجهالته انها في العدة؟ قال : احدى الجهالتين اهون من الاخرى ، الجهالة بان الله حرم عليه ذلك ، وذلك لانه لا يقدر معه على الاحتياط ، قلت : فهو في الاخرى معذور؟ قال : نعم ، اذا انقضت عدتها فهو معذور ، فله ان يزوجها (٢).

تقريب الاستدلال أنه حكم بكونه معذورا لانه جاهل ، فجعل الجهل موجبا للعذر ، سواء كان متعلقا بالحكم ام بالموضوع ، ويؤيده سؤال الراوى بعد ذلك : «بأي الجهالتين اعذر».

__________________

(١) بل يبعد القول به فان رفع المانعية عن الجاهل بالموضوع وان لم يستلزم محالا ولا تصويبا إلّا انه خلاف الظاهر ، فان الظاهر من تعليق الحكم بالشك في الموضوع ان يكون بلحاظ ما يلازمه من الشك في الحكم الجزئي ، وان يكون حكما عذريا في طول ذلك الحكم ، بمعنى ان لا يكون مغيرا لمصلحته ، ولازم ذلك عدم الاجزاء ، كما ان رفع المانعية عن الجاهل بالحكم وان كان ممكنا بناء على ما تصورناه من اخذ التجريد إلّا انه ايضا ليس على وجه العرضية للحكم الواقعي ، كالمسافر والحاضر بل حكم عذري في طوله مع بقاء المصلحة بحالها ولازمه عدم الاجزاء ايضا. (م. ع. مدّ ظلّه).

(٢) الوسائل ، الباب ١٧ من ابواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، الحديث ٤. راجعه فان بعض الفاظ الحديث مغاير لما في المتن.

٤٤٦

ويشكل بان الجهل المفروض في الرواية على فرض كون المراد منه الشك إن كان متعلقا بالحكم الشرعي فالمعذورية يتوقف على الفحص ، اذ الجاهل بالحكم قبل الفحص ليس بمعذور اجماعا ، ولو حملنا الرواية على ما بعد الفحص فيبعد بقاء الجهل مع وضوح الحكم بين المسلمين ، وإن كان المراد الجهل بالموضوع فيصح الحكم بالمعذورية ، اذا لم يعلم بكونها في العدة اصلا ، واما اذا علم بكونها في العدة سابقا ولم يدر انقضائها فمقتضى استصحاب بقاء العدة عدم معذوريته ، وبالجملة الحكم بمعذورية الجاهل مطلقا لا يطابق القواعد المسلمة إلّا ان يحمل الجهالة على الغفلة ، فيستقيم الحكم بالمعذورية ، او كان المراد من المعذورية المعذورية بالنسبة الى الحكم الوضعى (١) اعنى الحرمة الابدية.

وايضا هنا اشكال آخر : في حكمه بكون الجهالة بأن الله تعالى حرم عليه ذلك اهون من الاخرى معللا بعدم قدرته على الاحتياط معها ، وحاصل الاشكال انه لا فرق بين الجهالتين في هذه العلة ، لانها ان كانت بمعنى الغفلة فلا اشكال في عدم قدرته على الاحتياط فيهما ، والتفكيك بين الجهالتين بان يجعل الجهالة بالحكم بمعنى الغفلة والاخرى بمعنى الشك في غاية البعد.

قال شيخنا الاستاذ : غاية ما يمكن ان يقال في دفعه هو ان ارادة الغفلة في

__________________

(١) وذلك اما بان يقال بان الجاهل المردد وان كان مقصرا من حيث التكليف ، معذور من حيث الوضع ، لمدخلية وصف الجهل في رفع الوضع ، واما بان يقال بان الحكم في هذه المسألة مبني على تخصيص الاستصحاب مع الحمل على الشبهة الموضوعية.

وفيه ان سياق الرواية يشهد بان الجاهل في هذا الباب جار على قاعدته في سائر الابواب ، من غير خصوصية لوصف الجهل ولا تخصيص لقاعدته ، لقوله عليه‌السلام : «فقد يعذر الناس في الجهالة بما هو اعظم من ذلك» :

فالحق في الجواب ما ذكر اخيرا في المتن من حمل الجهالة في الموضعين على معنى الغفلة ، ويعلم منه حكم الجاهل المردد اذا كان معذورا ، اذ الظاهر من الرواية كون الحكم في الغافل معللا بكونه معذورا. (م. ع. مدّ ظلّه).

