درر الفوائد - ج ١ و ٢

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي

درر الفوائد - ج ١ و ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٥

اشكال في ان احتمال التعبدية احتمال قيد زائد ، فالشك فيه من جزئيات الشك في المطلق والمقيد ، فان كانت مقدمات الاخذ بالاطلاق موجودة يحكم باطلاق الكلام ويرفع القيد المشكوك ، وإلّا فالمرجع هو الاصل الجاري في مقام دوران الامر بين المطلق والمقيد ، ولما كان المختار فيه بحسب الاصل العملى البراءة يحكم بعدم لزوم القيد.

واما على ما قيل : من لزوم تعلق الطلب على تقدير التعبدية بذات الفعل مع اخصيّة الغرض فقد يقال : كما يظهر من كلمات شيخنا المرتضى «قدس‌سره» بعدم جواز التمسك باطلاق اللفظ لرفع القيد المشكوك ، وكذلك لا يمكن اجراء اصالة البراءة فيه ، بل المقام مما يحكم العقل بالاشتغال ، وان قلنا : بالبراءة في دوران الامر بين المطلق والمقيد.

اما الاول فلان رفع القيد باصالة الاطلاق انما يكون فيما لو احتملنا دخول القيد في المطلوب ، والمفروض عدم هذا الاحتمال والقطع بعدم اعتباره فيه اصلا ، وانما الشك في ان الغرض هل هو مساو للمطلوب او اخص منه ، وحدود المطلوب معلومة لا شك فيها على اى حال.

واما الثاني فلانه بعد العلم بتمام المطلوب في مرحلة الثبوت لو شك في سقوطه باتيان ذاته وعدم سقوطه بواسطة بقاء الغرض المحدث للامر لا مجال إلّا للاحتياط ، لان اشتغال الذمة بالامر الثابت المعلوم متعلقه يقتضى القطع بالبراءة عنه ، ولا يكون ذلك إلّا باتيان جميع ما يحتمل دخله في الغرض ، ومما ذكر تعرف الفرق بين المقام وساير الموارد التى شك في مدخلية قيد في المطلوب ، وملخص الفرق ان الشك فيها راجع الى مرحلة الثبوت وفي المقام الى السقوط ، هذا.

والحق عدم التفاوت بين المقام وساير الموارد مطلقا ، اعنى من جهة الاخذ بالاطلاق ومن جهة اجراء اصالة البراءة.

اما الاول فلان القيد المذكور وان لم يحتمل دخله في المطلوب لعدم

١٠١

الامكان ، ولكن لو فرضنا وجود مقدمات الاخذ بالاطلاق التى من جملتها كون المتكلم في مقام بيان تمام المقصود وما يحصل به الغرض يحكم بعدم مدخلية شيء آخر في تحقق غرضه ، اذ لولاه لبيّن ولو ببيان مستقل وحيث ، ما بين يكشف عن كون متعلق الطلب تمام ما يحصل به غرضه ، نعم الفرق بين المورد وساير الموارد ان فيها يحكم بعد تمامية مقدمات الحكمة باطلاق متعلق الطلب وفيه باطلاق الغرض والامر سهل.

ويمكن ان يستظهر من الامر التوصلية من دون الاحتياج الى مقدمات الحكمة بوجه آخر اعتمد عليه سيدنا الاستاذ «طاب ثراه» وهو ان الهيئة عرفا تدل على ان متعلقها تمام المقصود اذ لو لا ذلك لكان الامر توطئة وتمهيدا لغرض آخر وهو خلاف ظاهر الامر.

واما الثاني فلانه بعد اتيان ذات الفعل لا يعقل بقاء الامر الاول ، لما عرفت سابقا من استلزامه لطلب الحاصل ، فلا يعقل الشك في سقوط هذا الامر ، نعم يحتمل وجود امر آخر من جهة احتمال بقاء الغرض ، وظاهر ان هذا شك في ثبوت امر آخر ، والاصل عدمه ، ولو سلمنا كون الشك في سقوط الامر الاول نقول : ان هذا الشك ينشأ من الشك في ثبوت الغرض الاخصّ وحينئذ نقول في تقريب جريان اصالة البراءة : ان اقتضاء الامر ذات الفعل متيقن واما الزائد عليه فلا نعلم ، فلو عاقبنا المولى من جهة عدم مراعاة الخصوصية المشكوك اعتبارها في الغرض ، مع الجهل به وعدم اقامة دليل يدل عليه مع ان بيانه كان وظيفة له ، لكان هذا العقاب من دون اقامة بيان وحجة ، وهو قبيح بحكم العقل ، ولو كان الشك في السقوط كافيا في حكم العقل بالاشتغال للزم الحكم به في دوران الامر بين المطلق والمقيد مطلقا ، ضرورة انه بعد اتيان الطبيعة في ضمن غير الخصوصية التى يحتمل اعتبارها في المطلوب يشك في سقوط الامر وعدمه.

* * *

١٠٢

[في الواجب المطلق والمشروط]

الامر الثالث : ينقسم الواجب ببعض الاعتبارات الى مطلق ومشروط :

فالاول عبارة عما لا يتوقف وجوبه على شيء ، والثاني ما يقابله ، ولا يهمنا التعرض للتعريفات المنقولة من القوم والنقض والابرام المتعلقين بها.

وقد يستشكل في تقسيم الواجب باعتبار وجوبه الى القسمين من جهة امرين :

احدهما ان مقتضى كون وجوب الشيء مشروطا بكذا عدم تحقق الوجوب قبل تحقق الشرط ، والمفروض ان الآمر قد انشأ الوجوب بقوله ان جاءك زيد فاكرمه ، فان الهيئة قد وضعت لانشاء الطلب ، وعلى هذا فالقول : بان الوجوب لا يتحقق إلّا بعد تحقق الشرط مستلزم لتفكيك الايجاب عن الوجوب وان التزم بعدم تحقق الايجاب لزم اهمال هذه القضية.