٤٤٧

احد الموضعين والشك في الآخر لا توجب التفكيك في الجهالة بحسب المعنى فيهما ، فانه من الجائز بل المتعين استعماله في كلا الموضعين في المعنى العام الشامل للغفلة والشك ، لكن لما كان الغالب في الجهل بالحكم هو الغفلة ، اذ مع وضوح هذا الحكم بين المسلمين قلّما يتفق مع الالتفات اليه الشك فيه بخلاف الجهل بكونها في العدة ، فانه يتحقق غالبا مع الالتفات ، لكثرة اسبابه ، اذ المتعارف ـ بحيث قلّ ان يتخلف ـ التفتيش من حال المرأة التي يريد ان يزوجها ، ومعه من المستحيل عادة ان لا يصادف بما يورث التفاته الى أنها في العدة ام لا ، كما لا يخفى ـ خص الامام عليه‌السلام الجاهل بالتحريم بالاعذرية ، معللا بكونه غير قادر على الاحتياط ، نظرا الى ان الغالب فيه الغفلة ، بخلاف الجاهل بالعدة ، من دون التفات منه بما يتفق نادرا في الموضعين ، فاذا لا تفكيك بحسب المعنى بين الموضعين انتهى كلامه (١).

قلت : كما ان وضوح الحكم بين المسلمين يوجب عدم الشك مع الالتفات كذلك غلبة التفتيش عن حال المرأة توجب عدم بقاء الشك بحاله ، فالتعرض لحكم الشك في الشبهة في العدة ايضا تعرض للفرد النادر ، فتأمل (٢).

ويمكن دفع الاشكالات الواردة على الرواية باجمعها ، بحمل الجهالة على الغفلة في كلتا الصورتين ، وحمل قول السائل : «بجهالة أن الله حرم عليه ذلك» على الجهالة في الحكم التكليفي ، وقوله : «ام بجهالته أنها في العادة» على جهالته بان العدة موضوعة للامر الوضعى ، أعنى الحرمة الأبدية ، وحينئذ وجه قدرته على الاحتياط في الثاني انه بعد الالتفات يتمكن من رفع اليد عن الزوجة ، بخلاف الاول ، فانه عمل بالفعل المحرم شرعا ، ولا يتمكن عن تداركه بعد الالتفات

__________________

(١) تعليقة المحقق الخراساني ، هنا ـ ص ١١٤

(٢) اشارة الى انه لو كانت القضية متعرضة لبيان خصوص حكم الفرد النادر كما فيما نحن فيه. فلا تضره الندرة كذا قال الاستاذ دام ظله في مجلس الدرس (عباس الهمداني).

٤٤٨

فافهم (١).

ومما استدلوا به على البراءة قوله عليه‌السلام : كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه (٢) بحمل قوله عليه‌السلام فيه حلال وحرام على صلاحيتهما واحتمالهما ، فيصير الحاصل أن كل شيء يصلح لان يكون حراما ولان يكون حلالا ، ويصح ان يقال فيه : إما حرام وإما حلال ، فهو لك حلال ، سواء كانت الشبهة في الحلية والحرمة من جهة الشك في اندراجه تحت كلى علم حكمه ام لا.

واورد شيخنا المرتضى «قدس‌سره» (٣) على المستدل بان القضية ظاهرة في الانقسام الفعلى إمّا خارجا ، مثل ان يكون هناك شيء مشتمل على الحلال والحرام في الخارج ، وإمّا ذهنا ، كما اذا كان هناك شيء تحته عنوانان : احدهما محرم ، والآخر محلل ، وان لم يوجد افراد احدهما او كليهما في الخارج ، وعلى اي حال حمل القضية على الترديد خلاف الظاهر. فعلى هذا يختص بالشبهات الموضوعية.