والثاني ان الطلب المستفاد من الهيئة انما يكون معنى حرفيا غير مستقل بالنفس ، وليس دخوله في الذهن الا من قبيل وجود العرض في الخارج في كونه متقوما بالغير ، والاطلاق والتقييد فرع امكان ملاحظة المفهوم في الذهن ، وايضا قد تقرر في محله ان معاني الحروف معان جزئية ، بمعنى ان الواضع لاحظ في وضع الحروف عنوانا عاما اجماليا ووضع اللفظ بازاء جزئياته ، فالوضع اى آلة الملاحظة فيها عام والموضوع له اعنى جزئيات ذلك العام خاص ، ومن الواضح ان الجزئى لا يكون مقسما للاطلاق (*٣٣) والتقييد ، هذا.

ومما ذكرنا سابقا في بيان معانى الحروف من انها كليات كمعاني بعض الاسماء ظهر لك عدم المانع عن اطلاق الطلب وتقييده من جهة جزئية المعنى المستفاد من الهيئة.

اما المانع الآخر وهو كونه مما لا تحصل له في الذهن استقلالا ، والاطلاق والتقييد الوارد ان على المفهوم تابعان لملاحظته في الذهن مستقلا ، فالجواب عنه

١٠٣

بوجهين : احدهما ان المعنى المستفاد من الهيئة (*٣٤) وان كان حين استعمالها فيه لا يلاحظ إلّا تبعا لكن بعد استعمالها يمكن ان يلاحظ بنظرة ثانية ويلاحظ فيه الاطلاق او التقييد ، والثاني ورود الاطلاق والتقييد (*٣٥) بملاحظة محله ، مثلا ضرب زيد اذا تعلق به الطلب المستفاد من الهيئة يتكيف بكيفية خاصة في الذهن ، وهي كيفية المطلوبية ، فضرب زيد بهذه الملاحظة قد يلاحظ فيه الاطلاق ويلزم منه كون الطلب الطاري عليه مطلقا ، وقد يلاحظ فيه الاشتراط واللازم من ذلك كون الطلب ايضا مشروطا.

ولنا في المقام مسلك آخر وهو ان المعنى المستفاد من الهيئة لم يلاحظ فيه الاطلاق ـ في الوجوب المطلق ـ ولا الاشتراط ـ في الوجوب المشروط ـ ولكن القيد الماتى به في القضية تارة يعتبر على نحو يتوقف تاثير الطلب على وجوده في الخارج ، ويقال لهذا الطلب الطلب المشروط ، اى تاثيره في المكلف موقوف على شيء ، واخرى يعتبر على نحو يقتضى الطلب ايجاده ، ويقال لهذا الطلب المتعلق بذلك المقيد الطلب المطلق ، اي لا يبتني تاثيره في المكلف على وجود شيء ، وتوضيح ذلك ان الطالب قد يلاحظ الفعل المقيد ويطلبه اي يطلب المجموع ، وهذا الطلب يقتضى ايجاد القيد ان لم يكن موجودا ، كما في قوله صل مع الطهارة ، وقد يلاحظ القيد موجودا في الخارج ، اي يفرض في الذهن وجوده في الخارج ، ثم بعد فرض وجوده في الخارج ينقدح في نفسه الطلب ، فيطلب المقيد بذلك القيد المفروض وجوده ، فهذا الطلب المتعلق بمثل هذا المقيد المفروض وجود قيده وان كان متحققا فعلا بنفس الانشاء لكن تاثيره في المكلف يتوقف على وجود ذلك القيد المفروض وجوده حقيقة ، ووجهه ان هذا الطلب انما تحقق مبنيا على فرض وجود الشيء ، وهذا الفرض في لحاظ الفارض حاك عن حقيقة وجود ذلك الشيء ، فكانه طلب بعد حقيقة وجوده ، فكما انه لو طلب بعد وجود ذلك الشيء المفروض وجوده حقيقة ما اثر الطلب في المكلف الا بعد وجود ذلك الشيء واقعا لعدم الطلب قبله كذلك لو طلب بعد فرض وجوده لم يؤثر الا بعد

١٠٤

وجوده الخارجي ، وان كان الطلب الانشائى محققا قبله ايضا ، فهذا الطلب يقع على نحو يشترط تاثيره في المكلف على شيء في الخارج فتدبر جيدا.

ومما ذكرنا يظهر الجواب عن اشكال آخر تقدم في صدر المبحث ذكره وهو ان المعنى الانشائى كيف يعلّق على وجود شيء؟ ومحصل الجواب ان المعنى المستفاد من الهيئة والمنشأ بها متحقق فعلا من دون ابتنائه على شيء ، ولكن تاثيره في المكلف موقوف على وجود شيء.

[في الواجب المعلق] (*٣٦)

الامر الرابع : بعد ما عرفت انقسام الواجب الى مطلق ومشروط اعلم ان الناظر في كلمات الاصحاب يرى انه عندهم من المسلمات عدم اتصاف مقدمات الواجب المشروط بالوجوب المطلق ، ويوضح ذلك اعتراض بعضهم على من جعل عنوان البحث ان الامر بالشيء يقتضى ايجاب مقدماته بان النزاع ليس في مطلق الامر بل هو في الامر المطلق ، واعتذار بعضهم بان اطلاق الامر ينصرف الى المطلق منه فلا احتياج في افادته الى ذكر القيد ، واعتذار بعض ردّا على المعترض في اصل المبنى بانه لا وجه لتخصيص محل النزاع بالامر المطلق ، بل هو يجرى في المشروط ايضا غاية الامر انه لو قلنا بالملازمة بين الامر بالشيء والامر بمقدماته نقول بثبوت الامر للمقدمة على نحو ما ثبت لذيها ، ان مطلقا فمطلق وان مشروطا فمشروط ، ومن مجموع هذه الكلمات يظهر انه من المسلمات عندهم عدم الوجوب المطلق للمقدمة مع كون ذيها متصفا بالوجوب المشروط.

وعليه يقع الاشكال في بعض المقدمات الذي اتصف بالوجوب المطلق مع عدم اتصاف ذيها به بل يكون من الواجبات المشروطة ، ومن ذلك الغسل قبل الفجر في ليلة رمضان ، فانهم حكموا بوجوبه قبل الفجر مع انه لم يتعلق الوجوب بالصوم بعد.