لا يقال : انا نحمل القضية على الانقسام الفعلى ولا ينافي شمولها للشبهات الحكمية ايضا ، كما اذا فرضنا شيئا فيه حرام وحلال كذلك ويكون قسم من ذلك الشيء مشتبه الحكم ، كمطلق اللحم ، حيث ان فيه حلالا كلحم الغنم ، وحراما كلحم الخنزير ، وفيه قسم آخر مشتبه بين الحلال والحرام ، فيدل الرواية

__________________

(١) يمكن ان يكون اشارة الى ان هذا مبنى على القول بجريان الاستصحاب في الاعدام الازلية ، كما سيجيء تحقيقه ان شاء الله تعالى ، واما على القول بعدم الجريان بدعوى ان المستصحب لا بد اما ان يكون حكما او ذا حكم مجعول والعدم الازلي ليس بحكم ولا موضوعا له ، فالحاجة الى الرواية بعد جريان الاستصحاب في مقامنا واضحة ، اذ يثبت نفس الموضوع ـ وهو عدم النهي ـ بالاستصحاب ، ويثبت اثره ـ وهو الاطلاق ـ بالرواية. (م. ع. مدّ ظلّه).

(٢) الوسائل ، الباب ٤ من ابواب ما يكتسب به ، الحديث ١ راجعه.

(٣) الفرائد ـ ذيل البحث عن الخبر ـ ص ٢٠١.

٤٤٩

على حلية ذلك المشتبه ، وبعد شمول الرواية لهذا المورد يلحق به ما بقى من الشبهات الحكمية بعدم القول بالفصل.

لانا نقول : «قوله عليه‌السلام فيه حلال وحرام» انما جىء به لبيان منشأ الاشتباه ، وإلّا فالقيد الذي لا دخل له في الحكم ولا في تحقق الموضوع يكون لغوا ، لا ينبغى صدوره من المتكلم ، سيما الامام عليه‌السلام ، ولا اشكال في ان حلية لحم الغنم وحرمة لحم الخنزير مما لا دخل له في حلية لحم الحمير المشتبه ، ولا يكون ايضا منشأ للاشتباه ، اذ منشأ الاشتباه فيه انما هو عدم النص ، بخلاف ما لو حملناه على الشبهة الموضوعية ، فان هذا القيد يكون بيانا لمنشا الاشتباه ، حيث ان وجود القسم الحلال والقسم الحرام يكون منشأ للشبهة في ذلك الامر الخارجي الذي لم يعلم اندارجه في احد القسمين ، مضافا الى انه يلزم على ما ذكره هذا القائل ان يكون العلم بكون لحم الخنزير حراما غاية لحلية لحم الحمير ، هذا محصل ما افاده «قدس‌سره».

اقول يمكن دفع هذين الاشكالين عن القائل : أما الاول فبأنه يكفى في عدم لغوية القيد انه لو علم كون مطلق اللحم حراما او حلالا لم يبق شك في لحم الحمير ، فوجود القسمين في اللحم صار منشأ للشك في لحم الحمير.

وأما الثاني فبان معرفة الحرام غاية للحكم على المطلق او على ذلك الشيء الذي عرف حرمته ، ولو لا ذلك للزم الاشكال على تقدير الاختصاص بالشبهة الموضوعية ايضا ، اذ بعد معرفة فرد من افراد الغير المذكى يصدق انه عرف الحرام ، فيلزم ارتفاع الحكم عن الشبهات ايضا ، فتدبر جيدا.

ومن جملة ما استدلوا به على البراءة قوله عليه‌السلام في المرسلة «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهى» (١) وهذا كبعض ما سلف لو تم دلالته لدل على البراءة في الشبهة التحريمية.

__________________

(١) الوسائل ، الباب ١٢ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ٦٠.

٤٥٠

وادعى شيخنا المرتضى «قدس‌سره» (١) كونها اوضح دلالة من الكل.

وفيه أن الاستدلال بها على المطلوب يبتنى على حمل قوله عليه‌السلام : «حتى يرد فيه نهى» على الثبوت عند المكلف ، وإلّا فلو حمل على الورود في نفس الامر ـ كما انه لم يكن ببعيد فلا تدل الا على إباحة الاشياء قبل تعلق النهى بها واقعا ، فما شك في تعلق النهى به وعدمه من الشبهات لا يجوز لنا التمسك بالعام فيها ، إلّا ان يتمسك باستصحاب عدم النهى لاحراز الموضوع ، وعلى هذا لا يحتاج الى الرواية في الحكم بالاطلاق ، لانه لو صح الاستصحاب لثبت به ذلك فافهم.

هذه عمدة الادلة في الباب ، وقد عرفت ما ينفع منها ، والادلة الأخر التي ذكروها في المقام من الآيات والاخبار لعدم كونها نافعة ما تعرضتها رعاية للاختصار.

بقى هنا امران الأوّل : بعد ما عرفت حال الشبهة الحكمية في اصل التكليف من الوجوبية والتحريمية ينبغى التكلم في الموضوعية من هذا القسم ايضا.