١٠٥

والذي قيل في حل هذه العويصة وجهان :

احدهما المحكى عن بعض اعاظم المحققين في تعليقاته على المعالم وملخّصه ان الوجوب المتعلق بالغسل قبل الفجر وامثاله من المقدمات التي يتعلق بها الوجوب قبل ذيها ليس من الوجوب الغيري ـ اي الوجوب المعلول من وجوب ذي المقدمة ـ بل هو وجوب نفسى لوحظ فيه الغير ، بمعنى ان الشارع لاحظ في ايجابه النفسي تمكن المكلف من امتثال الواجب النفسي الذي يتحقق وجوبه فيما بعد.

والثاني ما افاده صاحب الفصول «قدس‌سره» من الفرق بين الواجب المشروط والمعلق ، وحاصل ما افاده «قدس‌سره» ان الواجب ينقسم على ثلاثة اقسام مطلق ومشروط ، والاول على قسمين منجز ومعلق ، والمنجز ما كان زمان الوجوب متحدا مع زمان الواجب ، والمعلق ما كان زمان الوجوب منفكا عن زمان الواجب ، وتوضيح ذلك ان نسبة الفعل الى الزمان والمكان متساوية ، ولا ريب في امكان كون الفعل المطلوب مقيدا بوقوعه في مكان خاص ، كالصلاة في المسجد ، وكذا في امكان كون وجوبه مشروطا بكون المكلف في المكان الخاص ، وعلى الاول فاللفظ الكاشف عن ذلك الطلب لا بد ان يكون على وجه الاطلاق ، كان يقول صل في المسجد ، وعلى الثاني لا بد ان يكون على وجه الاشتراط ، كان يقول اذا دخلت المسجد فصل ، وهذان الوجهان بعينهما جاريان في الزمان ايضا ، فيمكن ان يلاحظ الآمر الفعل المقيد بوقوعه في زمان خاص فيطلب على هذا الوجه من المكلف ، ولا بد ان يكون التعبير عن ذلك المعنى على وجه الاطلاق ، كان يقول صل صلاة واقعة في وقت كذا ، ويمكن ان يلاحظ الفعل المطلق لكن وجوبه المتعلق به وطلبه يكون مشروطا بمجيء وقت كذا ، فالوجوب على الاول فعلى ، ولا باس باتصاف مقدمات الفعل على هذا الوجه بالوجوب ، اذ لا خلف حينئذ ، لان ذاها ايضا متصف بالوجوب بخلاف الوجوب على الوجه الثاني ، فان الفعلية منتفية في الواجب المشروط فيمتنع

١٠٦

اتصاف مقدماته بالوجوب الفعلى ، ففي الموارد التي حكموا فيها بوجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها يلتزم بان الواجب معلق بمعنى ان المطلوب هو الفعل المقيد بوقت كذا ، ووجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها ، فيمكن ان يكون وقت ايقاعها قبل زمان ايجاده ، لان زمان اتصاف الفعل المقيد بالوجوب ليس متأخرا عن زمان اتصاف المقدمة به ، بل يقارنه وان كان زمان وقوع الفعل متاخرا عن زمان وقوع المقدمة :

ثم تصدى «قدس‌سره» لما يرد على هذا النحو من الواجب وبيان دفعه.

ومحصل ما اورد على نفسه أمران : احدهما ان المكلف قد لا يكون حيا في زمان الفعل ، فلا يمكن توجه التكليف بنحو الاطلاق اليه (*٣٧) والثاني ان الفعل المقيد بالزمان الغير الموجود بعد ليس مقدورا للمكلف بواسطة قيده ، وما لا يكون تحت قدرة المكلف يمتنع ان يكلف به فعلا وعلى نحو الاطلاق.

واجاب «قدس‌سره» عن الاول بان التكليف متوجه الى من يكون حيا في ذلك الزمان الذي فرض قيدا للمطلوب ، وعن الثاني او لا بالنقض تارة بالتكليف المتعلق بالصوم في اول الفجر ، فان الصوم عبارة عن الامساك في قطعة خاصة من الزمان اعنى ما بين الفجر والغروب ، ولا اشكال في عدم قدرة المكلف في اول الفجر على الامساك في الجزء الاخير من الوقت ، فكيف يلتزم بوجود الوجوب المطلق حين الفجر مع عدم تحقق قطعة الزمان التي اخذت في المطلوب إلا جزؤها ، واخرى بالتكليف بكل ما يحتاج الى مقدمات لا بد في الاتيان بها من مضى زمان ، ولا يقدر على الاتيان به في زمان صدور التكليف ، كما لو كلفه بان يكون في مكان كذا ويحتاج ذلك الكون الى مشى فرسخ او فراسخ مثلا ، فان من الواضح عدم قدرة المكلف حال التكليف على الكون في ذلك المكان ، وانما يقدر عليه بعد مضى ساعتين او ثلاث ساعات مثلا ، وثالثة بالتكليف المتعلق بكل فعل تدريجي كالصلاة حيث ان القدرة على الجزء الاخير تتوقف على اتيانه بالاجزاء السابقة ، وثانيا بالحل بان القدرة التى تكون شرطا في

١٠٧

التكاليف عقلا هي القدرة في زمان الفعل لا القدرة حال التكليف فاندفع الاشكال باسره ، هذا حاصل ما افاده «قدس‌سره» في هذا المقام.

اقول : والمهم بيان كيفية الارادات اللبية المتعلقة بالافعال لكى يتضح حال هذا القسم من الواجب المسمى بالتعليقى فنقول :

ان الفعل المقيد المتعلق للارادة تارة على نحو يقتضى تلك الارادة تحصيل قيده في الخارج لو لم يكن موجودا ، واخرى على نحو لا يقتضى ذلك ، كما لو اراده على فرض وجود ذلك القيد ، مثلا قد تتعلق الارادة بالصلاة في المسجد على نحو الاطلاق سواء كان المسجد موجودا في الخارج ام لا ، وقد تتعلق بها على فرض وجود المسجد ، وعلى الاول يقتضى تلك الارادة بناء المسجد لو لم يكن في الخارج ، مقدمة لحصول الصلاة فيه وعلى الثاني لا تقتضى ذلك بل اللازم الصلاة لو فرض وجود المسجد ، ولا نتعقل قسما آخر من الارادة في النفس خارجا عما ذكرنا. فتقسيم الواجب الى الاقسام الثلاثة مما لا وجه له بل ينحصر في القسمين المذكورين عقلا ، ومحصل ذلك ان القيد اما خارج عن حيز الارادة واما داخل فيه ولا ثالث عقلا ، وهذا واضح لا سترة عليه.

اذا عرفت هذا فنقول : القيود الخارجة عن قدرة المكلف من قبيل الاول قطعا لاستحالة تعلق الطلب بما ليس تحت قدرة المكلف فيكون الطلب المتعلق بالفعل المقيد بالزمان من اقسام الطلب المشروط.

فان قلت : على ما ذكرت يلزم ان لا يكون الخطاب في اول دخول الوقت مطلقا ايضا ، ضرورة عدم قدرة المكلف على الامساك في الجزء الاخير من الوقت مثلا ، ومقتضى ما ذكرت سابقا كون الإرادة بالنسبة الى القيود الغير الاختيارية مشروطة ، فمتى يصير خطاب الصوم مطلقا.

قلت : نلتزم بعدم صيرورة الخطاب مطلقا ، ولكن نقول : ان الواجب المشروط بعد العلم بتحقق شرطه في محله يقتضى التاثير في نفس المكلف بايجاد كل شيء منه ومن مقدماته الخارجية في محله ، مثلا لو قال : اكرم زيدا ان جاءك

١٠٨

فمحل الاكرام بعد مجيئه ، ومحل مقدماته ان كان قبل المجىء فمجرد علم المكلف بالمجىء يقتضى ايجادها قبله ، ولو قال : ان مشى زيد فامش مقارنا مع مشيه فمحل المشى زمان مشى زيد ، فلو علم تحقق المشى من زيد في زمان خاص يجب عليه المشى في ذلك الزمان حتى يصير مشيه مقارنا معه ، ولو قال ان جاء زيد فاستقبله فمحل الاستقبال قبل مجيئه فلو علم بمجيئه غدا مثلا يجب عليه الاستقبال في اليوم ، والحاصل ان طلب الشيء على فرض تحقق شيء لا يقتضى ايجاد ذلك الشيء المفروض وجوده ولكن بعد العلم بتحقق ذلك الشيء يؤثر في المكلف ويقتضى منه ان يوجد كلا من الفعل ومقدماته في محله فقد يكون محل الفعل بعد تحقق ذلك الشيء في الخارج وقد يكون قبله وقد يكون مقارنا له (١) وهكذا محل مقدماته قد يكون قبله وقد يتسع زمان اتيان المقدمة ، كما لو توقف اكرام زيد غدا على شيء ممكن تحصيله في اليوم وفي الغد والمقصود ان الوجوب المعلق على شيء بعد الفراغ عن ذلك الشيء يجب بحكم

__________________

(١) لا يخفى ان اللحاظ الفراغى في هذين القسمين لا يصح ان يتعلق بالوجود الخارجي للشرط ، بمعنى انه لو لاحظ في ذهنه الفراغ عن تحقق القدوم مثلا خارجا او عن تحقق زوال الشمس كذلك لا يوجد في نفسه البعث نحو الاستقبال او الوقوف بعرفات ، فاللازم ان يتعلق الفراغ الذهني فيهما بالوجود الانتزاعى اعنى كونه بحيث يقدم او كون الشمس بحيث تزول.

ولكن ينقدح من هنا اشكال في تصوير الامر بالمهم مترتبا على ترك الاهم كما ياتى في مبحث الضد ، بيانه انا ان اعتبرنا الفراغ عن تحقق ترك الاهم خارجا لم يبق محل للامر بالمهم ، وان اعتبرنا الفراغ عن تحققه الانتزاعى يتوجه الاشكال بانه كيف يمكن الامر بالمهم حينئذ مع توجه الامر بالاهم الى المكلف ، وهل هو إلّا طلب الجمع بين الضدين في فرض ترك الجمع ، اما وجود الامر بالمهم فهو المفروض ، واما الامر بالاهم فهو وان لم يكن له اطلاق بالنسبة الى الحالة المذكورة اعنى حال كون المكلف ممن يترك الاهم إلّا انه لا اشكال في كونه محركا نحو الذات في هذا الحال فاجتمع الامر ان في حالة واحدة وهو عين ما قلناه من طلب الجمع بين الضدين عند كونه ممن يترك الجمع ، ويأتي الجواب عن هذا الإشكال في مبحث الضد ان شاء الله «منه».

١٠٩

العقل متابعته.

ومن هنا عرفت الجواب عن اصل الاشكال فلا يحتاج الى التكلفات السابقة وانت بعد الاحاطة والتامل في الامثلة المذكورة لا اظن ان ترتاب فيما ذكرنا.

فان قلت : على ما ذكرت يقتضى ان يكون مقدمات الواجب المشروط بعد العلم بشرطه واجبة مطلقا ، فما وجه فتوى القوم بعدم وجوب الوضوء قبل دخول الوقت ، وايضا فما وجه الفرق بين الليل واليوم السابق بالنسبة الى الغسل الذي يكون مقدمة للصوم؟ ولاى جهة افتوا بوجوبه في الليل وعدم وجوبه في النهار السابق؟

قلت : بعد فرض وجود الدليل على عدم وجوب الوضوء قبل الوقت نستكشف منه ان وجوب الصلاة مضافا الى ابتنائه على الوقت مبتن على القدرة فيه ، فكانه قال : اذا دخل الوقت وكنت قادرا عنده فصل مع الطهارة ، وقد عرفت سابقا ان الوجوب المبنى على فرض وجود شيء لا يقتضى ايجاد ذلك المفروض فحينئذ لو علم المكلف بانه لو لم يتوضأ قبل الوقت لا يتمكن منه بعده لا يجب عليه الوضوء ، لانه موجب لحصول القدرة في الوقت التي هي شرط وجوب الواجب ، وقد عرفت عدم وجوب تحصيله ، وهكذا الكلام في غسل الجنابة للصوم في النهار السابق فانه بعد فرض وجود الدليل على عدم وجوبه نستكشف اشتراط القدرة في الليل فلا يجب تحصيلها.

فان قلت : نفرض علم المكلف بكونه قادرا في الوقت على اي حال ، بمعنى انه لا يمكنه سلب قدرته فيه ، فعلى هذا يلزم ان يكون الوضوء مثلا عليه واجبا موسعا فيجوز ان ياتى به بقصد الوجوب مع انهم لا يلتزمون به.