فنقول : مجمل القول فيها ان التكاليف المتعلقة بالطبيعة على انحاء :

احدها : ان تتعلق بها باعتبار صرف الوجود اعنى المقابل للعدم المطلق.

والثاني : ان تتعلق بها باعتبار الوجودات الخاصة.

والثالث : ان تتعلق بها باعتبار مجموع الوجودات من حيث المجموع (٢).

__________________

(١) الفرائد ، ص ١٩٩.

(٢) وجه الفرق بين هذا الوجه وكذا الوجه الاول حيث قلنا فيهما بالاشتغال وبين اعتبار الوجود السارى الذي قلنا فيه بالبراءة ان وجود الطبيعة في الوجه الاول وكذا مجموع الوجود في الوجه الثالث لوحظ امرا مغايرا للافراد ، ولذا صح الحمل بينهما وبين الافراد ، والحكم انما تعلق بهما في هذا اللحاظ ، فاذا شك في الافراد بين الاقل والاكثر او المتباينين فهذا الشك اجنبي عمّا وقع موردا للتكليف ، ومورد التكليف شيء اجنبي عن الافراد ، وهذا بخلاف الحال في الوجه الثاني ، فان الحكم هناك انما تعلق بالطبيعة في لحاظ اتحادها مع الفرد وعدم ـ

٤٥١

فلو تعلق التكليف على النحو الاول ، فلا مجال لاصالة البراءة في الشبهة الموضوعية ، سواء كان التكليف المتعلق بالطبيعة على النحو المذكور أمرا او نهيا ، لان الامر بالطبيعة على هذا النحو يقتضى ايجاد فرد ما منها ، فما لم يوجد قطعا او يشك في ايجاده يجب عليه الاتيان بحكم العقل من دون شك ، فاذا قطع بايجاده فليس عليه شيء آخر قطعا ، وكيف كان لا مجال لاصالة البراءة ، والنهى بها على هذا النحو يقتضى ترك جميع الافراد ، لان الطبيعة لا تترك إلّا بترك جميع الافراد ، فمتى شك في شيء أنه من افراد الطبيعة المنهى عنها يجب عليه تركه ، لان اشتغال الذمة بترك ايجاد الطبيعة معلوم ، ولا يتيقن بالبراءة إلّا بالقطع بترك جميع افرادها في نفس الامر.

ولو تعلق التكليف بالطبيعة على النحو الثاني ، فلا اشكال في انه ينحل الى تكاليف عديدة ، وان كل فرد يتعلق به تكليف مستقلا ، نظير العام الاستغراقي ، فمتى شك في شيء أنه من افراد الطبيعة المكلف بها فالاصل فيه البراءة ، سواء كان التكليف المتعلق بالطبيعة امرا او نهيا ، اذ كل ما ذكرنا في الشبهة الحكمية من حكم العقل والادلة الشرعية جار هنا ايضا ، ومجرد العلم بالكبرى التى شك في وجود صغراها كما هو المفروض لا يصحح العقاب على هذا المشكوك فيه ، ولعمرى ان هذا واضح جدا.

ولو كان التكليف بالطبيعة على النحو الثالث ، فان كان امرا يقتضى

__________________

لحاظهما اثنين ، فالشك المتعلق بالفرد متعلق بمورد التكليف لا محالة ، ولا يتوهم انه بناء على الوجهين الآخرين يمكن التمسك بحديث الرفع بناء على حمله على الجعل الشرعي ، بعد ما عرفت من ان الشك في ذينك الوجهين غير مربوط بما هو موضوع الاثر ، نعم قد يتمسك فيما اذا تعلق النهي باحد الوجهين باستصحاب بقاء كونه تاركا للصرف او لمجموع الوجود بعد اتيان الفرد المشكوك او الانتهاء عنه والاتيان بما عداه ، كما يستصحب الطهارة او الحدث بعد الصلاة فيما اذا كان غافلا حينها ، ووجه الصحة في المقامين ان مقام تقبل المصداق قابل للجعل الشرعي كمقام التصرف في المأمور به قبل الاتيان به باسقاط شيء عنه او الحاقه به. (م. ع. مدّ ظلّه).

٤٥٢

اتيان مجموع الافراد فيجب الاتيان بما يحتمل ان يكون فردا للطبيعة ، تحصيلا للبراءة اليقينية ، وان كان نهيا يكفى ترك الفرد الواحد ، فيجب القطع بترك الواحد ولا شيء عليه بعده.