قلت : يمكن تصور الواجب على نحو لا يلزمه ذلك وهو ان يقال ان الواجب اقدام المكلف على الفعل بقدرته الموجودة في الوقت ، ومحصله ان المصلحة تارة قائمة باكرام زيد بعد دخول الوقت مطلقا ، سواء عمل في ايجاد هذا العنوان

١١٠

قدرته الموجودة قبل الوقت او بعده ، واخرى المصلحة قائمة باعمال القدرة في الوقت في اكرام زيد ، ويرجع محصل هذا التكليف الى انه بعد دخول الوقت وتحقق القدرة على اكرام زيد يجب اعمال تلك القدرة ، فاعمال القدرة في هذا المثال نظير نفس اكرام زيد في المثال السابق ، فكما انه لا يقتضى الامر باكرام زيد بعد دخول الوقت اكرامه قبله كذلك الامر باعمال القدرة في الوقت لا يقتضى اعمال القدرة قبله.

فتحصل من مجموع ما ذكرنا انه اذا راجعنا وجداننا نقطع بان ارادتنا المتعلقة بالافعال الخاصة لا تخرج عن قسمين : اما ان تكون على نحو يقتضى ايجاد تمام مقدماتها ، واما تكون على نحو لا يقتضى ايجاد بعضها ، اما القسم الاول فواضح ، واما القسم الثاني فهو يتصور على اقسام كلها راجعة الى الاختلاف فيما يتعلق به الارادة ، لا الى الاختلاف فيها ، لان الآمر قد يريد اكرام زيد على تقدير مجيئه بحيث لو اتى ولم يكرم صار نقضا لغرضه ، وان كان في زمن مجيئه غير قادر على ايجاد الفعل ، فان عدم القدرة يوجب سقوط التكليف ولا ينافى كون ترك الاكرام مبغوضا للآمر ونقضا لغرضه ، وقد يريد اكرامه على تقدير كون المكلف قادرا على اكرامه في زمن مجيئه وحينئذ لو فرض ترك اكرامه مستندا الى عدم قدرته في زمن مجيئه لم يكن مبغوضا للآمر ونقضا لغرضه ، وهذا واضح ، وقد يكون المطلوب اكرام زيد بمقدماته الاختيارية الموجودة في زمن المجيء على فرض وجود القدرة في زمن المجيء فحينئذ لا يجب عليه الاتيان بمقدمات الاكرام قبل المجيء وان كان في زمن المجيء غير قادر على فرض عدمه ، لان المفروض اشتراط القدرة في ذلك الزمان ، وكذلك ان كان قادرا في ذلك الوقت لان المطلوب اعمال القدرة في ذلك الوقت لا قبله

هذا تمام الكلام في المقام وعليك بالتامل التام.

ثمّ انك قد عرفت ان الواجب التعليقى عند القائل به من اقسام الواجب المطلق ، وصحته مع ان المكلف قد لا يدرك زمن الواجب مبنية على الالتزام

١١١

بتوجه الخطاب به مشروطا بالعنوان المنتزع من بلوغ ذلك الزمان ، مثلا التكليف بالصوم في الليل متوجه الى من يدرك النهار ويكون حيا في تمام زمان المطلوب في علم الله تعالى ، وكذلك التكليف بالحج في زمان خروج الرفقة متوجه الى من يدرك شهر ذي الحجة ، وهكذا.

وقد عرفت ذلك في طي توضيح كلامه «قدس‌سره» والمقصود من اعادته هنا التعرض لبعض ما فرع عليه من الفروع التي ، منها صحة الوضوء اذا كان الماء منحصرا في الآنية المغصوبة ، ومنها وجوب الحج مطلقا فيما اذا لم يتمكن منه الا مع الركوب على الدابة المغصوبة ، بيانه ان التكليف في الاول متوجه الى من يغترف من الآنية المغصوبة ، وفي الثاني الى من يركب الدابة المغصوبة عصيانا.

وفيه مع ما عرفت في القول بالواجب التعليقى ان توجه التكليف المطلق بالوضوء مع انحصار المقدمة بالمنهى عنها وكذلك الحج تكليف بما لا يطاق ، نعم على القول بالترتب كما ياتى تفصيله في محله ان شاء الله يصح ذلك ، ولكن مع ذلك القول بصحة الوضوء محل اشكال من حيث ان تصحيح التكليفين المتعلقين بالفعلين اللذين لا يمكن الجمع بينهما الاعلى النحو الترتب انما هو بعد الفراغ من وجود المقتضى في كلا الفعلين (١) اما الوضوء في صورة انحصار الماء في الآنية المغصوبة فيمكن ان يستكشف من الادلة عدم وجود المقتضى فيه ، حيث ان المقام مما شرع فيه التيمم من جهة صدق عدم وجدان الماء كما في ما اذا كان

__________________

(١) توضيحه ان محل نزاع القائل بالترتب والقائل بعدمه مع الاكتفاء بالجهة صورة محفوظية المشروعية الذاتية للمهم مع قطع النظر عن طرو المزاحمة بالضدّ الاهم ، فلو فرض ان المزاحمة المذكورة اوجبت ارتفاع المشروعية الذاتية عن المهم اما حكما او موضوعا فلا مجال هناك للبحث المذكور ، اما ارتفاعها حكما فكرفع الشارع مشروعية الظهر بمزاحمة العصر في آخر الوقت ، واما ارتفاعها موضوعا فكما في المثالين المذكورين في المتن ، حيث ان مزاحمة الغصب اوجبت تبدل عنوان الواجد الذي هو موضوع مشروعية الوضوء ذاتا بعنوان الفاقد وكذا تبدل عنوان المستطيع الذي هو موضوع مشروعية الحج ذاتا بغيره «منه».

١١٢

استعماله ضررا ، والحاصل ان عدم وجدان الماء على ما قالوا عبارة عن عدم التمكن من استعماله سواء كان من جهة عدمه او لمانع عقلى او شرعى لا يجوز للمكلف استعماله ، ومتى كان التيمم مشروعا ليس الوضوء مشروعا بالاجماع ذكره سيدنا الاستاذ طاب ثراه ، وعلى تقدير الغض عن الاجماع ايضا لا طريق لنا لاثبات مشروعيته الذاتية الكاشفة عن ثبوت المقتضى ، اذ الدليل انما شرعه في موضوع المتمكن من استعمال الماء ، والمكلف في حال يحرم عليه استعمال الماء من قبل الشارع ليس متمكنا من استعمال الماء عرفا.