اذا عرفت هذا تعرف ان مورد اجراء اصالة البراءة ينحصر فيما اذا كان التكليف بالطبيعة باعتبار وجودها السارى في كل من الافراد ، بحيث ينحل الى تكاليف متعددة ، فلا يحسن القول بالبراءة في الشبهة الموضوعية على نحو الاطلاق ، ولا بعدمها كذلك فلا تغفل.

الثاني : مورد اصالة البراءة في الشبهة ما لم يكن هناك اصل وارد او حاكم عليها ، فمثل المرأة المرددة بين الزوجة والاجنبية واللحم المردد بين ان يكون مذكى او غير مذكى خارج عنه ، اما الاول فلاستصحاب عدم تحقق علقة الزوجية واما الثاني فلاستصحاب عدم التذكية (١).

__________________

(١) ولكن ليعلم ان مورد هذا الاصل ما اذا كان الحيوان مشكوك الحال ، واما اذا كان حيوان معلوم التذكية وآخر معلوم العدم وشك في اللحم انه من ايهما اخذ فلا مجرى له ، اما بناء على كون التذكية عبارة عن الفري الخاص فواضح ، واما بناء على كونه متحصلا منه وساريا الى اجزاء الحيوان فلان اللحم المذكور وان كان مشكوك الحال حينئذ ، لكنه شبهة مصداقية لنقض اليقين بالشك ، اذ على تقدير كونه مأخوذا من الحيوان المعيّن المعلوم التذكية فهو بصورته التفصيلية مورد للقطع بانتقاض الحالة السابقة بالخلاف.

فان قلت : مع الشك في الحيوان ايضا لا مجرى للاصل ، لان احراز العدم الازلي بالاصل ثم الحكم بان زهاق الروح من الحيوان او اللحم كان متلبسا بهذا العدم من الاصل المثبت.

قلت : هذا مسلم لو اعتبر التذكية في الدليل وصفا للزهاق ، واما لو اعتبر وصفا للحيوان فلا ، والظاهر الثاني ، فان الاول مبني على كون قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) استثناء منقطعا ، فكانه قيل يحرم هذه الاصناف من الزواهق الروح الا ما زهق روحه بالتذكية ، والظاهر بشهادة ما ورد في تفسيره انه استثناء متصل ، وكانه قيل يحرم كذا وكذا الا ما ادركتموه قبل زهاق روحه فاورد تم عليه التذكية.

ثم هذا كله لو كان الشك في الحيوان من جهة الشك في وقوع الفرى بشرائطه مع احراز ـ

٤٥٣

لا يقال : كما ان الحلية في بعض الادلة علّقت على التذكية كذلك الحرمة في البعض الآخر علّقت على الميتة ، فاستصحاب عدم التذكية معارض باستصحاب عدم كونه ميتة ، فيتساقطان فيرجع الى اصالة البراءة.

لانا نقول : ليست الميتة خصوص ما مات حتف انفه ، بل هي عبارة عن غير المذكى ، لان الحيوان ان ازهق روحه مع تحقق امور اعتبرها الشارع ، من التسمية والاستقبال وفرى الاوداج الاربعة ونحوها ، فقد حل لحمه ، ومع عدم تلك الامور كلا او بعضا يكون ميتة شرعا ، واما المال المردد بين مال الغير ومال نفسه ، فان كان مسبوقا بكونه مال الغير فلا شبهة في كونه موردا للاستصحاب ، وان لم يكن له حالة سابقة معلومة فيمكن القول بالحرمة فيه ، من جهة ان قولهم عليهم‌السلام لا يحل مال الا من حيث ما احله الله (١) ، يدل على ان الحلية معلقة على امور وجودية اعتبرها الشارع ، فاذا شككنا في تحقق ما هو موجب للحلية يستصحب عدمه ، وكذلك الكلام في مال الغير الذي نشك في طيب نفس صاحبه ، فان حلية التصرف في الدليل معلقة على طيب النفس ، وعند الشك يستصحب عدمه.

__________________

القابلية ، واما لو شك في القابلية ، بناء على عدم عموم مثبت لها في كل حيوان الا ما خرج ، او فرض الشبهة موضوعية ، كما لو شك في ان هذا الحيوان غنم او كلب ، فهل يجرى اصالة الحل الذاتي او الطهر كذلك في نفس الحيوان ويجعل ذلك حاكما على اصالة عدم التذكية ، بناء على كون القابلية عبارة عن الحلية او الطهارة المذكورتين اولا؟ قد يقال بالثاني ؛ نظرا الى ان الحل او الطهر الواقع قيدا للتذكية هو الواقعي لا الاعم منه وممّا ثبت بالاصل ، ولكن لقائل ان يقول : اي فرق بين هذا وبين اثبات الطهر في المصلّي او لباسه بالاصل؟ فكما تقولون هناك باحراز الصلاة مع الطهارة بضم التعبد الى الوجدان فلم لا تقولون هنا باحراز التذكية مع الحل او الطهارة كذلك. (م. ع. مدّ ظلّه).

(١) الوسائل ، الباب ٣ من ابواب الانفال ، الحديث ٢. ولفظ الحديث هكذا : لا يحلّ مال إلا من وجه أحلّه الله.

٤٥٤

هذا تمام الكلام في المسألة الاولى ، وهى الشك في التكليف من الشبهة الحكمية والموضوعية ، بحسب الاصل العقلى والنقلى ، وقد قلنا ان مقتضاهما البراءة ، فلا ينافى ما ذكرنا عدم اعتبارها في مورد تعارض النصين لوجوب الرجوع الى المرجحات هناك ـ لو كانت ـ وإلّا فالتخيير ، كما هو التحقيق ، لان ما ذكرنا هنا انما كان مع قطع النظر عن الاخبار الواردة في علاج الخبرين فلا تغفل.

٤٥٥

المسألة الثانية

ما اذا كان شاكا في متعلق التكليف مع كون المكلف قادرا على الاحتياط.

فنقول وبالله الاستعانة : الشك في متعلق التكليف بعد احراز أصله ، تارة يكون في نوع التكليف مع احراز جنسه كما اذا علم بوجوب هذا وحرمة ذاك ، واخرى يكون في الفعل الذي تعلّق التكليف المعلوم جنسا ونوعا به كما اذا علم اجمالا بوجوب هذا او ذاك او علم بحرمة هذا او ذاك ، وعلى كلا التقديرين اما ان يكون الشبهة حكمية ، بمعنى ان رفعها من وظيفة الشارع ، او تكون موضوعية ، بمعنى ان رفعها ليس من وظيفته انما وظيفته جعل الحكم للشاك ، وعلى التقدير الاول ، تارة تكون الشبهة ناشئة من عدم النص ، واخرى من اجمال النص ، وثالثة من تعارض النصين.

والمقصود هنا الكلام في حكم هذه الشبهة باقسامها من الاصل العقلى والنقلى ، اذ حكم جميع الاقسام من حيث الشبهة واحد ، وان اختص بعض افرادها بحكم خاص ، كالشبهة الناشئة من تعارض النصين ، والحاصل أن المقصود ان المكلف المحرز لتكليف المولى في الجملة مع تمكنه من الاحتياط حكمه ما ذا؟

فنقول : الاقوى وجوب الاحتياط عليه ، باتيان جميع المحتملات ، فيما اذا كان الواجب مرددا بين امور ، وبترك جميع المحتملات ، فيما اذا كان الحرام كذلك ، وباتيان هذا وترك ذاك ، فيما اذا كان الالزام المعلوم مرددا بين وجوب

٤٥٦

فعل هذا وترك ذاك.

لنا أن المقتضى للامتثال وهو العلم بخطاب المولى موجود بالفرض ، والشك في تعيين المكلف به ليس بمانع عند العقل ، وهل يجوّز العقل المخالفة القطعية للتكليف المقطوع مع تمكن المكلف من الامتثال ، بمجرد الشك في التعيين؟! حاشاه من ذلك ، فان الملاك المتحقق في مخالفة العلم التفصيلى موجود هنا بعينه ، ومن هنا يظهر ان العقل يوجب الموافقة القطعيّة ، لان العلم بالواقع اوجب تنجزه على المكلف ، فليس له حجة في عدم اتيانه كما هو ظاهر.

فان قلت : إن الاصل العقلى وان كان كذلك ، إلّا ان الاخبار الدالة على الترخيص في موارد الشك باطلاقها او عمومها شاملة للمقام ، فيحكم بالاباحة بمقتضى الاخبار ، لا بمقتضى حكم العقل.