ومن هنا يظهر الجواب عن توهم آخر يوشك ان يرد في المقام وهو انه هب عدم امكان تعلق التكليف بالوضوء على نحو الترتب لكن يكفى في الصحة قصد جهة الفعل.

[في المقدمة الموصلة] (*٣٨)

الامر الخامس : لو بنينا على وجوب المقدمة فهل الواجب ذاتها ، او مع قيد الايصال الى ذيها سواء قصد بها الايصال ام لا ، او مع قصد الايصال سواء ترتب عليها ذوها ام لا؟ وينبغى ان يعلم او لا انه على تقدير القول بان الواجب ذات المقدمة لا ينافي الالتزام في بعض الموارد بمدخلية قصد الايصال في موضوع الواجب لجهة خارجية ، كما لو توقف انقاذ الغريق على خصوص التصرف في ملك الغبر ، فحينئذ نقول بان الواجب من ناحية الانقاذ هو التصرف بقصد الانقاذ ، لان اذن الشارع في الغصب مع كونه مبغوضا في حد ذاته انما هو من جهة اهمية الانقاذ ، اذ لا يقدر المكلف على ترك الغصب وفعل الانقاذ معا ولما كان ترك الانقاذ ابغض من فعل الغصب رضى بفعله ، ولا شك ان الاذن في المبغوض من جهة المزاحمة انما هو من الضرورة التى تتقدّر بقدرها ، وحيث تدفع الضرورة بالاذن في الغصب المقصود به الانقاذ ، فلا وجه للاذن في قسم آخر وهو الغصب الغير المقصود به ذلك ، هذا.

١١٣

ولنشرع في المقصود ، فنقول : ذهب بعض الاساطين «قدس‌سره» الى اعتبار قيد الايصال وان المقدمة مع قطع النظر عن الايصال لا تتصف بالوجوب ، ونحن نذكر الاحتمالات المتصورة في مدخلية هذا القيد وما يلزم على كل منها حتى يتضح الحال ان شاء الله.

فاعلم ان مراده «قدس‌سره» من المقدمة الموصلة إما ان يكون ما يترتب على وجودها ذوها اعنى ما ينطبق عليه الموصل بالحمل الشائع ، او يكون عنوان الموصل ، وعلى الثاني إمّا ان يكون المراد هو الايصال الخارجي ، او العنوان المنتزع منه ، وعلى الاول من هذه الاحتمالات إما ان يكون المراد ما يترتب عليه ذو المقدمة على وجه يكون هو المؤثر فيه ، او يكون اعم من ذلك ، والفرق بينهما انه على الاول ينحصر في العلة التامة ، وعلى الثاني يعم العلة وما يلازمها وجودا. فان كان المراد المعنى الاول لزم ان يكون مفصلا بين العلة التامة وغيرها على التقدير الاول ، او مفصلا بين العلة وما يلازمها وبين ساير المقدمات على التقدير الثاني ، وهذا مع عدم التزام القائل المذكور به غير سديد ، لما سنشير اليه بعد ذلك ، من ان وجوب العلة المركبة من الاجزاء والقيود مستلزم لوجوب القيود والاجزاء.

وان كان مراده الثاني اعنى كون القيد عنوان الايصال فقد عرفت ان في هذا احتمالين : احدهما كون القيد هو الايصال الخارجي ، والثاني العنوان المنتزع منه اي كونها بحيث توصل الى ذي المقدمة ، وعلى أي تقدير إمّا ان يكون القيد راجعا الى الطلب او يكون راجعا الى المطلوب ، فهذه اربعة احتمالات :

احدها : ان يكون المراد الايصال الانتزاعي ويكون القيد راجعا الى الطلب.

والثاني : هذا الفرض لكن يكون القيد راجعا الى المطلوب.

والثالث : ان يكون المراد هو الايصال الخارجي ويكون القيد راجعا الى الطلب.

١١٤

والرابع : هذا الفرض ويكون القيد راجعا الى المطلوب.

اما الاحتمال الاول فان كان المراد أن خطاب المقدمة مشروط بكون المكلف آتيا بذيها في علم الله تعالى فيكون محصله افعل المقدمة ان كنت ممن تفعل ذاها في نفس الامر فهذا باطل لا ينبغى ان يسند الى احد فضلا عن مثل هذا المحقق الجليل ، لان هذا الشخص المتصف بهذا العنوان المذكور يأتي بالمقدمة قطعا.

نعم يمكن ان يوجه هذا الاحتمال على نحو لا يلزمه ذلك وهو ان يقال على تقدير ان المقدمة لو وجدت يترتب عليها ذوها ، او على تقدير كون الفاعل بحيث لو اتى بالمقدمة ياتى بذيها يجب عليه المقدمة ، وهذا وان كان خاليا عن الاشكال المتقدم إلّا انه يرد عليه امران :

احدهما التفكيك بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها من حيث الاطلاق والاشتراط.

والثاني عدم تعلق التكليف ببعض العصاة وهو من لو اتى بالمقدمة لم يات بذيها عصيانا.

وان كان المراد الثاني ، وهو ان يكون القيد في هذا الفرض راجعا الى المطلوب فيرد عليه ان تقييد المامور به بامر خارج عن اختيار المكلف تكليف بما لا يطاق ، وهو قبيح ، وهذا العنوان ليس في حيز اختيار المكلف.

لا يقال : انه يكفى في كونه مختارا له كونه منتزعا من فعله الاختياري ، نظير الافعال التوليدية من الاسباب الاختيارية للمكلف ، فان الحق انها اختيارية بواسطة تلك الاسباب ويصح تعلق التكليف بنفس تلك الافعال ولا يجب ارجاع التكليف الى الاسباب كما يأتي ان شاء الله.