قلت : ما ننكر شمول الاخبار للمقام كما ذكرت ، وما ذكر في نفى شمولها من كون العلم المأخوذ غاية أعم من العلم الاجمالي والتفصيلي ، والاول حاصل في المقام ، مدفوع بان الغاية صيرورة المشكوك معلوما ، وهنا ليس كذلك ، كما هو واضح ، فموضوع ادلة الاصول باق على حاله ، إلّا ان الاخذ بمؤدى الاصول في تمام اطراف العلم الاجمالى يوجب الاذن في المخالفة القطعية ، وهو مما يحكم العقل بقبحه على الحكيم تعالى ، فان المفروض تحقق العلم بخطاب فعلى عن الشارع ، وحينئذ ترخيصه في تمام اطراف العلم يرجع الى ترخيصه في المعصية ، ولو جاز ترخيصه في المعصية هنا جاز في العلم التفصيلي ايضا ، لانهما من واد واحد كما لا يخفى.

نعم يمكن ان يرخص في بعض الاطراف اما تعيينا واما على البدلية ، لان الاذن في البعض ليس اذنا في المعصية (١) ولا يكون منافيا للتكليف الواقعى المعلوم بالاجمال ، لما ذكرنا في محله من اختلاف مرتبة الحكمين ، فحينئذ فالعمدة

__________________

(١) فيه اشكال نبهنا عليه فيما علقناه على مبحث القطع ، فراجع (م. ع. مدّ ظلّه).

٤٥٧

اثبات دلالة هذه الاخبار على الاذن في بعض الاطراف بعد رفع اليد عن دلالتها الاوّلية بحكم العقل.

فنقول : ما يمكن ان يقال في المقام في اثبات المرام وجوه :

الاول : ان مقتضى عموم الادلة الترخيص في كل من الاطراف ، غاية ما هنا وجوب التخصيص بحكم العقل بمقدار لا يلزم منه الاذن في المعصية ، وحيث لا ترجيح لاخراج واحد معين من عموم الادلة نحكم بخروج البعض لا بعينه ، وبقاء الباقى كذلك ، حفظا لاصالة العموم فيما لم يدل دليل على التخصيص.

وفيه : ان البعض الغير المعين لا يكون موضوعا للعام من اول الامر حتى يحفظ العموم بالنسبة اليه ، لان موضوعه هو المعينات ، فالحكم بالترخيص في البعض المبهم يحتاج الى دليل آخر.

الثاني : ان يقال ان الدليل اللفظي وان لم يدل على الترخيص في البعض الغير المعين ، إلّا انه يمكن استكشاف هذا الترخيص من الدليل اللفظى بضميمة حكم العقل ، وبيانه ان القضيّة المشتملة على حكم متعلق بعنوان من العناوين على سبيل الاطلاق او العموم يفهم منها امران : احدهما ثبوت ذلك الحكم لتمام افراد عنوان الموضوع ؛ والثاني وجود ملاك الحكم في كل فرد منها ، ثم ان ثبت قيد يرجع الى مادة القضية فقضية ذلك التقييد تضييق دائرة ذلك الحكم وملاكه معا ، وان ثبت قيد يرجع الى الطلب فقضيته رفع اليد عن اطلاق الطلب ، دون المادة ، كما اذا ورد خطاب دال على وجوب انقاذ الغريق ثم وجد الغريقان ، فان ذلك الخطاب وان كان غير شامل لهما بحكم العقل ، لقبح التكليف بما لا يطاق ، إلّا انه يحكم باطلاق المادة بوجود ملاك الوجوب في كليهما ، ولهذا يستكشف العقل وجوبا تخييريا ، ان لم يكن احدهما اهم ، وخطابا تعيينيّا متعلقا بالاهم ، ان كان كذلك ، وقد مضى شطر من هذا الكلام في البحث عن مقدمة الواجب فراجع.

٤٥٨

اذا عرفت هذا فنقول : ان الادلة المرخصة هنا وان اختص حكمها بغير صورة العلم الاجمالي بحكم العقل الحاكم بقبح الاذن في المعصية ، إلّا ان اقتضاء كل مشكوك للاباحة يستكشف من اطلاق المادة ، وبعد تعذر الجرى على مقتضى كل من الاطراف يستكشف ان البعض على سبيل التخيير مرخص فيه ، حيث لا ترجيح للبعض المعين ، هذا.