لانا نقول : فرق بين الصفات المنتزعة من الافعال الخارجية للمكلف في ظرف وجودها كعنوان الاتصال والانفصال ونظائرهما مما ينتزع من ايجاد ما هو منشأ لانتزاعه ، فحينئذ يصح ان يكلف بالاتصال والانفصال مثلا لكونهما في

١١٥

حيز اختياره بواسطة اختيارية منشأ انتزاعهما ، وبين الصفات المنتزعة من الافعال الموجودة في المستقبل ، نظير كونه بحيث يضرب او يجلس في المستقبل وامثالهما من العناوين المنتزعة من الافعال الغير الموجودة فعلا الموجودة في الزمن المتاخر في علم الله ، فان ثبوت تلك العناوين او نقيضها مما ليس باختيار الشخص ، كيف وهي او نقيضها ثابتة مع غفلته ونومه بل قبل وجوده في الخارج ، فان ماهية زيد توجد في الخارج ويضرب عمروا في علم الله ، وهذا بعد ادنى تامل لعله من الواضحات.

وان اراد الثالث ، وهو ان يكون المقصود الايصال الخارجي ويكون القيد راجعا الى الطلب فهو ايضا باطل قطعا ، لان التكليف راجع الى طلب المقدمة على فرض وجود ذيها ، وهو طلب الحاصل ، وايضا يلزم التفكيك بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها في الاشتراط والاطلاق ، وكذا يلزم عدم كون العصاة مكلفين بالمقدمة ، وبالجملة هذا الاحتمال ايضا لا ينبغى ان يسند اليه «قدس‌سره» ولا الى احد من العقلاء.

وان اراد الرابع ، وهو ان يكون القيد في هذا الفرض راجعا الى المطلوب فيرد عليه «قدس‌سره» امور :

احدها : ان لا يكون ممتثلا للامر المقدمى الا بعد اتيان ذي المقدمة ، وقضية الوجدان خلاف ذلك.

والثاني : ان لا يحصل الطهارة بالوضوء والغسل الا بعد اتيان الصلاة ، لان الطهارة لا تحصل الا بعد امتثال الامر المقدمى والمفروض انه لا يحصل إلّا بعد اتيان الصلاة ، فلزم تحقق الصلاة من دون تحقق الطهارة بل يلزم عدم حصول الطهارة بعد الصلاة ايضا ، اذ هى بدون الطهارة كعدمها.

والثالث : ان هذا القيد لا يخلو اما ان يكون له دخل في مقدمية المقدمة او لا ، فعلى الاول يلزم الدور لان الايصال عنوان ينتزع من تأثير المقدمة في وجود ذيها فيتوقف على المقدمية فلو توقف المقدمية على الايصال لزم الدور ، وعلى

١١٦

الثاني يلزم صيرورة الطلب نفسيا لان الامر اذا تعلق بشيء لا يكون له جهة المقدمية فلا بد من كون ذلك الامر نفسيا.

ولا يخلو هذه الوجوه من نظر : أمّا الاول فلان لزوم كون امتثال الامر المقدمى بعد الاتيان بذي المقدمة لا مانع له عقلا ، وليس ما ذكر إلّا مجرد استبعاد ، ولا يمكن جعل هذا الاستبعاد في قبال الوجدان الذي يدعيه القائل.

وأمّا الثاني فلان كون الامتثال منوطا باتيان ذي المقدمة لا يستلزم كون الطهارة منوطة به ، لامكان ترتب الطهارة على الغسلتين والمسحتين مع قصد التوصل ولو لم يتوصل الى ذي المقدمة ، او يقال : يشترط مع القصد المذكور كون الفعل بحيث يترتب عليه الصلاة في علم الله تعالى ، والحاصل أنه بعد قضاء العقل بكون القيد مأخوذا في موضوع الواجب وتحقق الاجماع على توقف الصلاة على الطهارة يستكشف أن الطهارة ليست من اثر امتثال الامر المقدمى للوضوء ، بل هي مرتبة على فعل الوضوء مع قصد الايصال قبل تحققه.

واما الثالث فبأنا نختار الشق الثاني اعنى عدم مدخلية هذا القيد في مقدمية المقدمة ولا يلزم من ذلك محذور اصلا ، لشيوع مثل هذا التقييد الذي لا دخل له في المقدمية بحيث ليس لاحد انكاره ، مثل ما اذا كان للواجب مقدمتان احداهما مباحة والاخرى محرمة ، فانه لا اشكال في تعلق الامر الغيري بالمباح منهما مع القطع بعدم دخل الخصوصية في المقدمية.

فان قلت : تقييد الموضوع في المثال المذكور انما يكون من جهة المانع الخارجي ، وهو كون الفرد الآخر مبغوضا غير قابل لتعلق الامر به.

قلت : بعد ما صار مثل هذا التقييد الذي ليس له دخل في المقدمية ممكنا ولا يرجع الطلب المتعلق به الى الطلب النفسي فللمدعى ان يدعى هنا ان المقتضى للطلب الغيري ليس إلّا فيما كان متصفا بقيد الايصال.

فالاولى في الجواب ان يقال ـ بعد بداهة عدم كون مناط الطلب الغيري الا التوقف واحتياج ذي المقدمة الى غيره ـ : ان تقييد موضوع الطلب بقيد يجب إما

١١٧

ان يكون لكونه دخيلا في الغرض وبعبارة اخرى المصلحة المقتضية للطلب لا تحصل الا في المقيد ، وإمّا ان يكون من جهة غرض آخر مع تحقق المناط والجهة الموجبة للايجاب في ذات الموضوع من دون ذلك القيد ايضا والأول كتقييد الصلاة بالطهارة ، والثاني كتقييدها بوقوعها في المكان المباح ، فان هذه الخصوصية لا دخل لها في تحقق الجهة الموجبة للصلاة بل انما هي جاءت من قبل مبغوضية الغصب ، وبعبارة اخرى هذا التقييد انما نشأ من الجمع بين الغرضين لا من جهة مدخليته في تحقق غرض الصلاة ، ولا اشكال في ان هذا القيد ليس من قبيل الثاني ، فانحصر في الاول ، وهو كونه من جهة دخله في مناط طلب المقدمة ، وهذا بعد بداهة أنّ المناط ليس إلّا التوقف غير معقول ، لان الايصال عنوان ينتزع من وجود ذي المقدمة فهو موقوف عليه ، فلو توقف ذو المقدمة على الفعل المقيد بالايصال لزم الدور ، وهذا واضح بادنى تامل.

وايضا : يلزم من وجوب المقدمة الموصوفة وجوب ذاتها مقدمة لتحقق هذا الموصوف.

لا يقال : ان المطلق عين المقيد وجودا في الخارج وليس مقدمة له حتى يجب بوجوبه.

لانا نقول : فرق بين القيود المتحدة في الوجود مع المقيد كما في الفصول اللاحقة للاجناس ، والقيود المغايرة في الوجود له كما اذا امر المولى باتيان زيد المتعقب بعمرو اعنى اتيان زيد المتصف بهذا العنوان ، لا اشكال في ان الواجب على الصورة الاولى امر واحد في الخارج لا ينفك القيد فيها عن المقيد ولو اراد المكلف امتثاله ، ولا وجه للقول بانه يجب ايجاد المطلق مقدمة لايجاد المجموع وايجاد القيد مقدمة لايجاده ، اذ المفروض وحدة الوجود فيهما ولا يعقل التفكيك بين امرين متحدين في الوجود بالسبق واللحوق ، كما انه لا ينبغى الاشكال في ان الواجب على الثانية ايجاد ذات المطلق ثم ايجاد القيد ليتصف به المقيد لان المفروض تغايرهما في الوجود.

١١٨

إذا عرفت هذا فنقول : لا اشكال في ان التقييد في المقدمة الموصلة من قبيل الثاني ، لان ما يصير منشأ لانتزاع صفة الايصال هو وجود الغير ، فلو وجب عليه المقدمة المقيدة بوصف ينشأ من وجود الغير فالواجب عليه من باب المقدمة ايجاد ذات المقدمة ثم اتيان ما يوجب اتصافها بتلك الصفة.

وايضا يلزم من وجوب المقدمة الموصلة وجوب ذي المقدمة من باب المقدمة لأن اتصاف المقدمة بالايصال يتوقف على ايجاد ذي المقدمة ، وهو من الغرائب.

ويمكن ان يقال : ان الطلب متعلق بالمقدمات في لحاظ الايصال لا مقيدا به حتى يلزم المحذورات السابقة ، والمراد ان الآمر بعد تصور المقدمات باجمعها يريدها بذواتها لان تلك الذوات بهذه الملاحظة لا تنفك عن المطلوب الاصلى ، ولو لاحظ مقدمة منفكة عما عداها لا يريدها جزما ، فان ذاتها وان كانت موردا للإرادة لكن لما كانت المطلوبية في ظرف ملاحظة باقي المقدمات معها لم تكن كل واحدة مرادة بنحو الاطلاق بحيث تسرى الإرادة الى حال انفكاكها عن باقي المقدمات ، وهذا الذي ذكرنا مساوق للوجدان ، ولا يرد عليه ما ورد على القول : باعتبار الايصال قيدا ، وان اتحد معه في الاثر.

[صحة الامر بالافعال التوليدية] (*٣٩)

الامر السادس : هل الامر المتعلق بالمسبب يجب ارجاعه الى السبب عقلا او هو حقيقة متعلق بنفس المسبب والسبب ان وجب انما يجب من باب المقدمة؟ الوجوه المتصورة في المقام ثلاثة :

احدها ان يقال ان الامر بالمسبب مطلقا راجع الى السبب عقلا.

والثاني ان يقال ان الامر بالمسبب متعلق بنفسه مطلقا.

والثالث التفصيل بين ما اذا كانت الواسطة من قبيل الآلات مثل انكسار الخشبة المتحقق بايصال الآلة قوة الانسان اليها ، وبين ما اذا لم يكن كذلك كما لو كان في البين فاعل آخر ، كما في القاء النفس الى السبع فيتلفها

١١٩

او القاء شخص في النار فتحرقه.

احتج للاول بان متعلق الارادة والتكليف انما هو فعل المكلف اذ لا معنى للامر بما ليس من فعله ، والافعال المترتبة على اسباب خارجية ليست من فعله بل هي من فعل تلك الاسباب والوسائط ، لانفكاكها عن المكلف في بعض الاحيان ، كما اذا رمى سهما فمات فاصاب زيدا بعد موت الرامى ، فلو كان الفاعل هو الرامى لما جاز وجود القتل في ظرف عدم الرامى ، لامتناع انفكاك المعلول عن علته زمانا ، فيكشف ذلك عن عدم كون الفاعل في المثال هو الرامى بل هو السهم ، غاية الامر انه لم يكن فاعلا بالطبع ، وانما يكون فاعليته من جهة احداث الرامى القوة فيه ، وقس على ذلك ساير الأمثلة.

واجيب عنه بانا نسلم ان التكليف لا يتعلق إلّا بما يعد فعلا للمكلف ، الا انا نقول : ان الفعل الصادر عنه له عنوان اولى وعناوين ثانوية متحدة معه بواسطة ترتب الآثار عليه ، مثلا ، حركة اليد المؤثرة في حركة المفتاح لها عنوان اولى وهو حركة اليد وتحريك اليد ، وبملاحظة تأثيرها في حركة المفتاح ينطبق عليها تحريك المفتاح ، وبملاحظة تأثيرها في انفتاح الباب ينطبق عليها فتح الباب ، ولا اشكال في انه كما ان حركة اليد التى هي الفعل الاول للفاعل فعل له كذلك العناوين المتحدة معها لمكان اتحادها مع فعله الاول في الخارج ، وحينئذ لو تعلق التكليف بتحريك المفتاح الذي يتحد مع تحريك اليد الذي هو فعل للمكلف فلا موجب لارجاعه الى التعلق بتحريك اليد ، اذ كما أنه فعل اختياري له كذلك ما يتحد معه.

وقد يناقش في هذا الجواب بان تحريك المفتاح في المثال لا يمكن ان ينطبق على تحريك اليد ، لانه عين حركة المفتاح في الخارج ، لما تقرر من وحدتهما في الخارج ، وانما الفرق من حيث الاعتبار ، وهي غير حركة اليد المتحدة مع تحريكها ، فيجب ان يكون تحريك المفتاح ايضا غير تحريك اليد ، وإلّا لزم كون حركة اليد وحركة المفتاح متحدتين ايضا ، والمفروض خلافه.

١٢٠