وفيه : ان هذا الحكم من العقل انما يكون فيما يقطع بان الجرى على طبق احد الاقتضائين لا مانع فيه ، كما في مثال الغريقين ، واما فيما نحن فيه فكما ان الشك يقتضى الترخيص كذلك العلم الاجمالي يقتضى الاحتياط (١) ولعل اقتضاء العلم يكون اقوى في نظر الشارع ، فلا وجه لقطع العقل بالترخيص.

الثالث : ان يقال : إنّ مقتضى اطلاق الحكم في الادلة المرخصة ثبوت الاذن في كل واحد من الاطراف ، في حال ارتكاب الباقي وفي حال عدمه ، وهذا الاطلاق قد قيد بحكم العقل ، في حال ارتكاب الباقي ، فيما كان العلم الاجمالى متعلقا بحرمة احد الامور ، وفي حال ترك الباقي ، فيما كان المعلوم وجوب احد الامور ، فنأخذ بمقتضى الاطلاق في غير الصورتين ، ونقول بثبوت الاذن في الصورة الاولى في حال عدم ارتكاب الباقي ، وفي الثانية في غير حال ترك الباقي ، حفظا لاطلاق الحكم فيما لم يدل دليل على خلافه ، وبهذا البيان يمكن اثبات الخطابين فيما اذا اجتمع غريقان لا يقدر على انقاذهما ، بان يقال : ان مقتضى القاعدة رفع اليد عن اطلاق كليهما وجعل كل منهما مشروطا بترك الآخر.

لا يقال : لازم ذلك ثبوت الخطابين في حال ترك كليهما ، لثبوت شرط كل منهما ، فيلزم التكليف بما لا يطاق في الحال المفروض في مسألة الغريقين ، وكذا

__________________

(١) فان قلت : كما انه يقتضي الاحتياط فالشك يقتضي ضده ولا مرجّح في البين فلا موجب للاشتغال ، قلت : يكفي في الاشتغال احتمال رجحان مقتضى الاحتياط واقعا ، لانه مساوق مع احتمال صحة العقوبة كالشبهة البدوية قبل الفحص (م. ع. مدّ ظلّه).

٤٥٩

يلزم الاذن في المعصية في تلك الحال في الشبهة المحصورة.

لانا نقول : ان الاطلاق لا يقتضى ايجاد الفعل في حال تركه حتى يلزم المحذور المذكور ، فافهم.

لا يقال : ان لازم ما ذكر اجتماع اللحاظين المتنافيين في الادلة المرخصة ، لان الاذن فيها مطلق بالنسبة الى الشبهات البدوية ، ومشروط بالنسبة الى الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالى ، فيلزم في انشاء واحد أن يلاحظ ذلك الانشاء مطلقا ومشروطا.

لانا نقول : هذا المحذور انما يرد إن قلنا بان القيد الوارد على المطلق كاشف عن ارادة المقيد في مقام الاستعمال ، وأما ان قلنا ان المطلق في مقام الالقاء اريد منه ما هو ظاهره ، وان القيد كاشف عن عدم الارادة في مقام اللب ، فلا محذور كما لا يخفى هذا.

ولكن الادلة الدالة على ان العالم يحتج عليه بما علم ، وانه في غير سعة من معلوماته ، تقتضى الاحتياط بحكم العقل ، وتنافي الترخيص الذي استكشفناه من الاطلاق ، هذا ، مضافا الى منع اطلاق الادلة المرخصة ، بل هى متعرضة لحكم الشك من حيث انه شك.

ثم ان ما ذكرنا انما يصح على ما هو التحقيق عندنا من كون الاحكام الواقعية فعلية ، وان الترخيص في مورد الشك لا ينافي فعلية الحكم الواقعي واما على ما ذهب اليه شيخنا الاستاذ من ثبوت المراتب للاحكام فقد يقال : بوجوب الاخذ بعمومات الادلة المرخصة في اطراف العلم ، والجمع بينها وبين الحكم الواقعي المعلوم بالشأنية والفعلية ، كما هو الحال في الشبهات البدوية.

لكنه مدفوع بانه كما ان عمومات الادلة المرخصة تقتضى الترخيص كذلك عموم ادلة اعتبار العلم يقتضى الفعلية ، فيتعارضان فلا طريق للحكم بالترخيص.

فان قلت : هب ، ولكن لا طريق ايضا للحكم بفعلية المعلوم بعد التعارض.

٤٦٠